روابط مصاحف م الكاب الاسلامي

روابط مصاحف م الكاب الاسلامي
 

الخميس، 2 يونيو 2022

مجلد 3. و4.نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

 

3  مجلد 3. نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

باب الرخصة في اللباس الجميل واستحباب التواضع فيه وكراهة الشهرة والإسبال

1 - عن ابن مسعود قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال : إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس )
- رواه أحمد ومسلم

- قوله ( إن الله جميل ) اختلفوا في معناه فقيل إن كل أمره سبحانه وتعالى حسن جميل وله الأسماء الحسنى وصفات الجمال والكمال . وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع . وقال أبو القاسم القشيري : معناه جليل . وقال الخطابي : إنه بمعنى ذي النور والبهجة أي مالكهما . وقيل معناه جميل الأفعال بكم والنظر إليكم يكلفكم اليسير ويعين عليه ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه
( قال النووي : ) واعلم أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد وقد ورد أيضا في حديث الأسماء الحسنى وفي إسناده مقال والمختار جواز إطلاقه على الله ومن العلماء من منعه قال إمام الحرمين : ما ورد الشرع بإطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه وما منع الشرع من إطلاقه منعناه وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم فإن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكما بغير الشرع انتهى
وقد وقع الخلاف في تسمية الله ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يرد به الشرع ولا منعه فأجازه وطائفة ومنعه آخرون إلا أن يرد به شرع مقطوع به من نص كتاب أو سنة متواترة أو إجماع على إطلاقه فإن ورد خبر واحد فاختلفوا فيه فأجازه طائفة وقالوا الدعاء به والثناء من باب العمل وهو جائز بخبر الواحد ومنعه آخرون لكونه راجعا إلى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على الله تعالى وطريق هذا القطع قال القاضي [ ص 109 ] عياض : والصواب جوازه لاشتماله على العمل ولقول الله تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } انتهى . والمسألة مدونة في علم الكلام فلا نطيل فيها المقال
قوله ( بطر الحق ) هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا قاله النووي . وفي القاموس بطر الحق أن يتكبر عنده فلا يقبله
قوله ( وغمص الناس ) هو بغين معجمة مفتوحة وصاد مهملة قبلها ميم ساكنة وقال النووي في شرح مسلم : هو بالطاء المهملة في نسخ صحيح مسلم
قال القاضي عياض : لم نرو هذا الحديث عن جميع شيوخنا هنا وفي البخاري إلا بالطاء ذكره أبو داود في مصنفه وذكره أبو سعيد الترمذي وغيره . والغمط والغمص قال النووي بمعنى واحد وهو احتقار الناس
( والحديث ) يدل على أن الكبر مانع من دخول الجنة وإن بلغ في القلة إلى الغاية ولهذا ورد التحديد بمثقال ذرة وقد اختلف في تأويله فذكر الخطابي فيه وجهين أحدهما أن المراد التكبر عن الإيمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلا إذا مات عليه والثاني أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخول الجنة كما قال الله تعالى { ونزعنا ما في صدورهم من غل } قال النووي : وهذان التأويلان فيهما بعد فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع عن الناس واحتقارهم ودفع الحق فلا ينبغي أن يحمل على هذين التأويلين المخرجين له عن المطلوب بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخلها بدون مجازاة إن جازاه وقيل هذا جزاؤه لو جازاه وقيل لا يدخلها مع المتقين أول وهلة ويمكن أن يقال أن هذا الحديث وما يشابهه من الأحاديث التي وردت مصرحا فيها بعدم دخول جماعة من العصاة الجنة أو عدم خروج جماعة منهم من النار خاصة . وأحاديث دخول جميع الموحدين الجنة وخروج عصاتهم من النار عامة فلا حاجة على هذا إلى التأويل
( والحديث ) أيضا يدل على أن محبة لبس الثوب الحسن والنعل الحسن وتخير اللباس الجميل ليس من الكبر في شيء وهذا مما لا خلاف فيه فيما أعلم والرجل المذكور في الحديث هو مالك بن مرارة الرهاوي ذكر ذلك ابن عبد البر والقاضي عياض وقد جمع الحافظ ابن بشكوال في اسمه أقوالا استوفاها النووي في شرح مسلم

2 - وعن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من ترك أن يلبس صالح الثياب وهو يقدر عليه تواضعا لله عز و جل دعاه الله [ ص 110 ] عز و جل على رؤوس الخلائق حتى يخيره في حلل الإيمان أيتهن شاء )
- رواه أحمد والترمذي

- الحديث حسنه الترمذي وقد رواه من طريق عباس بن محمد الدوري عن عبد الله بن يزيد المقري عن سعيد بن أبي أيوب عن أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعبد الرحيم بن ميمون قال النسائي : ليس به بأس وضعفه ابن معين . وسهل بن معاذ وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين . وفيه استحباب الزهد في الملبوس وترك لبس حسن الثياب ورفيعها لقصد التواضع ولا شك أن لبس ما فيه جمال زائد من الثياب يجذب بعض الطباع إلى الزهو والخيلاء والكبر وقد كان هديه صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الحافظ ابن القيم أن يلبس ما تيسر من اللباس والصوف تارة والقطن أخرى والكتان تارة ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر ولبس الجبة والقباء والقميص إلى أن قال : فالذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهدا وتعبدا بإزائهم طائفة قابلوهم فلم يلبسوا إلا أشرف الثياب ولم يأكلوا إلا أطيب وألين الطعام فلم يروا لبس الخشن ولا أكله تكبرا وتجبرا وكلا الطائفتين مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا قال بعض السلف : كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب العالي والمنخفض . وفي السنن عن ابن عمر يرفعه ( من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة ) إلى آخر كلامه . وذكر الشيخ أبو إسحاق الأصفهاني بإسناد صحيح عن جابر بن أيوب قال : دخل الصلت بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جبة صوف وإزار صوف وعمامة صوف فاشمأز عنه محمد وقال : أظن أن أقواما يلبسون الصوف ويقولون قد لبسه عيسى بن مريم وقد حدثني من لا أتهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد لبس الكتان والصوف والقطن وسنة نبينا أحق أن تتبع
ومقصود ابن سيرين من هذا أن قوما يرون أن لبس الصوف دائما أفضل من غيره فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره وكذلك يتحرون زيا واحدا من الملابس ويتحرون رسوما وأوضاعا وهيئات يرون الخروج عنها منكرا وليس المنكر إلا التقييد بها والمحافظة عليها وترك الخروج عنها
( والحاصل ) أن الأعمال بالنيات فلبس المنخفض من الثياب تواضعا وكسرا لسورة النفس التي لا يؤمن عليها من التكبر إن لبست غالي الثياب من المقاصد الصالحة الموجبة للمثوبة من الله ولبس الغالي من الثياب عند الأمن [ ص 111 ] على النفس من التسامي المشوب بنوع من التكبر لقصد التوصل بذلك إلى تمام المطالب الدينية من أمر بمعروف أو نهي عن منكر عند من لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات كما هو الغالب على عوام زماننا وبعض خواصه لا شك أنه من الموجبات للأجر لكنه لا بد من تقييد ذلك بما يحل لبسه شرعا

3 - وعن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا النسائي ورجال إسناده ثقات رواه أبو داود عن شيخه محمد بن عيسى بن بحيح بن الطباع . قال فيه أبو حاتم : مبرز ثقة له عدة مصنفات عن أبي عوانة الوضاح وهو ثقة عن عثمان بن أبي زرعة الثقفي وقد أخرج له البخاري في الأنبياء عن المهاجر بن عمرو البسامي وقد أخرج له ابن حبان في الثقات عن ابن عمر وأخرجه أيضا من طريق محمد بن عيسى عن القاضي شريك عن عثمان بذلك الإسناد
قوله ( من لبس ثوب شهرة ) قال ابن الأثير : الشهرة ظهور الشيء والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم فيرفع الناس إليه أبصارهم ويختال عليهم بالعجب والتكبر
قوله ( ألبسه الله تعالى ثوب مذلة ) لفظ أبي داود ثوبا مثله والمراد بقوله ثوب مذلة يوجب ذلته يوم القيامة كما لبس في الدنيا ثوبا يتعزز به على الناس ويترفع به عليهم والمراد بقوله مثله في تلك الرواية أنه مثله في شهرته بين الناس . قال ابن رسلان : لأنه لبس الشهرة في الدنيا ليعز به ويفتخر على غيره ويلبسه الله يوم القيامة ثوبا يشتهر بمذلته واحتقاره بينهم عقوبة له والعقوبة من جنس العمل انتهى . ويدل على هذا التأويل الزيادة التي زادها أبو داود من طريق أبي عوانة بلفظ : ( تلهب فيه النار )
( والحديث ) يدل على تحريم لبس ثوب الشهرة وليس هذا الحديث مختصا بنفيس الثياب بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوبا يخالف ملبوس الناس من الفقراء ليراه الناس فيتعجبوا من لباسه ويعتقدوه قاله ابن رسلان وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها والموافق لملبوس الناس والمخالف لأن التحريم يدور مع الاشتهار والمعتبر القصد وإن لم يطابق الواقع

4 - وعن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال أبو بكر : إن أحد شقي إزاري يسترخي [ ص 112 ] إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال : إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء )
- رواه الجماعة إلا أن مسلما وابن ماجه والترمذي لم يذكروا قصة أبي بكر

- قوله ( خيلاء ) فعلاء بضم الخاء المعجمة ممدود . والمخيلة والبطر والكبر والزهو والتبختر والخيلاء كلها بمعنى واحد يقال خال واختال إذا تكبر وهو رجل خال أي متكبر وصاحب خال أي صاحب كبر
قوله ( لم ينظر الله إليه ) النظر حقيقة في إدراك العين للمرئي وهو هنا مجاز عن الرحمة أي لا ي
C لامتناع حقيقة النظر في حقه تعالى والعلاقة هي السببية فإن من نظر إلى غيره وهو في حالة ممتنهة رحمه
وقال في شرح الترمذي : عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر لأن من نظر إلى متواضع رحمه ومن نظر إلى متكبر مقته فالرحمة والمقت متسببان عن النظر
( والحديث ) يدل على تحريم جر الثوب خيلاء والمراد بجره هو جره على وجه الأرض وهو الموافق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار ) كما سيأتي وظاهر الحديث أن الإسبال محرم على الرجال والنساء لما في صيغة من في قوله ( من جر ) من العموم وقد فهمت أم سلمة ذلك لما سمعت الحديث فقالت : ( فكيف تصنع النساء بذيولهن قال : يرخينه شبرا فقالت : إذا تنكشف أقدامهن قال : فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه ) أخرجه النسائي والترمذي ولكنه قد أجمع المسلمون على جواز الإسبال للنساء كما صرح بذلك ابن رسلان في شرح السنن وظاهر التقييد بقوله ( خيلاء ) يدل بمفهومه أن جر الثوب لغير الخيلاء لا يكون داخلا في هذا الوعيد قال ابن عبد البر : مفهومه أن الجار لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد إلا أنه مذموم قال النووي : إنه مكروه وهذا نص الشافعي قال البويطي في مختصره عن الشافعي : لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء ولغيرها خفيف لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر انتهى . قال ابن العربي : لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول لا أجره خيلاء لأن النهي قد تناوله لفظا ولا يجوز لمن تناوله لفظا أن يخالفه إذ صار حكمه أن يقول لا أمتثله لأن تلك العلة ليست في فإنها دعوى غير مسلمة بل إطالة ذيله دالة على تكبره انتهى
( وحاصله ) أن الإسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصده اللابس ويدل على عدم اعتبار التقييد بالخيلاء ما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث جابر بن سليم من حديث طويل فيه : ( وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة ) وما أخرج الطبراني من [ ص 113 ] حديث أبي أمامة قال : ( بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله عز و جل ويقول : عبدك وابن عبدك وأمتك حتى سمعها عمرو فقال : يا رسول الله إني أحمش الساقين فقال : يا عمرو إن الله تعالى قد أحسن كل شيء خلقه يا عمرو إن الله لا يحب المسبل )
والحديث رجاله ثقات وظاهره أن عمرا لم يقصد الخيلاء وقد عرفت ما في حديث الباب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر : ( إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء ) وهو تصريح بأن مناط التحريم الخيلاء وأن الإسبال قد يكون للخيلاء وقد يكون لغيره فلا بد من حمل قوله ( فإنها من المخيلة ) في حديث جابر بن سليم على أنه خرج مخرج الغالب فيكون الوعيد المذكور في حديث الباب متوجها إلى من فعل ذلك اختيالا والقول بأن كل إسبال من المخيلة أخذا بظاهر حديث جابر ترده الضرورة فإن كل أحد يعلم أن من الناس من يسبل إزاره مع عدم خطور الخيلاء بباله ويرده ما تقدم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر لما عرفت وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث وعدم إهدار قيد الخيلاء المصرح به في الصحيحين وقد جمع بعض المتأخرين رسالة طويلة جزم فيها بتحريم الإسبال مطلقا وأعظم ما تمسك به حديث جابر
وأما حديث أبي أمامة فغاية ما فيه التصريح بأن الله لا يحب المسبل وحديث الباب مقيد بالخيلاء وحمل المطلق على المقيد واجب وأما كون الظاهر من عمرو أنه لم يقصد الخيلاء فما بمثل هذا الظاهر تعارض الأحاديث الصحيحة وسيأتي ذكر المقدار الذي يعد إسبالا وذكر عموم الإسبال لجميع اللباس
ومن الأحاديث الدالة على أن الإسبال من أشد الذنوب ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قلت : من هم يا رسول الله فقد خابوا وخسروا فأعادها ثلاثا قلت : من هم خابوا وخسروا قال : المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر ) وما أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة قال : ( بينما رجل يصلي مسبلا إزاره فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اذهب فتوضأ فذهب فتوضأ ثم جاء قال : اذهب فتوضأ فقال له رجل : يا رسول الله ما لك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه قال : إنه صلى وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة رجل [ ص 114 ] مسبل ) وفي إسناده أبو جعفر رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه . وما أخرجه أبو داود من جملة حديث طويل وفيه : ( قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم الرجل خزيم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره )

5 - وعن ابن عمر : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة )
- رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه

- الحديث في إسناده عبد العزيز بن أبي رواد وقد تكلم فيه غير واحد قال ابن ماجه : قال أبو بكر ابن أبي شيبة : ما أعرفه انتهى . وهو مولى المهلب بن أبي صفرة وقد أخرج له البخاري وقال النووي في شرح مسلم بعد أن ذكر هذا الحديث : إن إسناده حسن
( والحديث ) يدل على عدم اختصاص الإسبال بالثوب والإزار بل يكون في القميص والعمامة كما في الحديث . قال ابن رسلان : والطيلسان والرداء والشملة . قال ابن بطال : وإسبال العمامة المراد به إرسال العذبة زائدا على ما جرت به العادة انتهى
وأما المقدار الذي جرت به العادة فقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله هو وأصحابه وتطويل أكمام القميص تطويلا زائدا على المعتاد من الإسبال وقد نقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على المعتاد في اللباس في الطول والسعة

6 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا )
- متفق عليه . ولأحمد والبخاري : ( ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار )

- قوله ( بطرا ) قد تقدم أن البطر معناه معنى الخيلاء وفي القاموس البطر النشاط والأشر وقلة احتمال النعمة والدهش والحيرة والطغيان وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة انتهى
قوله ( ما أسفل من الكعبين ) الخ قال في الفتح : ما موصلة وبعض صلة المحذوف وهو كان وأسفل خبره وهو منصوب ويجوز الرفع أي ما هو أسفل وهو أفعل تفضيل ويحتمل أن يكون فعلا ماضيا ويجوز أن تكون ما نكرة موصوفة بأسفل . قال الخطابي : يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من أسفل الكعبين في النار فكنى بالثوب عن بدن لابسه ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة
وحاصله أنه من تسمية الشيء باسم ما جاوره أو حل فيه وتكون من بيانية ويحتمل أن تكون سببية [ ص 115 ] ويكون المراد الشخص نفسه فيكون هذا من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه أمره في الآخرة كقوله { إني أراني أعصر خمرا } يعني عنبا فسماه بما يؤول إليه غالبا وقيل معناه فهو محرم عليه لأن الحرام يوجب النار في الآخرة . وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج أو لا جناح فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار ) وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه
( وحديث ) الباب يدل على أن الإسبال المحرم إنما يكون إذا جاوز الكعبين وقد تقدم الكلام على اعتبار الخيلاء وعدمه

باب نهي المرأة أن تلبس ما يحكي بدنها أو تشبه بالرجال

1 - عن أسامة بن زيد قال : ( كساني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهدي له دحية الكلبي فسكوتها امرأتي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما لك لا تلبس القبطية فقلت : يا رسول الله كسوتها امرأتي فقال : مرها أن تجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف حجم عظامها )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه أيضا ابن أبي شيبة والبزار وابن سعد والروياني والبارودي والطبراني والبيهقي والضياء في المختارة وقد أخرج نحوه أبو داود عن دحية بن خليفة قال : ( أتي رسول الله بقباطي فأعطاني منها قبطية فقال : اصدعها صدعتين فاقطع أحدهما قميصا وأعط الآخر امرأتك تختمر به فلما أدبر قال : ومر امرأتك تجعل تحته ثوبا لا يصفها ) وفي إسناده ابن لهيعة ولا يحتج بحديثه وقد تابع ابن لهيعة على روايته هذه أبو العباس يحيى بن أيوب المصري وفيه مقال وقد احتج به مسلم واستشهد به البخاري
قوله ( قبطية ) قال في القاموس بضم القاف على غير قياس وقد تكسر وفي الضياء بكسرها . وقال القاضي عياض بالضم وهي نسبة إلى القبط بكسر القاف وهم أهل مصر
قوله ( غلالة ) الغلالة بكسر الغين المعجمة شعار يلبس تحت الثوب كما في القاموس وغيره
( والحديث ) يدل على أنه يجب على المرأة أن تستر بدنها بثوب لا يصفه وهذا شرط ساتر العورة وإنما أمر بالثوب تحته لأن القباطي ثياب رقاق لا تستر البشرة عن رؤية الناظر بل تصفها

2 - [ ص 116 ] وعن أم سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أم سلمة وهي تختمر فقال : لية لا ليتين )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث رواه عن أم سلمة وهب مولى أبي أحمد قال المنذري : وهذا يشبه المجهول وفي الخلاصة أنه وثقه ابن حبان
قوله ( وهي تختمر ) الواو للحال والتقدير دخل عليها حال كونها تصلح خمارها يقال اختمرت المرأة وتخمرت إذا لبست الخمار كما يقال اعتم وتعمم إذا لبس العمامة
قوله ( فقال لية ) بفتح اللام وتشديد الياء والنصب على المصدر والناصب فعل مقدر والتقدير الويه لية
قوله ( لا ليتين ) أمرها أن تلوي خمارها على رأسها وتديره مرة واحدة لا مرتين لئلا يشبه اختمارها تدوير عمائم الرجال إذا اعتموا فيكون ذلك من التشبه المحرم وسيأتي أنه محرم على العموم من دون تخصيص

3 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صنفان من أهل النار لم أرهما بعد نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن أمثال أسنمة البخت المائلة لا يرين الجنة ولا يجدن ريحها . ورجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس )
- رواه أحمد ومسلم

- قوله ( صنفان من أهل النار ) فيه ذم هذين الصنفين . قال النووي : هذا الحديث من معجزات النبوة فقد وقع هذان الصنفان وهما موجودان
قوله ( كاسيات عاريات ) قيل كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها . وقيل معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهارا لجمالها ونحوه وقيل تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها
قوله ( مائلات ) أي عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه مميلات أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم . وقيل مائلات بمشيهن متبخترات مميلات لأكتافهن
وقيل المائلات بمشطهن مشطة البغايا المميلات بمشطهن غيرهن تلك المشطة
قوله ( على رؤوسهن أمثال أسنمة البخت ) أي يكرمن شعورهن ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها . والبخت بضم الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة والتاء المثناة الإبل الخراسانية
( والحديث ) ساقه المصنف للاستدلال به على كراهة لبس المرأة ما يحكي بدنها وهو أحد التفاسير كما تقدم والأخبار بأن من فعل ذلك من أهل النار وأنه لا يجد ريح الجنة مع أن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام وعيد شديد يدل على تحريم ما اشتمل عليه الحديث من صفات هذين الصنفين

4 - [ ص 117 ] وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن الرجل يلبس لبس المرأة والمرأة تلبس لبس الرجل )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا النسائي ولم يتكلم عليه أبو داود ولا المنذري ورجال إسناده رجال الصحيح . وأخرج أبو داود عن عائشة أنها قالت : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجلة من النساء ) وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عباس قال : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء ) وأخرج أحمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه رأى امرأة متقلدة قوسا وهي تمشي مشية الرجل فقال : من هذه فقال : هذه أم سعيد بنت أبي جهل فقال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ليس منا من تشبه بالرجال من النساء )
قوله ( لبس المرأة ولبس الرجل ) رواية أبي داود لبسة في الموضعين
( والحديث ) يدل على تحريم تشبه النساء بالرجال والرجال بالنساء لأن اللعن لا يكون إلا على فعل محرم وإليه ذهب الجمهور . وقال الشافعي في الأم : إنه لا يحرم زي النساء على الرجل وإنما يكره فكذا عكسه انتهى . وهذه الأحاديث ترد عليه ولهذا قال النووي في الروضة : والصواب أن تشبه النساء بالرجال وعكسه حرام للحديث الصحيح انتهى
وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المترجلات : ( أخرجوهن من بيوتكم ) وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة قال : ( أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما بال هذا فقالوا : يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى النقيع قيل : يا رسول الله ألا نقتله قال : إني نهيت أن أقتل المصلين ) وروى البيهقي أن أبا بكر أخرج مخنثا وأخرج عمر واحدا

باب التيامن في اللبس وما يقول من استجد ثوبا

1 - عن أبي هريرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا لبس قميصا بدأ بميامنه ) وعن أبي سعيد قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء ثم يقول : اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له )
- رواهما الترمذي

[ ص 118 ] - الحديث الأول أخرجه أيضا النسائي وذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه . ويشهد له حديث : ( إذا توضأتم وإذا لبستم فابدؤوا بميامنكم ) أخرجه ابن حبان والبيهقي والطبراني قال ابن دقيق العيد : هو حقيق بأن يصح ويشهد له أيضا حديث عائشة المتفق عليه بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ) وهو يدل على مشروعية الابتداء في لبس القميص بالميامن وكذلك لبس غيره لعموم الأحاديث الدالة على مشروعية تقديم الميامن
( والحديث ) الثاني أخرجه أيضا النسائي وأبو داود وحسنه الترمذي
قوله ( سماه باسمه ) قال ابن رسلان في شرح السنن : البداءة باسم الثوب قبل حمد الله تعالى أبلغ في تذكر النعمة وإظهارها فإن فيه ذكر الثوب مرتين فمرة ذكره ظاهرا ومرة ذكره مضمرا
قوله ( أسألك خيره ) هكذا لفظ الترمذي ولفظ أبي داود : ( أسألك من خيره ) بزيادة من . ولفظ الترمذي أعم وأجمع لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة : ( عليك بالجوامع الكوامل اللهم إني أسألك الخير كله ) ولفظ أبي داود أنسب لما فيه من المطابقة لقوله في آخر الحديث : ( وأعوذ بك من شره )
قوله ( وخير ما صنع له ) هو استعماله في طاعة الله تعالى وعبادته ليكون عونا له عليها
قوله ( وشر ما صنع له ) هو استعماله في معصية الله ومخالفة أمره
( والحديث ) يدل على استحباب حمد الله تعالى عند لبس الثوب الجديد . وقد أخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما اشترى عبد ثوبا بدينار أو بنصف دينار فحمد الله إلا لم يبلغ ركبتيه حتى يغفر الله له ) وقال : حديث لا أعلم في إسناده أحدا ذكر بجرح والله أعلم

أبواب اجتناب النجاسات ومواضع الصلوات

باب اجتناب النجاسة في الصلاة والعفو عما لا يعلم بها

1 - عن جابر بن سمرة قال : ( سمعت رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي قال : نعم إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله )
- رواه أحمد وابن ماجه

2 - وعن معاوية قال : ( قلت لأم حبيبة : هل كان يصلي النبي صلى الله عليه وآله [ ص 119 ] وسلم في الثوب الذي يجامع فيه قالت : نعم إذا لم يكن فيه أذى )
- رواه الخمسة إلا الترمذي

- حديث جابر بن سمرة رجال إسناده عند ابن ماجه ثقات وحديث معاوية رجال إسناده كلهم ثقات
( والحديثان ) يدلان على تجنب المصلي للثوب المتنجس وهل طهارة ثوب المصلي شرط لصحة الصلاة أم لا فذهب الأكثر إلى أنها شرط وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وهو مروي عن مالك أنها ليست بواجبة . ونقل صاحب النهاية عن مالك قولين : أحدهما إزالة النجاسة سنة وليست بفرض . وثانيهما أنها فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان . وقديم قولي الشافعي أن إزالة النجاسة غير شرط
( احتج الجمهور ) بحجج منها : قوله تعالى { وثيابك فطهر } قال في البحر : والمراد للصلاة للإجماع على أن لا وجوب في غيرها ولا يخفاك أن غاية ما يستفاد من الآية الوجوب عند من جعل الأمر حقيقة فيه والوجوب لا يستلزم الشرطية لأن كون الشيء شرطا حكم شرعي وضعي لا يثبت إلا بتصريح الشارع بأنه شرط أو بتعليق الفعل به بأداة الشرط أو بنفي الفعل بدونه نفيا متوجها إلى الصحة لا إلى الكمال أو بنفي الثمرة ولا يثبت بمجرد الأمر به
وقد أجاب صاحب ضوء النهار عن الاستدلال بالآية بأنها مطلقة وقد حملها القائلون بالشرطية على الندب في الجملة فأين دليل الوجوب في المقيد وهو الصلاة . وفيه أنهم لم يحملوها على الندب بل صرحوا بأنها مقتضية للوجوب في الجملة لكنه قام الإجماع على عدم الوجوب في غير الصلاة فكان صارفا عن اقتضاء الوجوب فيما عدا المقيد
ومنها خلع النعل الذي سيأتي وغاية ما فيه الأمر بمسح النعل وقد عرفت أنه لا يفيد الشرطية على أنه بني على ما كان قد صلى قبل الخلع ولو كانت طهارة الثياب ونحوها شرطا لوجب عليه الاستئناف لأن الشرط يؤثر عدمه في عدم المشروط كما تقرر في الأصول فهو عليهم لا لهم
ومنها الحديثان المذكوران في الباب ويجاب عنهما بأن الثاني فعل وهو لا يدل على الوجوب فضلا عن الشرطية والأول ليس فيه ما يدل على الوجوب سلمنا أن قوله فتغسله خبر في معنى الأمر فهو غير صالح للاستدلال به على المطلوب
ومنها حديث عائشة قالت : ( كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) وفيه : ( فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الكساء فلبسه ثم خرج فصلى فيه الغداة ثم جلس فقال رجل : يا رسول الله [ ص 120 ] هذه لمعة من دم في الكساء فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها مع ما يليها وأرسلها إلي مصرورة في يد الغلام فقال : اغسلي هذه وأجفيها ثم أرسلي بها إلي فدعوت بقصعتي فغسلتها ثم أجفيتها ثم أخرجتها فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عليه ) أخرجه أبو داود ويجاب عنه أولا بأنه غريب كما قال المنذري . وثانيا بأن غاية ما فيه الأمر وهو لا يدل على الشرطية . وثالثا بأنه عليهم لا لهم لأنه لم ينقل إلينا أنه أعاد الصلاة التي صلاها في ذلك الثوب
ومنها حديث عمار بلفظ : ( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني ) رواه أبو يعلى والبزار في مسنديهما وابن عدي في الكامل والدارقطني والبيهقي في سننهما والعقيلي في الضعفاء وأبو نعيم في المعرفة والطبراني في الكبير والأوسط ويجاب عنه أولا بأن هؤلاء كلهم ضعفوه وضعفه غيرهم من أهل الحديث لأن في إسناده ثابت بن حماد وهو متروك ومتهم بالوضع وعلي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف حتى قال البيهقي في سننه : حديث باطل لا أصل له . وثانيا بأنه لا يدل على المطلوب وليس فيه إلا أنه يغسل الثوب من هذه الأشياء لا من غيرها
ومنها حديث غسل المني وفركه في الصحيحين وغيرهما كما تقدم وهو لا يدل على الوجوب فكيف يدل على الشرطية
ومنها حديث ( حتيه ثم اقرصيه ) عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أسماء وفي لفظ : ( فلتقرصه ثم لتنضحه بماء ) من حديث عائشة وفي لفظ : ( حكيه بضلع ) من حديث أم قيس بنت محصن ويجاب عن ذلك أولا بأن الدليل أخص من الدعوى وثانيا بأن غاية ما فيه الدلالة على الوجوب
ومنها أحاديث الأمر بغسل النجاسة كحديث تعذيب من لم يستنزه من البول وحديث الأمر بغسل المذي وغيرهما وقد تقدمت في أول هذا الكتاب ويجاب عنها بأنها أوامر وهي لا تدل على الشرطية التي هي محل النزاع كما تقدم . نعم يمكن الاستدلال بالأوامر المذكورة في هذا الباب على الشرطية إن قلنا إن الأمر بالشيء نهي عن ضده وأن النهي يدل على الفساد وفي كلا المسألتين خلاف مشهور في الأصول لولا أن ههنا مانعا من الاستدلال بها على الشرطية وهو عدم إعادته صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة التي خلع فيها نعليه لأن بناءه على ما فعله من الصلاة قبل الخلع مشعر بأن الطهارة غير شرط وكذلك عدم نقل إعادته للصلاة التي صلاها في الكساء الذي فيه لمعة من دم كما تقدم
ومن أدلتهم على الشرطية حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ : ( تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم ) [ ص 121 ] أخرجه الدارقطني والعقيلي في الضعفاء وابن عدي في الكامل
وهذا الحديث لو صح لكان صالحا للاستدلال به على الشرطية المدعاة لكنه غير صحيح بل باطل لأن في إسناده روح بن غطيف . وقال ابن عدي وغيره : إنه تفرد به وهو ضعيف قال الذهلي : أخاف أن يكون هذا موضوعا . وقال البخاري : حديث باطل . وقال ابن حبان : موضوع . وقال البزار : أجمع أهل العلم على نكرة هذا الحديث . قال الحافظ : وقد أخرجه ابن عدي في الكامل من طريق أخرى عن الزهري لكن فيها أبو عصمة وقد اتهم بالكذب انتهى
إذا تقرر لك ما سقناه من الأدلة وما فيها فاعلم أنها لا تقصر عن إفادة وجوب تطهير الثياب فمن صلى وعلى ثوبه نجاسة كان تاركا لواجب وأما أن صلاته باطلة كما هو شأن فقدان شرط الصحة فلا لما عرفت
ومن فوائد حديثي الباب أنه لا يجب العمل بمقتضى المظنة لأن الثوب الذي يجامع فيه مظنة لوقوع النجاسة فيه فأرشد الشارع صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن الواجب العمل بالمئنة دون المظنة
ومن فوائدهما كما قال ابن رسلان في شرح السنن طهارة رطوبة فرج المرأة لأنه لم يذكر هنا أنه كان يغسل ثوبه من الجماع قبل أن يصلي ولو غسله لنقل . ومن المعلوم أن الذكر يخرج وعليه رطوبة من فرج المرأة انتهى

3 - وعن أبي سعيد : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لهم : لم خلعتم قالوا : رأيناك خلعت فخلعنا فقال : إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم وابن خزيمة وابن حبان واختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في العلل الموصول ورواه الحاكم من حديث أنس وابن مسعود ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وعبد الله بن الشخير وإسنادهما ضعيفان ورواه البزار من حديث أبي هريرة وإسناده ضعيف معلول أيضا قاله الحافظ في التلخيص
قوله ( فأخبرني ) فيه جواز تكليم المصلي وإعلامه بما يتعلق بمصالح الصلاة وأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة
قوله ( خبثا ) في رواية أبي داود ( قذرا ) وهو ما تكرهه الطبيعة من نجاسة ومخاط ومني وغير ذلك
( والحديث ) قد عرفت مما سلف أنه استدل به القائلون بأن إزالة النجاسة من شروط صحة الصلاة وهو كما عرفناك عليهم لا لهم لأن استمراره على الصلاة التي صلاها قبل خلع النعل وعدم استئنافه لها يدل على عدم [ ص 122 ] كون الطهارة شرعا . وأجاب الجمهور عن هذا بأن المراد بالقذر هو الشيء المستقذر كالمخاط والبصاق ونحوهما ولا يلزم من القذر أن يكون نجسا وبأنه يمكن أن يكون دما يسيرا معفوا عنه وإخبار جبريل له بذلك لئلا تتلوث ثيابه بشيء مستقذر . ويرد هذا الجواب بما قاله في البارع في تفسير قوله { أو جاء أحد منكم من الغائط } أنه كنى بالغائط عن القذر وقول الأزهري : النجس القذر الخارج من بدن الإنسان فجعله لمستقذر غير نجس أو نجس معفو عنه تحكم وإخبار جبريل في حال الصلاة بالقذر الظاهر أنه لما فيها من النجاسة التي يجب تجنبها في الصلاة لا لمخافة التلوث لأنه لو كان لذلك لأخبره قبل الدخول في الصلاة لأن القعود حال لبسها مظنة للتلوث بما فيها على أن هذا الجواب لا يمكن مثله في رواية الخبث المذكورة في الباب للاتفاق بين أئمة اللغة وغيرهم أن الأخبثين هما البول والغائط
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق الحديث ما لفظه : وفيه أن دلك النعال يجزئ وأن الأصل أن أمته أسوته في الأحكام وأن الصلاة في النعلين لا تكره وأن العمل اليسير معفو عنه انتهى . وقد تقدم الكلام على أن دلك النعال مطهر لها في أبواب تطهير النجاسة وأما أمته أسوته فهو الحق وفيه خلاف في الأصل مشهور وأما عدم كراهة الصلاة في النعلين فسيأتي وأما العفو عن العمل اليسير فسيأتي أيضا . ومن فوائد الحديث جواز المشي إلى المسجد بالنعل

باب حمل المحدث والمستجمر في الصلاة وثياب الصغار وما شك في نجاسته

1 - عن أبي قتادة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها )
- متفق عليه

- قوله ( وهو حامل أمامة ) قال الحافظ : المشهور في الروايات التنوين ونصب أمامة وروي بالإضافة وزاد عبد الرزاق عن مالك بإسناد حديث الباب ( على عاتقه ) وكذا لمسلم وغيره [ ص 123 ] من طريق أخرى ولأحمد من طريق ابن جريج ( على رقبته ) وأمامة بضم الهمزة وتخفيف الميمين كانت صغيرة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتزوجها علي بعد موت فاطمة بوصية منها
قوله ( فإذا ركع وضعها ) هكذا في صحيح مسلم والنسائي وأحمد وابن حبان كلهم عن عامر بن عبد الله شيخ مالك . ورواية البخاري عن مالك ( فإذا سجد ) ولأبي داود من طريق المقبري عن عمرو بن سليم ( حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها ) وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه لا منها وهو يرد تأويل الخطابي حيث قال : يشبه أن تكون الصبية قد ألفته فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته فينهض من سجوده فتبقى محمولة كذلك إلا أن يركع فيرسلها ويرد أيضا قول ابن دقيق العيد أن لفظ حمل لا يساوي لفظ وضع في اقتضاء فعل الفاعل لأنا نقول فلان حمل كذا ولو كان غيره حمله بخلاف وضع فعلى هذا فالفعل الصادر منه هو الوضع لا الرفع فيقل العمل انتهى . لأن قوله حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها صريح في أن الرفع صادر منه صلى الله عليه وآله وسلم وقد رجع ابن دقيق العيد إلى هذا فقال : وقد كنت أحسب هذا يعني الفرق بين حمل ووضع وأن الصادر منه الوضع لا الرفع حسنا إلى أن رأيت في بعض طرقه الصحيحة فإذا قام أعادها انتهى . وهذه الرواية في صحيح مسلم ولأحمد ( فإذا قام حملها فوضعها على رقبته )
( والحديث ) يدل على أن مثل هذا الفعل معفو عنه من غير فرق بين الفريضة والنافلة والمنفرد والمؤتم والإمام لما في صحيح مسلم من زيادة ( وهو يؤم الناس في المسجد ) وإذا جاز ذلك في حال الإمامة في صلاة الفريضة جاز في غيرها بالأولى
قال القرطبي : وقد اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث والذي أحوجهم إلى ذلك أنه عمل كثير فروى ابن القاسم عن مالك أنه كان في النافلة واستبعده المازري وعياض وابن القاسم قال المازري : إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة . وأصرح من هذا ما أخرجه أبو داود بلفظ : ( بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الظهر أو العصر وقد دعاه بلال إلى الصلاة إذ خرج علينا وأمامة على عاتقه فقام في مصلاه فقمنا خلفه فكبر فكبرنا وهي في مكانها ) وروى أشهب وعبد الله بن نافع عن مالك أن ذلك للضرورة حيث لم يجد من يكفيه أمرها وقال بعض أصحابه : لأنه لو تركها لبكت وشغلته أكثر من شغلته بحملها
وفرق بعض أصحابه بين الفريضة والنافلة . وقال الباجي : إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة وإن لم يجد جاز فيهما . قال القرطبي : وروى عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك أن الحديث منسوخ . قال الحافظ : روى ذلك عنه الإسماعيلي لكنه غير صريح . وقال ابن عبد البر : لعل الحديث منسوخ بتحريم العمل والاشتغال في الصلاة وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال [ ص 124 ] وبأن القضية بعد قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن في الصلاة لشغلا ) لأن ذلك كان قبل الهجرة وهذه القصة كانت بعد الهجرة بمدة مديدة قطعا قاله الحافظ
وقال القاضي عياض : إن ذلك كان من خصائصه ورد بأن الأصل عدم الاختصاص . قال النووي بعد أن ذكر هذه التأويلات : وكل ذلك دعاوى باطلة مردودة لا دليل عليها لأن الآدمي طاهر وما في جوفه معفو عنه وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة حتى تتبين النجاسة والأعمال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت ودلائل الشرع متظاهرة على ذلك وإنما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لبيان الجواز انتهى . قال الحافظ : وحمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير متوال لوجود الطمأنينة في أركان الصلاة
ومن فوائد الحديث جواز إدخال الصبيان المساجد وسيأتي الكلام على ذلك وأن مس الصغيرة لا ينتقض به الوضوء وأن الظاهر طهارة ثياب من لا يحترز من النجاسة كالأطفال . وقال ابن دقيق العيد : يحتمل أن يكون ذلك وقع حال التنظيف لأن حكايات الأحوال لا عموم لها

2 - وعن أبي هريرة قال : ( كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشاء فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذا رفيقا ويضعهما على الأرض فإذا عاد عادا حتى قضى صلاته ثم أقعد أحدهما على فخذيه قال : فقمت إليه فقلت يا رسول الله أردهما فبرقت برقة فقال لهما : الحقا بأمكما فمكث ضؤوها حتى دخلا )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه أيضا ابن عساكر وفي إسناد أحمد كامل بن العلاء وفيه مقال معروف وهو يدل على أن مثل هذا الفعل الذي وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم غير مفسد للصلاة وفيه التصريح بأن ذلك كان في الفريضة وقد تقدم الكلام في شرح الحديث الذي قبل هذا
وفيه جواز إدخال الصبيان المساجد وقد أخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم وحدودكم وشراءكم وبيعكم وجمروها يوم جمعكم واجعلوا على أبوابها مطاهركم ) ولكن الراوي له عن معاذ مكحول وهو لم يسمع منه . وأخرج ابن ماجه من حديث واثلة بن الأسقع : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم [ ص 125 ] وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع ) وفي إسناده الحارث بن شهاب وهو ضعيف . وقد عارض هذين الحديثين الضعيفين حديث أمامة المتقدم وهو متفق عليه
وحديث الباب وحديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إني لأسمع بكاء الصبي وأنا في الصلاة فأخفف مخافة أن تفتتن أمه ) وهو متفق عليه فيجمع بين الأحاديث بحمل الأمر بالتجنيب على الندب كما قال العراقي في شرح الترمذي أو بأنها تنزه المساجد عمن لا يؤمن حدثه فيها

3 - وعن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلي مرط وعليه بعضه )
- رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا النسائي واتفق على نحوه الشيخان من حديث ميمونة
قوله ( مرط ) بكسر الميم وهو كساء من صوف أو خز أو كتان وقيل لا يسمى مرطا إلا الأخضر . وفي الصحيح : ( في مرط من شعر أسود ) والمرط يكون إزارا ويكون رداء قاله ابن رسلان
( وفيه دليل ) على أن وقوف المرأة بجنب المصلي لا يبطل صلاته وهو مذهب الجمهور وقال أبو حنيفة : إنها تبطل والحديث يرد عليه . وفيه أن ثياب الحائض طاهرة إلا موضعا يرى فيه أثر الدم أو النجاسة . وفيه جواز الصلاة بحضرة الحائض وجواز الصلاة في ثوب بعضه على المصلي وبعضه عليها

4 - وعن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي في شعرنا )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه . ولفظه : ( لا يصلي في لحف نسائه )

- الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه كلهم من طريق محمد ابن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قال أبو داود في سننه : قال حماد يعني ابن زيد : سمعت سعيد بن أبي صدقة قال : سألت محمدا يعني ابن سيرين عنه فلم يحدثني وقال : سمعته منذ زمان ولا أدري ممن سمعته من ثبت أم لا فاسألوا عنه . قال ابن عبد البر في هذا المعنى : قول من حفظ عنه حجة على من سأله في حال نسيانه أو في حال تغير فكره من أمر طرأ له من غضب أو غيره ففي مثل هذا العالم لا يسأل وقوله فاسألوا عنه غيري لا يقدح في الرواية المتقدمة فإنه محمول على أنه أمر بسؤال غيره لتقوية الحجة
قوله ( في شعرنا ) [ ص 126 ] بضم الشين والعين المهملة جمع شعار على وزن كتب وكتاب وهو الثوب الذي يلي الجسد وخصتها بالذكر لأنها أقرب إلى أن تنالها النجاسة من الدثار وهو الثوب الذي يكون فوق الشعار قال ابن الأثير : المراد بالشعار هنا الإزار الذي كانوا يتغطون به عند النوم . وفي رواية أبي داود : ( في شعرنا أو لحفنا ) شك من الراوي واللحاف اسم لما يلتحف به
( والحديث ) يدل على مشروعية تجنب ثياب النساء التي هي مظنة لوقوع النجاسة فيها وكذلك سائر الثياب التي تكون كذلك . وفيه أيضا أن الاحتياط والأخذ باليقين جائز غير مستنكر في الشرع وأن ترك المشكوك فيه إلى المتيقن المعلوم جائز وليس من نوع الوسواس كما قال بعضهم . وقد تقدم في الباب الأول أنه كان يصلي في الثوب الذي يجامع فيه أهله ما لم ير فيه أذى وأنه قال لمن سأله هل يصلي في الثوب الذي يأتي فيه أهله نعم إلا أن يرى فيه شيئا فيغسله وذكرنا هنالك أنه من باب الأخذ بالمئنة لعدم وجوب العمل بالمظنة وهكذا حديث صلاته في الكساء الذي لنسائه وقد تقدم . وحديث عائشة المذكور قبل هذا وكل ذلك يدل على عدم وجوب تجنب ثياب النساء وإنما هو مندوب فقط عملا بالاحتياط كما يدل عليه حديث الباب وبهذا يجمع بين الأحاديث

باب من صلى على مركوب نجس أو قد أصابته نجاسة

1 - عن ابن عمر قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود

2 - وعن أنس : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على حمار وهو راكب إلى خيبر والقبلة خلفه )
- رواه النسائي

- أما حديث ابن عمر فرواه عمرو بن يحيى المازني عن أبي الحباب سعيد بن يسار عن عبد الله بن عمر بلفظ الكتاب
قال النسائي : عمرو بن يحيى لا يتابع على قوله على حمار وربما قال على راحلته . وقال الدارقطني وغيره : غلط عمرو بن يحيى بذكر الحمار والمعروف على راحلته وعلى البعير وقد أخرجه مسلم في الصحيح من طريق عمرو بن يحيى بلفظ : ( على حمار ) قال النووي : وفي الحكم بتغليظ عمرو بن يحيى نظر لأنه ثقة نقل شيئا محتملا فلعله كان الحمار مرة والبعير مرات ولكنه يقال إنه شاذ فإنه مخالف رواية الجمهور في البعير والراحلة والشاذ مردود وهو المخالف للجماعة والله أعلم انتهى
[ ص 127 ] وأما حديث أنس فإسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا محمد بن منصور قال حدثنا إسماعيل بن عمر قال حدثنا داود بن قيس عن محمد بن عجلان عن يحيى بن سعيد عن أنس فذكره وهؤلاء كلهم ثقات . قال النسائي : الصواب موقوف انتهى . وقد أخرجه مسلم والإمام مالك في الموطأ من فعل أنس . ولفظ مسلم : حدثنا أنس بن سيرين قال : تلقينا أنس بن مالك حين قدم الشام فلقيناه بعين التمر فرأيته يصلي على حمار . قال القاضي عياض : قيل إنه وهم وصوابه قدم من الشام كما جاء في صحيح البخاري لأنهم خرجوا من البصرة للقائه حين قدم من الشام
قال النووي : ورواية مسلم صحيحة ومعناه تلقيناه في رجوعه حين قدم الشام وإنما حذف في رجوعه للعلم به . واستدل المصنف بالحديثين على جواز الصلاة على المركوب النجس والمركوب الذي أصابته نجاسة وهو لا يتم إلا على القول بأن الحمار نجس عين نعم يصح الاستدلال به على جواز الصلاة على ما فيه نجاسة لأن الحمار لا ينفك عن التلوث بها
( والحديثان ) يدلان على جواز التطوع على الراحلة . قال النووي : وهو جائز بإجماع المسلمين ولا يجوز عند الجمهور إلا في السفر من غير فرق بين قصيره وطويله وقيده مالك بسفر القصر
وقال أبو يوسف وأبو سعيد الأصطخري من أصحاب الشافعي : إنه يجوز التنفل على الدابة في البلد وسيعقد المصنف لذلك بابا في آخر أبواب القبلة

باب الصلاة على الفراء والبسط وغيرهما من المفارش

1 - عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على بساط )
- رواه أحمد وابن ماجه

- الحديث في إسناده زمعة بن صالح الحيدي ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي وقد أخرج له مسلم فرد حديث مقرونا بآخر وهذا الحديث قد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف قال حدثنا وكيع عن زمعة عن عمرو بن دينار وسلمة قال أحدهما : عن عكرمة عن ابن عباس فذكره
وفي الباب عن أنس بن مالك عند البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وصححه وابن ماجه بلفظ : ( كان يقول لأخ لي صغير يا أبا عمير ما فعل النغير قال : ونضح بساط لنا فصلى عليه )
قوله ( بساط ) بكسر الباء جمعه بسط بضمها وتسكين السين وضمها وهو ما يبسط أي يفرش وأما البساط بفتح الباء فهي الأرض الواسعة قال عديل ابن الفرخ العجلي :
[ ص 128 ] ودون يد الحجاج من أن تنالني ... بساط لأيدي الناعجات عريض
( والحديث ) يدل على جواز الصلاة على البسط وقد حكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور الفقهاء وقد كره ذلك جماعة من التابعين ممن بعدهم فروى ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهما قالا الصلاة على الطنفسة وهي البساط الذي تحته خمل محدثة . وعن جابر بن زيد أنه كان يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان ويستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض . وعن عروة بن الزبير أنه كان يكره أن يسجد على شيء دون الأرض
وإلى الكراهة ذهب الهادي ومالك . ومنعت الإمامية صحة السجود على ما لم يكن أصله من الأرض وكره مالك أيضا الصلاة على ما كان من نبات الأرض فدخلته صناعة أخرى كالكتان والقطن . قال ابن العربي : وإنما كرهه من جهة الزخرفة . واستدل الهادي على كراهة ما ليس من الأرض بحديث ( جعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا ) بناء على أن لفظ الأرض لا يشمل ذلك . قال في ضوء النهار : وهو وهم لأن المراد بالأرض في حديث التراب بدليل " وطهورا " وإلا لزم مذهب أبي حنيفة في جواز التيمم بما أنبتت الأرض انتهى
وأقول : بل المراد بالأرض في الحديث ما هو أعم من التراب بدليل ما ثبت في الصحيح بلفظ ( وتربتها طهورا ) وإلا لزم صحة إضافة الشيء إلى نفسه وهي باطلة بالاتفاق ولكن الأولى أن يقال في الجواب عن الاستدلال بالحديث أن التنصيص على كون الأرض مسجدا لا ينفي كون غيرها مسجدا بعد تسليم عدم صدق مسمى الأرض على البسط على أن السجود على البسط ونحوها سجود على الأرض كما يقال للراكب على السرج الموضوع على ظهر الفرس راكب على الفرس وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى على البسط وهو لا يفعل المكروه
( فائدة ) حديث أنس الذي ذكر بلفظ البسط أخرجه الأئمة الستة بلفظ الحصير قال العراقي في شرح الترمذي : فرق المصنف يعني الترمذي بين حديث أنس في الصلاة على البسط وبين حديث أنس في الصلاة على الحصير وعقد لكل منهما بابا وقد روى ابن أبي شيبة في سننه ما يدل على أن المراد بالبساط الحصير بلفظ : ( فيصلي أحيانا على بساط لنا وهو حصير ننضحه بالماء ) قال العراقي : فتبين أن مراد أنس بالبساط الحصير ولا شك أنه صادق على الحصير لكونه يبسط على الأرض أي يفرش انتهى . [ ص 129 ] وهذه الرواية إن صلحت لتقييد حديث أنس لم تصلح لتقييد حديث ابن عباس

2 - وعن المغيرة بن شعبة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحصير والفروة المدبوغة )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث في إسناده أبو عون محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي عن أبيه عن المغيرة وأبو عون ثقة احتج به الشيخان وأما أبوه فلم يرو عنه غير ابنه أبي عون قال أبو حاتم فيه : مجهول وذكره ابن حبان في الثقات في أتباع التابعين وقال : يروي المقاطيع قال العراقي : وهذا يدل على الانقطاع بينه وبين المغيرة انتهى . ولكن صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على الحصير ثابتة من حديث أنس عند الجماعة ومن حديث أبي سعيد وسيأتي ومن حديث أم سلمة عند الطبراني في الكبير ومن حديث ابن عمر عند أبي حاتم في العلل
قوله ( والفروة المدبوغة ) الفروة هي التي تلبس وجمعها فراء كبهمة وبهام وفي ذلك رد على من كره الصلاة على غير الأرض وما خلق منها وقد تقدم الكلام على ذلك
( ويدل الحديث ) وسائر الأحاديث التي ذكرناها على أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على الحصير . وأخرج أبو يعلى الموصلي عن عائشة بسند قال العراقي رجاله ثقات : ( إنها سئلت أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحصير قالت : لم يكن يصلي عليه ) وكيفية الجمع بين حديثها هذا وسائر الأحاديث أنها إنما نفت علمها ومن علم صلاته على الحصير مقدم على النافي وأيضا فإن حديثها وإن كان رجاله ثقات فإن فيه شذوذا ونكارة كما قال العراقي
وقد ذهب إلى استحباب الصلاة على الحصير أكثر أهل العلم كما قال الترمذي قال : إلا أن قوما من أهل العلم اختاروا الصلاة على الأرض استحبابا انتهى
وقد روي عن زيد بن ثابت وأبي ذر وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب ومكحول وغيرهما من التابعين استحباب الصلاة على الحصير وصرح ابن المسيب بأنها سنة
وممن اختار مباشرة المصلي للأرض من غير وقاية عبد الله بن مسعود فروى الطبراني عنه أنه كان لا يصلي ولا يسجد إلا على الأرض وعن إبراهيم النخعي أنه كان يصلي على الحصير ويسجد على الأرض

3 - وعن أبي سعيد : ( أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فرأيته يصلي على حصير يسجد عليه )
- رواه مسلم

- حديث أبي سعيد أخرجه مسلم عن عمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن عيسى بن [ ص 130 ] يونس . ورواه أيضا مسلم وابن ماجه عن أبي كريب زاد مسلم وعن أبي بكر ابن أبي شيبة كلاهما عن أبي معاوية عن الأعمش زاد مسلم : ( ورأيته يصلي في ثوب واحد متوشحا به ) وهذه الزيادة أفردها ابن ماجه فرواها عن أبي كريب عن عمر بن عبيد عن الأعمش والكلام على فقه الحديث قد تقدم

4 - وعن ميمونة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الخمرة )
- رواه الجماعة إلا الترمذي لكنه له من رواية ابن عباس رضي الله عنه

- لفظ حديث ابن عباس في سنن الترمذي : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الخمرة ) وقال : حسن صحيح
وفي الباب عن أم حبيبة عند الطبراني وعن أم سلمة عند الطبراني أيضا وعن عائشة عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير والأوسط وأحمد والبزار وعن أم كلثوم بنت أبي سلمة بن عبد الأسد عند ابن أبي شيبة . قال الترمذي : ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أورد لها الطبراني في المعجم الكبير أحاديث من روايتها عن أم سلمة وفي بعض طرقها عن أم كلثوم بنت عبد الله بن زمعة أن جدتها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفعت إليها مخضبا من صفر
وعن أنس عند الطبراني في الصغير والأوسط والبزار بإسناد رجاله ثقات وعن جابر عند البزار وعن أبي بكرة عند الطبراني بإسناد رجاله ثقات وعن أبي هريرة عند مسلم والنسائي وعن أم أيمن عند الطبراني بإسناد جيد وعن أم سليم عند أحمد والطبراني وإسناده جيد
قوله ( على الخمرة ) قال أبو عبيد : هي بضم الخاء سجادة من سعف النخل على قدر ما يسجد عليه المصلي فإن عظم بحيث يكفي لجسده كله في صلاة أو اضطجاع فهو حصير وليس بخمرة . وقال الجوهري : الخمرة بالضم سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل وترمل بالخيوط . وقال الخطابي : الخمرة السجادة وكذا قال صاحب المشارق قال : وهي على قدر ما يضع عليه الوجه والأنف
وقال صاحب النهاية : هي مقدار ما يضع عليه الرجل وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص ونحوه من الثياب ولا يكون خمرة إلا في هذا المقدار وقد تقدم تفسير الخمرة بأخصر مما هنا في باب الرخصة في اجتياز الجنب من المسجد من أبواب الغسل . ومادة خمر تدل على التغطية والستر ومنه سميت الخمر لأنها تخمر العقل أي تغطيه وتستره
( والحديث ) يدل على أنه لا بأس بالصلاة على السجادة سواء كانت من الخرق أو الخوص أو غير ذلك سواء كانت صغيرة كالخمرة على القول بأنها لا تسمى خمرة [ ص 131 ] إلا إذا كانت صغيرة أو كانت كبيرة كالحصير والبساط لما تقدم من صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على الحصير والبساط والفروة . وقد أخرج أحمد في مسنده من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأفلح : ( يا أفلح ترب وجهك ) أي في سجوده . قال العراقي : والجواب عنه أنه لم يأمره أن يصلي على التراب وإنما أراد به تمكين الجبهة من الأرض وكأنه رآه يصلي ولا يمكن جبهته من الأرض فأمره بذلك لا أنه رآه يصلي على شيء يستره من الأرض فأمره بنزعه انتهى . وقد ذهب إلى أنه لا بأس بالصلاة على الخمرة الجمهور قال الترمذي : وبه يقول بعض أهل العلم وقد نسبه العراقي إلى الجمهور من غير فرق بين ثياب القطن والكتان والجلود وغيرها من الطاهرات وقد تقدم ذكر من اختار مباشرة الأرض

5 - وعن أبي الدرداء قال : ( ما أبالي لو صليت على خمس طنافس )
- رواه البخاري في تاريخه

- الحديث رواه ابن أبي شيبة عنه بلفظ : ( ست طنافس بعضها فوق بعض ) وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه صلى على طنفسة . وعن أبي وائل أنه صلى على طنفسة وعن الحسن قال : لا بأس بالصلاة على الطنفسة . وعنه أنه كان يصلي على طنفسة قدماه وركبتاه عليها ويداه ووجهه على الأرض . وعن إبراهيم والحسن أيضا أنهما صليا على بساط فيه تصاوير . وعن عطاء أنه صلى على بساط أبيض . وعن سعيد بن جبير أنه صلى على بساط أيضا وعن مرة الهمداني أنه صلى على لبد وكذا عن قيس بن عباد
( وإلى جواز الصلاة ) على الطنافس ذهب جمهور العلماء والفقهاء كما تقدم في الصلاة على البسط وخالف في ذلك من خالف في الصلاة على البسط لأن الطنافس البسط التي تحتها خمل كما تقدم
قوله ( طنافس ) جمع طنفسة وفي ضبطها لغات كسر الطاء والفاء معا وضمهما وفتحهما معا وكسر الطاء مع فتح الفاء

باب الصلاة في النعلين والخفين

1 - وعن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال : ( سألت أنسا أكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في نعليه قال : نعم )
- متفق عليه

2 - وعن شداد بن أوس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم )
- رواه أبو داود

[ ص 132 ] - الحديث الأول أخرجه البخاري عن أدم عن شعبة وعن سليمان بن حرب عن حماد ابن زيد وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عن بشر بن المغفل وعن الربيع الزهراني عن عباد بن العوام وأخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يزيد بن زريع وغسان بن مضر عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد
والحديث الثاني أخرجه ابن حبان أيضا في صحيحه ولا مطعن في إسناده وفي الباب أحاديث أربعة أخر عن أنس : الأول عند الطبراني والبيهقي قال البيهقي : لا بأس بإسناده . الثاني عند البزار بنحو حديث شداد بن أوس . والثالث عند ابن مردويه بلفظ : ( صلوا في نعالكم ) وفي إسناده عباد بن جويرية كذبه أحمد والبخاري . والرابع عند ابن مردويه وفي إسناده عيسى بن عبد الله العسقلاني وهو ضعيف يسرق الحديث
وفي الباب عن عبد الله بن مسعود عند ابن ماجه . وله حديث آخر عند الطبراني في إسناده علي بن عاصم تكلم فيه . وله حديث ثالث عند البزار والطبراني والبيهقي وفي إسناده أبو حمزة الأعور وهو غير محتج به . وعن عبد الله بن أبي حبيبة عند أحمد والبزار والطبراني
وعن عبد الله بن عمرو عند أبي داود وابن ماجه . وعن عمرو بن حريث عند الترمذي في الشمائل والنسائي . وعن أوس الثقفي عند ابن ماجه . وعن أبي هريرة عند أبي داود . وله حديث آخر عند أحمد والبيهقي . وله حديث ثالث عند البزار والطبراني وفيه عباد بن كثير وهو لين الحديث وقيل متروك وقيل لا يحتج بحديثه . وله حديث رابع رواه ابن مردويه وفيه صالح مولى التومأة وهو ضعيف . وعن عطاء الشيبي عند ابن منده في معرفة الصحابة والطبراني وابن قانع . وعن البراء عند أبي الشيخ وفي إسناده سوار بن مصعب وهو ضعيف . وعن عبد الله بن الشخير عند مسلم . وله حديث آخر عند الطبراني . وعن ابن عباس عند البزار والطبراني وابن عدي وفي إسناده النضر بن عمر وهو ضعيف جدا . وله حديث آخر عند الطبراني . وعن عبد الله بن عمر عند الطبراني . وعن علي بن أبي طالب عند ابن عدي في الكامل من رواية الحسين بن ضميرة عن أبيه عن جده وهو ضعيف جدا . وله حديث آخر عند أبي يعلى وابن عدي وقال : وهذا ليس له أصل وهو مما وضعه محمد بن الحجاج اللخمي . وعن فيروز الديلمي عند الطبراني وإسناده جيد . وعن مجمع بن جارية عند أحمد وفي إسناده يزيد بن عياض وهو ضعيف . وعن الهرماس بن زياد عند ابن حبان في الثقات والطبراني في معجمه الكبير والأوسط . وعن أبي بكرة عند البزار وأبي يعلى وابن عدي وفي إسناده بحر بن مرار اختلط وتغير وقد وثقه ابن معين . وعن أبي ذر عند أبي [ ص 133 ] الشيخ والبيهقي . وعن أبي سعيد عند أبي داود . وعن عائشة عند الطبراني بإسناد صحيح . وعن أعرابي من الصحابة لم يسم عند ابن أبي شيبة في مصنفه وأحمد في مسنده
( والحديثان يدلان ) على مشروعية الصلاة في النعال وقد اختلف نظر الصحابة والتابعين في ذلك هل هو مستحب أو مباح أو مكروه فروي عن عمر بإسناد ضعيف أنه كان يكره خلع النعال ويشتد على الناس في ذلك وكذا عن ابن مسعود . وكان أبو عمرو الشيباني يضرب الناس إذا خلعوا نعالهم . وروي عن إبراهيم أنه كان يكره خلع النعال وهذا يشعر بأنه مستحب عند هؤلاء . قال العراقي في شرح الترمذي : وممن كان يفعل ذلك يعني لبس النعل في الصلاة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي . ومن التابعين سعيد بن المسيب والقاسم وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وعطاء بن يسار وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وطاوس وشريح القاضي وأبو مجلز وأبو عمرو الشيباني والأسود بن يزيد وإبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي وعلي بن الحسين وابنه أبو جعفر . وممن كان لا يصلي فيهما عبد الله بن عمر وأبو موسى الأشعري
وممن ذهب إلى الاستحباب الهادوية وإن أنكر ذلك عوامهم قال الإمام المهدي في البحر : مسألة : ويستحب في النعل الطاهر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( صلوا في نعالكم ) الخبر . وقال ابن دقيق العيد في شرح الحديث الأول من حديثي الباب : إنه لا ينبغي أن يؤخذ منه الاستحباب لأن ذلك لا مدخل له في الصلاة ثم أطال البحث وأطاب إلا أن الحديث الثاني من حديثي الباب أقل أحواله الدلالة على الاستحباب وكذلك سائر الأحاديث التي ذكرنا . وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري قال : ( قال صلى الله عليه وآله وسلم : إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذر أو أذى فليمسحه وليصل فيهما )
ويمكن الاستدلال لعدم الاستحباب بما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحدا ليجعلهما بين رجليه أو ليصل فيهما ) وهو كما قال العراقي : صحيح الإسناد . وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي حافيا ومنتعلا ) أخرجه أبو داود وابن ماجه . وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نعليه فصلى الناس في نعالهم فخلع [ ص 134 ] نعليه فخلعوا فلما صلى قال : من شاء أن يصلي في نعليه فليصل ومن شاء أن يخلع فليخلع ) قال العراقي : وهذا مرسل صحيح الإسناد
ويجمع بين أحاديث الباب بجعل حديث أبي هريرة وما بعده صارفا للأوامر المذكورة المعللة بالمخالفة لأهل الكتاب من الوجوب إلى الندب لأن التخيير والتفويض إلى المشيئة بعد تلك الأوامر لا ينافي الاستحباب كما في حديث ( بين كل أذانين صلاة لمن شاء ) وهذا أعدل المذاهب وأقواها عندي

باب المواضع المنهي عنها والمأذون فيها للصلاة

1 - عن جابر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته )
- متفق عليه . وقال ابن المنذر : ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( جعلت لي كل الأرض طيبة مسجدا وطهورا ) رواه الخطابي بإسناده

- الحديث قد تقدم الكلام على طرقه وفقهه في التيمم فلا نعيده وهو ثابت بزيادة طيبة من رواية أنس عند ابن السراج في مسنده قال العراقي بإسناد صحيح وأخرجه أيضا أحمد والضياء في المختارة وأشار إلى حديث أنس أيضا الترمذي . قال العراقي في شرح الترمذي ما لفظه : وحديث جابر أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من رواية يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعطيت خمسا ) فذكرها وفيه ( وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا ) الحديث انتهى . فعلى هذا يكون زيادة طيبة مخرجة في الصحيحين ولكنه ذكر البخاري الحديث من طريق يزيد الفقير عن جابر في التيمم والصلاة وليس فيه هذه الزيادة وأما مسلم فصرح بها في صحيحه في الصلاة وهي تدل على أن المراد بالأرض المذكورة في الحديث ليس هي الأرض جميعها كما تدل على ذلك زيادة لفظ ( كلها ) في حديث حذيفة عند مسلم وكما في حديث أبي ذر وحديث أبي سعيد الآتيين بل المراد الأرض الطاهرة المباحة لأن المتنجسة ليست بطيبة لغة والمغصوبة ليست بطيبة شرعا نعم من قال : إن التأكيد ينفي المجاز قال : المراد بالأرض المؤكدة بلفظ كل جميعها وجعل هذه الزيادة معارضة لأصل الحديث لأنها وقعت منافية له والزيادة إنما تقبل مع عدم منافاة الأصل فيصار حينئذ إلى [ ص 135 ] التعارض وقد حكى بعضهم في التأكيد بكل خلافا هل يرفع المجاز أو يضعفه والظاهر عدم الرفع لما في الصحيح من حديث عائشة : ( كان يصوم شعبان كله ) ( كان يصوم نصفه إلا قليلا ) والقول بأنه يرفع المجاز يستلزم عدم صحة وقوع الاستثناء بعد المؤكد كما صرح بذلك القائلون به . وللمقام بحث ليس هذا موضعه . ومما يدل على عدم الرفع الأحاديث الواردة في المنع من الصلاة في المقبرة والحمام وغيرها وسيأتي ذكرها

2 - وعن أبي ذر قال : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي مسجد وضع أول قال : المسجد الحرام قلت : ثم أي قال : المسجد الأقصى قلت : كم بينهما قال : أربعون سنة قلت : ثم أي قال : حيثما أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد )
- متفق عليه

- قوله ( قال أربعون ) يعني في الحدوث لا في المسافة
قوله ( حيثما أدركت ) لفظ مسلم : ( وأينما أدركتك الصلاة فصلها فإنه مسجد ) وفي لفظ له : ( ثم حيثما أدركتك ) وفي لفظ له أيضا : ( فحيثما أدركتك الصلاة فصل ) قال النووي : وفيه جواز الصلاة في جميع المواضع إلا ما استثناه الشرع من الصلاة في المقابر وغيرها من المواضع التي فيها النجاسة كالمزبلة والمجزرة وكذا ما نهى عنه لمعنى آخر فمن ذلك أعطان الإبل ومنه قارعة الطريق والحمام وغيرهما وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى
قوله ( فكلها ) هو تأكيد لما فهم من قوله حيثما أدركت وهو الأرض أو أمكنتها

3 - وعن أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )
- رواه الخمسة إلا النسائي

- الحديث أخرجه الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم قال الترمذي : وهذا حديث فيه اضطراب رواه سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا
ورواه حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال : وكان عامة روايته عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكر فيه عن أبي سعيد وكأن رواية الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه أثبت وأصح انتهى
وقال الدارقطني في العلل : المرسل المحفوظ ورجح البيهقي المرسل . وقال النووي : هو ضعيف . وقال صاحب الإمام : حاصل [ ص 136 ] ما علل به الإرسال وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول . قال الحافظ : وأفحش ابن دحية فقال في كتاب التنوير له هذا لا يصح من طريق من الطرق كذا قال : فلم يصب انتهى
( والحديث ) صححه الحاكم في المستدرك وابن حزم الظاهري وأشار ابن دقيق العيد في الإمام إلى صحته . وفي الباب عن علي عند ابن داود . وعن ابن عمر عند الترمذي وابن ماجه وسيأتي . وعن عمر عند ابن ماجه . وعن أبي مرثد الغنوي عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وسيأتي . وعن جابر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمران بن الحصين ومعقل بن يسار وأنس بن مالك جميعهم عند ابن عدي في الكامل وفي إسناد حديثهم عباد بن كثير ضعيف جدا ضعفه أحمد وابن معين
قال ابن حزم : أحاديث النهي عن الصلاة إلى القبور والصلاة في المقبرة أحاديث متواترة لا يسع أحدا تركها قال العراقي : إن أراد بالتواتر ما يذكره الأصوليون من أنه رواه عن كل واحد من رواته جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب في الطرفين والواسطة فليس كذلك فإنها أخبار آحاد وإن أراد بذلك وصفها بالشهرة فهو قريب وأهل الحديث غالبا إنما يريدون بالمتواتر المشهور انتهى
وفيه أن المعتبر في التواتر هو أن يروي الحديث المتواتر جمع عن جمع يستحيل تواطؤ كل جمع على الكذب لا أنه يرويه جمع كذلك عن كل واحد من رواته ما لم يعتبره أهل الأصول اللهم إلا أن يريد بكل واحد من رواته كل رتبة من رتب رواته
قوله ( إلا المقبرة ) مثلثة الباء مفتوحة الميم وقد تكسر الميم وهي المحل الذي يدفن فيه الموتى
( والحديث ) يدل على المنع من الصلاة في المقبرة والحمام وقد اختلف الناس في ذلك أما المقبرة فذهب أحمد إلى تحريم الصلاة في المقبرة ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها ولا بين أن يفرش عليها شيئا يقيه من النجاسة أم لا ولا بين أن يكون في القبور أو في مكان منفرد عنها كالبيت وإلى ذلك ذهبت الظاهرية ولم يفرقوا بين مقابر المسلمين والكفار
قال ابن حزم : وبه يقول طوائف من السلف فحكي عن خمسة من الصحابة النهي عن ذلك وهم عمر وعلي وأبو هريرة وأنس وابن عباس وقال : ما نعلم لهم مخالفا من الصحابة وحكاه عن جماعة من التابعين إبراهيم النخعي ونافع بن جبير بن مطعم وطاوس وعمرو بن دينار وخيثمة وغيرهم
وقوله ( لا نعلم لهم مخالفا في الصحابة ) إخبار عن علمه وإلا فقد حكى الخطابي في معالم السنن عن عبد الله بن عمر أنه رخص في الصلاة في المقبرة وحكى أيضا عن الحسن أنه صلى في المقبرة . وقد ذهب إلى تحريم الصلاة على القبر من أهل البيت المنصور بالله [ ص 137 ] والهادوية وصرحوا بعدم صحتها إن وقعت فيها
وذهب الشافعي إلى الفرق بين المقبرة المنبوشة وغيرها فقال : إذا كانت مختلطة بلحم الموتى وصديدهم وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة فإن صلى رجل في مكان طاهر منها أجزأته
وإلى مثل ذلك ذهب أبو طالب وأبو العباس والإمام يحيى من أهل البيت وقال الرافعي : أما المقبرة فالصلاة مكروهة فيها بكل حال . وذهب الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة ولم يفرقوا كما فرق الشافعي ومن معه بين المنبوشة وغيرها . وذهب مالك إلى جواز الصلاة في المقبرة وعدم الكراهة والأحاديث ترد عليه
( وقد احتج له ) بعض أصحابه بما يقضي منه العجب فاستدل له بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قبر المسكينة السوداء وأحاديث النهي المتواترة كما قال ذلك الإمام لا تقصر عن الدلالة على التحريم الذي هو المعنى الحقيقي له وقد تقرر في الأصول أن النهي يدل على فساد المنهي عنه فيكون الحق التحريم والبطلان لأن الفساد الذي يقتضيه النهي هو المرادف للبطلان من غير فرق بين الصلاة على القبر وبين المقابر وكل ما صدق عليه لفظ المقبرة
وأما الحمام فذهب أحمد إلى عدم صحة الصلاة فيه ومن صلى فيه أعاد أبدا . وقال أبو ثور : لا يصلى في حمام ولا مقبرة على ظاهر الحديث وإلى ذلك ذهبت الظاهرية وروي عن ابن عباس أنه قال : لا يصلين إلى حش ولا في حمام ولا في مقبرة قال ابن حزم : وما نعلم لابن عباس في هذا مخالفا من الصحابة وروينا مثل ذلك عن نافع بن جبير بن مطعم وإبراهيم النخعي وخيثمة والعلاء بن زياد عن أبيه قال ابن حزم : ولا تحل الصلاة في حمام سواء في ذلك مبدأ بابه إلى جميع حدوده ولا على سطحه وسقف مستوقده وأعالي حيطانه خربا كان أو قائما فإن سقط من بنائه شيء يسقط عنه اسم حمام جازت الصلاة في أرضه حينئذ انتهى
وذهب الجمهور إلى صحة الصلاة في الحمام مع الطهارة وتكون مكروهة وتمسكوا بعمومات نحو حديث ( أينما أدركت الصلاة فصل ) وحملوا النهي على حمام متنجس والحق ما قاله الأولون لأن أحاديث المقبرة والحمام مخصصة لذلك العموم وحكمة المنع من الصلاة في المقبرة قيل هو ما تحت المصلي من النجاسة وقيل لحرمة الموتى وحكمة المنع من الصلاة في الحمام أنه يكثر فيه النجاسات وقيل إنه مأوى الشيطان

4 - وعن أبي مرثد الغنوي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه

[ ص 138 ] - الحديث يدل على منع الصلاة إلى القبور وقد تقدم الكلام في ذلك وعلى منع الجلوس عليها وظاهر النهي التحريم
وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ : ( لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر أخيه ) وروي عن مالك أنه لا يكره القعود عليها ونحوه قال : وإنما النهي عن القعود لقضاء الحاجة . وفي الموطأ عن علي أنه كان يتوسد القبور ويضطجع عليها . وفي البخاري أن يزيد بن ثابت أخا يزيد بن ثابت كان يجلس على القبور وقال : إنما كره ذلك لمن أحدث عليها وفيه عن ابن عمر أنه كان يجلس على القبور وقد صحت الأحاديث القاضية بالمنع ولا حجة في قول أحد لا سيما إذا كان معارضا للثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم
وقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث جابر بلفظ : ( نهى أن يجصص القبر ويبنى عليه وأن يكتب عليه وأن يوطأ ) وهو في صحيح مسلم بدون الكتابة . وقال الحاكم : على شرط مسلم والجلوس لا يكون غالبا إلا مع الوطء

5 - وعن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه

- قوله ( من صلاتكم ) قال القرطبي : من للتبعيض والمراد النوافل بدليل ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا : ( إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته ) وقد حكى القاضي عياض عن بعضهم أن معناه اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وغيرهن . قال الحافظ : وهذا وإن كان محتملا لكن الأول هو الراجح وقد بالغ الشيخ محي الدين فقال : لا يجوز حمله على الفريضة
قوله ( ولا تتخذوها قبورا ) لأن القبور ليست بمحل للعبادة وقد استنبط البخاري من هذا الحديث كراهية الصلاة في المقابر ونازعه الإسماعيلي فقال : الحديث دال على كراهة الصلاة في القبر لا في المقابر وتعقب بأن الحديث قد ورد بلفظ المقابر كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ ( لا تجعلوا بيوتكم مقابر ) وقال ابن التين : تأوله البخاري على كراهة الصلاة في المقابر وتأوله جماعة على أنه إنما فيه الندب إلى الصلاة في البيوت إذ الموتى لا يصلون في بيوتهم وهي القبور قال : فأما جواز الصلاة في المقابر أو المنع منه فليس في الحديث ما يؤخذ منه ذلك
قال الحافظ : إن أراد لا يؤخذ بطريق المنطوق فمسلم وإن أراد نفي ذلك مطلقا فلا . وقيل يحتمل أن المراد لا تجعلوا [ ص 139 ] البيوت وطن النوم فقط لا تصلون فيها فإن النوم أخو الموت والميت لا يصلي . وقيل يحتمل أن يكون المراد أن من لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت وبيته كالقبر . ويؤيده ما رواه مسلم : ( مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت ) قال الخطابي : وأما من تأوله على النهي عن دفن الموتى في البيوت فليس بشيء فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته وتعقبه الكرماني بأن قال : لعل ذلك من خصائصه . وقد روي أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون كما روى ذلك ابن ماجه بإسناد فيه حسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف وله طريق أخرى مرسلة
قال الحافظ : فإذا حمل دفنه في بيته على الاختصاص لم يبعد نهي غيره عن ذلك بل هو متجه لأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيرها مقابر فتصير الصلاة فيها مكروهة . ولفظ أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث الباب وهو قوله : ( لا تجعلوا بيوتكم مقابر ) فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقا انتهى . وكأن البخاري أشار بترجمة الباب بقوله باب كراهة الصلاة في المقابر إلى حديث أبي سعيد المتقدم لما لم يكن على شرطه

6 - وعن جندب بن عبد الله البجلي قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك )
- رواه مسلم

- الحديث أخرجه النسائي أيضا . وفي الباب عن عائشة عند الشيخين والنسائي . وعن أبي هريرة عند الشيخين وأبي داود والنسائي . وعن ابن عباس عند أبي داود والترمذي وحسنه وله حديث آخر عند الشيخين والنسائي . وعن أسامة بن زيد عند أحمد والطبراني بإسناد جيد . وعن زيد بن ثابت عند الطبراني بإسناد جيد أيضا . وعن ابن مسعود عند الطبراني بإسناد جيد أيضا . وعن أبي عبيدة بن الجراح عند البزار . وعن علي عند البزار أيضا . وعن أبي سعيد عند البزار أيضا . وفي إسناده عمر بن صهبان وهو ضعيف . وعن جابر عند ابن عدي
( والحديث ) يدل على تحريم اتخاذ قبور الأنبياء والصلحاء مساجد قال العلماء : إنما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به وربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية ولما احتاجت الصحابة رضي الله عنهم والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات [ ص 140 ] المؤمنين فيه
وفيها حجرة عائشة مدفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين حرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر
وقد روي أن النهي عن اتخاذ القبور مساجد كان في مرض موته قبل اليوم الذي مات فيه بخمسة أيام وقد حمل بعضهم الوعيد على من كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان وهو تقييد بلا دليل لأن التعظيم والافتتان لا يختصان بزمان دون زمان
وقد يؤخذ من قوله ( كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ) في حديث الباب وكذلك قوله في حديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي بلفظ ( والمتخذين عليها المساجد ) أن محل الذم على ذلك أن تتخذ المساجد على القبور بعد الدفن لا لو بني المسجد أولا وجعل القبر في جانبه ليدفن فيه واقف المسجد أو غيره فليس بداخل في ذلك
قال العراقي : والظاهر أنه لا فرق وإنه إذا بني المسجد لقصد أن يدفن في بعضه أحد فهو داخل في اللعنة بل يحرم الدفن في المسجد وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدا والله أعلم انتهى
واستنبط البيضاوي من علة التعظيم جواز اتخاذ القبور في جوار الصلحاء لقصد التبرك دون التعظيم ورد بأن قصد التبرك تعظيم

7 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل )
- رواه أحمد والترمذي وصححه

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وفي الباب عن جابر بن سمرة عند مسلم . وعن البراء عند أبي داود . وعن سبرة بن معبد عند ابن ماجه . وعن عبد الله بن مغفل عند ابن ماجه أيضا والنسائي . وعن ابن عمر عند ابن ماجه أيضا . وعن أنس عند الشيخين وعن أسيد بن حضير عند الطبراني . وعن سليك الغطفاني عند الطبراني أيضا وفي إسناده جابر الجعفي ضعفه الجمهور ووثقه شعبة وسفيان . وعن طلحة بن عبد الله عند أبي يعلى في مسنده . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد وفي إسناده ابن لهيعة . وله حديث آخر عند الطبراني . وعن عقبة بن عامر عند الطبراني ورجال إسناده ثقات . وعن يعيش الجهني المعروف بذي الغرة عند أحمد والطبراني ورجال إسناده ثقات
قوله ( في مرابض الغنم ) جمع مربض بفتح الميم وكسر الباء الموحدة وآخره ضاد معجمة قال الجوهري : المرابض للغنم [ ص 141 ] كالمعاطن للإبل واحدها مربض مثال مجلس قال : وربوض الغنم والبقر والفرس مثل بروك الإبل وجثوم الطير
قوله ( في أعطان الإبل ) هي جمع عطن بفتح العين والطاء المهملتين وفي بعض الطرق معاطن وهي جمع معطن بفتح الميم وكسر الطاء قال في النهاية : العطن مبرك الإبل حول الماء
( والحديث ) يدل على جواز الصلاة في مرابض الغنم وعلى تحريمها في معاطن الإبل وإليه ذهب أحمد بن حنبل فقال : لا تصح بحال وقال : من صلى في عطن إبل أعاد أبدا وسئل مالك عمن لا يجد إلا عطن إبل قال : لا يصلي فيه قيل فإن بسط عليه ثوبا قال : لا
وقال ابن حزم : لا تحل في عطن إبل وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة وعلى التحريم مع وجودها وهذا إنما يتم على القول بأن علة النهي هي النجاسة وذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها وقد عرفت ما قدمنا فيه وسلمنا النجاسة فيه لم يصح جعلها علة لأن العلة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين مرابض الغنم إذ لا قائل بالفرق بين أوراث كل من الجنسين وأبوالها كما قال العراقي وأيضا قد قيل إن حكمة النهي ما فيها من النفور فربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطعها أو أذى يحصل له منها أو تشوش الخاطر الملهي عن الخشوع في الصلاة وبهذا علل النهي أصحاب الشافعي وأصحاب مالك وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها وبين غيبتها عنها إذ يؤمن نفورها حينئذ ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ : ( لا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الجن ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت ) وقد يحتمل أن علة النهي أن يجاء بها إلى معاطنها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها أو يستمر فيها مع شغل خاطره
وقيل لأن الراعي يبول بينها وقيل الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين . ويدل على هذا أيضا حديث ابن مغفل السابق . وكذا عند النسائي من حديثه . وعند أبي داود من حديث البراء . وعند ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة . إذا عرفت هذا الاختلاف في العلة تبين لك أن الحق الوقوف على مقتضى النهي وهو التحريم كما ذهب إليه أحمد والظاهرية وأما الأمر بالصلاة في مرابض الغنم فأمر إباحة ليس للوجوب قال العراقي : اتفاقا وإنما نبه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك لئلا يظن أن حكمها حكم الإبل أو أنه أخرج على جواب السائل حين سأله عن الأمرين فأجاب في الإبل بالمنع وفي الغنم بالإذن
وأما الترغيب المذكور في الأحاديث بلفظ : ( فإنها بركة ) فهو إنما ذكر لقصد تبعيدها عن حكم [ ص 142 ] الإبل كما وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة ووصف أصحاب الغنم بالسكينة
( فائدة ) ذكر ابن حزم أن أحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل متواتر يوجب العلم

8 - وعن زيد بن جبيرة عن داود بن حصين عن نافع عن ابن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي أعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله )
- رواه عبد بن حميد في مسنده وابن ماجه والترمذي وقال : إسناده ليس بذاك القوي وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه . وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله قال : وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد . والعمري ضعفه بعض أهل الحديث من قبل حفظه

- الحديث في إسناد الترمذي زيد بن جبيرة وهو ضعيف كما قال الترمذي قال البخاري وابن معين : زيد بن جبيرة متروك وقال أبو حاتم : لا يكتب حديثه وقال النسائي : ليس بثقة وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابع عليه . وقال الحافظ في التلخيص : إنه ضعيف جدا . وفي إسناد ابن ماجه عبد الله بن صالح وعبد الله بن عمر العمري وهما ضعيفان قال ابن أبي حاتم في العلل : هما جميعا يعني الحديثين واهيان وصحح الحديث ابن السكن وإمام الحرمين وقد تقدم الكلام في المقبرة والحمام وأعطان الإبل وما فيها من الأحاديث الصحيحة
قوله ( المزبلة ) فيها لغتان فتح الموحدة وضمها حكاهما الجوهري وهي المكان الذي يلقى فيه الزبل
قوله ( والمجزرة ) بفتح الزاي المكان الذي ينحر فيه الإبل وتذبح فيه البقر والغنم
قوله ( وقارعة الطريق ) قيل المراد به أعلى الطريق وقيل صدره وقيل ما برز منه
( والحديث ) يدل على تحريم الصلاة في هذه المواطن وقد اختلف في العلة في النهي أما في المقبرة والحمام وأعطان الإبل فقد تقدم الكلام في ذلك . وأما في المزبلة والمجزرة فلكونهما محلا للنجاسة فتحرم الصلاة فيهما من غير حائل اتفاقا ومع الحائل فيه خلاف
وقيل إن العلة في المجزرة كونها مأوى الشياطين ذكر ذلك عن جماعة اطلعوا على ذلك وأما في قارعة الطريق فلما فيها من شغل الخاطر المؤدي إلى ذهاب الخشوع الذي هو سر الصلاة
وقيل لأنها مظنة النجاسة وقيل لأن الصلاة فيها شغل لحق المار ولهذا قال أبو [ ص 143 ] طالب : إنها لا تصح الصلاة فيها ولو كانت واسعة قال : لاقتضاء النهي الفساد . وقال المؤيد بالله والمنصور بالله : لا تكره في الواسعة إذ لا ضرر لأن العلة عندهما الإضرار بالمار . وأما في ظهر الكعبة فلأنه إذا لم يكن بين يديه سترة ثابتة تستره لم تصح صلاته لأنه مصل على البيت لا إلى البيت . وذهب الشافعي إلى الصحة بشرط أن يستقبل من بنائها قدر ثلثي ذراع وعند أبي حنيفة لا يشترط ذلك وكذا قال ابن سريج قال : لأنه كمستقبل العرب لو هدم البيت والعياذ بالله
( فائدة ) قال القاضي أبو بكر ابن العربي : والمواضع التي لا يصلى فيها ثلاثة عشر فذكر السبعة المذكورة في حديث الباب وزاد الصلاة إلى المقبرة وإلى جدار مرحاض عليه نجاسة والكنيسة والبيعة وإلى التماثيل وفي دار العذاب وزاد العراقي الصلاة في الدار المغصوبة والصلاة إلى النائم والمتحدث والصلاة في بطن الوادي والصلاة في الأرض المغصوبة والصلاة في مسجد الضرار والصلاة إلى التنور فصارت تسعة عشر موضعا ودليل المنع من الصلاة في هذه المواطن أما السبعة الأولى فلما تقدم وأما الصلاة إلى المقبرة فلحديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد وقد تقدم وأما الصلاة إلى جدار مرحاض فلحديث ابن عباس في سبعة من الصحابة بلفظ : ( نهى عن الصلاة في المسجد تجاهه حش ) أخرجه ابن عدي قال العراقي : ولم يصح إسناده وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يصلى إلى الحش وعن علي قال : لا يصلى تجاه حش وعن إبراهيم كانوا يكرهون ثلاثة أشياء فذكر منها الحش وفي كراهة استقباله خلاف بين الفقهاء
وأما الكنيسة والبيعة فروى ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس أنه كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير وقد رويت الكراهة عن الحسن ولم ير الشعبي وعطاء ابن أبي رباح بالصلاة في الكنيسة والبيعة بأسا ولم ير ابن سيرين بالصلاة في الكنيسة بأسا وصلى أبو موسى الأشعري وعمر بن عبد العزيز في كنيسة . ولعل وجه الكراهة ما تقدم من اتخاذهم لقبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد لأنها تصير جميع البيع والمساجد مظنة لذلك
وأما الصلاة إلى التماثيل فلحديث عائشة الصحيح : ( أنه قال لها صلى الله عليه وآله وسلم : أزيلي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي ) وكان لها ستر فيه تماثيل
وأما الصلاة في دار العذاب فلما عند أبي داود من حديث علي قال : ( نهاني حبي أن أصلي في أرض بابل لأنها ملعونة ) وفي إسناده ضعف
وأما إلى النائم والمتحدث فهو في حديث ابن عباس عند أبي داود [ ص 144 ] وابن ماجه وفي إسناده من لم يسم
وأما في بطن الوادي فورد في بعض طرق حديث الباب بدل المقبرة . قال الحافظ : وهي زيادة باطلة لا تعرف
وأما الصلاة في الأرض المغصوبة فلما فيها من استعمال مال الغير بغير إذنه
وأما الصلاة في مسجد الضرار فقال ابن حزم : إنه لا يجزئ أحدا الصلاة فيه لقصة مسجد الضرار وقوله ( لا تقم فيه أبدا ) فصح أنه ليس موضع صلاة
وأما الصلاة إلى التنور فكرهها محمد بن سيرين وقال : بيت نار رواه ابن أبي شيبة في المصنف وزاد ابن حزم فقال : لا تجوز الصلاة في مسجد يستهزأ فيه بالله أو برسوله أو شيء من الدين أو في مكان يكفر بشيء من ذلك فيه وزادت الهادوية كراهة الصلاة إلى المحدث والفاسق والسراج وزاد الإمام يحيى الجنب والحائض فيكون الجميع ستة وعشرين موضعا واستدل على كراهة الصلاة إلى المحدث بحديث ذكره الإمام يحيى في الانتصار بلفظ : ( لا صلاة إلى محدث لا صلاة إلى جنب لا صلاة إلى حائض ) وقيل في الاستدلال على كراهة الصلاة إليه القياس على الحائض وقد ثبت أنها تقطع الصلاة وأما الفاسق فإهانة له كالنجاسة
وأما السراج فللفرار من التشبيه بعبدة النار والأولى عدم التخصيص بالسراج ولا بالتنور بل إطلاق الكراهة على استقبال النار فيكون استقبال التنور والسراج وغيرهما من أنوع النار قسما واحدا . وأما الجنب والحائض فللحديث الذي في الانتصار ولما في الحائض من قطعها للصلاة
واعلم أن القائلين بصحة الصلاة في هذه المواطن أو في أكثرها تمسكوا في المواطن التي صحت أحاديثها بأحاديث ( أينما أدركتك الصلاة فصل ) ونحوها وجعلوها قرينة قاضية بصحة تأويل الأحاديث القاضية بعدم الصحة وقد عرفناك أن أحاديث النهي عن المقبرة والحمام ونحوهما خاصة فتبنى العامة عليها وتمسكوا في المواطن التي لم تصح أحاديثها فيها لعدم التعبد بما لم يصح وكفاية البراءة الأصلية حتى يقوم دليل صحيح ينقل عنها لا سيما بعد ورود عمومات قاضية بأن كل موطن من مواطن الأرض مسجد تصح الصلاة فيه وهذا متمسك صحيح لا بد منه
قوله ( أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد ) قيل إن قوله من حديث الليث صفة لحديث ابن عمر بأنه من حديث الليث الذي هو أصح من حديث ابن جبيرة

باب صلاة التطوع في الكعبة . [ ص 145 ]

1 - عن ابن عمر قال : ( دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : نعم بين العمودين اليمانيين )
- متفق عليه

2 - وعن ابن عمر أنه قال لبلال : ( هل صلى النبي صلى الله عليه و سلم في الكعبة قال : نعم بركعتين بين الساريتين عن يسارك إذا دخلت ثم خرج فصلى في وجهة الكعبة ركعتين )
- رواه أحمد والبخاري

- قوله ( دخل النبي صلى الله عليه و سلم البيت ) قال الحافظ : كان ذلك في عام الفتح كما وقع مبينا من رواية يونس بن يزيد عن نافع عند البخاري في كتاب الجهاد
قوله ( هو وأسامة وبلال وعثمان ) زاد مسلم من طريق أخرى ولم يدخلها معهم أحد
ووقع عند النسائي من طريق ابن عون عن نافع ومعه الفضل بن عباس وأسامة وبلال وعثمان فزاد الفضل . ولأحمد من حديث ابن عباس حدثني أخي الفضل وكان معه حين دخلها
قوله ( فأغلقوا عليهم الباب ) زاد مسلم : ( فمكث فيها مليا ) وفي رواية له : ( فأجافوا عليهم الباب طويلا ) وفي رواية لأبي عوانة : ( من داخل ) وزاد يونس : ( فمكث نهارا طويلا ) وفي رواية فليح : ( زمانا )
قوله ( فلما فتحوا ) في رواية : ( ثم خرج فابتدر الناس الدخول فسبقتهم ) وفي رواية : ( وكنت شابا قويا فبادرت الناس فبدرتهم ) وأفاد الأزرقي في كتاب مكة أن خالد بن الوليد كان على الباب يذب الناس عنه
قوله ( بين العمودين اليمانيين ) وفي رواية : ( بين العمودين المقدمين )
قوله ( فصلى في وجهة الكعبة ركعتين ) وفي رواية للبخاري في الصلاة أن ابن عمر قال : فذهب علي أن أسأله كم صلى وروي عنه أنه قال : نسيت أن أسأله كم صلى . وقد جمع الحافظ بين الراويتين في الفتح
( والحديثان ) يدلان على مشروعية الصلاة في الكعبة لصلاته صلى الله عليه وآله وسلم فيها وقد ادعى ابن بطال أن الحكمة في تغليق الباب لئلا يظن الناس أن ذلك سنة فيلتزمونه قال الحافظ : وهو مع ضعفه منتقض بأنه لو أراد إخفاء ذلك ما طلع عليه بلال ومن كان معه وإثبات الحكم بذلك يكفي فيه نقل الواحد انتهى
فالظاهر أن التغليق ليس لما ذكره بل لمخافة أن يزدحموا عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه أو ليكون ذلك أسكن لقلبه وأجمع لخشوعه . وإنما أدخل معه عثمان لئلا يظن أنه عزل من ولاية البيت وبلالا وأسامة لملازمتهما خدمته . وقيل فائدة ذلك [ ص 146 ] للتمكن من الصلاة في جميع جهاتها لأن الصلاة إلى جهة الباب وهو مفتوح لا تصح وقد عارض أحاديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم في الكعبة حديث ابن عباس عند البخاري وغيره : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر في البيت ولم يصل فيه ) قال الحافظ : ولا معارضة في ذلك بالنسبة إلى التكبير لأن ابن عباس أثبته ولم يتعرض له بلال وأما الصلاة فإثبات بلال أرجح لأن بلالا كان معه يومئذ ولم يكن معه ابن عباس وإنما استند في نفيه تارة إلى أسامة وتارة إلى أخيه الفضل مع أنه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة وقد روى أحمد من طريق ابن عباس عن أخيه الفضل نفي الصلاة فيها فيحتمل أن يكون تلقاه عن أسامة فإنه كان معه وقد روى عنه نفي الصلاة في الكعبة أيضا مسلم من طريق ابن عباس ووقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عنه فتعارضت الروايات في ذلك فتترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف ومن جهة أنه لم يختلف عنه في الإثبات واختلف على من نفى وقال النووي وغيره : يجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو فاشتغل بالدعاء في ناحية والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ناحية ثم صلى النبي صلى الله عليه و سلم فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أنه يحجب عنه بعض الأعمدة فنفاها عملا بظنه
وقال المحب الطبري : يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أسامة : ( قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم الكعبة فرأى صورا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فضرب به الصور ) قال الحافظ : هذا إسناده جيد قال القرطبي : فلعله استصحب النفي لسرعة عوده انتهى . وقد روى عمر بن شيبة في كتاب مكة عن علي بن بذيمة قال : ( دخل النبي صلى الله عليه و سلم الكعبة ودخل معه بلال وجلس أسامة على الباب فلما خرج وجد أسامة قد احتبى فأخذ حبوته فحلها ) الحديث فلعله احتبى فاستراح فنعس فلم يشاهد صلاته فلما سئل عنها نفاها مستصحبا للنفي لقصر زمن احتبائه وفي كل نفي رؤيته لا ما في نفس الأمر . ومنهم من جمع بين الحديثين بعد الترجيح وذلك من وجوه :
الأول أن الصلاة المثبتة هي اللغوية والمنفية الشرعية . والثاني يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين قاله المهلب شارح البخاري . وقال ابن حبان : الأشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين [ ص 147 ] فيقال لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها لأن ابن عباس نفاها وأسنده إلى أسامة وابن عمر أثبتها وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة أيضا فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض
قال الحافظ : وهذا جمع حسن لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل يوم الفتح لا في حجة الوداع ويشهد له ما روى الأزرقي في كتاب مكة عن غير واحد من أهل العلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح وأما يوم حج فلم يدخلها وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين ويكون المراد بالوحدة وحدة السفر لا الدخول

باب الصلاة في السفينة

1 - عن ابن عمر قال : ( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف أصلي في السفينة قال : صل قائما إلا أن تخاف الغرق )
- رواه الدارقطني والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على شرط الصحيحين

- الحديث رواه الحاكم من طريق جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر وقال : على شرط مسلم قال : وهو شاذ بمرة
( الحديث ) يدل على وجوب الصلاة من قيام في السفينة ولا يجوز القعود إلا لعذر مخافة غرق أو غيره لأن مخافة الغرق تنفي عنه الاستطاعة وقد قال الله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وثبت من حديث ابن عباس : ( إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) وهي أيضا عذر أشد من المرض . وقد أخرج الدارقطني من حديث علي : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : يصلي المريض قائما إن استطاع فإن لم يستطع صلى قاعدا فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلي القبلة ) وفي إسناده حسين بن زيد ضعفه ابن المديني والحسن بن الحسين العرني وهو متروك
وقال النووي : هذا حديث ضعيف وأخرج البزار والبيهقي في المعرفة من حديث جابر مرفوعا بلفظ : ( صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك ) قال أبو حاتم : الصواب أنه موقوف ورفعه خطأ

باب صلاة الفرض على الراحلة لعذر . [ ص 148 ]

1 - عن يعلى بن مرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن وأقام ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع )
- رواه أحمد والترمذي

- الحديث أخرجه أيضا النسائي والدارقطني وقال الترمذي : حديث غريب تفرد به عمرو بن الرياح وثبت ذلك عن أنس من فعله وصححه عبد الحق وحسنه النووي وضعفه البيهقي وهو يدل على ما ذهب إليه البعض من صحة صلاة الفريضة على الراحلة كما تصح في السفينة بالإجماع ويعارض هذا حديث عامر بن ربيعة الآتي وستعرف الكلام على ذلك هنالك
وقد صحح الشافعي الصلاة المفروضة على الراحلة بالشروط التي ستأتي وحكى النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح الإجماع على عدم جواز ترك الاستقبال في الفريضة
قال الحافظ : لكن رخص في شدة الخوف وحكى النووي أيضا الإجماع على عدم صلاة الفريضة على الدابة قال : فلو أمكنه استقبال القبلة والقيام والركوع والسجود على دابة واقفة عليها هودج أو نحوه جازت الفريضة على الصحيح من مذهبنا فإن كانت سائرة لم تصح على الصحيح المنصوص للشافعي . وقيل تصح كالسفينة فإنها تصح فيها الفريضة بالإجماع ولو كان في ركب وخاف لو نزل للفريضة انقطع عنهم ولحقه الضرر قال أصحابنا يصلي الفريضة على الدابة بحسب الإمكان ويلزمه إعادتها لأنه عذر نادر انتهى
( والحديث ) يدل على جواز صلاة الفريضة على الراحلة ولا دليل يدل على اعتبار تلك الشروط إلا عمومات يصلح هذا الحديث لتخصيصها وليس في الحديث إلا ذكر عذر المطر ونداوة الأرض فالظاهر صحة الفريضة على الراحلة في السفر لمن حصل له مثل هذا العذر وإن لم يكن في هودج إلا أن يمنع من ذلك إجماع ولا إجماع فقد روى الترمذي في جامعه عن أحمد وإسحاق أنهما يقولان بجواز الفريضة على الراحلة إذا لم يجد موضعا يؤدي فيه الفريضة نازلا . ورواه العراقي في شرح [ ص 149 ] الترمذي عن الشافعي
قوله ( والسماء من فوقهم ) المراد بالسماء هنا المطر قال الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
قال الجوهري : يقال ما زلنا نطأ في السماء حتى أتيناكم
قوله ( والبلة ) بكسر الباء الموحدة وتشديد اللام قال الجوهري : البلة بالكسر النداوة . قال المصنف رحمه الله : وإنما ثبتت الرخصة إذا كان الضرر بذلك بينا فأما اليسير فلا . روى أبو سعيد الخدري قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته ) متفق عليه انتهى . وسيأتي حديث أبي سعيد هذا بطوله في باب الاجتهاد في العشر الأواخر من كتاب الاعتكاف . واستدلال المصنف على تقييده لجواز صلاة الفريضة على الراحلة بالضرر البين بحديث أبي سعيد غير متجه لأن سجوده على الماء والطين كان في الحضر وكان معتكفا على أنه لا نزاع أن السجود على الأرض مع المطر عزيمة فلا يكون صالحا لتقييد هذه الرخصة

2 - وعن عامر بن ربيعة قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على راحلته يسبح يومئ برأسه قبل أي وجهة توجه ولم يكن يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة )
- متفق عليه

- وفي الباب عن جابر عند البخاري وأبي داود والترمذي وصححه . وعن أنس عند الشيخين وأبي داود والنسائي . وعن ابن عمر عند أبي داود والنسائي وأخرجه البخاري من فعل ابن عمر . وأخرج مسلم عنه مرفوعا بنحو ما عند أبي داود والنسائي وعن أبي سعيد عند أحمد . وعن سعيد ابن أبي وقاص عند البزار وفي إسناده ضرار بن صرد وهو ضعيف . وعن شقران عند أحمد وفي إسناده مسلم بن خالد وثقه الشافعي وابن حبان وضعفه غير واحد ورواه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط . وعن الهرماس عند أحمد أيضا وفي إسناده عبد الله بن واقد الحراني مختلف فيه ورواه الطبراني أيضا . وعن أبي موسى عند أحمد أيضا وفي إسناده يونس بن الحارث وثقه ابن معين في رواية عنه وابن حبان وابن عدي وضعفه أحمد وغير واحد ورواه الطبراني في الأوسط
( والحديث ) يدل على جواز التطوع على الراحلة للمسافر قبل جهة مقصده وهو إجماع كما قال النووي والعراقي والحافظ وغيرهم وإنما الخلاف في جواز ذلك في الحضر فجوزه أبو يوسف وأبو سعيد الأصطخري من أصحاب الشافعي وأهل الظاهر . قال ابن حزم : وقد روينا عن [ ص 150 ] وكيع عن سفيان عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال : كانوا يصلون على رحالهم ودوابهم حيثما توجهت قال : وهذه حكاية عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم عموما في الحضر والسفر . قال النووي : وهو محكي عن أنس بن مالك انتهى
قال العراقي : استدل من ذهب إلى ذلك بعموم الأحاديث التي لم يصرح فيها بذكر السفر وهو ماش على قاعدتهم في أنه لا يحمل المطلق على المقيد بل يعمل بكل منهما فأما من يحمل المطلق على المقيد وهم جمهور العلماء فحمل الروايات المطلقة على المقيدة بالسفر انتهى
وظاهر الأحاديث المقيدة بالسفر عدم الفرق بين السفر الطويل والقصير وإليه ذهب الشافعي وجمهور العلماء وذهب مالك إلى أنه لا يجوز إلا في سفر تقصر فيه الصلاة وهو محكي عن الشافعي ولكنها حكاية غريبة وذهب إليه الإمام يحيى ويدل لما قالوه ما في رواية رزين من حديث جابر بزيادة في سفر القصر فإن صحت هذه الزيادة وجب حمل ما أطلقته الأحاديث عليها . وظاهر الأحاديث أن الجواز مختص بالراكب وإليه ذهب أهل الظاهر وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وقال الأوزاعي والشافعي : إنه يجوز للراجل قال المهدي في البحر : وهو قياس المذهب واستدلوا بالقياس على الراكب . وظاهر الأحاديث اختصاص ذلك بالنافلة كما صرح في حديث الباب وغيره بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يفعل ذلك في المكتوبة وقد تقدم الخلاف في ذلك في الحديث الذي قبل هذا ونفي فعل ذلك في المكتوبة وإن كان ثابتا في الصحيحين وغيرهما لكن غاية ما فيه أنه أخبرنا النافي بما علم وعدم علمه لا يستلزم العدم فالواجب علينا العمل بخبر من أخبرنا بشرع لم يعلمه غيره لأن من علم حجة على من لا يعلم وكثيرا ما يرجح أهل الحديث ما في الصحيحين على ما في غيرهما في مثل هذه الصورة وهو غلط أوقع في مثله الجمود فليكن منك هذا على ذكر
قوله ( يسبح ) أي يتنفل والسبحة بضم السين وإسكان الباء النافلة قاله النووي وإطلاق التسبيح على النافلة مجاز والعلاقة الجزئية والكلية أو اللزوم لأن الصلاة المخلصة يلزمها التنزيه

باب اتخاذ متعبدات الكفار ومواضع القبور إذا نبشت مساجد

1 - عن عثمان بن أبي العاص : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يجعل مساجد الطائف حيث كان طواغيتهم )
- رواه أبو داود وابن ماجه قال البخاري : وقال [ ص 151 ] عمر : إنا لا ندخل كنائسهم من أجل التماثيل التي فيها الصور . قال : وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها التماثيل

- الحديث رجال إسناده ثقات ومحمد بن عبد الله بن عياض الطائفي المذكور في إسناد هذا الحديث ذكره ابن حبان في الثقات وكذلك أبو همام ثقة واسمه محمد بن محمد الدلال البصري وعثمان ابن أبي العاص المذكور هو الثقفي أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك حين استعمله على الطائف
قوله ( طواغيتهم ) جمع طاغوت وهو بيت الصنم الذي كانوا يتعبدون فيه لله تعالى ويتقربون إليه بالأصنام على زعمهم
( والحديث ) يدل على جواز جعل الكنائس والبيع وأمكنة الأصنام مساجد وكذلك فعل كثير من الصحابة حين فتحوا البلاد جعلوا متعبداتهم متعبدات للمسلمين وغيروا محاريبها
قوله ( وقال عمر ) هكذا ذكره البخاري تعليقا ووصله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر قال : ( لما قدم عمر الشام صنع له رجل من النصارى طعاما وكان من عظمائهم وقال : أحب أن تجيبني وتكرمني فقال له عمر : إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها ) يعني التماثيل
قوله ( من أجل التماثيل ) هو جمع تمثال بمثناة ثم مثلثة بينهما ميم . قال الحافظ : وبينه وبين الصورة عموم وخصوص مطلق فالصورة أعم
قوله ( التي فيها الصور ) الضمير يعود على الكنيسة والصور بالجر بدل من التماثيل أو بيان لها أو بالنصب على الاختصاص أو بالرفع أي أن التماثيل مصورة والضمير على هذا للتماثيل . وفي رواية الأصيلي بزيادة واو العاطفة
قوله ( وكان ابن عباس ) هكذا ذكره البخاري تعليقا ووصله البغوي في الجعديات وزاد فيه فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر
( والأثران يدلان ) على جواز دخول البيع والصلاة فيها إلا إذا كان فيها تماثيل وقد تقدم الكلام في ذلك والبيعة صومعة الراهب قاله في المحكم وقيل كنيسة النصارى . قال الحافظ : والثاني هو المعتمد وهي بكسر الباء قال : ويدخل في حكم البيعة الكنيسة وبيت المدراس والصومعة وبيت الصنم وبيت النار ونحو ذلك . قال ابن رسلان : وفي الحديث أنه كان يصلي في البيعة وهي كنيسة أهل الكتاب

2 - وعن قيس بن طلق بن علي عن أبيه قال : ( خرجنا وفدا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعناه وصلينا معه وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا واستوهبناه من فضل طهوره فدعا بماء فتوضأ وتمضمض ثم صبه في إدواة وأمرنا فقال : اخرجوا [ ص 152 ] فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم وانضحوا مكانها بهذا الماء واتخذوها مسجدا )
- رواه النسائي

- الحديث أخرج نحوه الطبراني في الكبير والأوسط وقيس بن طلق ممن لا يحتج بحديثه قال يحيى بن معين : لقد أكثر الناس في قيس بن طلق وأنه لا يحتج بحديثه وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : إن أباه وأبا زرعة قالا : قيس بن طلق ليس ممن تقوم به حجة ووهناه ولم يثبتاه وضعفه أحمد ويحيى بن معين في إحدى الروايتين عنه وفي رواية عثمان بن سعيد عنه أنه وثقه ووثقه العجلي قال في الميزان حاكيا عن ابن القطان أنه قال : يقتضي أن يكون خبره حسنا لا صحيحا وأما من دون قيس بن طلق فهم ثقات فإن النسائي قال أخبرنا هناد بن السري عن ملازم قال حدثني عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق وملازم هو ابن عمر ووثقه ابن معين والنسائي
وعبد الله بن بدر ثقة وأما هناد فهو الإمام الكبير المشهور . والطهور والإداوة قد تقدم ضبطهما
( والحديث ) يدل على جواز اتخاذ البيع مساجد وغيرها من الكنائس ونحوها ملحق بها بالقياس كما تقدم

3 - وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ من بني النجار فقال : يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا : لا والله ما نطلب ثمنه إلا إلى الله فقال أنس : وكان فيه ما أقوال لكم قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت ثم بالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم وهو يقول اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة )
- مختصر من حديث متفق عليه

- قوله ( ثامنوني ) أي اذكروا لي ثمنه لأذكر لكم الثمن الذي أختاره قال ذلك على سبيل المساومة فكأنه قال ساوموني في الثمن
قوله ( لا نطلب ثمنه إلا إلى الله ) تقديره لا نطلب الثمن لكن الأمر فيه إلى الله أو إلى بمعنى من وكذا عند الإسماعيلي : ( لا نطلب ثمنه إلا من الله ) وزاد ابن ماجه : ( أبدا ) وظاهر الحديث أنهم لم يأخذوا منه ثمنا وخالف ذلك أهل السير قاله الحافظ
قوله ( فكان فيه ) أي في الحائط الذي بني في مكانه المسجد
قوله ( وفيه خرب ) قال ابن الجوزي : المعروف فيه فتح الخاء وكسر الراء بعدها موحدة [ ص 153 ] جمع خربة ككلم وكلمة . وحكى الخطابي كسر أوله وفتح ثانيه جمع خربة كعنب وعنبة وللكشميهني بفتح الحاء المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة . وقد بين أبو داود أن رواية عبد الوارث بالمعجمة والموحدة ورواية حماد بن سلمة عن أبي التياح بالمهملة والمثلثة قال الحافظ : فعلى هذا فرواية الكشميهني وهم لأن البخاري إنما أخرجه من رواية عبد الوارث
قوله ( فاغفر للأنصار ) وفي رواية في البخاري للمستملي والحموي ( فاغفر الأنصار ) بحذف اللام قال الحافظ : ويوجه له بأن ضمن اغفر معنى استر . وقد رواه أبو داود عن مسدد بلفظ ( فانصر الأنصار )
( وفي الحديث ) جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع وجواز نبش القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها وإخراج ما فيها وجواز بناء المساجد في أماكنها وجواز قطع النخل المثمرة للحاجة . قال الحافظ : وفيه نظر لاحتمال أن يكون ذلك مما لا يثمر إما بأن يكون ذكورا وإما أن يكون مما طرأ عليه ما قطع ثمرته وفيه أن احتمال كونها مما لا تثمر خلاف الظاهر فلا يناقش بمثله والأولى المناقشة باحتمال أن تكون غير مثمرة حال القطع إن أراد المستدل بالمثمرة ما كانت الثمرة موجودة فيها حال القطع
( وللحديث ) فوائد ليس هذا محل بسطها وصفة بنيان المسجد ما ثبت عند البخاري وغيره من حديث ابن عمر أنه قال : ( إن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج

باب فضل من بنى مسجدا

1 - عن عثمان بن عفان قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة )
- متفق عليه

- وفي الباب عن أبي بكرة عند الطبراني في الأوسط وابن عدي في الكامل وفي إسناد الطبراني وهب بن حفص وهو ضعيف وفي إسناد ابن عدي الحكم بن يعلى بن عطاء وهو [ ص 154 ] منكر الحديث
وعن عمر عند ابن ماجه . وعن علي عند ابن ماجه أيضا وفيه ابن لهيعة وعن عبد الله بن عمرو عند أحمد وفي إسناده الحجاج بن أرطأة . وعن أنس عند الترمذي وفي إسناده زياد النميري وهو ضعيف وله طرق أخر عن أنس منها عند الطبراني ومنها عند ابن عدي وفيهما مقال . وعن ابن عباس عند أحمد والبزار في مسنديهما وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف . وعن عائشة عند البزار والطبراني في الأوسط وفيه كثير ابن عبد الرحمن ضعفه العقيلي وله طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط وفيها المثنى ابن الصباح ضعفه الجمهور ورواه أبو عبيد في غريبه بإسناد جيد وعن أم حبيبة عند ابن عدي في الكامل وفيه أبو ظلال ضعيف جدا . وعن أبي ذر عند ابن حبان في صحيحه والبزار والطبراني والبيهقي وزاد : ( قدر مفحص قطاة ) قال العراقي : وإسناده صحيح . وعن عمرو بن عبسة عند النسائي . وعن واثلة بن الأسقع عند أحمد والطبراني وابن عدي . وعن أبي هريرة عند البزار وابن عدي والطبراني وفي إسناده سليمان بن داود اليمامي وليس بشيء . ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها المثنى بن الصباح . وعن جابر عند ابن ماجه وإسناده جيد . وعن معاذ عند الحافظ الدمياطي في جزء المساجد له . وعن عبد الله بن أبي أوفى عنده أيضا . وعن ابن عمر عند البزار والطبراني وفي إسناده الحكم بن ظهير وهو متروك بزيادة : ( ولو كمفحص قطاة ) . وعن أبي موسى عند الدمياطي في جزئه المذكور . وعن أبي أمامة عند الطبراني وفيه علي بن زيد وهو ضعيف . وعن أبي قرصافة واسمه حيدرة عند الطبراني وفي إسناده جهالة . وعن نبيط بن شريط عند الطبراني
وعن عمر بن مالك عند الدمياطي في الجزء المذكور . وعن أسماء بنت يزيد عند أحمد والطبراني وابن عدي قال يحيى بن معين : هذا ليس بشيء وذكر أبو القاسم بن منده في كتابه المستخرج من كتب الناس للفائدة أنه رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم رافع بن خديج وعبد الله بن عمر وعمران بن حصين وفضالة بن عبيد وقدامة بن عبد الله العامري ومعاوية بن حيدة والمغيرة بن شعبة والمقداد بن معد يكرب وأبو سعيد الخدري
قوله ( من بنى لله مسجدا ) يدل على أن الأجر المذكور يحصل ببناء المسجد لا بجعل الأرض مسجدا من غير بناء وأنه لا يكفي في ذلك تحويطه من غير حصول مسمى البناء والتنكير في مسجد للشيوع فيدخل فيه الكبير والصغير وعن أنس عند الترمذي مرفوعا بزيادة لفظ : ( كبيرا أو صغيرا ) ويدل لذلك رواية ( كمفحص قطاة ) وهي مرفوعة ثابتة عند ابن أبي شيبة عن عثمان [ ص 155 ] وابن حبان والبزار عن أبي ذر وأبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس والطبراني في الأوسط من حديث أنس وابن عمر وعن أبي نعيم في الحلية عن أبي بكر وابن خزيمة عن جابر وحمل ذلك العلماء على المبالغة لأن المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة وقيل هي على ظاهرها والمعنى أنه يزيد في مسجد قدرا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا القدر أو يشترك جماعة في بناء مسجد فيقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر وفي رواية للبخاري قال بكير : حسبت أنه قال يعني شيخه عاصم بن عمر بن قتادة ( يبتغي به وجه الله ) قال الحافظ : وهذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث ولم أرها إلا من طريقه هكذا وكأنها ليست في الحديث بلفظها فإن كل من روى الحديث من جميع الطرق إليه لفظهم ( من بنى لله مسجدا ) فكأن بكيرا نسبها فذكرها بالمعنى مترددا في اللفظ الذي ظنه انتهى ولكنه يؤدي معنى هذه الزيادة
قوله ( من بنى لله ) فإن الباني للرياء والسمعة والمباهاة ليس بانيا لله وأخرج الطبراني من حديث عائشة بزيادة : لا يريد به رياء ولا سمعة
قوله ( بنى الله له مثله ) وقد اختلف في معنى المماثلة فقال ابن العربي : مثله في القدر والمساحة ويرده زيادة بيتا أوسع منه عند الطبراني من حديث ابن عمر . وروى أحمد أيضا من طريق واثلة بن الأسقع بلفظ ( أفضل منه ) وقيل مثله في الجودة والحصانة وطول البقاء ويرده أن بناء الجنة لا يخرب بخلاف بناء المسجد فلا مماثلة
وقال صاحب المفهم : هذه المثلية ليست على ظاهرها وإنما يعني أنه يبنى له بثوابه بيتا أشرف وأعظم وأرفع . وقال النووي : يحتمل أن يكون مثله معناه بنى الله له مثله في مسمى البيت وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها فإنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويحتمل أن يكون معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا انتهى
قال الحافظ : لفظ المثل له استعمالان أحدهما الإفراد مطلقا كقوله تعالى { فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا } والآخر المطابقة كقوله تعالى { أمم أمثالكم } فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة فيحصل جواب من استشكل تقييده بقوله مثله مع أن الحسنة بعشر أمثالها لاحتمال أن يكون المراد بنى الله له عشر أبنية مثله
وأما من أجاب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك قبل نزول قوله تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } ففيه بعد . وكذا من أجاب بأن التقييد بالواحد لا ينفي الزيادة قال : ومن الأجوبة المرضية أن المثلية هنا بحسب الكمية والزيادة حاصلة بحسب الكيفية فكم من بيت خير من [ ص 156 ] عشرة بل من مائة وهذا الذي ارتضاه هو الاحتمال الأول الذي ذكره النووي . وقيل إن المثلية هي أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء لا من غيره مع قطع النظر عن غير ذلك مع أن التفاوت حاصل قطعا بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسعة الجنة . قال في المفهم : هذا البيت والله أعلم مثل بيت خديجة الذي قال فيه إنه من قصب يريد إنه من قصب الزمرد والياقوت انتهى

2 - وعن ابن عباس : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتا في الجنة )
- رواه أحمد

- الكلام على الحديث تخريجا وتفسيرا قد قدمناه في شرح الذي قبله

باب الاقتصاد في بناء المساجد

1 - عن ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أمرت بتشييد المساجد ) قال ابن عباس : لتزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى
- أخرجه أبو داود

- الحديث صححه ابن حبان ورجاله رجال الصحيح لأن أبا داود رواه عن سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري عن أبي فزارة وهو راشد بن كيسان الكوفي وقد أخرج له مسلم عن يزيد بن الأصم هو العامري التابعي أخرج له مسلم أيضا عن ابن عباس وقد أخرج البخاري في صحيحه قول ابن عباس المذكور تعليقا وإنما لم يذكر البخاري المرفوع للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله قاله الحافظ
قوله ( ما أمرت ) بضم الهمزة وكسر الميم مبني للمفعول
قوله ( بتشييد المساجد ) قال البغوي في شرح السنة : التشييد رفع البناء وتطويله ومنه قوله تعالى { بروج مشيدة } وهي التي طول بناؤها يقال شدت الشيء أشيده مثل بعته أبيعه إذا بنيته بالشيد وهو الجص وشيدته تشييدا طولته ورفعته
وقيل المراد بالبروج المشيدة المجصصة قال ابن رسلان : والمشهور في الحديث أن المراد بتشييد المساجد هنا رفع البناء وتطويله كما قال البغوي وفيه رد على من حمل قوله تعالى { في بيوت أذن الله أن ترفع } على رفع بنائها وهو الحقيقة بل المراد أن تعظم فلا يذكر فيها الخنى من الأقوال وتطييبها من الأدناس والأنجاس ولا ترفع فيها الأصوات انتهى
قوله ( قال ابن عباس ) هكذا رواه ابن حبان موقوفا وقبله حديث ابن عباس أيضا مرفوعا وظن [ ص 157 ] الطيبي في شرح المشكاة أنهما حديث واحد فشرحه على أن اللام في لتزخرفها مكسورة قال : وهي لام التعليل للمنفي قبله والمعنى ما أمرت بالتشييد ليجعل ذريعة إلى الزخرفة قال : والنون فيه لمجرد التأكيد وفيه نوع تأنيب وتوبيخ ثم قال : ويجوز فتح اللام على أنها جواب القسم
قال الحافظ : وهذا يعني فتح اللام هو المعتمد والأول لم تثبت به الرواية أصلا فلا يغتر به . وكلام ابن عباس فيه مفصول من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب المشهورة وغيرها انتهى
والزخرفة الزينة قال محي السنة أنهم زخرفوا المساجد عندما بدلوا دينهم وحرفوا كتبهم وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم وسيصير أمركم إلى المراءاة بالمساجد والمباهاة بتشييدها وتزيينها . قال أبو الدرداء : إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم فالدمار عليكم
قال ابن رسلان : وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة لإخباره صلى الله عليه وآله وسلم عما سيقع بعده فإن تزويق المساجد والمباهاة بزخرفتها كثر من الملوك والأمراء في هذا الزمان بالقاهرة والشام وبيت المقدس بأخذهم أموال الناس ظلما وعمارتهم بها المدارس على شكل بديع نسأل الله السلامة والعافية انتهى
( والحديث ) يدل على أن تشييد المساجد بدعة وقد روي عن أبي حنيفة الترخيص في ذلك . وروي عن أبي طالب أنه لا كراهة في تزيين المحراب . وقال المنصور بالله : إنه يجوز في جميع المساجد . وقال البدر بن المنير : لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لها عن الاستهانة وتعقب بأن المنع إن كان للحث على إتباع السلف في ترك الرفاهية فهو كما قال وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة فلا لبقاء العلة
ومن جملة ما عول عليه المجوزون للتزيين بأن السلف لم يحصل منهم الإنكار على من فعل ذلك وبأنه بدعة مستحسنة وبأنه مرغب إلى المسجد وهذه حجج لا يعول عليها من له حظ من التوفيق لا سيما مع مقابلتها للأحاديث الدالة على أن التزيين ليس من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه نوع من المباهاة المحرمة وأنه من علامات الساعة كما روي عن علي عليه السلام . وأنه من صنع اليهود والنصارى وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يحب مخالفتهم ويرشد إليها عموما وخصوصا . ودعوى ترك إنكار السلف ممنوعة لأن التزيين بدعة أحدثها أهل الدول الجائرة من غير مؤاذنة لأهل العلم والفضل وأحدثوا من البدع ما لا يأتي عليه الحصر ولا ينكره أحد وسكت العلماء عنهم تقية لا رضا بل قام في وجه باطلهم جماعة من علماء الآخرة وصرخوا بين أظهرهم بنعي ذلك عليهم [ ص 158 ] ودعوى أنه بدعة مستحسنة باطلة وقد عرفناك وجه بطلانها في شرح حديث ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) في باب الصلاة في ثوب الحرير والغصب ودعوى أنه مرغب إلى المسجد فاسدة لأن كونه داعيا إلى المسجد ومرغبا إليه لا يكون إلا لمن كان غرضه وغاية قصده النظر إلى تلك النقوش والزخرفة فأما من كان غرضه قصد المساجد لعبادة الله التي لا تكون عبادة على الحقيقة إلا مع خشوع وإلا كانت كجسم بلا روح فليست إلا شاغلة عن ذلك كما فعله صلى الله عليه وآله وسلم في الإنبجانية التي بعث بها إلى أبي جهم
وكما تقدم من هتكه للستور التي فيها نقوش . وكما سيأتي في باب تنزيه قبلة المصلي عما يلهي وتقويم البدع المعوجة التي يحدثها الملوك توقع أهل العلم في المسالك الضيقة فيتكلفون لذلك من الحجج الواهية ما لا ينفق إلا على بهيمة

3 - وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد )
- رواه الخمسة إلا الترمذي . وقال البخاري : قال أبو سعيد : كان سقف المسجد من جريدة النخل وأمر عمر ببناء المسجد وقال : أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس

- الحديث صححه ابن خزيمة وأورده البخاري عن أنس تعليقا بلفظ : ( يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا ) ووصله أبو يعلى الموصلي في مسنده . وروى الحديث أبو نعيم في كتاب المساجد من الوجه الذي عند ابن خزيمة بلفظ : ( يتباهون بكثرة المساجد )
قوله ( حتى يتباهى الناس في المساجد ) أي يتفاخرون في بناء المساجد والمباهاة بها كما في رواية البخاري أن يتفاخروا بها بالنقش والكثرة
وروى في شرح السنة بسنده عن أبي قلابة قال : غدونا مع أنس بن مالك إلى الزاوية فحضرت صلاة الصبح فمررنا بمسجد فقال أنس : أي مسجد هذا قالوا : مسجد أحدث الآن فقال أنس : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : سيأتي على الناس زمان يتباهون في المساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا )
قوله ( وقال أكن الناس ) قال الحافظ : وقع في روايتنا أكن الناس بضم الهمزة وكسر الكاف وتشديد النون المضمومة بلفظ المضارع من أكن الرباعي يقال أكننت الشيء إكنانا أي صنته وسترته وحكى أبو زيد كننته من الثلاثي بمعنى أكننته وفرق الكسائي بينهما فقال : كننته أي سترته وأكننته في نفسي أي أسررته . ووقع في رواية الأصيلي أكن بفتح الهمزة والنون فعل أمر من الإكنان أيضا ويرجحه قوله قبله وأمر عمر وقوله بعده وإياك وتوجه الأولى بأنه خاطب القوم بما أراد ثم التفت إلى الصانع فقال له : [ ص 159 ] وإياك . أو يحمل قوله وإياك على التجريد كأنه خاطب نفسه بذلك قال عياض : وفي رواية غير الأصيلي كن الناس بحذف الهمزة وكسر الكاف وهو صحيح أيضا وجوز ابن مالك ضم الكاف على أنه من كن فهو مكنون انتهى . قال الحافظ : وهو متجه لكن الرواية لا تساعده
قوله ( فتفتن الناس ) بفتح المثناة من فتن وضبطه الأصيلي بالضم من افتن وذكر أن الأصمعي أنكره وأن أبا عبيدة أجازه فقال : فتن وأفتن بمعنى . قال ابن بطال : كأن عمر فهم من ذلك رد الشارع الخميصة إلى أبي جهم من أجل الأعلام التي فيها وقال : إنها ألهتني عن صلاتي . قال الحافظ : ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم خاص بهذه المسألة فقد روى ابن ماجه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر مرفوعا : ( ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم ) ورجاله ثقات إلا شيخ جبارة بن المغلس ففيه مقال

باب كنس المساجد وتطييبها وصيانتها من الروائح الكريهة

1 - عن أنس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها )
- رواه أبو داود

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه قال : وذاكرت به محمد بن إسماعيل يعني البخاري فلم يعرفه واستغربه قال محمد : ولا أعرف للمطلب بن عبد الله يعني الراوي له عن أنس سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا قوله حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه و سلم
وأنكر علي ابن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس وفي إسناده عبد المجيد بن عبد العزيز ابن أبي رواد الأزدي وثقه يحيى بن معين وتكلم فيه غير واحد . قال الحافظ في بلوغ المرام : وصححه ابن خزيمة
قوله ( القذاة ) بتخفيف الذال المعجمة والقصر الواحدة من التبن والتراب وغير ذلك . قال أهل اللغة : القذى في العين والشراب مما يسقط فيه ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيرا
قال ابن رسلان في شرح السنن : فيه ترغيب في تنظيف المساجد مما يحصل فيها من القمامات القليلة أنها تكتب في أجورهم وتعرض على نبيهم وإذا كتب هذا القليل وعرض فيكتب الكبير ويعرض من باب الأولى [ ص 160 ] ففيه تنبيه بالأدنى على الأعلى وبالطاهر عن النجس والحسنات على قدر الأعمال . قال : وسمعت من بعض المشايخ أنه ينبغي لمن أخرج قذاة من المسجد أو أذى من طريق المسلمين أن يقول عند أخذها لا إله إلا الله ليجمع بين أدنى شعب الإيمان وأعلاها وهي كلمة التوحيد وبين الأفعال والأقوال وإن اجتمع القلب مع اللسان كان ذلك أكمل انتهى . إلا أنه لا يخفى أن الأحكام الشرعية تحتاج إلى دليل وقوله ينبغي حكم شرعي
قوله ( فلم أر ذنبا أعظم ) قال شارح المصابيح أي من سائر الذنوب الصغائر لأن نسيان القرآن من الحفظ ليس بذنب كبير إن لم يكن من استخفافه وقلة تعظيمه للقرآن وإنما قال صلى الله عليه وآله وسلم هذا التشديد العظيم تحريضا منه على مراعاة حفظ القرآن انتهى
والتقييد بالصغائر يحتاج إلى دليل . وقيل المراد بقوله نسيها ترك العمل بها . ومنه قوله تعالى { نسوا الله فنسيهم } وهو مجاز لا يصار إليه إلا لموجب

2 - وعن عائشة قالت : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب )
- رواه الخمسة إلا النسائي

3 - وعن سمرة بن جندب قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتخذ المساجد في ديارنا وأمرنا أن ننظفها )
- رواه أحمد والترمذي وصححه ورواه أبو داود ولفظه : ( كان يأمرنا بالمساجد أن نضعها في ديارنا ونصلح صنعتها ونطهرها )

- الحديث الأول أخرجه الترمذي مسندا ومرسلا . وقال : المرسل أصح ولكنه رواه غير مسند بإسناد رجاله ثقات فرواه أبو داود عن حسين بن علي بن الأسود العجلي قال أبو حاتم : صدوق عن زائدة بن قدامة أو ابن بسيط وهما ثقتان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا والحديث الثاني رواه أحمد بإسناد صحيح . وكذا رواه غيره بأسانيد جيدة
قوله ( في الدور ) قال البغوي في شرح السنة : يريد المحال التي فيها الدور ومنه قوله تعالى { سأريكم دار الفاسقين } لأنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارا ومنه الحديث ( ما بقيت دارا إلا بني فيها مسجد ) قال سفيان : بناء المساجد في الدور يعني القبائل أي من العرب يتصل بعضها ببعض وهم بنواب واحد يبني لكل قبيلة مسجد هذا ظاهر معنى تفسير سفيان الدور
قال أهل اللغة : الأصل في إطلاق الدور على المواضع وقد تطلق على القبائل مجازا . قال بعض المحدثين : والبساتين في معنى الدور وعلى هذا فيستحب بناء المسجد من حجر أو لبن أو مدر أو خشب وغير ذلك في كل محلة يحلها المقيمون [ ص 161 ] بها وكل بساتين مجتمعة
وقال في شرح المشكاة : الدور المذكورة في الحديث جمع دار وهو اسم جامع للبناء والعرصة والمحلة والمراد المحلات فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارا أو محمول على اتخاذ بيت للصلاة كالمسجد يصلي فيه أهل البيت قاله ابن عبد الملك . والأول هو المعول عليه انتهى
وقال شارح المصابيح : يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن أن يبني الرجل في داره مسجدا يصلي فيه أهل بيته اه . فعلى تفسير الدار بالمحلة المساجد المذكورة في الحديث جمع مسجد بكسر الجيم وعلى تفسيرها بدار الرجل المساجد جمع مسجد بفتح الجيم وقد نقل عن سيبويه ما يؤدي هذا المعنى
قوله ( وأن تنظف ) بالظاء المشالة لا بالضاد فإنه تصحيف ومعناه تطهر كما في رواية ابن ماجه والمراد تنظيفها من الوسخ والدنس
قوله ( وتطيب ) قال ابن رسلان : بطيب الرجال وهو ما خفي لونه وظهر ريحه فإن اللون ربما شغل بصر المصلي والأولى في تطييب المسجد مواضع المصلين ومواضع سجودهم أولى ويجوز أن يحمل التطييب على التجمير في المسجد والظاهر أن الأمر ببناء المسجد للندب لحديث ( جعلت لنا الأرض مسجدا ) وحديث ( أينما أدركت الصلاة فصل )

4 - وعن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )
- متفق عليه

- قال النووي بعد أن ذكر حديث مسلم بلفظ ( فلا يقربن المساجد ) : هذا تصريح بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد وهذا مذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء أن النهي خاص بمسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله في رواية ( مسجدنا ) وحجة الجمهور فلا يقربن المساجد
قال ابن دقيق العيد : ويكون مسجدنا للجنس أو لضرب المثال فإنه معلل إما بتأذي الآدميين أو بتأذي الملائكة الحاضرين وذلك قد يوجد في المساجد كلها ثم إن النهي إنما هو عن حضور المسجد لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما فهذه البقول حلال بإجماع من يعتد به
وحكى القاضي عياض عن أهل الظاهر تحريمها لأنها تمنع عن حضور الجماعة وهي عندهم فرض عين
( وحجة الجمهور ) قوله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث الباب ( كل فإني أناجي من لا تناجي ) . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( أيها الناس ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها ) أخرجه مسلم وغيره
قال العلماء : ويلحق بالثوم والبصل [ ص 162 ] والكراث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها . قال القاضي عياض : ويلحق به من أكل فجلا وكان يتجشأ . قال : قال ابن المرابط : ويلحق به من بخر في فيه أو به جرح له رائحة قال القاضي : وقاس العلماء على هذا مجامع الصلاة غير المسجد كمصلى العيد والجنائز ونحوهما من مجامع العبادات وكذا مجامع العلم والذكر والولائم ونحوها ولا يلحق بها الأسواق ونحوها انتهى
وفيه أن العلة إن كانت هي التأذي فلا وجه لإخراج الأسواق وإن كانت مركبة من التأذي وكونه حاصلا للمشتغلين بطاعة صح ذلك ولكن العلة المذكورة في الحديث هي تأذي الملائكة فينبغي الاقتصار على إلحاق المواطن التي تحضرها الملائكة
وقد ورد في حديث عند مسلم بلفظ ( لا يؤذينا بريح الثوم ) وهي تقتضي التعليل بتأذي بني آدم . قال ابن دقيق العيد : والظاهر أن كل واحد منهما علة مستقلة انتهى . وعلى هذا الأسواق كغيرها من مجامع العبادات
( وقد استدل ) بالحديث على عدم وجوب الجماعة قال ابن دقيق العيد : وتقريره أن يقال كل هذه الأمور جائزة بما ذكرنا من لوازمه ترك صلاة الجماعة في حق آكلها ولازم الجائز جائز فترك الجماعة في حق آكلها جائز وذلك ينافي الوجوب
وأهل الظاهر القائلون بتحريم أكل ما له رائحة كريهة يقولون إن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان ولا تتم إلا بترك أكل الثوم لهذا الحديث وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فترك أكل ذلك واجب
قوله ( فإن الملائكة تتأذى ) قال النووي : وهو بتشديد الذال ووقع في أكثر الأصول بالتخفيف وهي لغة يقال أذى تأذى مثل عمى يعمى . قال : قال العلماء : وفي هذا الحديث دليل على منع من أكل الثوم من دخول المسجد وإن كان خاليا لأنه محل الملائكة ولعموم الأحاديث

باب ما يقول إذا دخل المسجد وإذا خرج منه

1 - عن أبي حميد وأبي أسيد قالا : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لنا أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك )
- رواه أحمد والنسائي وكذا مسلم وأبو داود . وقال عن أبي حميد أو أبي أسيد بالشك

- وأخرجه أيضا ابن ماجه عن أبي حميد وحده وهو عبد الرحمن بن سعد الساعدي [ ص 163 ] وأبو أسيد بضم الهمزة مصغرا هو مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري
قوله ( فليقل ) في رواية أبي داود ( فليسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ليقل ) وروى ابن السني عن أنس : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المسجد قال بسم الله اللهم صل على محمد وإذا خرج قال بسم الله اللهم صل على محمد ) قال النووي : وروينا الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند دخول المسجد والخروج منه من رواية ابن عمر أيضا وسيأتي حديث فاطمة عليها السلام
قوله ( افتح لنا ) رواية أبي داود ( افتح لي ) ويجمع بينهما بأن المنفرد يقول اللهم افتح لي وإذا دخل ومعه غيره يقول اللهم افتح لنا كذا قال ابن رسلان
قوله ( اللهم إني أسألك من فضلك ) في رواية الطبراني في الأوسط عن ابن عمر : ( وإذا خرج قال اللهم افتح لنا أبواب فضلك ) وفي إسناده سالم بن عبد الأعلى . قال ابن رسلان : وسؤال الفضل عند الخروج موافق لقوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } يعني الرزق الحلال
وقيل وابتغوا من فضل الله هو طلب العلم والوجهان متقاربان فإن العلم هو من رزق الله تعالى لأن الرزق لا يختص بقوت الأبدان بل يدخل فيه قوت الأرواح والأسماع وغيرها وقيل فضل الله عيادة مريض وزيارة أخ صالح

2 - وعن فاطمة الزهراء رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المسجد قال بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك )
- رواه أحمد وابن ماجه

- الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم وأبو معاوية عن ليث عن عبد الله بن الحسن عن أمه عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره وفيه انقطاع لأن فاطمة بنت الحسين وهي أم عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي لم تدرك فاطمة الزهراء رضي الله عنها وليث المذكور في الإسناد إن كان ابن أبي سليم ففيه مقال معروف
( وهذا الحديث ) فيه زيادة التسمية والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدعاء بالمغفرة في الدخول والخروج وزيادة التسليم ثابتة عند أبي داود في الحديث الأول وابن مردويه وزيادة التسمية ثابتة عند ابن السني من حديث أنس كما تقدم وعن ابن مردويه وقد تقدمت زيادة الصلاة فينبغي لداخل المسجد والخارج منه أن يجمع بين التسمية والصلاة [ ص 164 ] والسلام على رسول الله والدعاء بالمغفرة والدعاء بالفتح لأبواب الرحمة داخلا ولأبواب الفضل خارجا ويزيد في الخروج سؤال الفضل وينبغي أيضا أن يضم إلى ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم قال فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم ) وما أخرج الحاكم في المستدرك وقال : صحيح على شرط الشيخين عن ابن عباس في قوله تعالى { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم } قال : هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين

باب جامع فيما تصان عنه المساجد وما أبيح فيها

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من سمع رجلا ينشد في المسجد ضالة فليقل لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا )

2 - وعن بريدة : ( أن رجلا نشد في المسجد فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له )
- رواهما أحمد ومسلم وابن ماجه

- قوله ( ينشد ) بفتح الياء وضم الشين يقال نشدت الضالة بمعنى طلبتها وأنشدتها عرفتها . والضالة تطلق على الذكر والأنثى والجمع ضوال كدابة ودواب وهي مختصة بالحيوان ويقال لغير الحيوان ضائع ولقيط
قال ابن رسلان : قوله ( لا أدها الله إليك ) فيه دليل على جواز الدعاء على الناشد في المسجد بعدم الوجدان معاقبة له في ماله معاملة له بنقيض قصده . قال ابن رسلان : ويلحق بذلك من رفع صوته فيه بما يقتضي مصلحة ترجع إلى الرافع صوته قال : وفيه النهي عن رفع الصوت بنشد الضالة وما في معناه من البيع والشراء والإجارة والعقود . قال مالك وجماعة من العلماء : يكره رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره وأجاز أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت فيه بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج الناس لأنه مجمعهم ولا بد لهم منه
قوله ( وإنما بنيت المساجد لما بنيت له ) قال النووي : معناه لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها . قال القاضي عياض : فيه دليل على منع الصنائع في المسجد قال : وقال بعض شيوخنا : إنما يمنع من الصنائع الخاصة فأما العامة للمسلمين في دينهم فلا بأس بها وكره بعض [ ص 165 ] المالكية تعليم الصبيان في المساجد وقال : إنه من باب البيع وهذا إذا كان بأجرة فإن كان بغير أجرة كان مكروها لعدم تحرزهم من الوسخ الذي يصان عنه المسجد وقد تقدم اختلاف الأحاديث في دخولهم المساجد في باب حمل المحدث

3 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له )
- رواه أحمد وابن ماجه وقال : ( هو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره )

- الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل عن حميد بن صخر عن المقبري عن أبي هريرة فذكره وحاتم بن إسماعيل قد وثقه ابن سعد وهو صدوق كان يهم وبقية الإسناد ثقات وحميد بن صخر هو حميد الطويل الإمام الكبير
قوله ( مسجدنا هذا ) فيه تصريح بأن الأجر المترتب على الدخول إنما يحصل لمن كان في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم ولا يصح إلحاق غيره به من المساجد التي هي دونه في الفضيلة لأنه قياس مع الفارق
قوله ( ليتعلم خيرا أو ليعلمه ) فيه أن الثواب المذكور إنما يتسبب عن هذه الطاعة الخاصة لا عن كل طاعة
وفيه أيضا التنويه بشرف تعلم العلم وتعليمه لأنه هو الخير الذي لا يقادر قدره وهذا إن جعل تنكير الخير للتعظيم ويمكن إدراج كل تعلم وتعليم لخير أي خير كان تحت ذلك فيدخل كل ما فيه قربة يتعلمها الداخل أو يعلمها غيره . وفيه أيضا التسوية بين العالم والمتعلم والإرشاد إلى أن التعليم والتعلم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة
قوله ( ومن دخل لغير ذلك ) الخ ظاهره أن كل ما ليس فيه تعليم ولا تعلم من أنواع الخير لا يجوز فعله في المسجد ولا بد من تقييده بما عدا الصلاة والذكر والاعتكاف ونحوها مما ورد فعله في المسجد أو الإرشاد إلى فعله فيه
( والحديث ) يدل على أن المسجد لم يوضع لكل طاعة بل الطاعات مخصوصة لتقييد الخير في الحديث بالتعليم والتعلم

4 - وعن حكيم بن حزام قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقام الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها )
- رواه أحمد وأبو داود والدارقطني

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم وابن السكن والبيهقي قال الحافظ في التلخيص : ولا بأس بإسناده وقال في بلوغ المرام : إن إسناده ضعيف
وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي وابن ماجه وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف من قبل حفظه وعن جبير بن مطعم عند البزار [ ص 166 ] وفيه الواقدي . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه ابن لهيعة
( والحديث ) يدل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الاستقادة فيها لأن النهي كما تقرر في الأصول حقيقة في التحريم ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي

5 - وعن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا لا رد الله عليك )
- رواه الترمذي

6 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار وأن تنشد فيه الضالة وعن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة )
- رواه الخمسة وليس للنسائي فيه إنشاد الضالة

- الحديث الأول أخرجه النسائي في اليوم والليلة وحسنه الترمذي والحديث الثاني حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة . قال الحافظ في الفتح : وإسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب فمن يصحح نسخته يصححه قال : وفي المعنى أحاديث لكن في أسانيدها مقال انتهى
وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيه مقال مشهور . قال الترمذي : قال محمد بن إسماعيل : رأيت أحمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب قال : وقد سمع شعيب بن محمد من عبد الله بن عمرو قال أبو عيسى : ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث من صحيفة جده كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده . قال علي بن عبد الله المديني : قال يحيى بن سعيد : حديث عمرو بن شعيب عندنا واه
( وفي الباب ) عن بريدة عند مسلم وابن ماجه والنسائي . وعن جابر عند النسائي . وعن أنس عند الطبراني قال العراقي : ورجاله ثقات . وعن أبي هريرة من طريق أخرى غير التي في الباب عند مسلم . وعن سعد ابن أبي وقاص عند البزار وفي إسناده الحجاج بن أرطأة . وعن ابن مسعود عند البزار أيضا والطبراني . وعن ثوبان عند الطبراني أيضا وثوبان هذا ليس بثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يورده ابن حبان في الصحابة ولا ابن عبد البر وأورده ابن منده . وعن معاذ بن جبل عند الطبراني أيضا . وعن ابن عمر عند ابن ماجه . وعن واثلة بن الأسقع عند ابن ماجه أيضا . وعن عصمة عند الطبراني وعن أبي سعيد عند ابن أبي حاتم في العلل
( الحديثان ) يدلان على تحريم البيع والشراء وإنشاد الضالة وإنشاد الأشعار والتحلق يوم الجمعة قبل الصلاة وقد تقدم الكلام في [ ص 167 ] إنشاد الضالة
أما البيع والشراء فذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة قال العراقي : وقد أجمع العلماء على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه وهكذا قال الماوردي
وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين بأن النهي حقيقة في التحريم وهو الحق وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة
وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا يكره البيع والشراء في المسجد والأحاديث ترد عليه . وفرق أصحاب أبي حنيفة بين أن يغلب ذلك ويكثر فيكره أو يقل فلا كراهة وهو فرق لا دليل عليه
وأما إنشاد الأشعار في المسجد فحديث الباب وما في معناه يدل على عدم جوازه ويعارضه ما سيأتي من قصة عمر وحسان وتصريح حسان بأنه كان ينشد الشعر بالمسجد وفيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك حديث جابر بن سمرة الآتي . وقد جمع بين الأحاديث بوجهين : الأول حمل النهي على التنزيه والرخصة على بيان الجواز . والثاني حمل أحاديث الرخصة على الشعر الحسن المأذون فيه كهجاء حسان للمشركين ومدحه صلى الله عليه وآله وسلم وغير ذلك ويحمل النهي على التفاخر والهجاء ونحو ذلك ذكر هذين الوجهين العراقي في شرح الترمذي وقد بوب النسائي على قصة حسان مع عمر بن الخطاب فقال باب الرخصة في إنشاد الشعر الحسن
وقال الشافعي : الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح . وقد ورد هذا مرفوعا في غير حديث فروى أبو يعلى عن عائشة قالت : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشعر فقال : هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح ) قال العراقي : وإسناده حسن ورواه أيضا البيهقي في سننه من طريق أبي يعلى ثم قال : وصله جماعة والصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسل
وروى الطبراني في الأوسط من رواية إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الرحمن بن رافع وحبان بن جبلة وبكر بن سوادة عن عبد الله بن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبح الكلام )
وقد جمع الحافظ بين الأحاديث بحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين وحمل المأذون فيه على ما سلم من ذلك ولكن حديث جابر بن سمرة الآتي فيه التصريح بأنهم كانوا يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية قال : وقيل المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالبا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه . وأبعد أبو عبد الله البوني [ ص 168 ] فأعمل أحاديث النهي وادعى النسخ في حديث الإذن ولم يوافق على ذلك حكاه ابن التين عنه انتهى . وقد تقرر أن الجمع بين الأحاديث ما أمكن هو الواجب وقد أمكن هنا بلا تعسف كما عرفت
قال ابن العربي : لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين وإقامة الشرع وإن كان فيه الخمر ممدوحة بصفاتها الخبيثة من طيب رائحة وحسن لون إلى غير ذلك مما يذكره من يعرفها وقد مدح فيه كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... إلى قوله في صفة ريقها ... كأنه منهل بالراح معلول
قال العراقي : وهذه القصيدة قد رويناها من طرق لا يصح منها شيء وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع وعلى تقدير ثبوت هذه القصيدة عن كعب وإنشادها بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد أو غيره فليس فيها مدح الخمر وإنما فيها مدح ريقها وتشبيهه بالراح قال : ولا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا لم يرفع به صوته بحيث يشوش بذلك على مصل أو قارئ أو منتظر للصلاة فإن أدى إلى ذلك كره ولو قيل بتحريمه لم يكن بعيدا . وقد قدمنا ما يدل على النهي عن رفع الصوت في المساجد مطلقا في باب حمل المحدث
وأما التحلق يوم الجمعة في المسجد قبل الصلاة فحمل النهي عنه الجمهور على الكراهة وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف الأول فالأول . وقال الطحاوي : التحلق المنهي عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد وغلبه فهو مكروه وغير ذلك لا بأس به . والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه للعلم والذكر . والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيرها كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي واقد الليثي قال : ( بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فأقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله وذهب واحد فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم ) الحديث
وأما التحلق في المسجد في أمور الدنيا فغير جائز . وفي حديث ابن مسعود : ( سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا أمانيهم الدنيا فلا تجالسوهم فإنه ليس لله فيهم حاجة ) ذكره العراقي في شرح الترمذي قال : وإسناده ضعيف فيه بزيغ أبو الخليل وهو ضعيف جدا
قوله ( وعن الحلق ) بفتح المهملة ويجوز كسرها واللام مفتوحة على كل حال جمع حلقة بإسكان اللام على غير قياس وحكى فتحها أيضا كذا في الفتح

7 - [ ص 169 ] وعن سهل بن سعد : ( أن رجلا قال : يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله ) الحديث ( فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد )
- متفق عليه

- الحديث سيأتي بطوله في كتاب اللعان ويأتي شرحه إن شاء الله هنالك . وساقه المصنف هنا للاستدلال به على جواز اللعان في المسجد . وقد جعلت الهادوية إيقاعه في غير المسجد مندوبا ولا وجه له والتعليل بأنه ربما كان مفضيا إلى الحد إذا أقر أحد الزوجين بكذبه باطل لأن تسبب الحد عنه نادر لا يستلزم وقوع الحد فيه

8 - وعن جابر بن سمرة قال : ( شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي بلفظ : ( جالست النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت فربما تبسم معهم ) وقال : هذا حديث صحيح . ( والحديث ) يدل على جواز إنشاد الشعر في المسجد وقد تقدم الكلام في ذلك

9 - وعن سعيد بن المسيب قال : ( مر عمر في المسجد وحسان فيه ينشد فلحظ إليه فقال : كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال : أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أجب عني اللهم أيده بروح القدس قال : نعم )
- متفق عليه

- قوله ( قال مر عمر ) رواية سعيد لهذه القصة مرسلة عندهم لأنه لم يدرك زمن المرور لكن يحمل على أن سعيدا سمع ذلك من أبي هريرة بعد أو من حسان أو وقع لحسان استشهاد بأبي هريرة مرة أخرى فحضر ذلك سعيد
قوله ( وفيه من هو خير منك ) يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قوله ( أنشدك الله ) بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة أي سألتك الله والنشد بفتح النون وسكون المعجمة التذكير
قوله ( أيده بروح القدس ) أي قوه . وروح القدس المراد به هنا جبريل بدليل حديث البراء عند البخاري بلفظ : ( وجبريل معك ) والمراد بالإجابة الرد على الكفار الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي الترمذي عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينصب لحسان منبرا في المسجد فيقوم عليه يهجو الكفار ) وأخرجه الحاكم في [ ص 170 ] المستدرك وقال : هذا حديث صحيح الإسناد
( والحديث ) يدل على جواز إنشاد الشعر في المسجد وقد تقدم الجمع بين حديث الباب وبين ما يعارضه

10 - وعن عباد بن تميم عن عمه : ( أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى )
- متفق عليه

- قوله ( واضعا إحدى رجليه على الأخرى ) قال الخطابي : فيه أن النهي الوارد عن ذلك منسوخ أو يحمل النهي حيث يخشى أن تبدو عورته والجواز يؤمن من ذلك . قال الحافظ : الثاني أولى من ادعاء النسخ لأنه لا يثبت بالاحتمال . وممن جزم به البيهقي والبغوي وغيرهما من المحدثين وجزم ابن بطال ومن تبعه بأنه منسوخ ويمكن أن يقال إن النهي عن وضع إحدى الرجلين على الأخرى الثابت في مسلم وسنن أبي داود عام وفعله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك مقصور عليه فلا يؤخذ من ذلك الجواز لغيره صرح بذلك المازري قال : لكن لما صح أن عمر وعثمان كانا يفعلان ذلك دل على أنه ليس خاصا به صلى الله عليه وآله وسلم بل هو جائز مطلقا . فإذا تقرر هذا صار بين الحديثين تعارض فيجمع بينهما ثم ذكر نحو ما ذكره الخطابي
قال الحافظ : وفي قوله فلا يؤخذ منه الجواز نظر لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال والظاهر أن فعله كان لبيان الجواز والظاهر على ما تقتضيه القواعد الأصولية ما قاله المازري من قصر الجواز عليه صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن قوله لكن لما صح أن عمر وعثمان الخ لا يدل على الجواز مطلقا كما قال لاحتمال أنهما فعلا ذلك لعدم بلوغ النهي إليهما
( والحديث ) يدل على جواز الاستلقاء في المسجد على تلك الهيئة وعلى غيرها لعدم الفارق

11 - وعن عبد الله بن عمر : ( أنه كان ينام وهو شاب عزب لا أهل له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه البخاري والنسائي وأبي داود وأحمد . ولفظه : ( كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ننام في المسجد ونقيل فيه ونحن شباب ) قال البخاري : وقال أبو قلابة عن أنس : ( قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا في الصفة وقال : قال عبد الرحمن بن أبي بكر كان أصحاب الصفة الفقراء )

- قوله ( عزب ) قال الحافظ : المشهور فيه فتح العين المهملة وكسر الزاي وفي رواية للبخاري ( أعزب ) وهي لغة قليلة مع أن القزاز أنكرها . والمراد به الذي لا زوجة له
وقوله ( لا أهل له ) تفسير لقوله ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص فيدخل فيه [ ص 171 ] الأقارب ونحوهم
وقوله ( في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) يتعلق بقوله ( ينام ) ورواية أحمد أدل على الجواز للتصريح فيها بأن ذلك كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقد أخرج البخاري حديث : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء وعلي مضطجع في المسجد قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسحه ويقول : قم أبا تراب ) . وقد ذهب الجمهور إلى جواز النوم في المسجد . وروي عن ابن عباس كراهته إلا لمن يريد الصلاة . وعن ابن مسعود مطلقا . وعن مالك التفصيل بين من له مسكن فيكره وبين من لا مسكن له فيباح
قوله ( وقال أبو قلابة عن أنس ) هذا طرف من قصة العرنيين وقد ذكرها البخاري في الطهارة من صحيحه ووصل هذا اللفظ المذكور هنا في المحاربين من طريق وهيب عن أيوب عن أبي قلابة
قوله ( قال عبد الرحمن ) هو أيضا طرف من حديث طويل ذكره البخاري في علامات النبوة . والصفة موضع مظلل في المسجد النبوي كانت تأوي إليه المساكين . وعكل بضم العين المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم وقد تقدم ضبطه وتفسيره في باب الرخصة في بول ما يؤكل لحمه

12 - وعن عائشة قالت : ( أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب )
- متفق عليه

- قوله ( حبان ابن العرقة ) بعين مهملة مفتوحة ثم راء مكسورة ثم قاف بعدها هاء التأنيث
قوله ( في الأكحل ) هو عرق في اليد وتمام الحديث في البخاري : ( قالت فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفارا لا الدم يسيل عليهم فقالوا : يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات فيها ) يعني الخيمة أو في تلك المرضة
( والحديث ) يدل على جواز ترك المريض في المسجد وإن كان في ذلك مظنة لخروج شيء منه يتنجس به المسجد

13 - وعن عبد الرحمن ابن أبي بكر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا فقال أبو بكر : دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل فوجدت كسرة خبز بين يدي عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه )
- رواه أبو داود

- قال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن أبي بكر إلا بهذا [ ص 172 ] الإسناد وذكر أنه روي مرسلا . قال المنذري : وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي حازم سلمان الأشجعي بنحوه أتم منه
( والحديث ) يدل على جواز التصدق في المسجد وعلى جواز المسألة عند الحاجة وقد بوب أبو داود في سننه لهذا الحديث فقال باب المسألة في المساجد

14 - وعن عبد الله بن الحارث قال : ( كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الخبز واللحم )
- رواه ابن ماجه

- الحديث إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب وحرملة بن يحيى قالا حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث قال حدثني سليمان بن زياد الحضرمي أنه سمع عبد الله بن الحارث فذكره وهؤلاء كلهم من رجال الصحيح إلا يعقوب بن حميد وقد رواه معه حرملة بن يحيى
( والحديث ) يدل على المطلوب منه وهو جواز الأكل في المسجد وفيه أحاديث كثيرة منها سكنى أهل الصفة في المسجد الثابت في البخاري وغيره فإن كون لا مسكن لهم سواه يستلزم أكلهم للطعام فيه . ومنها حديث ربط الرجل الأسير بسارية من سواري المسجد المتفق عليه وفي بعض طرقه أنه استمر مربوطا ثلاثة أيام . ومنها ضرب الخيام في المسجد لسعد بن معاذ كما تقدم أو للسوداء التي كانت تقم المسجد كما في الصحيحين . ومنها إنزال وفد ثقيف المسجد وغيرهم والأحاديث الدالة على جواز أكل الطعام في المسجد متكاثرة
( قال المصنف ) رحمه الله : وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسر ثمامة بن أثال فربط بسارية في المسجد قبل إسلامه وثبت عنه أنه نثر مالا جاء من البحرين في المسجد وقسمه فيه انتهى
قلت : ربط ثمامة ثابت في الصحيحين بلفظ : ( بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فاغتسل ثم دخل فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) . ونثر المال في المسجد وقسمته ثابت في البخاري وغيره بلفظ : ( أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال من البحرين فقال : انثروه في المسجد وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم ساق القصة بطولها
( والحديثان ) يدلان على جواز ربط الأسير المشرك في المسجد والمسلم بالأولى وعلى جواز قسمة الأموال في المساجد ونثرها فيها

باب تنزيه قبلة المسجد عما يلهي المصلي . [ ص 173 ]

1 - عن أنس قال : ( كان قرام لعائشة قد سترت به جانب بيتها فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أميطي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي )
- رواه أحمد والبخاري

- قوله ( قرام ) بكسر القاف وتخفيف الراء ستر رقيق من صوف ذو ألوان كما تقدم
قوله ( أميطي ) أي أزيلي وزنا ومعنى
قوله ( لا تزال تصاويره ) في رواية للبخاري ( لا تزال تصاوير ) بحذف الضمير قال الحافظ : كذا في روايتنا وللباقين بإثبات الضمير قال : والهاء على روايتنا في فإنه ضمير الشأن وعلى الأخرى يحتمل أن يعود على الثوب
قوله ( تعرض ) بفتح أوله وكسر الراء أي تلوح وللإسماعيلي تعرض بفتح العين وتشديد الراء وأصله تتعرض
( والحديث ) يدل على كراهة الصلاة في الأمكنة التي فيها تصاوير وقد تقدم كراهة زخرفة المساجد والتصاوير نوع من ذلك وقد تقدم أيضا الكلام على الثياب التي فيها تصاوير
( ودل الحديث ) أيضا على أن الصلاة لا تفسد بذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقطعها ولم يعدها

2 - وعن عثمان بن طلحة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا بعد دخوله الكعبة فقال : إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أبو داود من طريق منصور الحجبي قال : حدثني خالي عن أمي قالت : سمعت الأسلمية تقول : قلت لعثمان ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دعاك قال : ( إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين فإنه ليس ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي )
وخال صفوان المذكور في الإسناد قال ابن السراج : هو مسافع بن شيبة وأم منصور المذكورة هي صفية بنت شيبة القرشية العبدرية وقد جاءت مسماة في بعض طرق هذا الحديث واختلف في صحبتها وقد جاءت أحاديث ظاهرة في صحبتها . وعثمان بن طلحة المذكور هو القرشي العبدري الحجبي بفتح الحاء المهملة وبعدها جيم مفتوحة وباء [ ص 174 ] موحدة منسوب إلى حجابة بيت الله الحرام شرفه الله تعالى وهم جماعة من بني عبد الدار وإليهم حجابة الكعبة
وقد اختلف في هذا الحديث فروى عن منصور عن خاله مسافع عن صفية بنت شيبة عن امرأة من بني سليم عن عثمان وروى عنه عن خاله عن امرأة من بني سليم ولم يذكر أمه . والأسلمية المذكورة لم أقف على اسمها
( والحديث ) يدل على كراهة تزيين المحاريب وغيرها مما يستقبله المصلي بنقش أو تصوير أو غيرهما مما يلهي وعلى أن تخمير التصاوير مزيل لكراهة الصلاة في المكان الذي هي فيه لارتفاع العلة وهي اشتغال قلب المصلي بالنظر إليها وقد أسلفنا الكلام في التصاوير وفي كراهية زخرفة المساجد
قوله ( قرني الكبش ) أي كبش إبراهيم الذي فدى به إسماعيل

باب لا يخرج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي إلا لعذر

1 - عن أبي هريرة قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي )
- رواه أحمد

2 - وعن أبي الشعثاء قال : ( خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه فقال أبو هريرة : أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- الحديث الأول روي من طريق ابن أبي الشعثاء واسمه أشعث عن أبيه عن أبي هريرة ورواه عن أبي هريرة أبو صالح ومحمد بن زاذان وسعيد بن المسيب قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي بعد أن روى الحديث بإسناده ولم يتكلم فيه
وأما الحديث الثاني فروي عن بعضهم أنه موقوف قال ابن عبد البر : هو مسند عندهم لا يختلفون فيه انتهى . وفي إسناده إبراهيم بن المهاجر وقد وثق وضعف وأخرج له الجماعة إلا البخاري . وفي الرواة من يسمي إبراهيم بن مهاجر ثلاثة : هذا أحدهم وهو البجلي الكوفي . والثاني المدني مولى سعد بن أبي وقاص . والثالث الأزدي الكوفي
وفي الباب عن عثمان بلفظ : قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أدرك الآذان وهو في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق ) رواه ابن سنجر والزيدوني في أحكامه وابن سيد الناس في شرح الترمذي وأشار إليه الترمذي في جامعه
( والحديثان ) يدلان على تحريم الخروج من المسجد بعد سماع الأذان لغير الوضوء وقضاء الحاجة وما تدعو الضرورة إليه [ ص 175 ] حتى يصلي فيه تلك الصلاة لأن ذلك المسجد قد تعين لتلك الصلاة قال الترمذي بعد أن ذكر الحديث : وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد إلا من عذر أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه ويروى عن إبراهيم النخعي أنه قال : يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه انتهى . قال ابن رسلان في شرح السنن : إن الخروج مكروه عند عامة أهل العلم إذا كان لغير عذر من طهارة أو نحوها وإلا جاز بلا كراهة . قال القرطبي : هذا محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدليل نسبته إليه وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان فأطلق لفظ المعصية عليه

أبواب استقبال القبلة

باب وجوبه للصلاة

1 - عن أبي هريرة في حديث يأتي ذكره قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فإذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر )

- هذا الحديث الذي أشار إليه المصنف هو حديث المسيء وسيأتي في باب السجدة الثانية ولزوم الطمأنينة ويأتي إن شاء الله شرحه هنالك وهذا اللفظ الذي ذكره المصنف هو لفظ مسلم وهو يدل على وجوب الاستقبال وهو إجماع المسلمين إلا في حالة العجز أو في الخوف عند التحام القتال أو في صلاة التطوع كما سيأتي . وقد دل على الوجوب القرآن والسنة المتواترة . وفي الصحيح من حديث أنس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز و جل )
وقالت الهادوية : إن استقبال القبلة من شروط صحة الصلاة وقد عرفناك فيما سبق أن الأوامر بمجردها لا تصلح للاستدلال بها على الشرطية إلا على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ولكن ههنا ما يمنع من الشرطية وهو خبر السرية الذي أخرجه الترمذي وأحمد والطبراني من حديث عامر بن ربيعة بلفظ : ( كنا مع [ ص 176 ] النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة وصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزل { فأينما تولوا فثم وجه الله } ) فإن الاستقبال لو كان شرطا لوجبت الإعادة في الوقت وبعده لأن الشرط يؤثر عدمه في العدم مع أن الهادوية يوافقون في عدم وجوب الإعادة بعد الوقت وهو يناقض قولهم إن الاستقبال شرط وهذا الحديث وإن كان فيه مقال عند المحدثين ولكن له شواهد تقويه منها حديث جابر عند البيهقي بلفظ : ( صلينا ليلة في غيم وخفيت علينا القبلة فلما انصرفنا نظرنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قد أحسنتم ولم يأمرنا أن نعيد )
وله طريق أخرى عنه بنحو هذه وفيها أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم ( قد أجزأت صلاتكم ) ولكنه تفرد به محمد بن سالم ومحمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء وهما ضعيفان . وكذا قال الدارقطني قال البيهقي : وكذلك روي عن عبد الملك العرزمي عن عطاء ثم رواه من طريق أخرى بنحو ما هنا وقال : لا نعلم لهذا الحديث إسنادا صحيحا قويا والصحيح أن الآية إنما نزلت في التطوع خاصة كما في صحيح مسلم وسيأتي ذلك في باب تطوع المسافر . ومنها حديث معاذ عند الطبراني في الأوسط بلفظ : ( صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم غيم في سفر إلى غير القبلة فلما قضى الصلاة وسلم تجلت الشمس فقلنا : يا رسول الله صلينا إلى غير القبلة فقال : قد رفعت صلاتكم بحقها إلى الله عز و جل ) وفي إسناده أبو عبلة واسمه شمر بن عطاء وقد ذكره ابن حبان في الثقات
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها وفي حديث معاذ التصريح بأن ذلك كان بعد الفراغ من الصلاة قبل انقضاء الوقت وهو أصرح في الدلالة على عدم الشرطية وفيها أيضا رد لمذهب من فرق في وجوب الإعادة بين بقاء الوقت وعدمه

2 - وعن ابن عمر قال : ( بينما الناس بقبا في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة )
- متفق عليه

3 - وعن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام } فمر رجل [ ص 177 ] من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

- وفي الباب عن البراء عند الجماعة إلا أبا داود . وعن ابن عباس عند أحمد والبزار والطبراني قال العراقي : وإسناده صحيح . وعن عمارة بن أوس عند أبي يعلى في مسنده والطبراني في الكبير . وعن عمرو بن عوف المزني عند البزار والطبراني أيضا . وعن سعد ابن أبي وقاص عند البيهقي وإسناده صحيح . وعن سهل بن سعد عند الطبراني والدارقطني . وعن عثمان بن حنيف عند الطبراني أيضا . وعن عمارة بن رويبة عند الطبراني أيضا . وعن أبي سعيد بن المعلى عند البزار والطبراني أيضا . وعن تويلة بنت أسلم عند الطبراني أيضا
قوله ( في صلاة الصبح ) هكذا في صحيح مسلم من حديث أنس بلفظ : ( وهم ركوع في صلاة الفجر ) وكذا عند الطبراني من حديث سهل بن سعد بلفظ : ( فوجدهم يصلون صلاة الغداة ) وفي الترمذي من حديث البراء بلفظ : ( فصلى رجل معه العصر ) وساق الحديث وهو مصرح بذلك في رواية البخاري من حديث البراء وليس عند مسلم تعيين الصلاة من حديث البراء . وفي حديث عمارة بن أوس أن التي صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة إحدى صلاتي العشي وهكذا في حديث عمارة ابن رويبة وحديث تويلة وفي حديث أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر . والجمع بين هذه الروايات أن من قال إحدى صلاتي العشي شك هل هي الظهر أو العصر وليس من شك حجة على من جزم فنظرنا فيمن جزم فوجدنا بعضهم قال الظهر وبعضهم قال العصر ووجدنا رواية العصر أصح لثقة رجالها وإخراج البخاري لها في صحيحه
وأما حديث كونها الظهر ففي إسنادها مروان بن عثمان وهو مختلف فيه . وأما رواية ( أن أهل قبا كانوا في صلاة الصبح ) فيمكن أنه أبطأ الخبر عنهم إلى صلاة الصبح
قال ابن سعد في الطبقات حاكيا عن بعضهم : إن ذلك كان بمسجد المدينة فقال : ويقال صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ثم أمر أن يوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه وكان معه المسلمون ويكون المعنى برواية البخاري أنها العصر أي أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة كاملة صلاة العصر
قوله ( إذ جاءهم آت ) قيل هو عباد ابن بشر وقيل عباد بن نهيك وقيل غيرهما
قوله ( فاستقبلوها ) بفتح الموحدة للأكثر أي فتحولوا إلى جهة الكعبة وفاعل استقبلوها المخاطبون بذلك وهم أهل قبا ويحتمل [ ص 178 ] أن يكون فاعل استقبلوها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه . وفي رواية في البخاري بكسر الموحدة بصيغة الأمر ويؤيد الكسر ما عند البخاري في التفسير بلفظ : ( ألا فاستقبلوها )
قوله ( وكانت وجوههم ) هو تفسير من الراوي للتحول المذكور والضمير في وجوههم فيه الاحتمالان وقد وقع بيان كيفية التحول في خبر تويلة قالت : فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء . قال الحافظ : وتصويره أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد لأن من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس وهو لو دار في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف ولما تحول الإمام تحولت الرجال حتى صاروا خلفه وتحول النساء حتى صرن خلف الرجال وهذا يستدعي عملا كثيرا في الصلاة فيحتمل أن ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير كما كان قبل تحريم الكلام ويحتمل أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة أو وقعت الخطوات غير متوالية عند التحول بل وقعت مفرقة
( وللحديث الأول فوائد ) منها أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه لأن أهل قبا لم يؤمروا بالإعادة . ومنها جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر القبلة لأن الأنصار تحولوا إلى جهة الكعبة بالاجتهاد ونظره الحافظ قال : يحتمل أن يكون عندهم بذلك نص سابق . ومنها جواز تعليم من ليس في الصلاة من هو فيها . ومنها جواز نسخ الثابت بطريق العلم والقطع بخبر الواحد وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على أهل قبا عملهم بخبر الواحد وأجيب عن ذلك بأن الخبر المذكور احتف بالقرائن والمقدمات التي أفادت القطع لكونه في زمن تقلب وجهه في السماء ليحول إلى جهة الكعبة وقد عرفت منه الأنصار ذلك بملازمتهم له فكانوا يتوقعون ذلك في كل وقت فلما فجأهم الخبر عن ذلك أفادهم العلم لما كانوا يتوقعون حدوثه
وأجاب العراقي بأجوبة أخر : منها أن النسخ بخبر الواحد كان جائزا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما امتنع بعده . قال الحافظ : ويحتاج إلى دليل . ومنها أنه تلا عليهم الآية التي فيها ذكر النسخ بالقرآن وهم أعلم الناس بإطالته وإيجازه وأعرفهم بوجوه إعجازه . ومنها أن العمل بخبر الواحد مقطوع به ثم قال : الصحيح أن النسخ للمقطوع بالمظنون كنسخ نص الكتاب أو السنة المتواترة بخبر الواحد جائز عقلا وواقع سمعا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزمانه ولكن أجمعت الأمة على منعه بعد الرسول فلا مخالف فيه وإنما الخلاف في تجويزه في عهد الرسول صلى الله [ ص 179 ] عليه وآله وسلم انتهى
( ومن فوائد الحديث ) ما ذكره المصنف قال : وهو حجة في قبول أخبار الآحاد انتهى وذلك لأنه أجمع عليه الذين بلغ إليهم ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه و سلم بل روى الطبراني في آخر حديث تويلة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فيهم : ( أولئك رجال آمنوا بالغيب )

باب حجة من رأى فرض البعيد إصابة الجهة لا العين

1 - عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة )
- رواه ابن ماجه والترمذي وصححه . وقوله عليه السلام في حديث أبي أيوب : ( ولكن شرقوا أو غربوا ) يعضد ذلك

- الحديث الأول أخرجه الترمذي وابن ماجه من طريق أبي معشر وقد تابع أبا معشر عليه علي بن ظبيان قاضي حلب كما رواه ابن عدي في الكامل قال : ولا أعلم يرويه عن محمد بن عمرو غير علي بن ظبيان وأبي معشر وهو بأبي معشر أشهر منه بعلي بن ظبيان قال : ولعل علي بن ظبيان سرقه منه وذكر قول ابن معين فيه : إنه ليس بشيء وقول النسائي : متروك الحديث وقد تابعه عليه أيضا أبو جعفر الرازي رواه البيهقي في الخلافيات . وأبو جعفر وثقه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم وقال أحمد والنسائي : ليس بقوي وقال العلاسي : سيئ الحفظ . وأبو معشر المذكور ضعيف
( والحديث ) رواه أيضا الحاكم والدارقطني وقد أخرج الحديث الترمذي من طريق غير طريق أبي معشر وقال : حديث حسن صحيح وقد خالفه البيهقي فقال بعد إخراجه من هذه الطريق : هذا إسناد ضعيف فنظرنا في الإسناد فوجدنا عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تفرد به عن المقبري وقد اختلف فيه فقال علي بن المديني : إنه روى أحاديث مناكير ووثقه ابن معين وابن حبان فكان الصواب ما قاله الترمذي
وأما الحديث الثاني أعني حديث أبي أيوب فهو متفق عليه وقد تقدم شرحه في أبواب التخلي
وفي الباب عن ابن عمر عند البيهقي . وفي الباب أيضا من قول عمر عند الموطأ وابن أبي شيبة والبيهقي . ومن قول علي عند ابن أبي شيبة . ومن قول عثمان عند ابن عبد البر في التمهيد . ومن قول ابن عباس أشار إلى ذلك الترمذي
( والحديث ) يدل على أن الفرض على من بعد عن الكعبة الجهة [ ص 180 ] لا العين وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي وقد قال الشافعي أيضا : إن شطر البيت وتلقاء وجهته واحد في كلام العرب واستدل لذلك أيضا بحديث أخرجه البيهقي عن ابن عباس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض مشارقها ومغاربها من أمتي ) قال البيهقي : تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف قال : وروي بإسناد آخر ضعيف لا يحتج بمثله . وإلى هذا المذهب ذهب الأكثر وذهب الشافعي في أظهر القولين عنه إلى أن فرض من بعد العين وأنه يلزمه ذلك بالظن لحديث أسامة بن زيد أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( لما دخل البيت دعا في نواحيه ولم يصل فيه حتى خرج فلما خرج ركع ركعتين في قبل قبلة وقال هذه القبلة ) ورواه البخاري من حديث ابن عباس مختصرا وقد عرفت ما قدمنا في باب صلاة التطوع في الكعبة من ترجيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى في الكعبة
وقد اختلف في معنى حديث الباب الأول فقال العراقي : ليس عاما في سائر البلاد وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرفة وما وافق قبلتها وهكذا قال البيهقي في الخلافيات وهكذا قال أحمد بن خالويه الوهبي قال : ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك قال ابن عبد البر : وهذا صحيح لا مدفع له ولا خلاف بين أهل العلم فيه
وقال الأثرم : سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث فقال هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إن زال عنه شيئا وإن قل فقد ترك القبلة ثم قال هذا المشرق وأشار بيده وهذا المغرب وأشار بيده وما بينهما قبلة . قلت له : فصلاة من صلى بينهما جائزة قال : نعم وينبغي أن يتحرى الوسط . قال ابن عبد البر : تفسير قول أحمد هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة فيستقبلون جهتها ويتسعون يمينا وشمالا فيها ما بين المشرق والمغرب يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم وكذلك لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما لأهل المدينة ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضا قبل القبلة إلا أنهم يجعلون المشرق عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة من السعة فيما بين المشرق والمغرب وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضا وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام [ ص 181 ] وهي لأهل مكة أوسع قليلا ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلا ثم لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا اه
قال الترمذي : قال ابن عمر : إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة . وقال ابن المبارك : ما بين المشرق والمغرب قبلة هذا لأهل المشرق واختار ابن المبارك التياسر لأهل مرو اه
وقد يستشكل قول ابن المبارك من حيث أن من كان بالمشرق إنما يكون قبلته المغرب فإن مكة بينه وبين المغرب والجواب عنه أنه أراد بالمشرق البلاد التي يطلق عليها اسم المشرق كالعراق مثلا فإن قبلتهم أيضا بين المشرق والمغرب قبلة لأهل العراق قال : وقد ورد مقيدا بذلك في بعض طرق حديث أبي هريرة ( ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل العراق ) رواه البيهقي في الخلافيات وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال : إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لأهل المشرق
ويدل على ذلك أيضا تبويب البخاري على حديث أبي أيوب بلفظ باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق ليس في المشرق ولا المغرب قبلة . قال ابن بطال في تفسير هذه الترجمة : يعني وقبلة مشرق الأرض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى المغرب فحكم مشرق الأرض كلها كحكم مشرق أهل المدينة والشام في الأمر بالانحراف عند الغائط لأنهم إذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها قال : وأما ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من شرقها إلى مغربها فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث ولا يصح لهم أن يشرقوا ولا أن يغربوا لأنهم إذا شرقوا استدبروا القبلة وإذا غربوا استقبلوها وكذلك من كان موازيا بالمغرب مكة إذ العلة فيه مشتركة مع المشرق فاكتفى بذكر المشرق عن المغرب لأن المشرق أكثر الأرض المعمورة وبلاد الإسلام في جهة مغرب الشمس قليل قال : وتقدير الترجمة بأن قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق ليس في التشريق ولا في التغريب يعني أنهم عند الانحراف للتشريق والتغريب ليسوا بمواجهين للقبلة ولا مستدبرين لها والعرب تطلق المشرق والمغرب بمعنى التغريب والتشريق وأنشد ثعلب في المجالس :
أبعد مغربهم نجدا وساحتها
قال ثعلب : معناه أبعد تغريبهم انتهى . وقد أطلنا الكلام في تفسير معنى الحديث لأنه كثيرا ما يسأل عنه الناس ويستشكلونه لا سيما مع زيادة لفظ لأهل المشرق

باب ترك القبلة لعذر الخوف . [ ص 182 ]

1 - عن نافع عن ابن عمر : ( أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال : فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع : ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه البخاري

- الحديث ذكره البخاري في تفسير سورة البقرة وأخرجه مالك في الموطأ وقال في آخره : قال نافع : لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ورواه ابن خزيمة وأخرجه مسلم وصرح بأن الزيادة من قول ابن عمر ورواه البيهقي من حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر . وقال النووي في شرح المهذب : هو بيان حكم من أحكام صلاة الخوف لا تفسير للآية . وقد أخرجه البخاري في صلاة الخوف بلفظ وزاد ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( وإذا كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما وركبانا )
( والحديث ) يدل على أن صلاة الخوف لا سيما إذا كثر العدو تجوز حسب الإمكان فينتقل عن القيام إلى الركوب وعن الركوع والسجود إلى الإيماء ويجوز ترك ما لا يقدر عليه من الأركان . وبهذا قال الجمهور لكن قالت المالكية لا يصنعون ذلك إلا إذا خشي فوات الوقت وسيأتي للمصنف في باب الصلاة في شدة الخوف نحو ما هنا ويأتي شرحه هنالك إن شاء الله

باب تطوع المسافر على مركوبه حيث توجه به

1 - عن ابن عمر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسبح على راحلته قبل أي وجهة توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة )
- متفق عليه . وفي رواية : ( كان يصلي على راحلته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت به وفيه نزلت { فأينما تولوا فثم وجه الله } ) رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه

- الحديث قد تقدم شرحه والكلام على فقهه في باب صلاة الفرض على الراحلة لأن المصنف رحمه الله ذكره هنالك بنحو ما هنا من حديث عامر بن ربيعة . ولفظ الرواية [ ص 183 ] الآخرة في الترمذي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى إلى بعيره أو راحلته وكان يصلي على راحلته حيثما توجهت به ) . ولم يذكر نزول الآية
قوله ( حيثما توجهت به ) قيدت الشافعية الحديث بالمذهب فقالت إذا توجهت به نحو مقصده وأما إذا توجهت به إلى غير مقصده فإن كان إلى جهة القبلة لم يضره وإن كان إلى غيرها بطلت صلاته وقد تقدم في أول أبواب الاستقبال ما يدل على أن الآية نزلت في صلاة الفريضة ولكن الصحيح ما هنا كما تقدم

2 - وعن جابر قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وهو على راحلته النوافل في كل جهة ولكن يخفض السجود من الركوع ويومئ إيماء )
- رواه أحمد وفي لفظ : ( بعثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع ) رواه أبو داود والترمذي وصححه

- الحديث أخرجه البخاري عن جابر ولكن بلفظ : ( كان يصلي التطوع وهو راكب ) وفي لفظ : ( كان يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة ) وأخرجه أيضا مسلم بنحو ذلك
وفي الباب عن جماعة من الصحابة وقد قدمنا في باب صلاة الفرض على الراحلة أنه يجوز التطوع عليها للمسافر بالإجماع وقدمنا الخلاف في جواز ذلك في الحضر وفي جواز صلاة الفريضة
( والحديث ) يدل على أن سجود من صلى على الراحلة يكون أخفض من ركوعه ولا يلزمه وضع الجبهة على السرج ولا بذل غاية الوسع في الانحناء بل يخفض سجوده بمقدار يفترق به السجود عن الركوع

3 - وعن أنس بن مالك قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا استقبل القبلة فكبر للصلاة ثم خلى عن راحلته فصلى حيثما توجهت به )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا الشيخان بنحو ما هنا . وأخرجه أيضا النسائي من رواية يحيى بن سعيد عن أنس وقال : حديث يحيى بن سعيد عن أنس الصواب موقوف وأما أبو داود فأخرجه من رواية الجارود بن أبي سبرة عن أنس
( والحديث ) يدل على جواز التنفل على الراحلة وقد تقدم الكلام على ذلك وعلى أنه لا بد من الاستقبال حال تكبيرة الإحرام ثم لا يضر الخروج بعد ذلك عن سمت القبلة كما أسلفنا

أبواب صفة الصلاة . [ ص 184 ]

باب افتراض افتتاحها بالتكبير

1 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم )
- رواه الخمسة إلا النسائي وقال الترمذي : هذا أصح شيء في هذا الباب وأحسن

- الحديث أخرجه أيضا الشافعي والبزار والحاكم وصححه وابن السكن من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن الحنفية عن علي قال البزار : لا نعلمه عن علي إلا من هذا الوجه
وقال أبو نعيم : تفرد به ابن عقيل وقال العقيلي : في إسناده لين . وقال : هو أصح من حديث جابر الآتي وعكس ذلك ابن العربي فقال : حديث جابر أصح شيء في هذا الباب والعقيلي أقعد منه بمعرفة الفن . وقال ابن حبان : هذا حديث لا يصح لأن له طريقين : إحداهما عن علي وفيه ابن عقيل وهو ضعيف . والثانية عن أبي نضرة عن أبي سعيد تفرد به أبو سفيان عنه
( وفي الباب ) عن جابر عند أحمد والبزار والترمذي والطبراني وفي إسناده أبو يحيى القتات وهو ضعيف . وقال ابن عدي : أحاديثه عندي حسان . وعن أبي سعيد عند الترمذي وابن ماجه وفي إسناده أبو سفيان طريف بن شهاب وهو ضعيف ورواه الحاكم عن سعيد بن مسروق الثوري عن أبي سعيد وهو معلول قاله الحافظ
( وفي الباب ) أيضا عن عبد الله بن زيد عند الطبراني وفي إسناده الواقدي . وعن ابن عباس عند الطبراني أيضا وفي إسناده نافع بن هرمز وهو متروك . وعن أنس عند ابن عدي وفي إسناده أيضا نافع بن هرمز . وعن عبد الله بن مسعود عند أبي نعيم . قال الحافظ : وإسناده صحيح وهو موقوف . وعن عائشة عند مسلم وغيره بلفظ : ( كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين ) الحديث وآخره : ( وكان يختم الصلاة بالتسليم ) وروى الحديث الدارقطني من حديث أبي إسحاق والبيهقي من حديث شعبة وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا فيصلح الحديث للاحتجاج به
قوله ( مفتاح ) بكسر الميم والمراد أنه أول شيء يفتتح به من أعمال الصلاة لأنه شرط من شروطها
قوله ( الطهور ) بضم الطاء وقد تقدم ضبطه في أول الكتاب وفي رواية : ( الوضوء مفتاح الصلاة )
قوله ( وتحريمها التكبير ) فيه دليل على [ ص 185 ] أن افتتاح الصلاة لا يكون إلا بالتكبير دون غيره من الأذكار وإليه ذهب الجمهور . وقال أبو حنيفة : تنعقد الصلاة بكل لفظ قصد به التعظيم والحديث يرد عليه لأن الإضافة في قوله تحريمها تقتضي الحصر فكأنه قال جميع تحريمها التكبير أي انحصرت صحة تحريمها في التكبير لا تحريم لها غيره كقولهم مال فلان الإبل وعلم فلان النحو
( وفي الباب ) أحاديث كثيرة تدل على تعين لفظ التكبير من قوله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله . وعلى هذا فالحديث يدل على وجوب التكبير وقد اختلف في حكمه : فقال الحافظ : إنه ركن عند الجمهور وشرط عند الحنفية ووجه عند الشافعي وسنة عند الزهري . قال ابن المنذر : ولم يقل به أحد غيره وروي عن سعيد بن المسيب والأوزاعي ومالك ولم يثبت عن أحد منهم تصريحا وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعا يجزيه تكبيرة الركوع . قال الحافظ : نعم نقله الكرخي من الحنفية عن ابن علية وأبي بكر الأصم ومخالفتهما للجمهور كثيرة
وذهب إلى الوجوب جماعة من السلف قال في البحر : إنه فرض إلا عن نفاة الأذكار والزهري ويدل على وجوبه ما في حديث المسيء عند مسلم وغيره من حديث أبي هريرة بلفظ : ( فإذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ) وعند الجماعة من حديثه بلفظ : ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ) وقد تقرر أن حديث المسيء هو المرجع في معرفة واجبات الصلاة وأن كل ما هو مذكور فيه واجب وما خرج عنه وقامت عليه أدلة تدل على وجوبه ففيه خلاف سنذكره إن شاء الله في شرحه في الموضع الذي سيذكره فيه المصنف
ويدل للشرطية حديث رفاعة في قصة المسيء صلاته عند أبي داود بلفظ : ( لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر ) ورواه الطبراني بلفظ : ( ثم يقول الله أكبر ) والاستدلال بهذا على الشرطية صحيح إن كان نفي التمام يستلزم نفي الصحة وهو الظاهر لأنا متعبدون بصلاة لا نقصان فيها قالتا قصة غير صحيحة ومن ادعى صحتها فعليه البيان وقد جعل صاحب ضوء النهار نفي التمام هنا هو نفي الكمال بعينه واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسيلم في حديث المسيء : ( فإن انتقصت من ذلك شيئا فقد انتقصت من صلاتك ) وأنت خبير بأن هذا من محل النزاع أيضا لأنا نقول الانتقاص يستلزم عدم الصحة لذلك الدليل الذي أسلفناه ولا نسلم أن ترك مندوبات الصلاة ومسنوناتها انتقاص منها لأنها أمور خارجة عن ماهية الصلاة فلا يرد الإلزام بها وكونها تزيد في الثواب [ ص 186 ] لا يستلزم أنها منها كما أن الثياب الحسنة تزيد في جمال الذات وليست منها نعم وقع في بعض روايات الحديث بلفظ : أنه لما قال صلى الله عليه وآله وسلم : فإنك لم تصل كبر على الناس أنه من أخف صلاته لم يصل حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم : فإن انتقصت من ذلك شيئا فقد انتقصت من صلاتك فكان أهون عليهم . فكون هذه المقالة كانت أهون عليهم يدل على أن نفي التمام المذكور بمعنى نفي الكمال إذ لو كان بمعنى نفي الصحة لم يكن فرق بين المقالتين ولما كانت هذه أهون عليهم ولا يخفاك أن الحجة في الذي جاءنا عن الشارع من قوله وفعله وتقريره لا في فهم بعض الصحابة سلمنا أن فهمهم حجة لكونهم أعرف بمقاصد الشارع فنحن نقول بموجب ما فهموه ونسلم أن بين الحالتين تفاوتا ولكن ذلك التفاوت من جهة أن من أتى ببعض واجبات الصلاة فقد فعل خيرا من قيام وذكر وتلاوة وإنما يؤمر بالإعادة لدفع عقوبة ما ترك وترك الواجب سبب للعقاب فإذا كان يعاقب بسبب ترك البعض لزمه أن يفعله إن أمكن فعله وحده وإلا فعله مع غيره والصلاة لا يمكن فعل المتروك منها إلا بفعل جميعها
وقد أجاب بمعنى هذا الجواب الحافظ ابن تيمية حفيد المصنف وهو حسن ثم إنا نقول غاية ما ينتهض له دعوى من قال إن نفي التمام بمعنى نفي الكمال هو عدم الشرطية لا عدم الوجوب لأن المجيء بالصلاة تامة كاملة واجب
وما أحسن ما قاله ابن تيمية في المقام ولفظه : ومن قال من الفقهاء إن هذا لنفي الكمال قيل إن أردت الكمال المستحب فهذا باطل لوجهين أحدهما أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع إنه ينفي عملا فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه ثم ينفيه لترك المستحبات بل الشارع لا ينفي عملا إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليه . والثاني لو نفي لترك مستحب لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام فإن الكمال المستحب متفاوت إذ كل من لم يكملها كتكميل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقال لا صلاة له اه
قوله ( وتحليلها التسليم ) سيأتي إن شاء الله الكلام عليه في باب كون السلام فرضا

2 - وعن مالك بن الحويرث : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : صلوا كما رأيتموني أصلي )
- رواه أحمد والبخاري وقد صح عنه أنه كان يفتتح بالتكبير

- الحديث يدل على وجوب جميع ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة من الأقوال والأفعال ويؤكد الوجوب كونها بيانا لمجمل قوله { أقيموا الصلاة } وهو أمر [ ص 187 ] قرآني يفيد الوجوب وبيان المجمل الواجب واجب كما تقرر في الأصول إلا أنه ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم اقتصر في تعليم المسيء صلاته على بعض ما كان يفعله ويداوم عليه فعلمنا بذلك أنه لا وجوب لما خرج عنه من الأقوال والأفعال لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول بالإجماع ووقع الخلاف إذا جاءت صيغة أمر بشيء لم يذكر في حديث المسيء فمنهم من قال يكون قرينة تصرف الصيغة إلى الندب ومنهم من قال تبقى الصيغة على الظاهر الذي تدل عليه ويؤخذ بالزائد فالزائد وسيأتي ترجيح ما هو الحق عند الكلام على الحديث إن شاء الله تعالى

باب أن تكبير الإمام بعد تسوية الصفوف والفراغ من الإقامة

1 - عن النعمان بن بشير قال : ( كان صلى الله عليه وآله وسلم يسوي صفوفنا إذا قمنا إلى الصلاة فإذا استوينا كبر )
- رواه أبو داود

- الحديث أخرجه أبو داود بهذا اللفظ وبلفظ أخر من طريق سماك بن حرب عن النعمان قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسوينا في الصفوف كما يقوم القدح حتى إذا ظن أن قد أخذنا عنه ذلك وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبذ بصدره فقال لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) قال المنذري : والحديث المذكور في الباب طرف من هذا الحديث وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه . وأخرج البخاري ومسلم من حديث سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن بشير الفصل الأخير منه
( وفي الباب ) عن جابر بن سمرة عند مسلم وعن البراء عند مسلم أيضا . وعن أنس عند البخاري ومسلم . وله حديث آخر عند البخاري وعن جابر عند عبد الرزاق . وعن أبي هريرة عند مسلم . وعن عائشة عند أحمد وابن ماجه . وعن ابن عمر عند أحمد وأبي داود . وروي عن عمر أنه : ( كان يوكل رجالا بإقامة الصفوف فلا يكبر حتى يخبر أن الصفوف قد استوت ) أخرجه عنه الترمذي قال : وروي عن علي وعثمان أنهما كان يتعاهدان ذلك ويقولان استووا وكان علي يقول تقدم يا فلان تأخر يا فلان اه
قال ابن سيد الناس عن سويد بن غفلة قال : كان بلال يضرب أقدامنا في الصلاة ويسوي مناكبنا قال : والآثار في هذا الباب كثيرة عمن ذكرنا وعن غيرهم قال القاضي عياض : ولا يختلف فيه أنه من سنن الجماعات وفي البخاري بزيادة : ( فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة ) [ ص 188 ] وقد ذهب ابن حزم الظاهري إلى فرضية ذلك محتجا بهذه الزيادة قال : وإذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض لأن إقامة الصلاة فرض وما كان من الفرض فهو فرض وأجاب عن هذا اليعمري فقال : إن الحديث ثبت بلفظ الإقامة وبلفظ التمام ولا يتم له الاستدلال إلا برد لفظ التمام إلى لفظ الإقامة وليس ذلك بأولى من العكس قال : وأما قوله وإقامة الصلاة فرض فإقامة الصلاة تطلق ويراد بها فعل الصلاة وتطلق ويراد بها الإقامة بالصلاة التي تلي التأذين وليس إرادة الأول كما زعم بأولى من إرادة الثاني إذ الأمر بتسوية الصفوف تعقب الإقامة وهو من فعل الإمام أو من يوكله الإمام وهو مقيم الصلاة غالبا قال : فما ذهب إليه الجمهور من الاستحباب أولى ويحمل لفظ الإقامة على الإقامة التي تلي التأذين أو يقدر له محذوف تقديره من تمام إقامة الصلاة وتنتظم به أعمال الألفاظ الواردة في ذلك كلها لأن إتمام الشيء زائد على وجود حقيقته فلفظ من تمام الصلاة يدل على عدم الوجوب . وقد ورد من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم مرفوعا بلفظ : ( فإن إقامة الصلاة من حسن الصلاة )

3 - وعن أبي موسى قال : ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قمتم إلى الصلاة فليؤمكم أحدكم وإذا قرأ الإمام فأنصتوا )
- رواه أحمد

- الفصل الأول من الحديث ثابت عند مسلم والنسائي وغيرهما من طرق . والفصل الثاني ثابت عند أبي داود وابن ماجه والنسائي وغيرهم وقال مسلم هو صحيح كما سيأتي وسيأتي الكلام على الحديث في باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته . وفي أبواب الإقامة وقد ساقه المصنف هنا لأنه جعل إقامة الصلاة مقدمة على الأمر بالإمامة وهذا إنما يتم إذا جعلت الإقامة بمعنى تسوية الصلاة لا إذا كان المراد بها الإقامة التي تلي التأذين كما تقدم

باب رفع اليدين وبيان صفته ومواضعه

1 - عن أبي هريرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه

- الحديث لا مطعن في إسناده لأنه رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن عمرو بن علي كلاهما عن يحيى القطان عن ابن أبي ذئب وهؤلاء من أكابر الأئمة عن سعيد [ ص 189 ] ابن سمعان وهو معدود في الثقات وقد ضعفه الأزدي وعن أبي هريرة وقد أخرجه الدارمي عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة
وأخرجه الترمذي أيضا بهذا اللفظ المذكور في الكتاب وبلفظ : ( كان إذا كبر للصلاة نشر أصابعه ) وقد تفرد بإخراج هذا اللفظ الآخر من طريق يحيى بن اليمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة وقال : قد روى هذا الحديث غير واحد عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدا )
وهذا أصح من رواية يحيى بن اليمان وأخطأ يحيى بن اليمان في هذا الحديث ثم قال : وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا عبد الله بن عبد المجيد الحنفي حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان قال : سمعت أبا هريرة يقول : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا ) قال : قال عبد الله : وهذا أصح من حديث يحيى بن اليمان وحديث يحيى بن اليمان خطأ انتهى كلام الترمذي . وقال ابن أبي حاتم : قال أبي : وهم يحيى إنما أراد كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا كذا رواه الثقات من أصحاب ابن أبي ذئب
قوله ( مدا ) يجوز أن يكون منتصبا على المصدرية بفعل مقدر وهو يمدهما مدا ويجوز أن يكون منتصبا على الحالية أي رفع يديه في حال كونه مادا لهما إلى رأسه ويجوز أن يكون مصدرا منتصبا بقوله رفع لأن الرفع بمعنى المد وأصل المد في اللغة الجر قاله الراغب . والارتفاع قال الجوهري : ومد النهار ارتفاعه وله معان أخر ذكرها صاحب القاموس وغيره . وقد فسر ابن عبد البر المذكور في الحديث بمد اليدين فوق الأذنين مع الرأس انتهى . والمراد به ما يقابل النشر المذكور في الرواية الأخرى لأن النشر تفريق الأصابع
( والحديث ) يدل على مشروعية رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وقد قال النووي في شرح مسلم : إنها أجمعت الأمة على ذلك عند تكبيرة الإحرام وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك وحكى النووي أيضا عن داود إيجابه عند تكبيرة الإحرام قال : وبهذا قال الإمام أبو الحسن أحمد بن سيار والنيسابوري من أصحابنا أصحاب الوجوه وقد اعتذر له عن حكاية الإجماع أولا وحكاية الخلاف في الوجوب ثانيا بأن الاستحباب لا ينافي الوجوب أو بأنه أراد إجماع من قبل المذكورين أو بأنه لم يثبت ذلك عنده عنهم ولم يتفرد النووي بحكاية الإجماع فقد روى الإجماع على الرفع عند تكبيرة الإحرام ابن حزم وابن المنذر وابن السبكي وكذا حكى الحافظ في الفتح عن ابن عبد البر [ ص 190 ] أنه قال : أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة
قال الحافظ : وممن قال بالوجوب أيضا الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري وابن خزيمة من أصحابنا نقله عنه الحاكم في ترجمة محمد بن علي العلوي وحكاه القاضي حسين عن الإمام أحمد وقال ابن عبد البر : كل من نقل عنه الإيجاب لا تبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي قال الحافظ : ونقل بعض الحنفية عن أبي حنيفة أنه يأثم تاركه ونقل القفال عن أحمد بن سيار أنه يجب ولا تصح صلاة من لم يرفع ولا دليل يدل على الوجوب ولا على بطلان الصلاة بالترك نعم من ذهب من أهل الأصول إلى أن المداومة على الفعل تفيد الوجوب قال به هنا
ونقل ابن المنذر والعبدري عن الزيدية أنه لا يجوز رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ولا عند غيرها انتهى . وهو غلط على الزيدية فإن إمامهم زيد بن علي رحمه الله ذكر في كتابه المشهور بالمجموع حديث الرفع وقال باستحبابه وكذا أكابر أئمتهم المتقدمين والمتأخرين صرحوا باستحبابه ولم يقل بتركه منهم إلا الهادي يحيى بن الحسين وروي مثل قوله عن جده القاسم بن إبراهيم وروي عنه أيضا القول باستحبابه وروى صاحب التبصرة من المالكية عن مالك أنه لا يستحب وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم والمشهور عن مالك القول باستحباب الرفع عند تكبيرة الإحرام وإنما حكى عنه أنه لا يستحب عند الركوع والاعتدال منه قال ابن عبد الحكم : لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم
( احتج القائلون ) بالاستحباب بالأحاديث الكثيرة عن العدد الكثير من الصحابة حتى قال الشافعي : روى الرفع جمع من الصحابة لعله لم يرو حديث قط بعدد أكثر منهم . وقال البخاري في جزء رفع اليدين : روى الرفع تسعة عشر نفسا من الصحابة وسرد البيهقي في السنن وفي الخلافيات أسماء من روى الرفع نحوا من ثلاثين صحابيا وقال : سمعت الحاكم يقول اتفق على رواية هذه السنة العشرة المشهود لهم بالجنة فمن بعدهم من أكابر الصحابة قال البيهقي وهو كما قال . قال الحاكم والبيهقي أيضا : ولا يعلم سنة اتفق على روايتها العشرة فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفرقهم في الأقطار الشاسعة غير هذه السنة . وروى ابن عساكر في تاريخه من طريق أبي سلمة الأعرج قال : أدركت الناس كلهم يرفع يديه عند كل خفض ورفع قال البخاري في الجزء المذكور : قال الحسن وحميد بن هلال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفعون أيديهم ولم يستثن أحدا منهم
قال البخاري : ولم يثبت عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه [ ص 191 ] وسلم أنه لم يرفع يديه وجمع العراقي عدد من روى رفع اليدين في ابتداء الصلاة فبلغوا خمسين صحابيا منهم العشرة المشهود لهم بالجنة . قال الحافظ في الفتح : وذكر شيخنا الحافظ أبو الفضل أنه تتبع من رواه من الصحابة رضي الله عنهم فبلغوا خمسين رجلا
( واحتج من قال ) بعدم الاستحباب بحديث جابر بن سمرة عند مسلم وأبي داود قال : ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة )
وأجيب عن ذلك بأنه ورد على سبب خاص فإن مسلما رواه أيضا من حديث جابر بن سمرة قال : ( كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلنا السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله وأشار بيديه إلى الجانبين فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : علام تومؤن بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس إنما يكفي أحدكم أن يضع يديه على فخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله )
ورد هذا الجواب بأنه قصر للعام على السبب وهو مذهب مرجوح كما تقرر في الأصول وهذا الرد متجه لولا أن الرفع قد ثبت من فعله صلى الله عليه وآله وسلم ثبوتا متواترا كما تقدم وأقل أحوال هذه السنة المتواترة أن تصلح لجعلها قرينة لقصر ذلك العام على السبب أو لتخصيص ذلك العموم على تسليم عدم القصر وربما نازع في هذا بعضهم فقال : قد تقرر عند بعض أهل الأصول أنه إذا جهل تاريخ العام والخاص اطرحا وهو لا يدري أن الصحابة قد أجمعت على هذه السنة بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم وهم لا يجمعون إلا على أمر فارقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أنه قد ثبت من حديث ابن عمر عند البيهقي أنه قال بعد أن ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الاعتدال فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى
وأيضا المتقرر في الأصول بأن العام والخاص إذا جهل تاريخهما وجب البناء وقد جعله بعض أئمة الأصول مجمعا عليه كما في شرح الغاية وغيره . وربما احتج بعضهم بما رواه الحاكم في المدخل من حديث أنس بلفظ : ( من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له ) وربما رواه ابن الجوزي عن أبي هريرة بنحو حديث أنس وهو لا يشعر أن الحاكم قال بعد إخراج حديث أنس : إنه موضوع . وقد قال في البدر المنير : إن في إسناده محمد بن عكاشة الكرماني قال الدارقطني : يضع الحديث وابن الجوزي جعل حديث أبي هريرة المذكور من جملة الموضوعات
( وقد اختلفت الأحاديث ) في محل الرفع عند تكبيرة الإحرام هل يكون قبلها أو بعدها أو مقارنا لها ففي بعضها قبلها كحديث ابن عمر الآتي [ ص 192 ] بلفظ : ( رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه ثم يكبر ) وفي بعضها بعدها كما في حديث مالك بن الحويرث عند مسلم بلفظ : ( كبر ثم رفع يديه ) وفي بعضها ما يدل على المقارنة كحديث ابن عمر الآتي في هذا الباب بلفظ : ( كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه ) وفي ذلك خلاف بين العلماء والمرجح عند الشافعية المقارنة
قال الحافظ : ولم أر من قال بتقديم التكبير على الرفع . ويرجح المقارنة حديث وائل بن حجر الآتي عند أبي داود بلفظ : ( رفع يديه مع التكبير ) وقضية المعية أنه ينتهي بانتهائه وهو المرجح أيضا عند المالكية . وقال فريق من العلماء : الحكمة في اقترانهما أنه يراه الأصم ويسمعه الأعمى وقد ذكرت في ذلك مناسبات أخر سيأتي ذكرها
ونقل ابن عبد البر عن ابن عمر أنه قال رفع اليدين من زينة الصلاة . وعن عقبة بن عامر أنه قال : لكل رفع عشر حسنات لكل إصبع حسنة انتهى . وهذا له حكم الرفع لأنه مما لا مجال للاجتهاد فيه هذا الكلام في رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وسيأتي الكلام على الرفع عند الركوع والاعتدال وعند القيام من التشهد الأوسط

2 - وعن وائل بن حجر : ( أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه مع التكبيرة )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه البيهقي أيضا من طريق عبد الرحمن بن عامر اليحصبي عن وائل . ورواه أحمد وأبو داود من طريق عبد الجبار بن وائل قال حدثني أهل بيتي عن أبي قال المنذري : وعبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه وأهل بيته مجهولون وقد تقدم الكلام على فقه الحديث

3 - وعن ابن عمر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه ثم يكبر فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد )
- متفق عليه . وللبخاري : ( ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود ) ولمسلم : ( ولا يفعل حين يرفع رأسه من السجود ) وله أيضا : ( ولا يرفعهما بين السجدتين )

- الحديث أخرجه البيهقي بزيادة : ( فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى ) قال ابن المديني : هذا الحديث عندي حجة على الخلق كل من سمعه فعليه أن يعمل به لأنه ليس في إسناده شيء . وقد صنف البخاري في هذه المسألة جزءا مفردا وحكى فيه عن الحسن وحميد ابن هلال أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك يعني الرفع في الثلاثة المواطن ولم يستثن الحسن أحدا [ ص 193 ] قال ابن عبد البر : كل من روي عنه ترك الرفع في الركوع والرفع منه روي عنه فعله إلا ابن مسعود . وقال محمد بن نصر المروزي : أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا بأهل الكوفة
وقال ابن عبد الحكم : لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم والذي نأخذ به الرفع على حديث ابن عمر وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك ولم يحك الترمذي عن مالك غيره
ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم أنه آخر قول مالك . وإلى الرفع في الثلاثة المواطن ذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم وروي عن مالك والشافعي قول : إنه يستحب رفعهما في موضع رابع وهو إذا قام من التشهد الأوسط . قال النووي : وهذا القول هو الصواب فقد صح في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يفعله رواه البخاري . وصح أيضا من حديث أبي حميد الساعدي رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة وسيأتي ذلك . وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة : لا يستحب في غير تكبيرة الإحرام قال النووي : وهو أشهر الروايات عن مالك
( واحتجوا ) على ذلك بحديث البراء بن عازب عند أبي داود والدارقطني بلفظ : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لم يعد ) وهو من رواية يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه
وقد اتفق الحفاظ أن قوله ثم لم يعد مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد . وقد رواه بدون ذلك شعبة والثوري وخالد الطحان وزهير وغيرهم من الحفاظ . وقال الحميدي : إنما روى هذه الزيادة يزيد ويزيد يزيد . وقال أحمد بن حنبل : لا يصح وكذا ضعفه البخاري وأحمد ويحيى والدارمي والحميدي وغير واحد . قال يحيى بن محمد بن يحيى : سمعت أحمد بن حنبل يقول هذا الحديث حديث واه . وكان يزيد يحدث به برهة من دهره لا يقول فيه ثم لا يعود فلما لقنوه يعني أهل الكوفة تلقن وكان يذكرها وهكذا قال علي بن عاصم . قال البيهقي : اختلف فيه على عبد الرحمن بن أبي ليلى . وقال البزار : قوله في الحديث ( ثم لم يعد ) لا يصح . وقال ابن حزم : إن صح قوله لا يعود دل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك لبيان الجواز فلا تعارض بينه وبين حديث ابن عمر وغيره
( واحتجوا ) أيضا بما روي عن عبد الله بن مسعود من طريق عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود [ ص 194 ] عن علقمة عنه عند أحمد وأبي داود والترمذي أنه قال : ( لأصلين لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة ) ورواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي من حديث محمد بن جابر عن حماد بن إبراهيم عن علقمة عنه بلفظ : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند الاستفتاح ) وهذا الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حزم ولكنه عارض هذا التحسين والتصحيح قول ابن المبارك لم يثبت عندي وقول ابن أبي حاتم هذا حديث خطأ وتضعيف أحمد وشيخه يحيى بن آدم له وتصريح أبي داود بأنه ليس بصحيح وقول الدارقطني أنه لم يثبت وقول ابن حبان هذا أحسن خبر روى أهل الكوفة في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه وهو في الحقيقة أضعف شيء يعول عليه لأن له عللا تبطله
قال الحافظ : وهؤلاء الأئمة إنما طعنوا كلهم في طريق عاصم بن كليب أما طريق محمد بن جابر فذكرها ابن الجوزي في الموضوعات وقال عن أحمد : محمد بن جابر لا شيء ولا يحدث عنه إلا من هو شر منه
( واحتجوا ) أيضا بما روي عن ابن عمر عند البيهقي في الخلافيات بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود ) قال الحافظ : وهو مقلوب موضوع
( واحتجوا ) أيضا بما روي عن ابن عباس أنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع ثم صار إلى افتتاح الصلاة وترك ما سوى ذلك ) حكاه ابن الجوزي وقال : لا أصل له ولا أعرف من رواه
والصحيح عن ابن عباس خلافه ورووا نحو ذلك عن ابن الزبير قال ابن الجوزي : لا أصل له ولا أعرف من رواه والصحيح عن ابن الزبير خلافه . قال ابن الجوزي : وما أبلد من يحتج بهذه الأحاديث لتعارض بها الأحاديث الثابتة انتهى
ولا يخفى على المنصف أن هذه الحجج التي أوردوها منها ما هو متفق على ضعفه وهو ما عدا حديث ابن مسعود منها كما بينا ومنها ما هو مختلف فيه وهو حديث ابن مسعود لما قدمنا من تحسين الترمذي وتصحيح ابن حزم له ولكن أين يقع هذا التحسين والتصحيح من قدح أولئك الأئمة الأكابر فيه غاية الأمر ونهايته أن يكون ذلك الاختلاف موجبا لسقوط الاستدلال به ثم لو سلمنا صحة حديث ابن مسعود ولم نعتبر بقدح أولئك الأئمة فيه فليس بينه وبين الأحاديث المثبتة للرفع في الركوع والاعتدال منه تعارض [ ص 195 ] لأنها متضمنة للزيادة التي لا منافاة بينها وبين المزيد وهي مقبولة بالإجماع لا سيما وقد نقلها جماعة من الصحابة واتفق على إخراجها الجماعة فمن جملة من رواها ابن عمر كما في حديث الباب . وعمر كما أخرجه البيهقي وابن أبي حاتم وعلي وسيأتي . ووائل بن حجر عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه ومالك بن الحويرث عند البخاري ومسلم وسيأتي . وأنس بن مالك عند ابن ماجه . وأبو هريرة عند ابن ماجه أيضا وأبي داود . وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة عند ابن ماجه . وأبو موسى الأشعري عند الدارقطني . وجابر عند ابن ماجه . وعمير الليثي عند ابن ماجه أيضا . وابن عباس عند ابن ماجه أيضا . وله طريق أخرى عند أبي داود فهؤلاء أربعة عشر من الصحابة ومعهم أبو حميد الساعدي في عشرة من الصحابة كما سيأتي فيكون الجميع خمسة وعشرين أو اثنين وعشرين إن كان أبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة من العشرة المشار إليهم في رواية أبي حميد كما في بعض الروايات فهل رأيت أعجب من معارضة رواية مثل هؤلاء الجماعة بمثل حديث ابن مسعود السابق مع طعن أكثر الأئمة المعتبرين فيه ومع وجود مانع عن القول بالمعارضة وهو تضمن رواية الجمهور للزيادة كما تقدم
قوله في حديث الباب ( حتى يكونا بحذو منكبيه ) وهكذا في رواية علي وأبي حميد وسيأتي ذكرهما وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور وفي حديث مالك بن الحويرث الآتي حتى يحاذي بهما أذنيه وعند أبي داود من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر أنه جمع بينهما فقال حتى يحاذي بظهر كفيه المنكبين بأطراف أنامله الأذنين . ويؤيده رواية أخرى عن وائل عند أبي داود بلفظ : ( حتى كانتا حيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه ) وأخرج الحاكم في المستدرك والدارقطني من طريق عاصم الأحول عن أنس قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كبر فحاذى بإبهاميه أذنيه ) ومن طريق حميد عن أنس : ( كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم رفع يديه حتى يحاذي بإبهاميه أذنيه ) وأخرج أبو داود عن ابن عمر : ( أنه كان يرفع يديه حذو منكبيه في الافتتاح وفي غيره دون ذلك ) وأخرج أبو داود أيضا عن البراء : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ) وفي حديث وائل عند أبي داود أنه رأى الصحابة يرفعون أيديهم إلى صدورهم . والأحاديث الصحيحة وردت بأنه صلى الله عليه وآله وسلم رفع يديه إلى حذو منكبيه وغيرها لا يخلو عن مقال إلا حديث مالك بن الحويرث
قوله ( ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه [ ص 196 ] من السجود ) في الرواية الأخرى : ( ولا يرفعهما بين السجدتين ) وسيأتي في حديث علي بلفظ : ( ولا يرفع يديه في شيء من صلاته ) وقد عارض هذه الروايات ما أخرجه أبو داود عن ميمون المكي ( أنه رأى عبد الله بن الزبير يشير بكفيه حين يقوم وحين يركع وحين يسجد وحين ينهض للقيام قال : فانطلقت إلى ابن عباس فقلت : إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحدا يصليها فوصفت له هذه الإشارة فقال : إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاقتد بصلاة عبد الله بن الزبير ) وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال مشهور وأخرج أبو داود والنسائي عن النضر بن كثير السعدي قال : ( صلى إلى جنبي عبد الله بن طاوس في مسجد الخيف فكان إذا سجد السجدة الأولى ورفع رأسه منها رفع يديه تلقاء وجهه فأنكرت ذلك فقلت لوهيب بن خالد فقال له وهيب : تصنع شيئا لم أر أحدا يصنعه فقال ابن طاوس : رأيت أبي يصنعه وقال أبي : رأيت ابن عباس يصنعه ولا أعلم إلا أنه قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصنعه ) وفي إسناده النضر بن كثير وهو ضعيف الحديث . قال الحافظ أبو أحمد النيسابوري : هذا حديث منكر من حديث ابن طاوس وأخرج الدارقطني في العلل من حديث أبي هريرة : ( أنه كان يرفع يديه في كل خفض ورفع ويقول أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
وهذه الأحاديث لا تنتهض للاحتجاج بها على الرفع في غير تلك المواطن فالواجب البقاء على النفي الثابت في الصحيحين حتى يقوم دليل صحيح يقتضي تخصيصه كما قام في الرفع عند القيام من التشهد الأوسط وقد تقدم الكلام عليه . وقد ذهب إلى استحبابه في السجود أبو بكر بن المنذر وأبو علي الطبري من أصحاب الشافعي وبعض أهل الحديث

4 - وعن نافع أن ابن عمر : ( كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه وإذا ركع رفع يديه وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه وإذا قام من الركعتين رفع يديه ) ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
- رواه البخاري والنسائي وأبو داود

- قوله ( ورفع ذلك ابن عمر ) قال أبو داود : رواه الثقفي يعني عبد الوهاب عن عبيد الله يعني ابن عمر بن حفص فلم يرفعه وهو الصحيح . وكذا رواه الليث بن سعد وابن جريج ومالك يعني موقوفا . وحكى الدارقطني في العلل الاختلاف في رفعه ووقفه
قال الحافظ : وقفه معتمر وعبد الوهاب عن عبيد الله عن نافع كما قال يعني الدارقطني لكن رفعاه عن سالم عن ابن عمر أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين وفيه الزيادة وقد توبع نافع [ ص 197 ] على ذلك عن ابن عمر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه ) وله شواهد كما تقدم وسيأتي
( والحديث ) يدل على مشروعية الرفع في الأربعة المواطن وقد تقدم الكلام على ذلك

5 - وعن علي ابن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وإذا أراد أن يركع ويصنعه إذا رفع رأسه من الركوع ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه

- الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وصححه أيضا أحمد بن حنبل فيما حكاه الخلال
قوله ( وإذا قام من السجدتين ) وقع في هذا الحديث وفي حديث ابن عمر في طريق ذكر السجدتين مكان الركعتين والمراد بالسجدتين الركعتان بلا شك كما جاء في رواية الباقين كذا قال العلماء من المحدثين والفقهاء إلا الخطابي فإنه ظن أن المراد السجدتان المعروفتان ثم استشكل الحديث الذي وقع فيه ذكر السجدتين وهو حديث ابن عمر وهذا الحديث مثله وقال : لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به . قال ابن رسلان : ولعله لم يقف على طرق الحديث ولو وقف عليها لحمله على الركعتين كما حمله الأئمة
( والحديث ) يدل على استحباب الرفع في هذه الأربعة المواطن وقد عرفت الكلام على ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى : وقد صح التكبير في المواضع الأربعة في حديث أبي حميد الساعدي وسنذكره إن شاء الله انتهى

6 - وعن أبي قلابة : ( أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه وإذا أراد أن يركع رفع يديه وإذا رفع رأسه رفع يديه وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنع هكذا )
- متفق عليه . وفي رواية : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه وإذا ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه وإذا رفع رأسه من الركوع فقال سمع الله لمن حمده فعل مثل ذلك ) رواه أحمد ومسلم وفي لفظ لهما : ( حتى يحاذي بهما فروع أذنيه )

- قوله ( إذا صلى كبر ) في رواية مسلم : ( ثم كبر ) وقد تقدم الكلام على اختلاف الأحاديث في الرفع هل يكون قبل التكبير أو بعده أو مقارنا له . والحديث قد تقدم [ ص 198 ] البحث عن جميع أطرافه
وقد اختلف في الحكمة في رفع اليدين : فقال الشافعي : هو إعظام لله تعالى وإتباع لرسوله . وقيل استكانة واستسلام وانقياد وكان الأسير إذا غلب مد يديه علامة لاستسلامه . وقيل هو إشارة إلى استعظام ما دخل فيه . وقيل إشارة إلى طرح أمور الدنيا والإقبال بكليته على صلاته ومناجاته ربه كما تضمن ذلك قوله الله أكبر فيطابق فعله قوله . وقيل إشارة إلى تمام القيام . وقيل إلى رفع الحجاب بينه وبين المعبود . وقيل ليستقبل بجميع بدنه . وقيل ليراه الأصم ويسمعه الأعمى . وقيل إشارة إلى دخوله في الصلاة وهذا يختص بالرفع لتكبيرة الإحرام . وقيل لأن الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير الله والتكبير إثبات ذلك له عز و جل والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشهادة وقيل غير ذلك . قال النووي : وفي أكثرها نظر
واعلم أن هذه السنة تشترك فيها الرجال والنساء ولم يرد ما يدل على الفرق بينهما فيها وكذا لم يرد ما يدل على الفرق بين الرجل والمرأة في مقدار الرفع . وروي عن الحنفية أن الرجل يرفع إلى الأذنين والمرأة إلى المنكبين لأنه أستر لها ولا دليل على ذلك كما عرفت

7 - وعن أبي حميد الساعدي : ( أنه قال وهو في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدهم أبو قتادة : أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : ما كنت أقدم منا له صحبة ولا أكثرنا له إتيانا قال : بلى قالوا : فاعرض فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم قال الله أكبر وركع ثم اعتدل فلم يصوب رأسه ولم يقنع ووضع يديه على ركبتيه ثم قال سمع الله لمن حمده ورفع يديه واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلا ثم هوى إلى الأرض ساجدا ثم قال الله أكبر ثم ثنى رجله وقعد عليها واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ثم نهض ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتح الصلاة ثم صنع كذلك حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركا ثم سلم قالوا صدقت هكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي ورواه البخاري مختصرا

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وأعله الطحاوي بأن محمد بن عمرو بن عطاء لم يدرك أبا قتادة قال ويزيد ذلك بيانا أن عطاف بن خالد رواه عن محمد بن عمرو بلفظ [ ص 199 ] حدثني رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلوسا
وقال ابن حبان : سمع هذا الحديث محمد بن عمرو عن أبي حميد وسمعه من عباس بن سهل بن سعد عن أبيه والطريقان محفوظان
قال الحافظ : السياق يأبى على ذلك كل الإباء والتحقيق عندي أن محمد بن عمرو الذي رواه عطاف بن خالد عنه هو محمد بن عمر بن علقمة بن وقاص الليثي وهو لم يلق أبا قتادة ولا قارب ذلك إنما يروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وغيره من كبار التابعين . وأما محمد بن عمرو الذي رواه عبد الحميد بن جعفر عنه فهو محمد بن عمرو بن عطاء تابعي كبير جزم البخاري بأنه سمع من أبي حميد وغيره وأخرج الحديث من طريقه انتهى
وقد اختلف في موت أبي قتادة . فقيل مات في سنة أربع وخمسين وعلى هذا فلقاء محمد له ممكن لأن محمدا مات بعد سنة عشرين ومائة وله نيف وثمانون سنة . وقيل مات أبو قتادة في خلافة علي رضي الله عنه ولا يمكن على هذا أن محمدا أدركه لأن عليا قتل في سنة أربعين
وقد أجيب عن هذا أنه إذا صح موته في خلافة علي فلعل من ذكر مقدار عمر محمد أو وقت وفاته وهم
قوله ( أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) فيه مدح الإنسان نفسه لمن يأخذ عنه ليكون كلامه أوقع وأثبت عند السامع كما أنه يجوز مدح الإنسان نفسه وافتخاره في الجهاد ليوقع الرهبة في قلوب الكفار
قوله ( فاعرض ) بوصل الهمزة وكسر الراء من قولهم عرضت الكتاب عرضا قرأته عن ظهر قلب ويحتمل أن يكون من قولهم عرضت الشيء عرضا من باب ضرب أي أظهرته
قوله ( فلم يصوب ) بضم الياء المثناة من تحت وفتح الصاد وتشديد الواو وبعده باء موحدة أي يبالغ في خفضه وتنكيسه
قوله ( ولم يقنع ) بضم الياء وإسكان القاف وكسر النون أي لا يرفعه حتى يكون أعلى من ظهره
قوله ( حتى يرجع كل عظم ) وفي رواية ابن ماجه : ( حتى يقر كل عظم في موضعه ) وفي رواية البخاري : ( حتى يعود كل فقار )
قوله ( ثم هوى ) الهوي السقوط من علو إلى أسفل
قوله ( ثم ثنى رجله وقعد عليها ) وهذه تسمى قعدة الاستراحة وسيأتي الكلام فيها
قوله ( حتى يرجع كل عظم في موضعه ) فيه فضيلة الطمأنينة في هذه الجلسة
قوله ( متوركا ) التورك في الصلاة القعود على الورك اليسرى والوركان فوق الفخذين كالكعبين فوق العضدين
( والحديث ) قد اشتمل على جملة كثيرة من صفة صلاته صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدم الكلام على بعض ما فيه في هذا الباب وسيأتي الكلام على بقية فوائده في المواضع التي يذكرها المصنف فيها إن شاء الله تعالى . وقد رويت حكاية أبي حميد لصلاته [ ص 200 ] صلى الله عليه و سلم بالقول كما في حديث الباب وبالفعل كما في غيره . قال الحافظ : ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون وصفها مرة بالفعل ومرة بالقول

باب ما جاء في وضع اليمين على الشمال

1 - عن وائل بن حجر : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة وكبر ثم التحف بثوبه ثم وضع اليمنى على اليسرى فلما أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما وكبر فركع فلما قال سمع الله لمن حمده رفع يديه فلما سجد سجد بين كفيه )
- رواه أحمد ومسلم . وفي رواية لأحمد وأبي داود : ( ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد )

- الحديث أخرجه النسائي وابن حبان وابن خزيمة . وفي الباب عن هلب عند أحمد والترمذي وابن ماجه والدارقطني وفي إسناده قبيصة بن هلب لم يرو عنه غير سماك وثقه العجلي . وقال ابن المديني والنسائي : مجهول وحديث هلب حسنه الترمذي . وعن غطيف بن الحارث عند أحمد . وعن ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي وابن حبان والطبراني وقد تفرد به حرملة . وعن ابن عمر عند العقيلي وضعفه . وعن حذيفة عند الدارقطني . وعن أبي الدرداء عند الدارقطني مرفوعا وابن أبي شيبة موقوفا . وعن جابر عند أحمد والدارقطني . وعن ابن الزبير عند أبي داود . وعن عائشة عند البيهقي وقال : صحيح . وعن شداد بن شرحبيل عند البزار وفيه عباس بن يونس . وعن يعلى بن مرة عند الطبراني وفيه عمر بن عبد الله بن يعلى وهو ضعيف . وعن عقبة بن أبي عائشة عند الهيثمي موقوفا بإسناد حسن . وعن معاذ عند الطبراني وفيه الخصيب بن جحدر . وعن أبي هريرة عند الدارقطني والبيهقي . وعن الحسن مرسلا عند أبي داود . وعن طاوس مرسلا عنده أيضا . وعن سهل بن سعد وابن مسعود وعلي وسيأتي في هذا الباب
قوله ( والرسغ ) بضم الراء وسكون المهملة بعدها معجمة هو المفصل بين الساعد والكف
قوله ( والساعد ) بالجر عطف على الرسغ والرسغ مجرور لعطفه على قوله كفه اليسرى . والمراد أنه وضع يده اليمنى على كف يده اليسرى ورسغها وساعدها . ولفظ الطبراني : ( وضع يده اليمنى على ظهر اليسرى في الصلاة قريبا من الرسغ ) قال أصحاب الشافعي : يقبض بكفه اليمنى كوع اليسرى [ ص 201 ] وبعض رسغها وساعدها
( والحديث ) يدل على مشروعية وضع الكف على الكف وإليه ذهب الجمهور وروى ابن المنذر عن ابن الزبير والحسن البصري والنخعي أنه يرسلهما ولا يضع اليمنى على اليسرى ونقله النووي عن الليث بن سعد . ونقله المهدي في البحر عن القاسمية والناصرية والباقر . ونقله ابن القاسم عن مالك وخالفه ابن الحكم فنقل عن مالك الوضع . والرواية الأولى عنه هي رواية جمهور أصحابه وهي المشهورة عندهم . ونقل ابن سيد الناس عن الأوزاعي التخيير بين الوضع والإرسال
( احتج الجمهور ) على مشروعية الوضع بأحاديث الباب التي ذكرها المصنف وذكرناها وهي عشرون عن ثمانية عشر صحابيا وتابعيين . وحكى الحافظ عن ابن عبد البر أنه قال : لم يأت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه خلاف
( واحتج القائلون ) بالإرسال بحديث جابر بن سمرة المتقدم بلفظ : ( ما لي أراكم رافعي أيديكم ) وقد عرفناك أن حديث جابر وارد على سبب خاص . ( فإن قلت ) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قلنا إن صدق على الوضع مسمى الرفع فلا أقل من صلاحية أحاديث الباب لتخصيص ذلك العموم وإن لم يصدق عليه مسمى الرفع لم يصح الاحتجاج على مشروعيته بحديث جابر المذكور
( واحتجوا ) أيضا بأنه مناف للخشوع وهو مأمور به في الصلاة وهذه المنافاة ممنوعة . قال الحافظ : قال العلماء الحكمة في هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع . ومن اللطائف قول بعضهم : القلب موضع النية والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه انتهى . قال المهدي في البحر : ولا معنى لقول أصحابنا ينافي الخشوع والسكون
( واحتجوا ) أيضا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم المسيء صلاته الصلاة ولم يذكر وضع اليمين على الشمال كذا حكاه ابن سيد الناس عنهم وهو عجيب فإن النزاع في استحباب الوضع لا وجوبه وترك ذكره في حديث المسيء إنما يكون حجة على القائل بالوجوب وقد علم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اقتصر على ذكر الفرائض في حديث المسيء . وأعجب من هذا الدليل قول المهدي في البحر مجيبا عن أدلة الجمهور بلفظ قلنا أما فعله فلعله لعذر لاحتماله وأما الخبر فإن صح فقوي ويحتمل الاختصاص بالأنبياء انتهى . وقد اختلف في محل وضع اليدين وسيأتي الكلام عليه

2 - وعن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : ( كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ) قال أبو حازم : ولا أعلمه إلا ينمي [ ص 202 ] ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد والبخاري

- قوله ( كان الناس يؤمرون ) قال الحافظ : هذا حكمه الرفع لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم . قال البيهقي : لا خلاف في ذلك بين أهل النقل . قال النووي في شرح مسلم : وهذا حديث صحيح مرفوع
قوله ( على ذراعه اليسرى ) أبهم هنا موضعه من الذراع وقد بينته رواية أحمد وأبي داود في الحديث الذي قبل هذا
قوله ( ولا أعلمه إلا ينمي ) هو بفتح أوله وسكون النون وكسر الميم . قال أهل اللغة : نميت الحديث رفعته وأسندته . وفي رواية يرفع مكان ينمي والمراد بقوله ينميه يرفعه في اصطلاح أهل الحديث قاله الحافظ
وقد أعل بعضهم الحديث بأنه ظن من أبي حازم ورد بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلمه إلى آخره لكان في حكم المرفوع لأن قول الصحابي كنا نؤمر بكذا يصرف بظاهره إلى من له الأمر وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأجيب عن هذا بأنه لو كان مرفوعا لما احتاج أبو حازم إلى قوله لا أعلمه إلى آخره ورد بأنه قال ذلك للانتقال إلى التصريح فالأول لا يقال له مرفوع وإنما يقال له حكم الرفع والثاني يقال له مرفوع
( والحديث ) يصلح للاستدلال به على وجوب وضع اليد على اليد للتصريح من سهل بن سعد بأن الناس كانوا يؤمرون ولا يصلح لصرفه عن الوجوب ما في حديث علي الآتي بلفظ : ( إن من السنة في الصلاة ) وكذا ما في حديث ابن عباس بلفظ : ( ثلاث من سنن المرسلين تعجيل الفطر وتأخير السحور ووضع اليمين على الشمال ) لما تقرر من أن السنة في لسان أهل الشرع أعم منها في لسان أهل الأصول على أن الحديثين ضعيفان . ويؤيد الوجوب ما روي أن عليا فسر قوله تعالى { فصل لربك وانحر } بوضع اليمين على الشمال رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال : إنه أحسن ما روي في تأويل الآية
وعند البيهقي من حديث ابن عباس مثل تفسير علي وروى البيهقي أيضا أن جبريل فسر الآية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وفي إسناده إسرائيل بن حاتم وقد اتهمه ابن حبان به ومع هذا فطول ملازمته صلى الله عليه وآله وسلم لهذه السنة معلوم لكل ناقل وهو بمجرده كاف في إثبات الوجوب عند بعض أهل الأصول فالقول بالوجوب هو المتعين إن لم يمنع منه إجماع على أنا لا ندين بحجية الإجماع بل نمنع إمكانه ونجزم بتعذر وقوعه إلا أن من جعل حديث المسيء قرينة صارفة لجميع [ ص 203 ] الأوامر الواردة بأمور خارجة عنه لم يجعل هذه الأدلة صالحة للاستدلال بها على الوجوب وسيأتي الكلام على ذلك

3 - وعن ابن مسعود : ( أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى )
- رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه

- الحديث قال ابن سيد الناس : رجاله رجال الصحيح وقال الحافظ في الفتح : إسناده حسن
وفي الباب عن جابر عند أحمد والدارقطني قال : ( مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجل وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على اليمنى فانتزعها ووضع اليمنى على اليسرى )
( والحديث ) يدل على أن المشروع وضع اليمنى على اليسرى دون العكس ولا خلاف فيه بين القائلين بمشروعية الوضع

4 - وعن علي رضي الله عنه قال : ( إن من السنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرة )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث ثابت في بعض نسخ أبي داود وهي نسخة ابن الأعرابي ولم يوجد في غيرها وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي
قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يضعفه وقال البخاري : فيه نظر . وقال النووي : هو ضعيف بالاتفاق وأخرج أبو داود أيضا عن أبي جرير الضبي عن أبيه قال : ( رأيت عليا يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة ) وفي إسناده أبو طالوت عبد السلام بن أبي حازم قال أبو داود : يكتب حديثه وأخرج أبو داود عن أبي هريرة بلفظ : ( أخذ الأكف على الأكف تحت السرة ) وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق المتقدم . وأخرج أبو داود أيضا عن طاوس أنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشد بهما على صدره وهو في الصلاة ) وهو مرسل وهذه الروايات المذكورة عن أبي داود كلها ليست إلا في نسخة ابن الأعرابي كما تقدم
( والحديث ) استدل به من قال أن الوضع يكون تحت السرة وهو أبو حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وأبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي . وذهبت الشافعية قال النووي وبه قال الجمهور إلى أن الوضع يكون تحت صدره فوق سرته . وعن أحمد روايتان كالمذهبين ورواية ثالثة أنه يخير بينهما ولا ترجيح وبالتخيير قال الأوزاعي وابن المنذر . قال ابن المنذر في بعض تصانيفه : لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء فهو مخير . وعن [ ص 204 ] مالك روايتان إحداهما يضعهما تحت صدره والثانية يرسلهما ولا يضع إحداهما على الأخرى
( واحتجت الشافعية ) لما ذهبت إليه بما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وصححه من حديث وائل بن حجر قال : ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره ) وهذا الحديث لا يدل على ما ذهبوا إليه لأنهم قالوا إن الوضع يكون تحت الصدر كما تقدم والحديث صريح بأن الوضع على الصدر وكذلك حديث طاوس المتقدم ولا شيء في الباب أصح من حديث وائل المذكور وهو المناسب لما أسلفنا من تفسير علي وابن عباس لقوله تعالى { فصل لربك وانحر } بأن النحر وضع اليمين على الشمال في محل النحر والصدر

باب نظر المصلي إلى موضع سجوده والنهي عن رفع البصر في الصلاة

1 - عن ابن سيرين : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقلب بصره في السماء فنزلت هذه الآية { والذين هم في صلاتهم خاشعون } فطأطأ رأسه )
- رواه أحمد في كتاب الناسخ والمنسوخ وسعيد بن منصور في سننه بنحوه وزاد فيه : ( وكانوا يستحبون للرجل أن لا يجاوز بصره مصلاه ) وهو حديث مرسل

2 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي

3 - وعن أنس : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهن أو لتخطفن أبصارهم )
- رواه الجماعة إلا مسلما والترمذي

4 - وعن عبد الله بن الزبير قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلس في التشهد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره إشارته )
- رواه أحمد والنسائي وأبو داود

- حديث ابن سيرين مرسل كما قال المصنف لأنه تابعي لم يدرك النبي صلى الله عليه و سلم ورجاله ثقات . وأخرجه البيهقي موصولا وقال : المرسل هو المحفوظ . وأخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت : { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } فطأطأ رأسه ) وقال : إنه [ ص 205 ] على شرط الشيخين . وحديث ابن الزبير أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه وأصله في مسلم دون قوله ( ولم يجاوز بصره إشارته )
قوله ( كان يقلب بصره ) الخ لعل ذلك كان عند إرادته صلى الله عليه و سلم تحويل القبلة كما وصفه الله تعالى في كتابه بقوله { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها }
قوله ( أن لا يجاوز بصره مصلاه ) فيه دليل على استحباب النظر إلى المصلى وترك مجاوزة البصر له
قوله ( لينتهين أقوام ) بتشديد النون وفيه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يواجه أحد بمكروه بل إن رأى أو سمع ما يكره عمم كما قال : ما بال أقوام يشترطون شروطا لينتهين أقوام عن كذا
قوله ( يرفعون أبصارهم ) قال ابن المنير : نظر المأموم إلى الإمام من مقاصد الائتمام فإذا تمكن من مراقبته بغير التفات أو رفع بصر إلى السماء كان ذلك من إصلاح صلاته
وقال ابن بطال : فيه حجة لمالك في أن نظر المصلي يكون إلى جهة القبلة . وقال الشافعي والكوفيون : يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده لأنه أقرب إلى الخشوع . ويدل عليه ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي صلى الله عليه و سلم أنها قالت : ( كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام المصلي يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد موضع جبينه فتوفي أبو بكر فكان عمر فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة فكان عثمان وكانت الفتنة فالتفت الناس يمينا وشمالا ) لكن في إسناده موسى بن عبد الله بن أبي أمية لم يخرج له من أهل الكتب الستة غير ابن ماجه
قوله ( أو لتخطفن ) بضم الفوقية وفتح الفاء على البناء للمفعول يعني لا يخلو الحال من أحد الأمرين إما الانتهاء عنه وإما العمى وهو وعيد عظيم وتهديد شديد وإطلاقه يقضي بأنه لا فرق بين أن يكون عند الدعاء أو عند غيره إذا كان ذلك في الصلاة كما وقع به التقييد . والعلة في ذلك أنه إذا رفع بصره إلى السماء خرج عن سمت القبلة وأعرض عنها وعن هيئة الصلاة . والظاهر أن رفع البصر إلى السماء حال الصلاة حرام لأن العقوبة بالعمى لا تكون إلا عن محرم والمشهور عند الشافعية أنه مكروه وبالغ ابن حزم فقال : تبطل الصلاة به
وقيل المعنى في ذلك أنه يخشى على الأبصار من الأنوار التي تنزل بها الملائكة على المصلي كما في حديث أسيد بن حضير في فضائل القرآن وأشار إلى ذلك الداودي ونحوه في جامع حماد بن سلمة عن أبي مجلز أحد التابعين
قوله ( فاشتد [ ص 206 ] قوله في ذلك ) إما بتكرير هذا القول أو غيره مما يفيد المبالغة في الزجر
قوله ( لينتهن ) في رواية أبي داود لينتهين وهو جواب قسم محذوف . وفيه روايتان للبخاري فالأكثرون بفتح أوله وضم الهاء وحذف الياء المثناة وتشديد النون على البناء للفاعل والثانية بضم الياء وسكون النون وفتح الفوقية والهاء والياء التحتية وتشديد النون للتأكيد على البناء للمفعول
قوله ( وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ) الخ سيأتي الكلام على هذه الهيئة
قوله ( ولم يجاوز بصره إشارته ) فيه أنه يستحب للمصلي حال التشهد أن لا يرفع بصره إلى ما يجاوز به الإصبع التي يشير بها

باب ذكر الاستفتاح بين التكبير والقراءة

1 - عن أبي هريرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل القراءة فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول قال : أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد )
- رواه الجماعة إلا الترمذي

- قوله ( هنيهة ) في رواية ( هنية ) قال النووي : وأصله هنوة فلما صغرت صارت هنيوة فاجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغمت وقد تقلب هاء كما في رواية الكتاب . قال النووي أيضا : والهمز خطأ . وقال القرطبي : إن أكثر الرواة قالوه بالهمز
قوله ( بأبي أنت وأمي ) هو متعلق بمحذوف إما اسم أو فعل والتقدير أنت مفدى أو أفديك
قوله ( أرأيت ) الظاهر أنه بفتح التاء بمعنى أخبرني
قوله ( ما تقول ) فيه إشعار بأنه قد فهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول قولا
قال ابن دقيق العيد : ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم كما استدل غيره على القراءة باضطراب اللحية
قوله ( باعد ) قال الحافظ : المراد بالمباعدة نحو ما حصل منها يعني الخطايا والعصمة عما سيأتي منها انتهى . وفي هذا اللفظ مجازان : الأول استعمال المباعدة التي هي في الأصل للأجسام في مباعدة المعاني . الثاني استعمال المباعدة في الإزالة بالكلية مع أن أصلها لا يقتضي الزوال وموضع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل وكأنه [ ص 207 ] أراد أن لا يقع له منها اقتراب بالكلية وكرر لفظ بين لأن العطف على الضمير المجرور ويعاد فيه الخافض
قوله ( نقني ) بتشديد القاف وهو مجاز عن زوال الذنوب ومحوها بالكلية . قال الحافظ : ولما كان الدنس في الثوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التشبيه به والدنس الوسخ الذي يدنس الثوب
قوله ( بالثلج والماء والبرد ) جمع بين الثلاثة تأكيد ومبالغة كما قال الخطابي لأن الثلج والبرد نوعان من الماء . قال ابن دقيق العيد : عبر بذلك عن غاية المحو فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية تكون في غاية النقاء قال : ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو
( والحديث ) يدل على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة وخالف في ذلك مالك في المشهور عنه والأحاديث ترد عليه . وفيه جواز الدعاء في الصلاة بما ليس من القرآن خلافا للحنفية والهادوية . وفيه أن دعاء الاستفتاح يكون بعد تكبيرة الإحرام وخالف في ذلك الهادي والقاسم وأبو العباس وأبو طالب من أهل البيت وسيأتي بيان ما هو الحق في ذلك

2 - وعن علي بن أبي طالب قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة قال : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك أنا بك وإليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك وإذا ركع قال : اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وإذا رفع رأسه قال : اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد وإذا سجد قال : اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت )
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه

[ ص 208 ] - الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي مطولا وابن ماجه مختصرا وقد وقع في بعض نسخ هذا الكتاب مكان قوله رواه أحمد ومسلم الخ رواه الجماعة إلا البخاري وهو الصواب . وأخرجه أيضا ابن حبان وزاد إذا قام إلى الصلاة المكتوبة وكذلك رواه الشافعي وقيده أيضا بالمكتوبة وكذا غيرهما وأما مسلم فقيده بصلاة الليل وزاد لفظ من جوف الليل
قوله ( كان إذا قام إلى الصلاة ) وزاد أبو داود ( كبر ) ثم قال : وهذا تصريح بأن هذا التوجه بعد التكبيرة لا كما ذهب إليه من ذكرنا في شرح الحديث السابق من أنه قبل التكبيرة محتجين على ذلك بقوله تعالى { وكبره تكبيرا } بعد قوله { الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } إلى آخره وهو عندهم التوجه الصغير وقوله ( وجهت وجهي ) التوجه الكبير وهذا إنما يتم بعد تسليم أن المراد بقوله { وكبره تكبيرا } الإحرام وبعد تسليم أن الواو تقتضي الترتيب وبعد تسليم أن قوله تعالى { الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } إلى آخره من التوجهات الواردة
وهذه الأمور جميعا ممنوعة ودون تصحيحها مفاوز وعقاب والأحسن الاحتجاج لهم بإطلاق بعض الأحاديث الواردة كحديث جابر بلفظ : ( كان إذا استفتح الصلاة ) وحديث الباب بلفظ : ( كان إذا قام إلى الصلاة ) ولا يخفى عليك أنه قد ورد التقييد في حديث أبي هريرة المتقدم وفي حديث الباب أيضا في رواية أبي داود كما ذكرنا . وفي حديث أبي سعيد : ( كان إذا قام إلى الصلاة كبر ) وسيأتي . وقد ورد التقييد في غير حديث وحمل المطلق على المقيد واجب على ما هو الحق في الأصول
( ومن غرائبهم ) قولهم : إنه لا يشرع التوجه بغير ما ورد في هذا الحديث من الألفاظ القرآنية إلا قوله تعالى { الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } الخ وقد وردت الأحاديث الصحيحة بتوجهات متعددة
قوله ( وجهت وجهي ) قبل معناه قصدت بعبادتي . وقيل أقبلت بوجهي وجمع السماوات وإفراد الأرض مع كونها سبعا لشرفها . وقال القاضي أبو الطيب : لأنا لا ننتفع من الأرض إلا بالطبقة الأولى بخلاف السماء فإن الشمس والقمر والكواكب موزعة عليها . وقيل لأن الأرض السبع لها سكن أخرج البيهقي عن أبي الضحى عن ابن عباس أنه قال : قوله { ومن الأرض مثلهن } قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيساكم . قال : وإسناده صحيح عن ابن عباس غير أني لا أعلم لأبي الضحى متابعا
قوله ( حنيفا ) الحنيف المائل إلى الدين الحق وهو الإسلام قاله الأكثر ويطلق على المائل والمستقيم وهو عند العرب [ ص 209 ] اسم لمن كان على ملة إبراهيم وانتصابه على الحال
قوله ( ونسكي ) النسك العبادة لله وهو من ذكر العام بعد الخاص
قوله ( ومحياي ومماتي ) أي حياتي وموتي . والجمهور على فتح الياء الآخرة في محياي وقرئ بإسكانها
قوله ( وأنا من المسلمين ) في رواية لمسلم : ( وأنا أول المسلمين ) قال الشافعي : لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أول مسلمي هذه الأمة . وفي رواية أخرى لمسلم كما هنا . قال في الانتصار : إن غير النبي إنما يقول وأنا من المسلمين وهو وهم منشؤه توهم أن معنى وأنا أول المسلمين أني أول شخص اتصف بذلك بعد أن كان الناس بمعزل عنه وليس كذلك بل معناه بيان المسارعة في الامتثال لما أمر به ونظيره : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } وقال موسى { وأنا أول المؤمنين } وظاهر الإطلاق أنه لا فرق في قوله وأنا من المسلمين وقوله وما أنا من المشركين بين الرجل والمرأة وهو صحيح على إرادة الشخص . وفي المستدرك للحاكم من رواية عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة : ( قومي فاشهدي أضحيتك وقولي إن صلاتي ونسكي إلى قوله وأنا من المسلمين ) فدل على ما ذكرناه
قوله ( ظلمت نفسي ) اعتراف بما يوجب نقص حظ النفس من ملابسة المعاصي تأدبا وأراد بالنفس هنا الذات المشتملة على الروح
قوله ( لأحسن الأخلاق ) أي لأكملها وأفضلها
قوله ( سيئها ) أي قبيحها
قوله ( لبيك ) هو من ألب بالمكان إذا أقام به وثنى هذا المصدر مضافا إلى الكاف وأصل لبيك لبين فحذف النون للإضافة . وقال النووي : قال العلماء ومعناه أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة
قوله ( وسعديك ) قال الأزهري وغيره : معناه مساعدة لأمرك بعد مساعدة ومتابعة لدينك بعد متابعة
قوله ( والخير كله في يديك ) زاد الشافعي عن مسلم بن خالد عن موسى بن عقبة والمهدي من هديت . قال الخطابي وغيره : فيه الإرشاد إلى الأدب في الثناء على الله ومدحه بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساويها على جهة الأدب
قوله ( والشر ليس إليك ) قال الخليل بن أحمد والنضر بن شميل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين وأبو بكر بن خزيمة والأزهري وغيرهم : معناه لا يتقرب به إليك روى ذلك النووي عنهم وهذا القول الأول والقول الثاني حكاه الشيخ أبو حامد عن المزني أن معناه لا يضاف إليك على انفراده لا يقال يا خالق القردة والخنازير ويا رب الشر ونحو هذا وإن كان خالق كل شيء ورب كل شيء وحينئذ يدخل الشر في العموم . والثالث معناه والشر لا يصعد إليك وإنما يصعد الكلم الطيب [ ص 210 ] والعمل الصالح . والرابع معناه والشر ليس شرا بالنسبة إليك فأنت خلقته بحكمة بالغة وإنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين . والخامس حكاه الخطابي أنه كقولك فلان إلى بني فلان إذا كان عداده فيهم حكى هذه الأقوال النووي في شرح مسلم وقال : إنه مما يجب تأويله لأن مذهب أهل الحق أن كل المحدثات فعل الله تعالى وخلقه سواء خيرها وشرها اه وفي المقام كلام طويل ليس هذا موضعه
قوله ( أنا بك وإليك ) أي التجائي وانتمائي إليك وتوفيقي بك قاله النووي
قوله ( تباركت ) قال ابن الأنباري : تبارك العباد بتوحيدك وقيل ثبت الخير عندك وقال النووي : استحققت الثناء
قوله ( خشع لك ) أي خضع وأقبل عليك من قولهم خشعت الأرض إذا سكنت واطمأنت
قوله ( ومخي ) قال ابن رسلان : المراد به هنا الدماغ وأصله الودك الذي في العظم وخالص كل شيء مخه
قوله ( وعصبي ) العصب طنب المفاصل وهو ألطف من العظم زاد الشافعي في مسنده من رواية أبي هريرة : ( وشعري وبشري ) والجمهور على تضعيف هذه الزيادة وزاد النسائي من رواية جابر : ( ودمي ولحمي ) وزاد ابن حبان في صحيحه : ( وما استقلت به قدمي لله رب العالمين )
قوله ( ملء السماوات ) هو وما بعده بكسر الميم ونصب الهمزة ورفعها والنصب أشهر قاله النووي ورجحه ابن خالويه وأطنب في الاستدلال وجوز الرفع على أنه مرجوح
وحكى عن الزجاج أنه يتعين الرفع ولا يجوز غيره وبالغ في إنكار النصب . والذي تقتضيه القواعد النحوية هو ما قاله ابن خالويه . قال النووي : قال العلماء معناه حمدا لو كان أجساما لملأ السماوات والأرض وما بينهما لعظمه وهكذا قال القاضي عياض وصرح أنه من قبيل الاستعارة
قوله ( وملء ما شئت من شيء بعد ) وذلك كالكرسي والعرش وغيرهما مما لم يعلمه إلا الله والمراد الاعتناء في تكثير الحمد
قوله ( وصوره ) زاد مسلم وأبو داود فأحسن صوره وهو الموافق لقوله تعالى { فأحسن صوركم }
قوله ( وشق سمعه وبصره ) رواية أبي داود فشق قال القاضي عياض : قال الإمام يحتج به من يقول الأذنان من الوجه وقد مر الكلام على ذلك
قوله ( فتبارك ) هكذا رواية ابن حبان وهو في مسلم بدون الفاء وفي سنن أبي داود بالواو
قوله ( أحسن الخالقين ) أي المصورين والمقدرين . والخلق في اللغة الفعل الذي يوجده فاعله مقدرا له لا عن سهو وغفلة والعبد قد يوجد منه ذلك . قال الكعبي : لكن لا يطلق الخالق على العبد إلا مقيدا كالرب
قوله ( ما قدمت وما أخرت ) المراد بقوله ما أخرت إنما هو بالنسبة إلى ما وقع من ذنوبه المتأخرة لأن الاستغفار قبل الذنب محال كذا قال أبو الوليد النيسابوري . قال الأسنوي : ولقائل [ ص 211 ] أن يقول المحال إنما هو طلب مغفرته قبل وقوعه وأما الطلب قبل الوقوع أن يغفر إذا وقع فلا استحالة فيه
قوله ( وما أسررت وما أعلنت ) أي جميع الذنوب لأنها إما سرا أو علن
قوله ( وما أسرفت ) المراد الكبائر لأن الإسراف الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه
قوله ( وما أنت أعلم به مني ) أي من ذنوبي وإسرافي في أموري وغير ذلك
قوله ( أنت المقدم وأنت المؤخر ) قال البيهقي : قدم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين وأخر من شاء عن مراتبهم . وقيل قدم من أحب من أوليائه على غيرهم من عبيده وأخر من أبعده عن غيره فلا مقدم لما أخر ولا مؤخر لما قدم
قوله ( لا إله إلا أنت ) أي ليس لنا معبود نتذلل له ونتضرع إليه في غفران ذنوبنا إلا أنت
( الحديث ) يدل على مشروعية الاستفتاح بما في هذا الحديث . قال النووي : إلا أن يكون إماما لقوم لا يرون التطويل . وفيه استحباب الذكر في الركوع والسجود والاعتدال والدعاء قبل السلام . وفيه الدعاء في الصلاة بغير القرآن والرد على المانعين من ذلك وهم الحنفية والهادوية

3 - وعن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا استفتح الصلاة قال : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك )
- رواه أبو داود والدارقطني مثله من رواية أنس . وللخمسة مثله من حديث أبي سعيد . وأخرج مسلم في صحيحه أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول : ( سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ) . وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي بكر الصديق أنه كان ( يستفتح بذلك ) وكذلك رواه الدارقطني عن عثمان بن عفان وابن المنذر عن عبد الله بن مسعود . وقال الأسود : ( كان عمر إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك يسمعنا ذلك ويعلمنا ) رواه الدارقطني

- أما حديث عائشة فأخرجه الترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم قال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وحارثة يعني ابن أبي الرجال المذكور في إسناد هذا الحديث قد تكلم فيه من قبل حفظه انتهى
وقال أبو داود بعد إخراجه : ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب لم يروه عن عبد السلام إلا طلق بن غنام . وقال الدارقطني : ليس هذا الحديث بالقوي وقال الحافظ محمد بن عبد الواحد : ما علمت فيهم يعني رجال إسناد أبي داود مجروحا انتهى
وطلق بن غنام أخرج عنه البخاري في الصحيح : وعبد السلام بن حرب [ ص 212 ] أخرج له الشيخان ووثقه أبو حاتم وقد صحح الحاكم هذا الحديث وأورد له شاهدا وقال الحافظ : رجال إسناده ثقات لكن فيه انقطاع . قال : وفي الباب عن ابن مسعود وعثمان وأبي سعيد وأنس والحكم بن عمرو وأبي أمامة وعمرو بن العاص وجابر . وأما حارثة بن أبي الرجال الذي أخرج الحديث الترمذي من طريقه فضعفه أحمد ويحيى والرازيان وابن عدي وابن حبان . وأما حديث أبي سعيد فسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا . وأما أن عمر كان يجهر بهذه الكلمات فرواه مسلم عن عبدة بن أبي لبابة عنه وهو موقوف على عمر وعبدة لا يعرف له سماع من عمر وإنما سمع من عبد الله بن عمر ويقال رأى عمر رؤية وقد روى هذا الكلام عن عمر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الدارقطني : المحفوظ عن عمر موقوف . قال الحاكم : وقد صح ذلك عن عمر وهو في صحيح ابن خزيمة عنه . قال الحافظ : وفي إسناده انقطاع وهكذا رواه الترمذي عن عمر موقوفا ورواه أيضا عن ابن مسعود
قوله ( سبحانك ) التسبيح تنزيه الله تعالى وأصله كما قال ابن سيد الناس المراد السريع في عبادة الله وأصله مصدر مثل غفران
قوله ( وبحمدك ) قال الخطابي : أخبرني ابن جلاد قال : سألت الزجاج عن قوله سبحانك اللهم وبحمدك فقال معناه سبحانك وبحمدك سبحتك
قوله ( تبارك اسمك ) البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء وفيه إشارة إلى اختصاص أسمائه تعالى بالبركات
قوله ( وتعالى جدك ) الجد العظمة وتعالى تفاعل من العلو أي علت عظمتك على عظمة كل أحد غيرك . قال ابن الأثير : معنى تعالى جدك علا جلالك وعظمتك
( والحديثان ) وما ذكره المصنف من الآثار تدل على مشروعية الاستفتاح بهذه الكلمات
قال المصنف رحمه الله : واختيار هؤلاء يعني الصحابة الذين ذكرهم بهذا الاستفتاح وجهر به عمر أحيانا بمحضر من الصحابة ليتعلمه الناس مع أن السنة إخفاؤه يدل على أنه الأفضل وأنه الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يداوم عليه غالبا وإن استفتح بما رواه علي أو أبو هريرة فحسن لصحة الرواية انتهى
( ولا يخفى ) أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالإيثار والاختيار . وأصح ما روي في الاستفتاح حديث أبي هريرة المتقدم ثم حديث علي . وأما حديث عائشة فقد عرفت ما فيه من المقال وكذلك حديث أبي سعيد ستعرف المقال الذي فيه . قال الإمام أحمد : أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي كان حسنا
وقال ابن خزيمة : لا أعلم في الافتتاح بسبحانك اللهم خبرا ثابتا وأحسن أسانيده حديث أبي [ ص 213 ] سعيد ثم قال : لا نعلم أحدا ولا سمعنا به استعمل هذا الحديث على وجهه

باب التعوذ بالقراءة

- قال الله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }

1 - وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه : ( كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه )
- رواه أحمد والترمذي . وقال ابن المنذر : جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه : ( كان يقول قبل القراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) وقال الأسود : ( رأيت عمر حين يفتتح الصلاة يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يتعوذ )
- رواه الدارقطني

- حديث أبي سعيد أخرجه أيضا أبو داود والنسائي ولفظ الترمذي : ( كان إذا قام إلى الصلاة كبر ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول الله أكبر الله أكبر ثم يقول أعوذ بالله ) إلى آخر ما ذكره المصنف
ولفظ أبي داود كلفظ الترمذي إلا أنه قال : ( ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثا ثم يقول الله أكبر كبيرا ثلاثا أعوذ بالله ) إلى آخره . قال أبو داود : وهذا الحديث يقولون هو عن علي بن علي يعني الرفاعي عن الحسن الوهم من جعفر
وقال الترمذي : حديث أبي سعيد أشهر حديث في هذا الباب . وقد أخذ قوم من أهل العلم بهذا الحديث . وأما أكثر أهل العلم فقالوا : إنما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول : ( سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ) هكذا روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من التابعين وغيرهم . وقد تكلم في إسناد حديث أبي سعيد كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي وقال أحمد : لا يصح هذا الحديث انتهى كلام الترمذي
وعلي بن علي هو ابن نجاد بن رفاعة الرفاعي البصري روى عنه وكيع ووثقه وأبو نعيم وزيد ابن الحباب وشيبان بن فروخ . وقال الفضل بن دكين وعفان : كان علي بن علي الرفاعي يشبه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم . وقال أحمد بن حنبل : هو صالح . وقال محمد بن عبد الله بن عمار : زعموا أنه كان يصلي كل يوم ستمائة [ ص 214 ] ركعة وكان يشبه عيناه بعيني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان رجلا عابدا ما أرى أن يكون له عشرون حديثا قيل له : أكان ثقة قال : نعم . وقال ابن معين : ثقة . وقال أبو حاتم : ليس به بأس لا يحتج بحديثه . وقال يعقوب بن إسحاق : قدم علينا شعبة فقال : اذهبوا بنا إلى سيدنا وابن سيدنا علي بن علي الرفاعي
قوله ( من همزه ونفخه ونفثه ) قد ذكر ابن ماجه تفسير هذه الثلاثة عن عمرو بن مرة الجملي بفتح الجيم والميم فقال : نفثه الشعر ونفخه الكبر وهمزه الموتة بسكون الواو بدون همز والمراد بها هنا الجنون وكذا فسره بهذا أبو داود في سننه . وإنما كان الشعر من نفثة الشيطان لأنه يدعو الشعراء المداحين الهجائين المعظمين المحقرين إلى ذلك . وقيل المراد شياطين الإنس وهم الشعراء الذين يختلقون كلاما لا حقيقة له والنفث في اللغة قذف الريق وهو أقل من التفل . والنفخ في اللغة أيضا نفخ الريح في الشيء وإنما فسر بالكبر لأن المتكبر يتعاظم لا سيما إذا مدح . والهمز في اللغة أيضا العصر يقال همزت الشيء في كفي أي عصرته . وهمز الإنسان اغتيابه
( والحديث ) يدل على مشروعية الافتتاح بما ذكر في الحديث وفيه وفي سائر الأحاديث رد لما ذهب إليه مالك من عدم استحباب الافتتاح بشيء وفي تقييده ببعد التكبير كما تقدم رد لما ذهب إليه من قال إن الافتتاح قبل التكبير وفيه أيضا مشروعية التعوذ من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه وإلى ذلك ذهب أحمد وأبو حنيفة والثوري وابن راهويه وغيرهم وقد ذهب الهادي والقاسم من أهل البيت إلى أن محله قبل التوجه ومذهبهما أن التوجه قبل التكبيرة كما تقدم وقد عرفت التصريح بأنه بعد التكبير وهذا الحديث وإن كان فيه المقال المتقدم فقد ورد من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا . منها ما أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم بلفظ : ( اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه ) وأخرجه أيضا البيهقي . ومنها ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث جبير ابن مطعم ( أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم صلى صلاة فقال الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه )
ومنها ما أخرجه أحمد عن أبي أمامة بنحو حديث جبير . ومنها عن سمرة عند الترمذي ومنها عن عمر موقوفا عند الدارقطني كما ذكره المصنف وهو أيضا عند الترمذي هذا مع ما يؤيد ثبوت هذه السنة من عموم القرآن [ ص 215 ] والحديث مصرح أن التعوذ المذكور يكون بعد الافتتاح بالدعاء المذكور في الحديث
( فائدة ) قال الحافظ في التلخيص : كلام الرافعي يقتضي أنه لم يرد الجمع بين وجهت وجهي وبين سبحانك اللهم وليس كذلك فقد جاء في حديث ابن عمر رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف وفيه عن جابر أخرجه البيهقي بسند جيد ولكنه من رواية ابن المنكدر عنه وقد اختلف عليه فيه وفيه عن علي رواه إسحاق بن راهويه في مسنده وأعله أبو حاتم انتهى
( فائدة أخرى ) الأحاديث الواردة في التعوذ ليس فيها إلا أنه فعل ذلك في الركعة الأولى وقد ذهب الحسن وعطاء وإبراهيم إلى استحبابه في كل ركعة واستدلوا بعموم قوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } ولا شك أن الآية تدل على مشروعية الاستعاذة قبل قراءة القرآن وهي أعم من أن يكون القارئ خارج الصلاة أو داخلها . وأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة يدل على المنع منه حال الصلاة من غير فرق بين الاستعاذة وغيرها مما لم يرد به دليل يخصه ولا وقع الإذن بجنسه فالأحوط الاقتصار على ما وردت به السنة وهو الاستعاذة قبل قراءة الركعة الأولى فقط وسيأتي ما يدل على ذلك في باب افتتاح الثانية بالقراءة

باب ما جاء في بسم الله الرحمن الرحيم

1 - عن أنس بن مالك قال : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم )
- رواه أحمد ومسلم وفي لفظ : ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم ) رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الصحيح . ولأحمد ومسلم : ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها ) ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : ( صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ) قال شعبة : فقلت لقتادة أنت سمعته من أنس قال : نعم نحن سألناه عنه . وللنسائي عن منصور بن زاذان عن أنس قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما )

- الحديث قد استوفى المصنف رحمه الله أكثر ألفاظه . ورواية ( فكانوا لا يجهرون ) أخرجها أيضا ابن حبان والدارقطني والطحاوي والطبراني . وفي لفظ لابن خزيمة : ( كانوا يسرون ) . وقوله ( كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ) هذا متفق عليه وإنما انفرد مسلم بزيادة : ( لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم ) وقد أعل هذا اللفظ بالاضطراب لأن جماعة من أصحاب شعبة رووه عنه بهذا وجماعة رووه عنه بلفظ : ( فلم أسمع أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ) وأجاب الحافظ عن ذلك بأنه قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين
وأخرجه البخاري في جزء القراءة والنسائي وابن ماجه عن أيوب وهؤلاء والترمذي من طريق أبي عوانة والبخاري فيه وأبو داود من طريق هشام الدستوائي والبخاري فيه وابن حبان من طريق حماد بن سلمة والبخاري فيه والسراج من طريق همام كلهم عن قتادة باللفظ الأول
وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعي عن قتادة بلفظ : ( لم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم ) ورواه أبو يعلى والسراج وعبد الله بن أحمد عن أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ : ( فلم يكونوا يفتتحون القراءة ) إلى آخر ما ذكره المصنف
( وفي الباب ) عن عائشة عند مسلم وعن أبي هريرة عند ابن ماجه وفي إسناده بشر بن رافع وقد ضعفه غير واحد وله حديث آخر عند أبي داود والنسائي وابن ماجه وله حديث ثالث سيأتي ذكره . وعن عبد الله بن مغفل وسيأتي أيضا . وقد استدل بالحديث من قال إنه لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهم ما حكاه ابن سيد الناس في شرح الترمذي علماء الكوفة ومن شايعهم قال : وممن رأى الإسرار بها عمر وعلي وعمار . وقد اختلف عن بعضهم فروي عنه الجهر بها وممن لم يختلف عنه أنه كان يسر بها عبد الله بن مسعود وبه قال أبو جعفر محمد بن علي بن حسين والحسن وابن سيرين وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير وروي عنهما الجهر بها وروي عن علي أنه كان لا يجهر بها وعن سفيان وإليه ذهب الحكم وحماد والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو عبيد وحكي عن النخعي وروي عن عمر قال أبو عمر من وجوه ليست بالقائمة أنه قال يخفي الإمام [ ص 217 ] أربعا التعوذ وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين وربنا لك الحمد . وروى علقمة والأسود عن عبد الله بن مسعود قال : ثلاث يخفيهن الإمام الاستعاذة وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين وروي نحو ذلك عن إبراهيم والثوري وعن الأسود صليت خلف عمر سبعين صلاة فلم يجهر فيها ببسم الله الرحمن الرحيم
وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم أنه قال : الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بدعة . وروى الترمذي والحازمي الإسرار عن أكثر أهل العلم . وأما الجهر بها عند الجهر بالقراءة فروي عن جماعة من السلف قال ابن سيد الناس : روي ذلك عن عمر وابن عمر وابن الزبير وابن عباس وعلي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعن عمر فيها ثلاث روايات أنه لا يقرؤها وأنه يقرؤها سرا وأنه يجهر بها . وكذلك اختلف عن أبي هريرة في جهره بها وإسراره . وروى الشافعي بإسناده عن أنس بن مالك قال : ( صلى معاوية بالناس بالمدينة صلاة جهر فيها بالقراءة فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر في الخفض والرفع فلما فرغ ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية نقصت الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير إذا خفضت ورفعت فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر ) وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح على شرط مسلم . وذكره الخطيب عن أبي بكر الصديق وعثمان وأبي بن كعب وأبي قتادة وأبي سعيد وأنس وعبد الله ابن أبي أوفى وشداد بن أوس وعبد الله بن جعفر والحسين بن علي ومعاوية
قال الخطيب : وأما التابعون ومن بعدهم ممن قال بالجهر بها فهم أكثر من أن يذكروا وأوسع من أن يحصروا منهم سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وأبو وائل وسعيد بن جبير وابن سيرين وعكرمة وعلي بن الحسين وابنه محمد بن علي وسالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن المنكدر وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن كعب ونافع مولى ابن عمر وأبو الشعثاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول وحبيب بن أبي ثابت والزهري وأبو قلابة وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه والأزرق بن قيس وعبد الله بن معقل بن مقرن . وممن بعد التابعين عبيد الله العمري والحسن بن زيد وزيد بن علي بن حسين ومحمد بن عمر بن علي وابن أبي ذئب والليث بن سعد وإسحاق ابن راهويه . وزاد البيهقي في التابعين عبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية وسليمان التيمي
ومن تابعيهم المعتمر بن سليمان وزاد أبو عمر عن أصبغ بن الفرج قال : كان ابن وهب [ ص 218 ] يقول بالجهر ثم رجع إلى الإسرار وحكاه غيره عن ابن المبارك وأبي ثور . وذكر البيهقي في الخلافيات أنه اجتمع آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم حكاه عن أبي جعفر الهاشمي ومثله في الجامع الكافي وغيره من كتب العترة
وقد ذهب جماعة من أهل البيت إلى الجهر بها في الصلاة السرية والجهرية . وذكر الخطيب عن عكرمة أنه كان لا يصلي خلف من لا يجهر بالبسملة . وعن أبي جعفر الهاشمي مثله وإليه ذهب الشافعي وأصحابه ونقل عن مالك قراءتها في النوافل في فاتحة الكتاب وسائر سور القرآن . وقال طاوس : تذكر فاتحة الكتاب ولا تذكر في السورة بعدها . وحكي عن جماعة أنها لا تذكر سرا ولا جهرا وأهل هذه المقالة منهم القائلون أنها ليست من القرآن . وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن ابن أبي ليلى والحكم أن الجهر والإسرار بها سواء فهذه المذاهب في الجهر بها والإسرار وإثبات قراءتها ونفيها
( وقد اختلفوا ) هل هي آية من الفاتحة فقط أو من كل سورة أو ليست بآية فذهب ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وطاوس وعطاء ومكحول وابن المبارك وطائفة إلى أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة غير براءة وحكي عن أحمد وإسحاق وأبي عبيد وجماعة أهل الكوفة ومكة وأكثر العراقيين وحكاه الخطابي عن أبي هريرة وسعيد بن جبير ورواه البيهقي في الخلافيات بإسناده عن علي بن أبي طالب والزهري وسفيان الثوري وحكاه في السنن الكبرى عن ابن عباس ومحمد بن كعب أنها آية من الفاتحة فقط وحكي عن الأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وداود وهو رواية عن أحمد أنها ليست آية في الفاتحة ولا في أوائل السور
وقال أبو بكر الرازي وغيره من الحنفية : هي آية بين كل سورتين غير الأنفال وبراءة وليست من السور بل هي قرآن مستقل كسورة قصيرة وحكي هذا عن داود وأصحابه وهو رواية عن أحمد
( واعلم ) أن الأمة أجمعت أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها بخلاف ما لو نفى حرفا مجمعا عليه أو أثبت ما لم يقل به أحد فإنه يكفر بالإجماع . ولا خلاف أنها آية في أثناء سورة النمل ولا خلاف في إثباتها خطا في أوائل السور في المصحف إلا في أول سورة التوبة
وأما التلاوة فلا خلاف بين القراء السبعة في أول فاتحة الكتاب وفي أول كل سورة إذا ابتدأ بها القارئ ما خلا سورة التوبة
وأما في أوائل السور مع الوصل بسورة قبلها فأثبتها ابن كثير وقالون وعاصم والكسائي من [ ص 219 ] القراء في أول كل سورة إلا أول سورة التوبة وحذفها منهم أبو عمرو وحمزة وورش وابن عامر
( وقد احتج القائلون ) بالإسرار بها بحديث الباب وحديث ابن مغفل الآتي وغيرهما مما ذكرنا
( واحتج القائلون ) بالجهر بها في الصلاة الجهرية بأحاديث :
منها حديث أنس وحديث أم سلمة الآتيان وسيأتي الكلام عليهما . ومنها حديث ابن عباس عند الترمذي والدارقطني بلفظ : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ) قال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بذاك وفي إسناده إسماعيل بن حماد قال البزار : إسماعيل لم يكن بالقوي . وقال العقيلي : غير محفوظ وقد وثق إسماعيل يحيى بن معين
وقال أبو حاتم : يكتب حديثه وفي إسناده أبو خالد الوالي اسمه هرمز وقيل هرم قال الحافظ : مجهول . وقال أبو زرعة : لا أعرف من هو . وقال أبو حاتم : صالح الحديث . وقد ضعف أبو داود هذا الحديث روى ذلك عنه الحافظ في التلخيص . وللحديث طريق أخرى عن ابن عباس رواها الحاكم بلفظ : ( كان يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ) وصحح الحاكم هذا الطريق وخطأه الحافظ في ذلك لأن في إسنادها عبد الله بن عمرو بن حسان وقد نسبه ابن المديني إلى الوضع للحديث . وقد رواه إسحاق بن راهويه في مسنده عن يحيى بن آدم عن شريك ولم يذكر ابن عباس في إسناده بل أرسله وهو الصواب من هذا الوجه قاله الحافظ . وقال أبو عمر : الصحيح في هذا الحديث أنه روي عن ابن عباس من فعله لا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ومنها ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل يجهر في السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم ) وفي إسناده عمر بن حفص المكي وهو ضعيف
وأخرجه أيضا عنه من طريق أخرى وفيها أحمد بن رشيد بن خثيم عن عمه سعيد بن خثيم وهما ضعيفان . ومنها ما أخرجه النسائي من حديث أبي هريرة بلفظ : ( قال نعيم المجمر : صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن ) وفيه : ( ويقول إذا سلم والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال : على شرط البخاري ومسلم وقال البيهقي : صحيح الإسناد وله شواهد وقال أبو بكر الخطيب فيه : ثابت صحيح لا يتوجه عليه تعليل . ومنها عن أبي هريرة أيضا عند الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم ) قال الدارقطني : رجال إسناده كلهم [ ص 220 ] ثقات انتهى . وفي إسناده عبد الله بن عبد الله الأصبحي روي عن ابن معين توثيقه وتضعيفه وقال ابن المديني : كان عند أصحابنا ضعيفا وقد تكلم فيه غير واحد . ومنها عن أبي هريرة أيضا عند الدارقطني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قرأتم الحمد فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آيها ) قال اليعمري : وجميع رواته ثقات إلا أن نوح ابن أبي بلال الراوي له عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة تردد فيه فرفعه تارة ووقفه أخرى
وقال الحافظ : هذا الإسناد رجاله ثقات وصحح غير واحد من الأئمة وقفه على رفعه وأعله ابن القطان بتردد نوح المذكور وتكلم فيه ابن الجوزي من أجل عبد الحميد بن جعفر فإن فيه مقالا ولكن متابعة نوح له مما تقويه . ومنها عن علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر في المكتوبات ببسم الله الرحمن الرحيم ) أخرجه الدارقطني وفي إسناده جابر الجعفي وإبراهيم بن الحكم بن ظهير وغيرهما ممن لا يعول عليه . ومنها عن علي أيضا بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في صلاته ) أخرجه الدارقطني وقال : هذا إسناد علوي لا بأس به وله طريق أخرى عنده عنه بلفظ : ( أنه سئل عن السبع المثاني فقال الحمد لله رب العالمين قيل إنما هي ست فقال بسم الله الرحمن الرحيم ) وإسناده كلهم ثقات
وقال الحافظ : في الحديث الأول الذي قال إنه لا بأس بإسناده إنه بين ضعيف ومجهول . ومنها عن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة فأراد أن يقرأ قال بسم الله الرحمن الرحيم ) رواه ابن عبد البر قال : ولا يثبت فيه إلا أنه موقوف . ومنها عن جابر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تقرأ إذا قمت في الصلاة قلت : أقرأ الحمد لله رب العالمين قال : قل بسم الله الرحمن الرحيم ) رواه الشيخ أبو الحسن وفي إسناده الجهم بن عثمان قال أبو حاتم : مجهول . ومنها عن سمرة قال : ( كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سكتتان سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وسكتة إذا فرغ من القراءة فأنكر ذلك عمران بن الحصين فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب إن صدق سمرة ) أخرجه الدارقطني وإسناده جيد غير أن الحديث أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما بلفظ : ( سكتة حين يفتتح وسكتة إذا فرغ من السورة ) . ومنها عن أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه و سلم يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم ) أخرجه الدارقطني أيضا وله طريق أخرى عن أنس عند الدارقطني والحاكم بمعناه . ومنها عن أنس أيضا بلفظ : ( سمعت [ ص 221 ] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ) أخرجه الحاكم قال : ورواته كلهم ثقات . ومنها عن عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ) ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي وفي إسناده الحكم بن عبد الله بن سعد وقد تكلم فيه غير واحد
ومنها عن بريدة بن الحصيب بنحو حديث عائشة وفيه جابر الجعفي وليس بشيء وله طريق أخرى فيها سلمة بن صالح وهو ذاهب الحديث . ومنها عن الحكم بن عمر وغيره من طرق لا يعول عليها . ومنها عن ابن عمر قال : ( صليت خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم ) أخرجه الدارقطني قال الحافظ : وفيه أبو طاهر أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي العلوي وقد كذبه أبو حاتم وغيره ومن دونه أيضا ضعيف ومجهول ورواه الخطيب عن ابن عمر من وجه آخر وفيه مسلم بن حبان وهو مجهول قال : والصواب أن ذلك عن ابن عمر غير مرفوع
( فهذه الأحاديث ) فيها القوي والضعيف كما عرفت وقد عارضتها الأحاديث الدالة على ترك البسملة التي قدمناها وقد حملت روايات حديث أنس السابقة على ترك الجهر لا ترك البسملة مطلقا لما في تلك الرواية التي قدمناها في حديثه بلفظ : ( فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم ) وكذلك حملت رواية حديث عبد الله بن مغفل الآتية وغيرهما حملا لما أطلقته أحاديث نفي قراءة البسملة على تلك الرواية المقيدة بنفي الجهر فقط وإذا كان محصل أحاديث نفي البسملة هو نفي الجهر بها فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه
قال الحافظ : لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافي لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدة عشر سنين ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلا يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا فلم يستحضر الجهر بالبسملة فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر انتهى
ويؤيد ما قاله الحافظ من عدم استحضار أنس لذلك ما أخرجه الدارقطني عن أبي سلمة قال : ( سألت أنس بن مالك : أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله الرحمن الرحيم فقال : إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك فقلت : أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في النعلين قال : نعم ) قال [ ص 222 ] الدارقطني : هذا إسناد صحيح وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات قال وكان صيتا يملأ صوته الجامع فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم يجهر وقال بعضهم يخفت ولكنه لا يخفى عليك أن هذه الأحاديث التي استدل بها القائلون بالجهر منها ما لا يدل على المطلوب وهو ما كان فيه ذكر أنها آية من الفاتحة أو ذكر القراءة لها أو ذكر الأمر بقراءتها من دون تقييد بالجهر بها في الصلاة لأنه لا ملازمة بين ذلك وبين المطلوب وهو الجهر بها في الصلاة
وكذلك ما كان مقيدا بالجهر بها دون ذكر الصلاة لأنه لا نزاع في الجهر بها خارج الصلاة
( فإن قلت ) أما ذكر أنها آية أو ذكر الأمر بقراءتها في الصلاة بدون تقييد بالجهر فعدم الاستلزام مسلم وأما ذكر قراءته صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة لها فالظاهر أنه يستلزم الجهر لأن الطريق إلى نقله إنما هي السماع وما يسمع جهر وهو المطلوب
قلت : يمكن أن تكون الطريق إلى ذلك إخباره صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ بها في الصلاة فلا ملازمة . والذي يدل على المطلوب منها هو ما صرح فيه بالجهر بها في الصلاة وهي أحاديث لا ينتهض الاحتجاج بها كما عرفت ولهذا قال الدارقطني إنه لم يصح في الجهر بها حديث ولو سلمنا أن ذكر القراءة في الصلاة يستلزم الجهر بها لم يثبت بذلك مطلوب القائلين بالجهر لأن أنهض الأحاديث الواردة بذلك حديث أبي هريرة المتقدم وقد تعقب باحتمال أن يكون أبو هريرة أشبههم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها على أنه قد رواه جماعة غير نعيم عن أبي هريرة بدون ذكر البسملة كما قال الحافظ في الفتح
وقد جمع القرطبي بما حاصله أن المشركين كانوا يحضرون المسجد فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا إنه يذكر رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم ونزلت { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } قال الحكيم الترمذي : فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة وقد روى هذا الحديث الطبراني في الكبير والأوسط . وعن سعيد بن جبير قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان المشركون يهزؤون بمكاء وتصدية ويقولون محمد يذكر إله اليمامة وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمن فأنزل الله { ولا تجهر بصلاتك } فتسمع المشركين فيهزؤوا بك ولا تخافت عن أصحابك فلا تسمعهم ) رواه ابن جبير [ ص 223 ] عن ابن عباس ذكره النيسابوري في التيسير وهذا جمع حسن إن صح أن هذه كان السبب في ترك الجهر . وقد قال في مجمع الزوائد : إن رجاله موثقون
وقد ذكر ابن القيم في الهدي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفيها أكثر مما جهر بها ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائما في كل يوم وليلة خمس مرات أبدا حضرا وسفرا ويخفي ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الأعصار الفاضلة هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية فصحيح تلك الأحاديث غير صريح وصريحها غير صحيح انتهى
وحجج بقية الأقوال التي فيها التفصيل في الجهر والإسرار وجواز الأمرين مأخوذة من هذه الأدلة فلا نطول بذكرها . وأما أدلة المثبتين لقرآنية البسملة والنافين لقرآنيتها فيأتي ذكر طرف منها في الباب الذي بعد هذا . وهذه المسألة طويلة الذيل وقد أفردها جماعة من أكابر العلماء بتصانيف مستقلة ( 1 ) ومن آخر ما وقع رسالة جمعتها في أيام الطلب مشتملة على نظم ونثر أجبت بها على سؤال ورد وأجاب عنه جماعة من علماء العصر فلنقتصر في هذا الشرح على هذا المقدار وإن كان بالنسبة إلى ما في المسألة من التطويل نزرا يسيرا ولكنه لا يقصر عن إفادة المنصف ما هو الصواب في المسألة وأكثر ما في المقام الاختلاف في مستحب أو مسنون فليس شيء من الجهر وتركه يقدح في الصلاة ببطلان بالإجماع فلا يهولنك تعظيم جماعة من العلماء لشأن هذه المسألة والخلاف فيها ولقد بالغ بعضهم حتى عدها من مسائل الاعتقاد
_________
( 1 ) وقد اطلعت على رسالة لحافظ المغرب الإمام أبي عمر ابن عبد البر سماها الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف في بسم الله الرحمن الرحيم فوجدتها مفيدة نافعة فباشرت بطبعها والحمد لله رب العالمين

2 - وعن ابن عبد الله بن مغفل قال : ( سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال : يا بني إياك والحدث قال : ولم أر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا كان أبغض إليه حدثا في الإسلام منه فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها إذا أنت قرأت فقل الحمد لله رب العالمين )
- رواه الخمسة إلا أبا داود

[ ص 224 ] - الحديث حسنه الترمذي وقد تفرد به الجريري وقد قيل إنه اختلط بآخره وقد توبع عليه الجريري كما سيأتي وهو أيضا من أفراد ابن عبد الله بن مغفل وعليه مداره وذكر أن اسمه يزيد وهو مجهول لا يعرف روي عنه إلا أبو نعامة وقد رواه معمر عن الجريري ورواه إسماعيل بن مسعود عن خالد بن عبد الله الواسطي عن عثمان بن غياث عن أبي نعامة عن ابن عبد الله بن مغفل ولم يذكر الجريري . وإسماعيل هو الجحدري قال أبو حاتم : صدوق وروى عنه النسائي فعثمان بن غياث متابع للجريري وقد وثق عثمان أحمد ويحيى وروى له البخاري ومسلم . وقال ابن خزيمة : هذا الحديث غير صحيح . وقال الخطيب وغيره : ضعيف قال النووي : ولا يرد على هؤلاء الحفاظ قول الترمذي إنه حسن انتهى
وسبب تضعيف هذا الحديث ما ذكرناه من جهالة ابن عبد الله بن مغفل والمجهول لا تقوم به حجة . قال أبو الفتح اليعمري : والحديث عندي ليس معللا بغير الجهالة في ابن عبد الله بن مغفل وهي جهالة حالية لا عينية للعلم بوجوده فقد كان لعبد الله بن المغفل سبعة أولا سمى هذا منهم يزيد وما رمى بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا أبا نعامة فحكمه حكم المستور قال : وليس في رواة هذا الخبر من يتهم بكذب فهو جار على رسم الحسن عنده . وأما تعليله بجهالة المذكور فما أراه يخرجه عن رسم الحسن عند الترمذي ولا غيره . وأما قول من قال غير صحيح فكل حسن كذلك
( والحديث ) استدل به القائلون بترك قراءة البسملة في الصلاة والقائلون بترك الجهر بها وقد تقدم الكلام على ذلك
( قال المصنف ) رحمه الله : قوله لا تقلها وقوله لا يقرؤونها أو لا يذكرونها ولا يستفتحون بها أي جهرا بدليل قوله في رواية تقدمت ولا يجهرون بها وذلك يدل على قراءتهم لها سرا انتهى . وقد قدمنا الكلام على ذلك في شرح الحديث الذي قبل هذا

3 - وعن قتادة قال : ( سئل أنس كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم )
- رواه البخاري

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بدون ذكر البسملة وهو يدل على مشروعية قراءة البسملة وعلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمد قراءته في البسملة وغيرها
( وقد استدل به القائلون ) باستحباب الجهر بقراءة البسملة في الصلاة لأن كون قراءته كانت على الصفة التي وصفها أنس تستلزم سماع [ ص 225 ] أنس لها منه صلى الله عليه و سلم خارج الصلاة فظاهره أنه أخبر عن مطلق قراءته صلى الله عليه وآله وسلم ولفظ كانت مشعر بالاستمرار كما تقرر في الأصول فيستفاد منه عموم الأزمان وكونه من لفظ الراوي لا يقدح في ذلك لأن الفرض أنه عدل عارف

4 - وروى ابن جرير عن عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة : ( أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : كان يقطع قراءته آية آية بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي في القراءة ولم يذكر التسمية وقال : غريب وليس إسناده بمتصل وقد أعل الطحاوي الخبر بالانقطاع فقال : لم يسمعه ابن أبي مليكة من أم سلمة واستدل على ذلك برواية الليث عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن مملك عن أم سلمة
قال الحافظ : وهذا الذي أعل به ليس بعلة . فقد رواه الترمذي من طريق ابن أبي مليكة عن أم سلمة بلا واسطة وصححه ورجحه على الإسناد الذي فيه يعلى بن مملك انتهى
وقد عرفت أن الترمذي قال : إنه غريب وليس بمتصل في باب القراءة ورواه في باب فضائل القرآن وصححه هنالك بعد أن رواه عن أبي مليكة عن يعلى بن مملك فلعل التصحيح لأجل الاتصال كما يدل عليه قوله في باب القراءة وليس إسناده بمتصل . وأخرجه الدارقطني عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقطعها آية آية وعدها عد الأعراب وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية ولم يعد عليهم ) قال اليعمري : رواته موثقون وكذا رواه من هذا الوجه ابن خزيمة والحاكم وفي إسناده عمر بن هارون البلخي قال الحافظ : هو ضعيف انتهى . ولكنه قد وثق فقول اليعمري رواته موثقون صحيح
( والحديث ) يدل على أن البسملة آية وقد استدل به من قال باستحباب الجهر بالبسملة في الصلاة لما ذكرناه في شرح الحديث الذي قبله وقد تقدم بسط الكلام على ذلك في أول الباب

باب في البسملة هل هي من الفاتحة وأوائل السور أم لا

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى صلاة [ ص 225 ] لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثا فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام فقال : اقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : قال الله عز و جل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي وقال مرة فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل )
- رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه

- قوله ( خداج ) بكسر الخاء المعجمة قال الخليل الأصمعي وأبو حاتم السجستاني والهروي وآخرون : الخداج النقصان يقال خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج وإن كان تام الخلق وأخدجت إذا ولدته ناقصا وإن كان لتمام الولادة
وقال جماعة من أهل اللغة : خدجت وأخدجت إذا ولدت لغير تمام قالوا فقوله خداج أي ذات خداج
قوله ( اقرأ بها في نفسك ) السائل لأبي هريرة هو أبو السائب أي اقرأها سرا بحيث تسمع نفسك
قوله ( قسمت الصلاة ) قال النووي : قال العلماء المراد بالصلاة الفاتحة سميت بذلك لأنها لا تصح إلا بها والمراد قسمتها من جهة المعنى لأن نصفها الأول تحميد لله وتمجيد وثناء عليه وتفويض إليه والنصف الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقار
قوله ( حمدني وأثنى علي ومجدني ) الحمد الثناء بجميل الفعال والتمجيد الثناء بصفات الجلال والثناء مشتمل على الأمرين ولهذا جاء جوابا للرحمن الرحيم لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية حكى ذلك النووي عن العلماء
قوله ( فوض إلي عبدي ) وجه مطابقة هذا لقوله مالك يوم الدين أن الله تعالى هو المنفرد بالملك ذلك اليوم وبجزاء العباد وحسابهم . والدين الحساب وقيل الجزاء ولا دعوى لأحد ذلك اليوم حقيقة ولا مجازا وأما في الدنيا فلبعض العباد ملك مجازي ويدعي بعضهم دعوى باطلة وكل هذا ينقطع في ذلك اليوم
قوله ( فإذا قال إياك نعبد ) الخ قال القرطبي : إنما قال الله تعالى هذا لأن في ذلك تذلل العبد لله وطلبه الاستعانة منه وذلك يتضمن تعظيم الله وقدرته على ما طلب منه
قوله ( فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم ) إلى آخر السورة إنما كان هذا للعبد لأنه سؤال يعود نفعه إلى العبد وفيه دليل على أن اهدنا وما بعده إلى آخر السورة ثلاث آيات لا آيتان وفي المسألة خلاف مبني على أن البسملة من الفاتحة أم لا وقد تقدم بسطه
( والحديث ) [ ص 227 ] يدل على أنها ليست من الفاتحة لأن الفاتحة سبع آيات بالإجماع فثلاث في أولها ثناء أولها الحمد لله . وثلاث دعاء أولها اهدنا الصراط المستقيم والرابعة متوسطة وهي إياك نعبد وإياك نستعين ولم تذكر البسملة في الحديث ولو كانت منها لذكرت . قال النووي : وهو من أوضح ما احتجوا به قال : وأجاب أصحابنا وغيرهم ممن يقول أن البسملة آية من الفاتحة بأجوبة أحدها أن التنصيف عائد إلى جملة الصلاة لا إلى الفاتحة هذا حقيقة اللفظ . والثاني أن التنصيف عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة . والثالث معناه فإذا انتهى العبد في قراءته إلى الحمد لله رب العالمين فحينئذ تكون القسمة انتهى . ولا يخفى أن هذه الأجوبة منها ما هو غير نافع ومنها ما هو متعسف
( والحديث ) أيضا يدل على وجوب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة وإليه ذهب الجمهور وسيأتي البحث عن ذلك في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله . وأما الاستدلال بهذا الحديث على ترك الجهر في الصلاة بالبسملة فليس بصحيح قال اليعمري : لأن جماعة ممن يرى الجهر بها لا يعتقدونها قرآنا بل هي من السنن عندهم كالتعوذ والتأمين وجماعة ممن يرى الإسرار يعتقدونها قرآنا ولهذا قال النووي : إن مسألة الجهر ليست مرتبة على إثبات مسألة البسملة وكذلك احتجاج من احتج بأحاديث عدم قراءتها على أنها ليست بآية لما عرفت

2 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي

- الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححه وحسنه الترمذي وأعله البخاري في التاريخ الكبير بأن عباسا الجشمي لا يعرف سماعه من أبي هريرة ولكن ذكره ابن حبان في الثقات وله شاهد من حديث ثابت عن أنس رواه الطبراني في الكبير بإسناد صحيح
( والحديث ) استدل به من قال إن البسملة ليست من القرآن وقد تقدم ذكر أهل هذه المقالة في الباب الأول وإنما استدلوا به لأن سورة تبارك ثلاثون آية بالإجماع بدون التسمية ولهذا قال المصنف ولا يختلف العادون أنها ثلاثون آية بدون التسمية انتهى . وأجيب عن ذلك بأن المراد عدد ما هو خاصة السورة لأن البسملة كالشيء بالمشترك فيه وكذا الجواب عما روي عن أبي هريرة أن سورة الكوثر ثلاث آيات

3 - وعن أنس قال : ( بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا له : ما أضحكك يا رسول الله فقال : نزلت [ ص 228 ] علي آنفا سورة فقرأ : { بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر } ثم قال : أتدرون ما الكوثر ) قال وذكر الحديث
- رواه أحمد ومسلم والنسائي

- تمام الحديث ( قلنا : الله ورسوله أعلم قال : إنه نهر وعدنيه ربي عز و جل عليه خير كثير وهو حوض يرد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي فيقول ما تدري ما أحدث بعدك ) هذا الحديث من جملة أدلة من أثبت البسملة وقد تقدم ذكرهم . ومن أدلتهم على إثباتها ما ثبت في المصاحف منها بغير تمييز كما ميزوا أسماء السور وعدد الآي بالحمرة أو غيرها مما يخالف صورة المكتوب قرآنا
( وأجاب عن ذلك القائلون ) بأنها ليست من القرآن أنها ثبتت للفصل بين السور وتخلص القائلون بإثباتها عن هذا الجواب بوجوه : الأول هذا تغرير ولا يجوز ارتكابه لمجرد الفصل . الثاني لو كان للفصل لكتبت بين براءة والأنفال ولما كتبت في أول الفاتحة . الثالث أن الفصل كان ممكنا بتراجم السور كما حصل بين براءة والأنفال
ومن جملة حجج المثبتين ما تقدم من الأحاديث المصرحة بأنها آية من الفاتحة وأجاب من لم يثبتها بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ولا تواتر لا سيما مع ورود الأدلة الدالة على أنها ليست بقرآن كحديثي أبي هريرة المتقدم ذكرهما في هذا الباب وحديث إتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله { اقرأ باسم ربك الذي خلق } رواه البخاري ومسلم وسائر الأحاديث المتقدمة في الباب الأول . وبإجماع أهل العدد على ترك عدها آية من غير الفاتحة وتخلص المثبتون عن قولهم لا يثبت القرآن إلا بالتواتر بوجهين : الأول أن إثباتها في المصحف في معنى التواتر وقد صرح عضد الدين أن الرسم دليل علمي . الثاني أن التواتر إنما يشترط فيما يثبت قرآنا على سبيل القطع فأما ما ثبت قرآنا على سبيل الحكم فلا والبسملة قرآن على سبيل الحكم
( ومن جملة ) ما أجيب به أن عدم تواترها ممنوع لأن بعض القراء السبعة أثبتها والقراآت السبع متواترة فيلزم تواترها والاختلاف لا يستلزم عدم التواتر فكثيرا ما يقع لبعض الباحثين ولا يقع لمن لم يبحث كل البحث ومحل البحث الأصول فمن رام الاستيفاء فليراجع مطولاته

4 - وعن ابن عباس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم )
- رواه أبو داود

[ ص 229 ] - الحديث أخرجه أيضا الحاكم وصححه على شرطهما . وقد رواه أبو داود في المراسيل عن سعيد بن جبير وقال : المرسل أصح . وقال الذهبي في تلخيص المستدرك بعد أن ذكر الحديث عن ابن عباس : أما هذا فثابت . وقال الهيثمي : رواه البزار بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح
( والحديث ) استدل به القائلون بأن البسملة من القرآن وقد تقدم ذكرهم وهو ينبني على تسليم أن مجرد تنزيل البسملة يستلزم قرآنيتها

باب وجوب قراءة الفاتحة

1 - عن عبادة بن الصامت : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )
- رواه الجماعة . وفي لفظ : ( لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) رواه الدارقطني وقال : إسناده صحيح

- الحديث زاد فيه مسلم وأبو داود وابن حبان لفظ ( فصاعدا ) لكن قال ابن حبان : تفرد بها معمر عن الزهري وأعلها البخاري في جزء القراءة ورواية الدارقطني صححها ابن القطان ولها شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما
ولأحمد بلفظ : ( لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن ) وفي الباب عن أنس عند مسلم والترمذي . وعن أبي قتادة عند أبي داود والنسائي . وعن عبد الله بن عمر عند ابن ماجه . وعن أبي سعيد عند أحمد وأبي داود وابن ماجه . وعن أبي الدرداء عند النسائي وابن ماجه . وعن جابر عند ابن ماجه . وعن علي عند البيهقي . وعن عائشة وأبي هريرة وسيأتيان إن شاء الله تعالى . وعن عبادة وسيأتي في الباب الذي بعد هذا
( والحديث ) يدل على تعين فاتحة الكتاب في الصلاة وأنه لا يجزئ غيرها وإليه ذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وهو مذهب العترة لأن النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات إن أمكن انتفاؤها وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة لا إلى الكمال لأن الصحة أقرب المجازين والكمال أبعدهما والحمل على أقرب المجازين واجب . وتوجه النفي ههنا إلى الذات ممكن كما قال الحافظ في الفتح لأن المراد بالصلاة معناها الشرعي لا اللغوي لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية وإذا كان [ ص 230 ] المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات لأن المركب كما ينتفي جميع أجزائه ينتفي بانتفاء بعضها فلا يحتاج إلى إضمار الصحة ولا الإجزاء ولا الكمال كما روي عن جماعة لأنه إنما يحتاج إليه عند الضرورة وهي عدم إمكان انتفاء الذات ولو سلم أن المراد هنا الصلاة اللغوية فلا يمكن توجه النفي إلى ذاتها لأنها قد وجدت في الخارج كما قاله البعض لكان المتعين توجيه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال أما أولا فلما ذكرنا من أن ذلك أقرب المجازين وأما ثانيا فلرواية الدارقطني المذكورة في الحديث فإنها مصرحة بالإجزاء فيتعين تقديره . إذا تقرر هذا فالحديث صالح للاحتجاج به على أن الفاتحة من شروط الصلاة لا من واجباتها فقط لأن عدمها قد استلزم عدم الصلاة وهذا شأن الشرط
وذهبت الحنفية وطائفة قليلة إلى أنها لا تجب بل الواجب آية من القرآن هكذا قال النووي والصواب ما قال الحافظ أن الحنفية يقولون بوجوب قراءة الفاتحة لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة والذي لا تتم الصلاة إلا به فرض والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن وقد قال تعالى { فاقرؤوا ما تيسر منه } فالفرض قراءة ما تيسر وتعين الفاتحة إنما يثبت بالحديث فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزئ الصلاة بدونه وهذا تعويل على رأي فاسد حاصله رد كثير من السنة المطهرة بلا برهان ولا حجة نيرة فكم موطن من المواطن يقول فيه الشارع لا يجزئ كذا لا يقبل كذا لا يصح كذا ويقول المتمسكون بهذا الرأي يجزئ ويقبل ويصح ولمثل هذا حذر السلف من أهل الرأي
( ومن جملة ) ما أشادوا به هذه القاعدة أن الآية مصرحة بما تيسر وهو تخيير فلو تعينت الفاتحة لكان التعيين نسخا للتخيير والقطعي لا ينسخ بالظني فيجب توجيه النفي إلى الكمال وهذه الكلية ممنوعة والسند ما تقدم من تحول أهل قبا إلى الكعبة بخبر واحد ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل مدحهم كما تقدم ذلك في باب الاستقبال ولو سلمت لكان محل النزاع خارجا عنها لأن المنسوخ إنما هو استمرار التخيير وهو ظني وأيضا الآية نزلت في قيام الليل فليست مما نحن فيه
وأما قولهم إن الحمل على توجه النفي إلى الصحة إثبات للغة بالترجيح وإن الصحة عرف متجدد لأهل الشرع فلا يحمل خطاب الشارع عليه وإن تصحيح الكلام ممكن بتقدير الكمال فيكفي لأن الواجب التقدير بحسب الحاجة فيرده تصريح الشارع بلفظ الإجزاء وكونه من إثبات اللغة بالترجيح بل هو من إلحاق الفرد المجهول بالأعم [ ص 231 ] الأغلب المعلوم
ومن جملة ما استظهروا به على توجه النفي إلى الكمال أن الفاتحة لو كانت فرضا لوجب تعلمها واللازم باطل فالملزوم مثله لما في حديث المسيء صلاته بلفظ : ( فإن كان معك قرآن وإلا فاحمد الله وكبره وهلله ) عند النسائي وأبي داود والترمذي وهذا ملتزم فإن أحاديث فرضيتها تستلزم وجوب تعلمها لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب كما تقرر في الأصول . وما في حديث المسيء لا يدل على بطلان اللازم لأن ذلك فرضه حين لا قرآن معه على أنه يمكن تقييده بعدم الاستطاعة لتعلم القرآن كما في حديث ابن أبي أوفى عند أبي داود والنسائي وأحمد وابن الجارود وابن حبان والحاكم والدارقطني : ( أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزيني في صلاتي فقال : قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ) ولا شك أن غير المستطيع لا يكلف لأن الاستطاعة شرط في التكليف فالعدول ههنا إلى البدل عنه تعذر المبدل غير قادح في فرضيته أو شرطيته
( ومن أدلتهم ) ما في حديث المسيء بلفظ : ( ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ) والجواب عنه أنه قد ورد في حديث المسيء أيضا عند أحمد وأبي داود وابن حبان بلفظ : ( ثم اقرأ بأم القرآن ) فقوله ما تيسر مجمل مبين أو مطلق مقيد أو مبهم مفسر بذلك لأن الفاتحة كانت هي المتيسرة لحفظ المسلمين لها وقد قيل إن المراد بما تيسر فيما زاد على الفاتحة جمعا بين الأدلة لأن حديث الفاتحة زيادة وقعت غير معارضة وهذا حسن . وقيل إن ذلك منسوخ بحديث تعيين الفاتحة وقد تعقب القول بالإجمال والإطلاق والنسخ والظاهر الإبهام والتفسير وهذا الكلام إنما يحتاج إليه على القول بأن حديث المسيء يصرف ما ورد في غيره من الأدلة المقتضية للفرضية . وأما على القول بأنه يؤخذ بالزائد فالزائد فلا إشكال في تحتم المصير إلى القول بالفرضية بل القول بالشرطية لما عرفت
ومن أدلتهم أيضا حديث أبي سعيد بلفظ : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها ) قال ابن سيد الناس : لا يدري بهذا اللفظ من أين جاء وقد صح عن أبي سعيد عند أبي داود أنه قال : ( أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر ) وإسناده صحيح ورواته ثقات ومن أدلتهم أيضا حديث أبي هريرة عند أبي داود بلفظ : ( لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب ) ويجاب بأنه من رواية جعفر بن ميمون وليس بثقة كما قال النسائي
وقال أحمد : ليس بقوي في الحديث وقال ابن عدي : يكتب حديثه في الضعفاء وأيضا قد روى أبو داود هذا [ ص 232 ] الحديث من طريقه عن أبي هريرة بلفظ : ( أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد ) كما سيأتي وليست الرواية الأولى بأولى من هذه وأيضا أين تقع هذه الرواية على فرض صحتها بجنب الأحاديث المصرحة بفرضية فاتحة الكتاب وعدم إجزاء الصلاة بدونها
( ومن أدلتهم ) أيضا ما روى ابن ماجه عن ابن عباس أنه لما مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر حديث صلاة أبي بكر بالناس ومجيء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم وفيه : ( فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والناس يأتمون بأبي بكر قال ابن عباس : وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر ) ويجاب عنه بأنه روي بإسناد فيه قيس بن الربيع قال البزار : لا نعلم روي هذا الكلام إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد وقيس قال ابن سيد الناس : هو ممن اعتراه من ضعف الرواية وسوء الحفظ بولاية القضاء ما اعترى ابن أبي ليلى وشريكا وقد وثقه قوم وضعفه آخرون على أنه لا مانع من قراءته صلى الله عليه وآله وسلم للفاتحة بكمالها في غير هذه الركعة التي أدرك أبا بكر فيها لأن النزاع إنما هو في وجوب الفاتحة في جملة الصلاة لا في وجوبها في كل ركعة فسيأتي هذا خلاصة ما في هذه المسألة من المعارضات
( وقد استدل ) بهذا الحديث على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة بناء على أن الركعة تسمى صلاة وفيه نظر لأن قراءتها في ركعة واحدة تقتضي حصول مسمى القراءة في تلك الصلاة والأصل عدم وجوب الزيادة على المرة الواحدة وإطلاق اسم الكل على البعض مجاز لا يصار إليه إلا لموجب فليس في الحديث إلا أن الواجب في الصلاة التي هي اسم لجميع الركعات قراءة الفاتحة مرة واحدة فإن دل دليل خارجي على وجوبها في كل ركعة وجب المصير إليه وقد نسب القول بوجوب الفاتحة في كل ركعة النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح إلى الجمهور
ورواه ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن علي وجابر وعن ابن عون والأوزاعي وأبي ثور قال : وإليه ذهب أحمد وداود وبه قال مالك إلا في الناسي وإليه ذهب الإمام شرف الدين من أهل البيت
قال المهدي في البحر : إن الظاهر مع من ذهب إلى إيجابها في كل ركعة واستدلوا أيضا على ذلك بما وقع عند الجماعة واللفظ للبخاري من قوله صلى الله عليه و سلم للمسيء : ( ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ) بعد أن أمره بالقراءة وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته أنه قال في آخره : ( ثم افعل ذلك في كل ركعة ) وقد نسب صاحب ضوء النهار هذه الرواية إلى [ ص 233 ] البخاري من حديث أبي قتادة وهو وهم والذي في البخاري عن أبي قتادة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب ) وهذا الدليل إذا ضممته إلى ما أسلفنا لك من حمل قوله في حديث المسيء ( ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ) على الفاتحة لما تقدم انتهض ذلك للاستدلال به على وجوب الفاتحة في كل ركعة وكان قرينة لحمل قوله في حديث المسيء : ( ثم كذلك في كل صلاتك فافعل ) على المجاز وهو الركعة وكذلك حمل : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) عليه . ويؤيد وجوب الفاتحة في كل ركعة حديث أبي سعيد عند ابن ماجه بلفظ : ( لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها ) . قال الحافظ : وإسناده ضعيف . وحديث أبي سعيد أيضا بلفظ : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة ) رواه إسماعيل بن سعيد الشاكنجي قال ابن عبد الهادي في التفتيح : رواه إسماعيل هذا هو صاحب الإمام أحمد من حديث عبادة وأبي سعيد بهذا اللفظ وظاهر هذه الأدلة وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من غير فرق بين الإمام والمأموم وبين إسرار الإمام وجهره وسيأتي الكلام على ذلك
( ومن جملة المؤيدات ) لوجوب الفاتحة في كل ركعة ما أخرجه مالك في الموطأ والترمذي وصححه عن جابر أنه قال : ( من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام ) وذهب الحسن البصري والهادي والمؤيد بالله وداود وإسحاق إلى أن الواجب في الصلاة قراءة الفاتحة وقرآن معها مرة واحدة في أي ركعة أو مفرقة . وقال زيد بن علي والناصر : إن الواجب القراءة في الأوليين وكذا قال أبو حنيفة لكن من غير تخصيص للفاتحة كما سلف عنه . وأما الأخريان فلا تتعين القراءة فيهما عندهم بل إن شاء قرأ وإن شاء سبح زاد أبو حنيفة وإن شاء سكت
( واحتج القائلون ) بوجوب الفاتحة مرة واحدة بالأحاديث المذكورة في الباب فإن المعنى الحقيقي للصلاة هو جميعها لا بعضها
وقد عرفت الجواب عن ذلك واحتج من قال بوجوبها في الأوليين فقط بما روي عن علي عليه السلام أنه قرأ في الأوليين وسبح في الآخريين وقد اختلف القائلون بتعيين الفاتحة في كل ركعة هل تصح صلاة من نسيها فذهبت الشافعية وأحمد بن حنبل إلى عدم الصحة وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن نسيها في ركعة من صلى ركعتين فسدت صلاته وإن نسيها في ركعة من صلى ثلاثية أو رباعية فروي عنه أنه يعيدها ولا تجزئه وروي عنه أنه يسجد سجدتي السهو وروي عنه أنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام . ومقتضى الشرطية التي نبهناك [ ص 234 ] على صلاحية الأحاديث للدلالة عليها أن الناسي يعيد الصلاة كمن صلى بغير وضوء ناسيا واختلف هل تجب القراءة بزيادة على الفاتحة أو لا وسيأتي تحقيقه

2 - وعن عائشة قالت : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج )
- رواه أحمد وابن ماجه . وقد سبق مثله من حديث أبي هريرة

- الحديث أخرجه ابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة . ومحمد بن إسحاق فيه مقال مشهور ولكن يشهد لصحته حديث أبي هريرة المتقدم الذي أشار إليه المصنف عند الجماعة إلا البخاري بلفظ : ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ) وتقدم هنالك أيضا ضبط الخداج وتفسيره ويشهد له أيضا ما أخرجه البيهقي عن علي عليه السلام مرفوعا بلفظ : ( كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج )
( والحديث ) احتج به الجمهور القائلون بوجوب قراءة الفاتحة وأجاب القائلون بعدم الوجوب عنه بأن الخداج معناه النقص وهو لا يستلزم البطلان ورد بأن الأصل أن الصلاة الناقصة لا تسمى صلاة حقيقية وقد تقدم الكلام على بقية الأدلة في المسألة

3 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يخرج فينادي لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث أخرجه أبو داود من طريق جعفر بن ميمون . وقد تقدم أن النسائي قال : ليس بثقة وأحمد قال : ليس بقوي وابن عدي قال : يكتب حديثه في الضعفاء . ولكنه يشهد لصحته ما عند مسلم وأبي داود وابن حبان من حديث عبادة بن الصامت بلفظ : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا ) وإن كان قد أعلها البخاري في جزء القراءة كما تقدم
ويشهد له أيضا حديث أبي سعيد عند أبي داود بلفظ : ( أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر ) قال ابن سيد الناس : وإسناده صحيح ورجاله ثقات . وقال الحافظ : إسناده صحيح ويشهد له أيضا حديث أبي سعيد عند ابن ماجه بلفظ : ( لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة ) وقد تقدم تضعيف الحافظ له
( وهذه الأحاديث ) لا تقصر عن الدلالة على وجوب قرآن مع الفاتحة ولا خلاف في استحباب قراءة السورة مع الفاتحة في صلاة الصبح والجمعة والأوليين من كل الصلوات . قال النووي : إن ذلك سنة عند جميع [ ص 235 ] العلماء وحكى القاضي عياض عن بعض أصحاب مالك وجوب السورة . قال النووي : وهو شاذ مردود
وأما السورة في الركعة الثالثة والرابعة فكره ذلك مالك واستحبه الشافعي في قوله الجديد دون القديم . وقد ذهب إلى إيجاب قرآن مع الفاتحة عمر وابنه عبد الله وعثمان بن أبي العاص والهادي والقاسم والمؤيد بالله كذا في البحر
وقدره الهادي بثلاث آيات قال القاسم والمؤيد بالله أو آية طويلة والظاهر ما ذهبوا إليه من إيجاب شيء من القرآن وأما التقدير بثلاث آيات فلا دليل عليه إلا توهم أنه لا يسمى ما دون ذلك قرآنا لعدم إعجازه كما قال المهدي في البحر وهو فاسد لصدق القرآن على القليل والكثير لأنه جنس وأيضا المراد ما يسمى قرآنا معجزا ولا تلازم بينهما وكذلك التقدير بالآية الطويلة . نعم لو كان حديث أبي سعيد المصرح فيه بذكر السورة صحيحا لكان مفسرا للمبهم في الأحاديث من قوله ( فما زاد ) وقوله ( فصاعدا ) وقوله ( وما تيسر ) ولكان دالا على وجوب الفاتحة وسورة في كل ركعة ولكنه ضعيف كما عرفت
وقد عورضت هذه الأحاديث بما في البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أنه قال في كل صلاة يقرأ فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت وإن زدت فهو خير
ولكن الظاهر من السياق أن قوله وإن لم تزد الخ ليس مرفوعا ولا مما له حكم الرفع فلا حجة فيه . وقد أخرج أبو عوانة هذا الحديث كرواية الشيخين إلا أنه زاد في آخره وسمعته يقول : ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) قال الحافظ في الفتح : وظاهر سياقه أن ضمير سمعته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون مرفوعا بخلاف رواية الجماعة ثم قال نعم
قوله ( ما أسمعنا وما أخفى عنا ) يشعر بأن جميع ما ذكره متلقى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون للجميع حكم الرفع اه
وهذا الإشعار في غاية الخفاء باعتبار جميع الحديث فإن صح جمع بينه وبين الأحاديث المصرحة بزيادة ما تيسر من القرآن بحملها على الاستحباب . وقد قيل إن المراد بقوله فصاعدا دفع توهم حصر الحكم على الفاتحة كذا قال الحافظ وهو معنى ما قال البخاري في جزء القراءة إن قوله فصاعدا نظير قوله ( تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ) قال الحافظ في الفتح : وادعى ابن حبان والقرطبي وغيرهما الإجماع على عدم وجوب قدر زائد على الفاتحة وفيه نظر لثبوته عن بعض الصحابة وغيرهم اه

باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته إذا سمع إمامه . [ ص 236 ]

1 - عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا )
- رواه الخمسة إلا الترمذي . وقال مسلم : هو صحيح

- زيادة قوله ( وإذا قرأ فأنصتوا ) قال أبو داود : ليست بمحفوظة والوهم عندنا من أبي خالد . قال المنذري : وفيما قاله نظر فإن أبا خالد هذا هو سليمان بن حبان الأحمر وهو من الثقات الذين احتج البخاري ومسلم بحديثهم في صحيحيهما ومع هذا فلم يتفرد بهذه الزيادة بل قد تابعه عليها أبو سعيد محمد بن سعد الأنصاري الأشهلي المدني نزيل بغداد
وقد سمع من ابن عجلان وهو ثقة وثقه يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله المخرمي وأبو عبد الرحمن النسائي وقد أخرج هذه الزيادة النسائي في سننه من حديث أبي خالد الأحمر ومن حديث محمد بن سعد وقد أخرج مسلم في الصحيح هذه الزيادة في حديث أبي موسى الأشعري من حديث جرير بن عبد الحميد عن سليمان التيمي عن قتادة وقال الدارقطني : هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي فيها عن قتادة وخالفه الحفاظ فلم يذكروها قال : وإجماعهم على مخالفته يدل على وهمه
قال المنذري : ولم يؤثر عند مسلم تفرد سليمان بذلك لثقته وحفظه وصحح هذه الزيادة يعني مسلما قال أبو إسحاق صاحب مسلم : قال أبو بكر ابن أخت أبي النصر : في هذا الحديث لمسلم أي طعن فيه فقال مسلم : يزيد أحفظ من سليمان فقال أبو بكر : فحديث أبي هريرة هو صحيح يعني ( فإذا قرأ فأنصتوا ) فقال : هو عندي صحيح فقال : لم لم تضعه ههنا فقال : ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه فقد صحح مسلم هذه الزيادة من حديث أبي موسى الأشعري ومن حديث أبي هريرة
قوله ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) معناه أن الإئتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه فلا يجوز له المقارنة والمسابقة والمخالفة إلا ما دل الدليل الشرعي عليه كصلاة القائم خلف القاعد ونحوها . وقد ورد النهي عن الاختلاف بخصوصه بقوله ( لا تختلفوا )
قوله ( فكبروا ) جزم ابن بطال وابن دقيق العيد بأن الفاء للتعقيب ومقتضاه الأمر بأن أفعال المأموم تقع عقب فعل الإمام فلو سبقه بتكبيرة الإحرام له لم تنعقد صلاته وتعقب القول بالتعقيب بأن فاءه هي العاطفة وأما التي هنا فهي للربط [ ص 237 ] فقط لأنها وقعت جوابا للشرط فعلى هذا لا يقتضي تأخر أفعال المأموم عن الإمام إلا على القول بتقدم الشرط على الجزاء . وقد قال قوم : إن الجزاء يكون مع الشرط فينبغي على هذا المقارنة
قوله ( وإذا قرأ فأنصتوا ) احتج بذلك القائلون أن المؤتم لا يقرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية وهم زيد بن علي والهادي والقاسم وأحمد بن عيسى وعبيد الله بن الحسن العنبري وإسحاق بن راهويه وأحمد ومالك والحنفية لكن الحنفية قالوا لا يقرأ خلف الإمام لا في سرية ولا جهرية واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن شداد الآتي وهو ضعيف لا يصلح للاحتجاج به كما ستعرف ذلك
( واستدل القائلون ) أن المؤتم لا يقرأ خلف الإمام في الجهرية بقوله تعالى { فاستمعوا له وأنصتوا } وبحديث أبي هريرة الآتي ذهب الشافعي وأصحابه إلى وجوب قراءة الفاتحة على المؤتم من غير فرق بين الجهرية والسرية سواء سمع المؤتم قراءة الإمام أم لا وإليه ذهب الناصر من أهل البيت واستدلوا على ذلك بحديث عبادة بن الصامت الآتي وأجابوا عن أدلة أهل القول الأول بأنها عمومات وحديث عبادة خاص وبناء العام على الخاص واجب كما تقرر في الأصول وهذا لا محيص عنه . ويؤيده الأحاديث المتقدمة القاضية بوجوب فاتحة الكتاب في كل ركعة من غير فرق بين الإمام والمأموم لأن البراءة عن عهدتها إنما تحصل بناقل صحيح لا بمثل هذه العمومات التي اقترنت بما يجب تقديمه عليها وقد أجاب المهدي في البحر عن حديث عبادة بأنه معارض بحديث ( ما لي أنازع القرآن ) وهي من معارضة العام بالخاص وهو لا يعارضه أما على قول من قال من أهل الأصول أنه يبنى العام على الخاص مطلقا وهو الحق فظاهر وأما على قول من قال إن العام المتأخر عن الخاص ناسخ له وإنما يخصص المقارن والمتأخر بمدة لا تتسع للعمل فكذلك أيضا لأن عبادة روى العام والخاص في حديثه الآتي فهو من التخصيص بالمقارن فلا تعارض في المقام على جميع الأقوال
( ومن جملة ) ما استدل به القائلون بوجوب السكوت خلف الإمام في الجهرية ما تقدم من قول جابر : ( من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام ) وهو مع كونه غير مرفوع مفهوم لا يعارض بمثله منطوق حديث عبادة
( وقد اختلفت ) الشافعية في قراءة الفاتحة هل تكون عند سكتات الإمام أو عند قراءته وظاهر الأحاديث الآتية أنها تقرأ عند قراءة الإمام وفعلها حال سكوت الإمام إن أمكن أحوط لأنه يجوز عند أهل القول الأول فيكون فاعل ذلك آخذا بالإجماع وأما اعتياد [ ص 238 ] قراءتها حال قراءة الإمام للفاتحة فقط أو حال قراءته للسورة فقط فليس عليه دليل بل الكل جائز وسنة نعم حال قراءة الإمام للفاتحة مناسب من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الاستعاذة عن محلها الذي هو بعد التوجه أو تكريرها عند إرادة قراءة الفاتحة إن فعلها في محلها أو لا وأخر الفاتحة إلى حال قراءة الإمام للسورة ومن جهة الاكتفاء بالتأمين مرة واحدة عند فراغه وفراغ الإمام من قراءة الفاتحة إن وقع الاتفاق في التمام بخلاف من أخر قراءة الفاتحة إلى حال قراءة الإمام للسورة وقد بالغ بعض الشافعية فصرح بأنه إذا اتفقت قراءة الإمام والمأموم في آية خاصة من آي الفاتحة بطلت صلاته روى ذلك صاحب البيان من الشافعية عن بعض أهل الوجوه منهم وهو من الفساد بمكان يغني عن رده

2 - وعن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : هل قرأ معي أحد منكم آنفا فقال رجل : نعم يا رسول الله قال : فإني أقول ما لي أنازع القرآن قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجهر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال : حديث حسن

- الحديث أخرجه أيضا مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وابن ماجه وابن حبان وقوله ( فانتهى الناس عن القراءة ) مدرج في الخبر كما بينه الخطيب واتفق عليه البخاري في التاريخ وأبو داود ويعقوب بن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم قال النووي : وهذا مما لا خلاف فيه بينهم
قوله ( ما لي أنازع ) بضم الهمزة للمتكلم وفتح الزاي مضارع ومفعوله الأول مضمر فيه والقرآن مفعوله الثاني قاله شارح المصابيح واقتصر عليه ابن رسلان في شرح السنن . والمنازعة المجاذبة قال صاحب النهاية : أنازع أي أجاذب كأنهم جهروا بالقراءة خلفه فشغلوه فالتبست عليه القراءة وأصل النزع الجذب ومنه نزع الميت بروحه
( والحديث ) استدل به القائلون بأنه لا يقرأ المؤتم خلف الإمام في الجهرية وهو خارج عن محل النزاع لأن الكلام في قراءة المؤتم خلف الإمام سرا والمنازعة إنما تكون مع جهر المؤتم لا مع إسراره وأيضا لو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان هذا الاستفهام الذي للإنكار عاما لجميع القرآن أو مطلقا في جميعه وحديث [ ص 239 ] عبادة خاصا ومقيدا وقد تقدم البحث عن ذلك

3 - وعن عبادة قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرفت قال : إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم قال : قلنا يا رسول الله أي والله قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها )
- رواه أبو داود والترمذي . وفي لفظ : ( فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن ) رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وقال : كلهم ثقات

4 - وعن عبادة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يقرأن أحد منكم شيئا من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن )
- رواه الدارقطني وقال : رجاله كلهم ثقات

- الحديث أخرجه أيضا أحمد والبخاري في جزء القراءة وصححه وابن حبان والحاكم والبيهقي من طريق ابن إسحاق قال : حدثني مكحول عن محمود بن ربيعة عن عبادة وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول
ومن شواهده ما رواه من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لعلكم تقرؤون والإمام يقرأ قالوا : إنا لنفعل قال : لا إلا بأن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب )
قال الحافظ : إسناده حسن . ورواه ابن حبان من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس وزعم أن الطريقتين محفوظتان وخالفه البيهقي فقال : إن طريق أبي قلابة عن أنس ليست بمحفوظة ومحمد بن إسحاق قد صرح بالتحديث فذهبت مظنة تدليسه وتابعه من تقدم
قوله ( فثقلت عليه القراءة ) أي شق عليه التلفظ والجهر بالقراءة ويحتمل أن يراد به أنها التبست عليه القراءة بدليل ما عند أبي داود من حديث عبادة في رواية له بلفظ : ( فالتبست عليه القراءة )
قوله ( لا تفعلوا ) هذا النهي محمول على الصلاة الجهرية كما في الرواية الأخرى التي ذكرها المصنف بلفظ : ( إذا جهرت به ) وبلفظ : ( إذا جهرت بالقراءة ) وفي رواية لمالك والنسائي وأبي داود والترمذي وحسنها عن أبي هريرة بلفظ : ( فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جهر فيه حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) كما تقدم في الحديث الذي قبل هذا . وفي لفظ للدارقطني : ( إذا أسررت بقراءتي فاقرؤوا وإذا جهرت بقراءتي فلا يقرأ معي أحد )
قوله ( فإنه لا صلاة ) قد تقدم الكلام على ما يقدر في هذا النفي
( والحديث ) استدل به من قال بوجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام وهو الحق وقد تقدم بيان ذلك وظاهر الحديث الإذن بقراءة الفاتحة جهرا لأنه استثنى من النهي عن الجهر خلفه ولكنه أخرج ابن حبان من حديث أنس قال : ( قال [ ص 240 ] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتقرؤون في صلاتكم خلف الإمام والإمام يقرأ فلا تفعلوا وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه )
وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط والبيهقي وأخرجه عبد الرزاق عن أبي قلابة مرسلا وظاهر التقييد بقوله من القرآن يدل على أنه لا بأس بالاستفتاح حال قراءة الإمام بما ليس بقرآن والتعوذ والدعاء
وقد ذهب ابن حزم إلى أن المؤتم لا يأتي بالتوجه وراء الإمام قال : لأن فيه شيئا من القرآن وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرأ خلف الإمام إلا أم القرآن وهو فاسد لأنه إن أراد بقوله لأن فيه شيئا من القرآن كل توجه فقد عرفت مما سلف أن أكثرها مما لا قرآن فيه وإن أراد خصوص توجه علي رضي الله عنه الذي فيه وجهت وجهي إلى آخره فليس محل النزاع هذا التوجه الخاص ولكنه ينبغي لمن صلى خلف إمام يتوجه قبل التكبيرة كالهادوية أو دخل في الصلاة حال قراءة الإمام أن يأتي بأخصر التوجهات ليتفرغ لسماع قراءة الإمام . ويمكن أن يقال لا يتوجه بشيء من التوجهات من صلى خلف إمام لا يتوجه بعد التكبيرة لأن عمومات القرآن والسنة قد دلت على وجوب الإنصات والاستماع والمتوجه حال قراءة الإمام للقرآن غير منصت ولا مستمع وإن لم يكن تاليا للقرآن إلا عند من يجوز تخصيص مثل هذا العموم بمثل ذلك المفهوم أعني مفهوم قوله من القرآن هذا هو التحقيق في المقام
( فائدة ) قد عرفت مما سلف وجوب الفاتحة على كل إمام ومأموم في كل ركعة وعرفناك أن تلك الأدلة صالحة للاحتجاج بها على أن قراءة الفاتحة من شروط صحة الصلاة فمن زعم أنها تصح صلاة من الصلوات أو ركعة من الركعات بدون فاتحة الكتاب فهو محتاج إلى إقامة برهان يخصص تلك الأدلة
ومن ههنا يتبين لك ضعف ما ذهب إليه الجمهور أن من أدرك الإمام راكعا دخل معه واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئا من القراءة واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة : ( من أدرك الركوع من الركعة الأخيرة في صلاته يوم الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى ) رواه الدارقطني من طريق ياسين بن معاذ وهو متروك
وأخرجه الدارقطني بلفظ : ( إذا أدرك أحدكم الركعتين يوم الجمعة فقد أدرك وإذا أدرك ركعة فليركع إليها أخرى ) ولكنه رواه من طريق سليمان بن داود الحراني ومن طريق صالح بن أبي الأخضر وسليمان متروك وصالح ضعيف على أن التقييد بالجمعة في كلا الروايتين مشعر بأن غير الجمعة بخلافها وكذا التقييد بالركعة في الرواية الأخرى يدل على خلاف المدعى [ ص 241 ] لأن الركعة حقيقة لجميعها وإطلاقها على الركوع وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة كما وقع عند مسلم من حديث البراء بلفظ : ( فوجدت قيامه فركعته فاعتداله فسجدته ) فإن وقوع الركعة في مقابلة القيام والاعتدال والسجود قرينة تدل على أن المراد بها الركوع
وقد ورد حديث : ( من أدرك ركعة من صلاة الجمعة ) بألفاظ لا تخلو طرقها عن مقال حتى قال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه : لا أصل لهذا الحديث إنما المتن : ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها ) وكذا قال القرطبي والعقيلي . وأخرجه ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ : ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه ) وليس في ذلك دليل لمطلوبهم لما عرفت من أن مسمى الركعة جميع أذكارها وأركانها حقيقة شرعية وعرفية وهما مقدمتان على اللغوية كما تقرر في الأصول فلا يصح جعل حديث ابن خزيمة وما قبله قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي
( فإن قلت ) فأي فائدة على هذا في التقليد بقوله ( قبل أن يقيم صلبه ) قلت دفع توهم أن من دخل مع الإمام ثم قرأ الفاتحة وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك . إذا تقرر لك هذا علمت أن الواجب الحمل على الإدراك الكامل للركعة الحقيقية لعدم وجود ما تحصل به البراءة من عهدة أدلة وجوب القيام القطعية وأدلة وجوب الفاتحة
وقد ذهب إلى هذا بعض أهل الظاهر وابن خزيمة وأبو بكر الضبعي روى ذلك ابن سيد الناس في شرح الترمذي وذكر فيه حاكيا عمن روى عن ابن خزيمة أنه احتج لذلك بما روي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من أدرك الإمام في الركوع فليركع معه وليعد الركعة ) وقد رواه البخاري في القراءة خلف الإمام من حديث أبي هريرة أنه قال : ( إن أدركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة ) قال الحافظ : وهذا هو المعروف عن أبي هريرة موقوفا . وأما المرفوع فلا أصل له وقال الرافعي تبعا للإمام : إن أبا عاصم العبادي حكى عن ابن خزيمة أنه احتج به وقد حكى هذا المذهب البخاري في القراءة خلف الإمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام وحكاه في الفتح عن جماعة من الشافعية وقواه الشيخ تقي الدين السبكي وغيره من محدثي الشافعية ورجحه المقبلي . قال : وقد بحثت هذه المسألة وأحطتها في جميع بحثي فقها وحديثا فلم أحصل منها على غير ما ذكرت يعني من عدم الاعتداد بإدراك الركوع فقط
قال العراقي في شرح الترمذي بعد أن حكى عن شيخه السبكي أنه كان يختار أنه لا يعتد بالركعة من لا يدرك الفاتحة ما لفظه : وهو الذي يختاره اه . فالعجب [ ص 242 ] ممن يدعي الإجماع والمخالف مثل هؤلاء
وأما احتجاج الجمهور بحديث أبي بكرة حيث صلى خلف الصف مخافة أن تفوته الركعة فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( زادك الله حرصا ولا تعد ) ولم يؤمر بإعادة الركعة فليس فيها ما يدل على ما ذهبوا إليه لأنه كما لم يأمره بالإعادة لم ينقل إلينا أنه اعتد بها . والدعاء له بالحرص لا يستلزم الاعتداد بها لأن الكون مع الإمام مأمور به سواء كان الشيء الذي يدركه المؤتم معتدا به أم لا كما في حديثه : ( إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ) أخرجه أبو داود وغيره على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى أبا بكر عن العود إلى مثل ذلك
والاحتجاج بشيء قد نهي عنه لا يصح وقد أجاب ابن حزم في المحلى عن حديث أبي بكرة فقال : إنه لا حجة لهم فيه لأنه ليس فيه اجتزاء بتلك الركعة ثم استدل على ما ذهب إليه من أنه لا بد في الاعتداد بالركعة من إدراك القيام والقراءة بحديث : ( ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ) ثم جزم بأنه لا فرق بين فوت الركعة والركن والذكر المفروض لأن الكل فرض لا تتم الصلاة إلا به قال : فهو مأمور بقضاء ما سبقه الإمام وإتمامه فلا يجوز تخصيص شيء من ذلك بغير نص آخر ولا سبيل إلى وجوده قال : وقد أقدم بعضهم على دعوى الإجماع على ذلك وهو كاذب في ذلك لأنه قد روي عن أبي هريرة أنه لا يعتد بالركعة حتى يقرأ أم القرآن وروي القضاء أيضا عن زيد بن وهب ثم قال : فإن قيل أنه يكبر قائما ثم يركع فقد صار مدركا للوقفة قلنا وهذه معصية أخرى وما أمر الله تعالى قط ولا رسوله أن يدخل في الصلاة من غير الحال التي يجد الإمام عليها وأيضا لا يجزئ قضاء شيء يسبق به من الصلاة إلا بعد سلام الإمام لا قبل ذلك . وقال أيضا في الجواب عن استدلالهم بحديث : ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ) : إنه حجة عليهم لأنه مع ذلك لا يسقط عنه قضاء ما لم يدرك من الصلاة انتهى
( والحاصل ) أن أنهض ما احتج به الجمهور في المقام حديث أبي هريرة باللفظ الذي ذكره ابن خزيمة لقوله فيه ( قبل أن يقيم صلبه ) كما تقدم
وقد عرفت أن ذكر الركعة فيه مناف لمطلوبهم وابن خزيمة الذي عولوا عليه في هذه الرواية من القائلين بالمذهب الثاني كما عرفت ومن البعيد أن يكون هذا الحديث عنده صحيحا ويذهب إلى خلافه
( ومن الأدلة ) على ما ذهبنا إليه في هذه المسألة حديث أبي قتادة وأبي هريرة المتفق عليهما بلفظ : ( ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ) قال الحافظ في الفتح : قد استدل بهما على أن من أدرك الإمام راكعا لم يحتسب له تلك الركعة للأمر بإتمام [ ص 243 ] ما فاته لأنه فاته القيام والقراءة فيه ثم قال : وحجة الجمهور حديث أبي بكرة وقد عرفت الجواب عن احتجاجهم به . وقد ألف السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رسالة في هذه المسألة ورجح مذهب الجمهور وقد كتبت أبحاثا في الجواب عليها

5 - وروى عبد الله بن شداد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )
- رواه الدارقطني . وقد روي مسندا من طرق كلها ضعاف والصحيح أنه مرسل

- الحديث قال الدارقطني : لم يسنده عن موسى بن أبي عائشة غير أبي حنيفة والحسن ابن عمارة وهما ضعيفان قال : وروى هذا الحديث سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة وحريث بن عبد الحميد وغيرهم عن موسى ابن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصواب انتهى . قال الحافظ : وهو مشهور من حديث جابر وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة . وقال في الفتح : إنه ضعيف عند جميع الحفاظ وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني
وقد احتج القائلون بأن الإمام يتحمل القراءة عن المؤتم في الجهرية الفاتحة وغيرها والجواب أنه عام لأن القراءة مصدر مضاف وهو من صيغ العموم وحديث عبادة المتقدم خاص فلا معارضة وقد تقدم الكلام على ذلك

6 - وعن عمران بن حصين : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر فجعل رجل يقرأ خلفه سبح اسم ربك الأعلى فلما انصرف قال : أيكم قرأ أو أيكم القارئ فقال الرجل : أنا فقال : لقد ظننت أن بعضكم خالجنيها )
- متفق عليه

- قوله ( خالجنيها ) أي نازعنيها . ومعنى هذا الكلام الإنكار عليه في جهره أو رفع صوته بحيث أسمع غيره لا عن أصل القراءة بل فيه أنهم كانوا يقرؤون بالسورة في الصلاة السرية وفيه إثبات قراءة السورة في الظهر للإمام والمأموم . قال النووي : وهكذا الحكم عندنا ولنا وجه شاذ ضعيف أنه لا يقرأ المأموم السورة في السرية كما لا يقرؤها في الجهرية وهذا غلط لأنه في الجهرية يؤمر بالإنصات وهنا لا يسمع فلا معنى لسكوته من غير استماع ولو كان بعيدا عن الإمام لا يسمع قراءته فالصحيح أنه يقرأ السورة لما ذكرناه انتهى
وظاهر الأحاديث المنع من قراءة ما عدا الفاتحة من القرآن من غير فرق بين أن يسمع المؤتم الإمام أو لا يسمعه لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا [ ص 244 ] جهرت ) يدل على النهي عن القراءة عند مجرد وقوع الجهر من الإمام وليس فيه ولا في غيره ما يشعر باعتبار السماع

باب التأمين والجهر به مع القراءة

1 - عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) وقال ابن شهاب : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول أمين )
- رواه الجماعة إلا أن الترمذي لم يذكر قول ابن شهاب . وفي رواية : ( إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين وإن الإمام يقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه أحمد والنسائي

- وفي الباب عن علي عند ابن ماجه وعن بلال عند أبي داود . وعن أبي موسى عند أبي عوانة . وعن عائشة عند أحمد والطبراني وابن ماجه . وعن ابن عباس عند ابن ماجه أيضا وفي إسناده طلحة بن عمرو وقد تكلم فيه غير واحد من أهل العلم
وعن سلمان عند الطبراني في الكبير وفيه سعيد بن بشير . وعن ابن أم الحصين عند الطبراني في الكبير وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف . وعن أبي هريرة حديث آخر سيأتي وحديث ثالث عند النسائي . وعن وائل ثلاثة أحاديث سيأتي ذكرها في المتن والشرح وذكر الحافظ محمد ابن إبراهيم الوزير رحمه الله أن في الباب أيضا عن أم سلمة وسمرة انتهى . وعن ابن شهاب مرسل كما في حديث الباب وفي الباب أيضا عن علي حديث آخر عند أحمد بن عيسى في الأمالي وعنه موقوف عليه من طريق أبي خالد الواسطي في مجموع زيد بن علي وعنه أيضا موقوف عليه آخر من فعله عند ابن أبي حاتم وقال : هذا عندي خطأ . وعن ابن الزبير من فعله عند الشافعي فهذه سبعة عشر حديثا وثلاثة آثار
قوله ( إذا أمن الإمام ) فيه مشروعية التأمين للإمام وقد تعقب بأن القضية شرطية فلا تدل على المشروعية ورد بأن إذا تشعر بتحقيق الوقوع كما صرح بذلك أئمة المعاني
وقد ذهب مالك إلى أن الإمام لا يؤمن في الجهرية وفي رواية عنه مطلقا . وكذا روي عن أبي حنيفة والكوفيين وأحاديث الباب ترده . وسيأتي منها ما هو أصرح من حديث أبي هريرة في مشروعيته للإمام وظاهر [ ص 245 ] الرواية الأولى من الحديث أن المؤتم يوقع التأمين عند تأمين الإمام وظاهر الرواية الثانية منه أنه يوقعه عند قول الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين
وجمع الجمهور بين الروايتين بأن المراد بقوله ( إذا أمن ) أي أراد التأمين ليقع تأمين الإمام والمأموم معا . قال الحافظ : ويخالفه رواية معمر عن ابن شهاب بلفظ : ( إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين والإمام يقول آمين ) قال : أخرجها النسائي وابن السراج وهي الرواية الثانية من حديث الباب . وقيل المراد بقوله ( إذا قال ولا الضالين فقولوا آمين ) أي إذا لم يقل الإمام آمين . وقيل الأول لمن قرب من الإمام والثاني لمن تباعد عنه لأن جهر الإمام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة . وقيل يؤخذ من الروايتين تخيير المأموم في قولها مع الإمام أو بعده قاله الطبري . قال الخطابي : وهذه الوجوه كلها محتملة وليست بدون الوجه الذي ذكروه يعني الجمهور
قوله ( فأمنوا ) استدل به على مشروعية تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام لأنه رتبه عليه بالفاء لكن قد تقدم في الجمع بين الراويتين أن المراد المقارنة وبذلك قال الجمهور
قوله ( تأمين الملائكة ) قال النووي : واختلف في هؤلاء الملائكة فقيل هم الحفظة وقيل غيرهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( من وافق قوله قول أهل السماء ) وأجاب الأولون بأنه إذا قاله الحاضرون من الحفظة قاله من فوقهم حتى ينتهي إلى أهل السماء . والمراد بالموافقة الموافقة في وقت التأمين فيؤمن مع تأمينهم قاله النووي . قال ابن المنير : الحكمة في إثبات الموافقة في القول والزمان أن يكون المأموم على يقظة للإتيان بالوظيفة في محلها . وقال القاضي عياض : معناه وافقهم في الصفة والخشوع والإخلاص . قال الحافظ : والمراد بتأمين الملائكة استغفارهم للمؤمنين
قوله ( آمين ) هو بالمد والتخفيف في جميع الروايات وعن جميع القراء . وحكى أبو نصر عن حمزة والكسائي الإمالة وفيه ثلاث لغات أخر شاذة القصر حكاه ثعلب وأنشد له شاهدا وأنكره ابن درستويه وطعن في الشاهد بأنه لضرورة الشعر . وحكى عياض ومن تبعه عن ثعلب أنه إنما أجازه في الشعر خاصة . والثانية التشديد مع المد . والثالثة التشديد مع القصر وخطأهما جماعة من أئمة اللغة . وآمين من أسماء الأفعال ويفتح في الوصل لأنها مثل كيف ومعناه اللهم استجب عند الجمهور . وقيل غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى . وقيل إنه اسم لله حكاه صاحب القاموس عن الواحدي
( والحديث ) يدل على مشروعية التأمين قال الحافظ : وهذا الأمر عند الجمهور للندب . وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم [ ص 246 ] وجوبه على المأموم عملا بظاهر الأمر . وأوجبته الظاهرية على كل من يصلي . والظاهر من الحديث الوجوب على المأموم فقط لكن لا مطلقا بل مقيدا بأن يؤمن الإمام وأما الإمام والمنفرد فمندوب فقط
وحكى المهدي في البحر عن العترة جميعا أن التأمين بدعة وقد عرفت ثبوته عن علي عليه السلام من فعله وروايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتب أهل البيت وغيرهم على أنه قد حكى السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير عن الإمام مهدي محمد بن المطهر وهو أحد أئمتهم المشاهير أنه قال في كتابه الرياض الندية : إن رواة التأمين جم غفير قال : وهو مذهب زيد بن علي وأحمد بن عيسى انتهى
وقد استدل صاحب البحر على أن التأمين بدعة بحديث معاوية بن الحكم السلمي إن هذه صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ولا يشك أن أحاديث التأمين خاصة وهذا عام وإن كانت أحاديثه الواردة عن جمع من الصحابة لا يقوى بعضها على تخصيص حديث واحد من الصحابة مع أنها مندرجة تحت العمومات القاضية بمشروعية مطلق الدعاء في الصلاة لأن التأمين دعاء فليس في الصلاة تشهد وقد أثبتته العترة فما هو جوابهم في إثباته فهو الجواب في إثبات ذلك على أن المراد بكلام الناس في الحديث هو تكليمهم لأنه اسم مصدر كلم لا تكلم
ويدل على أن ذلك السبب المذكور في الحديث . وأما القدح في مشروعية التأمين بأنه من طريق وائل بن حجر فهو ثابت من طريق غيره في كتب أهل البيت وغيرها فإنه مروي من جهة ذلك العدد الكثير
وأما ما رواه في الجامع الكافي عن القاسم بن إبراهيم أن آمين ليست من لغة العرب فهذه كتب اللغة بأجمعها على ظهر البسيطة

2 - وعن أبي هريرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تلا غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال : آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول )
- رواه أبو داود وابن ماجه وقال : ( حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد )

- الحديث أخرجه أيضا الدارقطني وقال : إسناده حسن والحاكم وقال : صحيح على شرطهما . والبيهقي وقال : حسن صحيح . وأشار إليه الترمذي وهو يدل على مشروعية التأمين للإمام ومشروعية الجهر به وقد تقدم الخلاف في ذلك . واستدلوا على مشروعية الجهر به بحديث عائشة مرفوعا عند أحمد وابن ماجه والطبراني بلفظ : ( ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين ) وحديث ابن عباس عند ابن ماجه [ ص 247 ] بلفظ : قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول آمين فأكثروا من قول آمين ) اه

3 - وعن وائل بن حجر قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقال آمين يمد بها صوته )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي

- الحديث أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وزاد أبو داود : ( ورفع بها صوته ) قال الحافظ : وسنده صحيح وصححه الدارقطني وأعله ابن القطان بحجر بن عنبس وقال : إنه لا يعرف وخطأه الحافظ وقال : إنه ثقة معروف قيل له صحبة ووثقه يحيى بن معين وغيره وروى الحديث ابن ماجه وأحمد والدارقطني من طريق أخرى بلفظ : ( وخفض بها صوته ) وقد أعلت باضطراب شعبة في إسنادها ومتنها ورواها سفيان ولم يضطرب في الإسناد ولا المتن
قال ابن القطان : اختلف شعبة وسفيان فقال شعبة : خفض وقال الثوري : رفع . وقال شعبة : حجر أبو عنبس وقال الثوري : حجر بن عنبس وصوب البخاري وأبو زرعة قول الثوري
وقد جزم ابن حبان في الثقات أن كنيته كاسم أبيه فيكون ما قالاه صوابا . وقال البخاري : إن كنيته أبو السكن ولا مانع من أن يكون له كنيتان وقد ورد الحديث من طرق ينتفي بها إعلاله بالاضطراب من شعبة ولم يبق إلا التعارض بين شعبة وسفيان وقد رجحت رواية سفيان بمتابعة اثنين له بخلاف شعبة فلذلك جزم النقاد بأن روايته أصح كما روي ذلك عن البخاري وأبي زرعة . وقد حسن الحديث الترمذي قال ابن سيد الناس : ينبغي أن يكون صحيحا
( وهو يدل ) على مشروعية التأمين للإمام والجهر ومد الصوت به قال الترمذي : وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين ومن بعدهم يرون أن الرجل يرفع صوته بالتأمين ولا يخفيها وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق اه

باب حكم من لم يحسن فرض القراءة

1 - عن رفاعة بن رافع : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم رجلا الصلاة فقال : إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وكبره وهلله ثم اركع )
- رواه أبو داود والترمذي

2 - وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزئني قال : قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله [ ص 248 ] أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني ولفظه فقال : ( إني لا أستطيع أن أتعلم القرآن فعلمني ما يجزئني في صلاتي ) فذكره

- أما الحديث الأول فهو طرف من حديث المسيء صلاته وأخرجه النسائي أيضا وقال الترمذي : حديث رفاعة حسن
وأما الحديث الثاني فأخرجه أيضا ابن الجارود وابن حبان والحاكم وفي إسناده إبراهيم ابن إسماعيل السكسكي وهو من رجال البخاري لكن عيب عليه إخراج حديثه وضعفه النسائي
وقال ابن القطان : ضعفه قوم فلم يأتوا بحجة . وقال ابن عدي : لم أجد له حديثا منكر المتن . وذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف . وقال في شرح المهذب : رواه أبو داود والنسائي بإسناد ضعيف اه ولم ينفرد بالحديث إبراهيم فقد رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه أيضا من طريق طلحة بن مصرف عن ابن أبي أوفى ولكن في إسناده الفضل بن موفق ضعفه أبو حاتم كذا قال الحافظ
قوله ( فاحمد الله ) الخ قيل قد عين الحديث الثاني لفظ الحمد والتكبير والتهليل المأمور به ولا يخفى أنه من التقييد بموافق المطلق
قوله ( إني لا أستطيع ) رواه ابن ماجه بلفظ : ( إني لا أحسن من القرآن شيئا ) قال شارح المصابيح : اعلم أن هذه الواقعة لا تجوز أن تكون في جميع الأزمان لأن من يقدر على تعلم هذه الكلمات لا محالة يقدر على تعلم الفاتحة بل تأويله لا أستطيع أن أتعلم شيئا من القرآن في هذه الساعة وقد دخل على وقت الصلاة فإذا فرغ من تلك الصلاة لزمه أن يتعلم
( والحديثان ) يدلان على أن الذكر المذكور يجزئ من لا يستطيع أن يتعلم القرآن وليس فيه ما يقتضي التكرار فظاهره أنها تكفي مرة
وقد ذهب البعض إلى أنه يقوله ثلاث مرات والقائلون بوجوب الفاتحة في كل ركعة لعلهم يقولون بوجوبه في كل ركعة

باب قراءة السورة بعد الفاتحة في الأوليين وهل تسن قراءتها في الأخريين أم لا

1 - عن أبي قتادة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب ويسمعنا الآية أحيانا ويطول في الركعة الأولى ما لا يطيل في الثانية وهكذا في العصر وهكذا في الصبح )
- متفق عليه . ورواه أبو داود وزاد قال : ( فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى )

[ ص 249 ] - قوله ( الأوليين ) بتحتانيتين تثنية الأولى وكذا الأخريين
قوله ( وسورتين ) أي في كل ركعة سورة ويدل على ذلك ما ثبت من حديث قتادة في رواية للبخاري بلفظ : ( كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة ) وفيه دليل على إثبات القراءة في الصلاة السرية
وقد أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس أنه سئل : ( أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر فقال : لا لا فقيل له : فلعله كان يقرأ في نفسه فقال : خمسا هذه أشد من الأولى فكان عبدا مأمورا بلغ ما أرسل به ) الحديث وهو كما قال الخطابي وهم من ابن عباس وقد أثبت القراءة في السرية أبو قتادة وخباب بن الأرت وغيرهما والإثبات مقدم على النفي . وقد تردد ابن عباس في ذلك فروى عنه أبو داود أنه قال : ( لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ) وفي هذه الرواية دليل على أنه اعتمد في الأولى على عدم الدراية لا على قرائن دلت على ذلك
قوله ( ويسمعنا الآية أحيانا ) فيه دلالة على جواز الجهر في السرية وهو يرد على من جعل الإسرار شرطا لصحة الصلاة السرية وعلى من أوجب في الجهر سجود السهو . وقوله ( أحيانا ) يدل على أنه تكرر ذلك منه
قوله ( ويطول في الركعة الأولى ) استدل به على استحباب تطويل الأولى على الثانية سواء كان التطويل بالقراءة بترتيلها مع استواء المقروء في الأوليين
وقد قيل إن المستحب التسوية بين الأوليين فاستدلوا بحديث سعد عند البخاري ومسلم وغيرهما وسيأتي . وكذلك استدلوا بحديث أبي سعيد الآتي عند مسلم وأحمد : ( أنه كان صلى الله عليه و سلم يقرأ في الظهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية ) وفي رواية لابن ماجه : ( أن الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة ) وجعل صاحب هذا القول تطويل الأولى المذكور في الحديث بسبب دعاء الاستفتاح والتعوذ
وقد جمع البيهقي بين الأحاديث بأن الإمام يطول في الأولى إن كان منتظرا لأحد وإلا سوى بين الأوليين . وجمع ابن حبان بأن تطويل الأولى إنما كان لأجل الترتيل في قراءتها مع استواء المقروء في الأوليين
قوله ( وهكذا في الصبح ) الخ فيه دليل على عدم اختصاص القراءة بالفاتحة وسورة في الأوليين وبالفاتحة فقط في الأخريين والتطويل في الأولى بصلاة الظهر بل ذلك هو السنة في جميع الصلوات
قوله ( فظننا أنه يريد ) الخ فيه أن الحكمة في التطويل المذكور هي انتظار الداخل وكذا روى هذه الزيادة ابن خزيمة وابن حبان . وقال القرطبي : لا حجة فيه لأن الحكمة لا تعلل [ ص 250 ] بها لخفائها وعدم انضباطها
( والحديث ) يدل على مشروعية القراءة بفاتحة الكتاب في كل ركعة وقد تقدم الكلام عليه وعلى قراءة سورة مع الفاتحة في كل واحدة من الأوليين وعلى جواز الجهر ببعض الآيات في السرية

2 - وعن جابر بن سمرة قال : ( قال عمر لسعد : لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة قال : أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : صدقت ذلك الظن بك أو ظني بك )
- متفق عليه

- قوله ( شكوك ) يعني أهل الكوفة وفي رواية للبخاري شكا أهل الكوفة سعدا
قوله ( في كل شيء ) قال الزبير بن بكار في كتاب النسب : رفع أهل الكوفة عليه أشياء كشفها عمر فوجدها باطلة ولكن عزله واستعمل عليهم عمار بن ياسر . قال خليفة : استعمل عمارا على الصلاة وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض
قوله ( فأمد ) في رواية في الصحيحين فأركد في الأوليين وهما متقاربان . قال القزاز : أي أقيم طويلا أطول فيهما القراءة ويحتمل التطويل لما هو أعم كالأذكار والقراءة والركوع والسجود والمعهود في التفرقة بين الركعات إنما هو في القراءة
قوله ( وأحذف ) بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة قال الحافظ : وكذا هو في جميع طرق هذا الحديث التي وقفت عليها لكن في رواية البخاري وأخف بضم الهمزة وكسر الخاء المعجمة والمراد بالحذف حذف التطويل وتقصيرهما عن الأوليين لا حذف أصل القراءة والإخلال بها فكأنه قال أحذف المد
( وفيه دليل ) على أن الأوليين من الرباعية متساويتان في الطول وكذا الأوليان من الثلاثية وقد تقدم الكلام على ذلك . وفيه دليل أيضا على تساوي الأخريين
قوله ( ولا آلو ) بمد الهمزة من آلو وضم اللام بعدها أي لا أقصر في ذلك
قوله ( ذلك الظن بك ) فيه جواز مدح الرجل الجليل في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة بإعجاب ونحوه والنهي عن ذلك إنما هو لمن خيف عليه وقد جاءت أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيح بالأمرين والمد في الأوليين يدل على قراءة زيادة على فاتحة الكتاب ولذا أورد المصنف الحديث دليلا لقراءة السورة بعد الفاتحة

3 - وعن أبي سعيد الخدري : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية وفي الأخريين قدر قراءة [ ص 251 ] خمس عشرة آية أو قال نصف ذلك وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشر آية وفي الآخريين قدر نصف ذلك )
- رواه أحمد ومسلم

- الحديث يدل على استحباب التطويل في الأوليين من الظهر والأخريين منه لأن الوقوف في كل واحدة من الأخريين منه مقدار خمس عشرة آية يدل على أنه صلى الله عليه و سلم كان يقرأ بزيادة على الفاتحة لأنها ليست إلا سبع آيات
وقوله ( في الأخريين قدر خمس عشرة آية ) أي في كل ركعة كما يشعر بذلك السياق . ويدل أيضا على استحباب التخفيف في صلاة العصر وجعلها على النصف من صلاة الظهر . وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد من طريق أخرى هذا الحديث بدون قوله في كل ركعة ولفظه : ( فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر ) فينبغي حمل المطلق في هذه الرواية على المقيد بقوله في كل ركعة
والحكمة في إطالة الظهر أنها في وقت غفلة بالنوم في القائلة فطولت ليدركها المتأخر والعصر ليست كذلك بل تفعل في تعب أهل الأعمال فخففت وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يطول في الظهر تطويلا زائدا على هذا المقدار كما في حديث : ( إن صلاة الظهر كانت تقام ويذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الركعة الأولى مما يطيلها )

باب قراءة سورتين في كل ركعة وقراءة بعض سورة وتنكيس السور في ترتيبها وجواز تكريرها

1 - عن أنس قال : ( كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قبا فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها ثم يقرأ سورة أخرى معها فكان يصنع ذلك في كل ركعة فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه الخبر فقال : وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة قال : إني أحبها قال : حبك إياها أدخلك الجنة )
- رواه الترمذي وأخرجه البخاري تعليقا

- الحديث قال الترمذي : حسن صحيح غريب وأخرجه البزار والبيهقي والطبراني
قوله ( كان رجل ) هو كلثوم بن الهدم ذكره ابن منده في كتاب التوحيد . وقيل قتادة بن [ ص 252 ] النعمان وقيل مكتوم بن هدم وقيل كرز بن هدم
قوله ( افتتح بقل هو الله أحد ) تمسك به من قال لا يشترط قراءة الفاتحة وأجيب بأن الراوي لم يذكر الفاتحة للعلم بأنه لا بد منها فيكون معناه افتتح سورة بعد الفاتحة أو أن ذلك قبل ورود الدليل على اشتراط الفاتحة
قوله ( فكان يصنع ذلك في كل ركعة ) لفظ البخاري : ( فكلمه أصحابه وقالوا : إنك تفتتح بهذه السورة لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى فإما أن تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ أخرى فقال : ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم ذلك تركتكم وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه الخبر فقال : يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك ) الخ
قوله ( ما يحملك ) أجابه عن الحامل على الفعل بأنه المحبة وحدها
قوله ( أدخلك الجنة ) التبشير له بالجنة يدل على الرضا بفعله وعبر بالفعل الماضي وإن كان الدخول مستقبلا تنبيها على تحقق الوقوع كما نص عليه أئمة المعاني قال ناصر الدين ابن المنير : في هذا الحديث إن المقاصد تغير أحكام الفعل لأن الرجل لو قال إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها لكنه اعتل بحبها فظهرت صحة قصده فصوبه . قال : وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يعد ذلك هجرانا لغيره
( والحديث ) يدل على جواز قراءة سورتين في كل ركعة مع فاتحة الكتاب على ذلك التأويل من غير فرق بين الأوليين والآخريين لأن قوله في كل ركعة يشمل الأخريين

2 - وعن حذيفة قال : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائدة ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها فمضى ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فجعل يقول سبحان ربي العظيم وكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع ثم سجد فقال سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من قيامه )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي

- قوله ( فقلت يصلي بها في ركعة ) قال النووي : معناه ظننت أنه يسلم بها فيقسمها على ركعتين وأراد بالركعة الصلاة بكمالها وهي ركعتان ولا بد من هذا التأويل لينتظم الكلام بعده
قوله ( فمضى ) معناه قرأ معظمها بحيث غلب على ظني أنه لا يركع الركعة الأولى إلا في آخر البقرة فحينئذ قلت يركع بها الركعة الأولى بها فجاوز وافتتح النساء
قوله ( ثم افتتح [ ص 253 ] آل عمران ) قال القاضي عياض : فيه دليل لمن يقول أن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف وأنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل وكله إلى أمته بعده قال : وهذا قول مالك والجمهور واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني . قال ابن الباقلاني : هو أصح القولين مع احتمالهما قال : والذي نقوله إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين والتعليم وإنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك نص ولا يحرم مخالفته ولذلك اختلف ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان قال : وأما من قال من أهل العلم أن ذلك بتوقيف من النبي صلى الله عليه و سلم كما استقر في مصحف عثمان وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف فيتأول قراءته صلى الله عليه و سلم النساء ثم آل عمران هنا على أنه كان قبل التوقيف والترتيب قال : ولا خلاف إنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى وإنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في غير الصلاة قال : وقد أباح بعضهم وتأول نهي السلف عن قراءة القرآن منكوسا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله على ما بني عليه الآن في المصحف وهكذا نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم
قوله ( فقرأها مترسلا إذا مر بآية ) الخ فيه استحباب الترسل والتسبيح عند المرور بآية فيها تسبيح والسؤال عند قراءة آية فيها سؤال والتعوذ عند تلاوة آية فيها تعوذ
والظاهر استحباب هذه الأمور لكل قارئ من غير فرق بين المصلي وغيره وبين الإمام والمنفرد والمأموم وإلى ذلك ذهبت الشافعية
قوله ( ثم ركع فجعل يقول سبحان ربي العظيم ) فيه استحباب تكريره هذا الذكر في الركوع وكذلك سبحان ربي الأعلى في السجود وإلى ذلك ذهب الشافعي وأصحابه والأوزاعي وأبو حنيفة والكوفيون وأحمد والجمهور
وقال مالك : لا يتعين ذلك للاستحباب وسيأتي الكلام على ذلك في باب الذكر في الركوع والسجود
قوله ( ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ثم قام قياما طويلا ) فيه رد لما ذهب إليه أصحاب الشافعي من أن تطويل الاعتدال عن الركوع لا يجوز وتبطل به الصلاة وسيأتي الكلام على ذلك
( والحديث ) أيضا يدل على استحباب تطويل صلاة الليل وجواز الائتمام في النافلة

3 - وعن رجل من جهينة : ( أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الصبح إذا زلزلت الأرض في الركعتين كلتيهما قال : فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله [ ص 254 ] عليه وآله وسلم أم قرأ ذلك عمدا )
- رواه أبو داود

- الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وقد قدمنا أن جماعة من أئمة الحديث صرحوا بصلاحية ما سكت عنه أبو داود للاحتجاج وليس في إسناده مطعن بل رجاله رجال الصحيح وجهالة الصحابي لا تضر عند الجمهور وهو الحق
قوله ( يقرأ في الصبح إذا زلزلت ) فيه استحباب قراءة سورة بعد الفاتحة وجواز قراءة قصار المفصل في الصبح
قوله ( فلا أدري أنسي ) فيه دليل لمذهب الجمهور القائلين بجواز النسيان عليه صلى الله عليه وآله وسلم وقد صرح بذلك حديث : ( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ) ولكن فيما ليس طريقه البلاغ قالوا ولا يقر عليه بل لا بد أن يتذكره واختلفوا هل من شرط ذلك الفور أم يصح على التراخي قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم
قوله ( أم قرأ ذلك عمدا ) تردد الصحابي في أن إعادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسورة هل كان نسيانا لكون المعتاد من قراءته أن يقرأ في الركعة الثانية غير ما قرأ به في الأولى فلا يكون مشروعا لأمته أو فعله عمدا لبيان الجواز فتكون الإعادة مترددة بين المشروعية وعدمها وإذا دار الأمر بين أن يكون مشروعا أو غير مشروع فحمل فعله صلى الله عليه وآله وسلم على المشروعية أولى لأن الأصل في أفعاله التشريع والنسيان على خلاف الأصل . ونظيره ما ذكره الأصوليون فيما إذا تردد فعله صلى الله عليه وآله وسلم بين أن يكون جبليا أو لبيان الشرع والأكثر على التأسي به

4 - وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } الآية التي في البقرة وفي الآخرة { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } ) وفي رواية : ( كان يقرأ في ركعتي الفجر { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } والتي في آل عمران { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } )
- رواهما أحمد ومسلم

- الروايات فيما كان يقرؤه صلى الله عليه وآله وسلم في الركعتين قبل الفجر مختلفة . فمنها ما ذكره المصنف . ومنها ما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في ركعتي الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ) وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة أنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول هل قرأ فيهما بأم القرآن ) وفي [ ص 255 ] رواية : ( أقول لم يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب )
( والحديث ) يدل على استحباب قراءة الآيتين المذكورتين فيهما بعد قراءة فاتحة الكتاب لما ثبت في رواية لمسلم : ( أنه كان يقرأ فيهما بعد فاتحة الكتاب بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ) فتحمل الأحاديث التي لم يذكر فيها القراءة بفاتحة الكتاب كحديث الباب على هذه الرواية ويكون المصلي مخيرا إن شاء قرأ مع فاتحة الكتاب في كل ركعة ما في حديث ابن عباس وإن شاء قرأ بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون في ركعة وقل هو الله أحد في ركعة وإلى ذلك ذهب الجمهور . وقال مالك وجمهور أصحاب الشافعي : إنه لا يقرأ غير الفاتحة . وقال بعض السلف : لا يقرأ شيئا وكلاهما خلاف هذه الأحاديث الصحيحة وسيأتي الكلام على ذلك في باب تأكيد ركعتي الفجر . وقد استدل المصنف رحمه الله بالحديث على جواز قراءة بعض سورة في الركعة كما فعل في ترجمة الباب

باب جامع القراءة في الصلوات

1 - عن جابر بن سمرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الفجر ب { ق والقرآن المجيد } ونحوها وكان صلاته بعد إلى تخفيف ) وفي رواية : ( كان يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول من ذلك )
- رواهما أحمد ومسلم . وفي رواية : ( كان إذا دحضت الشمس صلى الظهر وقرأ بنحو من والليل إذا يغشى والعصر كذلك والصلوات كلها كذلك إلا الصبح فإنه كان يطيلها ) رواه أبو داود

- قوله ( كان يقرأ في الفجر ب { ق } ) قد تقرر في الأصول أن كان تفيد الاستمرار وعموم الأزمان فينبغي أن يحمل قوله كان يقرأ في الفجر ب { ق } على الغالب من حاله صلى الله عليه و سلم أو تحمل على أنها لمجرد وقوع الفعل لأنها قد تستعمل لذلك كما قال ابن دقيق العيد لأنه قد ثبت أنه قرأ في الفجر { إذا الشمس كورت } عند الترمذي والنسائي من حديث عمرو بن حريث . وثبت أنه صلى الله عليه و سلم صلى بمكة الصبح فاستفتح سورة المؤمنين عند مسلم من حديث عبد الله بن السائب . وأنه قرأ بالطور ذكره البخاري تعليقا من حديث أم سلمة . وأنه كان يقرأ في ركعتي الفجر أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي [ ص 256 ] برزة . وأنه قرأ الروم أخرجه النسائي عن رجل من الصحابة . وأنه قرأ المعوذتين أخرجه النسائي أيضا من حديث عقبة بن عامر . وأنه قرأ { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } أخرجه عبد الرزاق عن أبي بردة . وأنه قرأ الواقعة أخرجه عبد الرزاق أيضا عن جابر بن سمرة . وأنه قرأ بيونس وهود أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي هريرة . وأنه قرأ إذا زلزلت الأرض كما تقدم عند أبي داود وأنه قرأ ألم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود
قوله ( وكان يقرأ في الظهر بالليل والعصر نحو ذلك ) ينبغي أن يحمل هذا على ما تقدم لأنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء ذات البروج والسماء والطارق وشبههما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه من حديث جابر بن سمرة . وأنه كان يقرأ في الظهر بسبح اسم ربك الأعلى أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة أيضا . وأنه قرأ من سورة لقمان والذاريات في صلاة الظهر أخرجه النسائي عن البراء . وأنه قرأ في الأولى من الظهر بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية هل أتاك حديث الغاشية أخرجه النسائي أيضا عن أنس وثبت أنه كان يقرأ في الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية عند البخاري وقد تقدم ولم يعين السورتين . وتقدم أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة وتقدم أيضا أنه كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية وفي الآخريين قدر خمس عشرة آية أو قال نصف ذلك وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية وفي الأخريين قدر نصف ذلك
وثبت عن أبي سعيد عند مسلم وغيره أنه قال : ( كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة آلم تنزيل السجدة وحزرنا قيامه في الركعتين الأخريين قدر النصف من ذلك وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الآخرتين من الظهر وفي الآخريين من العصر على النصف من ذلك
قوله ( وفي الصبح أطول من ذلك ) قال العلماء : لأنها تفعل في وقت الغفلة بالنوم في آخر الليل فيكون في التطويل انتظار للمتأخر . قال النووي حاكيا عن العلماء : إن السنة أن تقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل ويكون الصبح أطول وفي العشاء والعصر بأوساط المفصل وفي المغرب بقصاره قال : قالوا والحكمة في إطالة الصبح والظهر أنهما في وقت غفلة بالنوم آخر الليل وفي القائلة فطولتا ليدركهما المتأخر بغفلة ونحوها والعصر ليست كذلك [ ص 257 ] بل تفعل في وقت تعب أهل الأعمال فخففت عن ذلك والمغرب ضيقة الوقت فاحتيج إلى زيادة تخفيفها لذلك ولحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم والعشاء في وقت غلبة النوم والنعاس ولكن وقتها واسع فأشبهت العصر انتهى
وكون السنة في صلاة المغرب القراءة بقصار المفصل غير مسلم فقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ فيها بسورة الأعراف والطور والمرسلات كما يأتي في أحاديث هذا الباب . وثبت أنه صلى الله عليه و سلم قرأ فيها بالأعراف في الركعتين جميعا أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي أيوب . وقرأ بالدخان أخرجه النسائي وأخرج البخاري عن مروان بن الحكم قال : ( قال لي زيد بن ثابت : ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ بطولى الطوليين ) والطوليان هما الأعراف والأنعام . وثبت أنه قرأ صلى الله عليه و سلم فيه بالذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أخرجه ابن حبان من حديث ابن عمر وسيأتي بقية الكلام في آخر الباب

2 - وعن جبير بن مطعم قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في المغرب بالطور )
- رواه الجماعة إلا الترمذي

- قوله ( بالطور ) أي بسورة الطور . قال ابن الجوزي : يحتمل أن يكون الباء بمعنى من كقوله تعالى { يشرب بها عباد الله } وهو خلاف الظاهر وقد ورد في الأحاديث ما يشعر بأنه قرأ السورة كلها فعند البخاري في التفسير بلفظ : ( سمعته يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } الآيات إلى قوله المصيطرون كاد قلبي يطير ) وقد ادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شيء من الأحاديث على تطويل القراءة لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة ثم استدل لذلك بما رواه من طريق هشيم عن الزهري في حديث جبير بلفظ : ( سمعته يقرأ { إن عذاب ربك لواقع } ) قال : فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هو هذه الآية خاصة وليس في السياق ما يقتضي قوله خاصة
وحديث البخاري المتقدم يبطل هذه الدعوى وقد ثبت في رواية أنه سمعه يقرأ والطور وكتاب مسطور . ومثله لابن سعد وزاد في أخرى : ( فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد ) وأيضا لو كان اقتصر على قراءة تلك الآية كما زعم لما كان لإنكار زيد بن ثابت على مروان كما في الحديث المتقدم معنى لأن الآية أقصر من قصار المفصل وقد روي أن زيدا قال له : ( إنك تخفف القراءة في الركعتين من المغرب [ ص 258 ] فو الله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ فيهما بسورة الأعراف في الركعتين جميعا ) أخرج هذه الرواية ابن خزيمة وقد ادعى أبو داود نسخ التطويل ويكفي إبطال هذه الدعوى حديث أم الفضل الآتي
وقد ذهب إلى كراهة القراءة في المغرب بالسور الطوال مالك وقال الشافعي : لا أكره ذلك بل استحبه . قال الحافظ : والمشهور عند الشافعية أنه لا كراهة ولا استحباب انتهى

3 - وعن ابن عباس : ( أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفا فقال : يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها في المغرب )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه

- قوله ( أن أم الفضل ) هي والدة ابن عباس الراوي عنها وبذلك صرح الترمذي فقال عن أمه أم الفضل واسمها لبابة بنت الحارث الهلالية ويقال إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة
قوله ( سمعته ) أي سمعت ابن عباس وفيه التفات لأن ظاهر السياق أن يقول سمعتني
قوله ( لقد ذكرتني ) أي شيئا نسيته
قوله ( إنها لآخر ما سمعت ) الخ في رواية ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله . وقد ثبت من حديث عائشة أن آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه في مرض موته الظهر . وطريق الجمع أن عائشة حكت آخر صلاة صلاها في المسجد لقرينة قولها بأصحابه والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته كما روى ذلك النسائي ولكنه يشكل على ذلك ما أخرجه الترمذي عن أم الفضل بلفظ : ( خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب ) ويمكن حمل قولها خرج إلينا أنه خرج من مكانه الذي كان فيه راقدا إلى من في البيت . وهذا الحديث يرد على من قال التطويل في صلاة المغرب منسوخ كما تقدم

4 - وعن عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في المغرب بسورة الأعراف فرقها في الركعتين )
- رواه النسائي

- الحديث إسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا عمرو بن عثمان قال حدثنا بقية وأبو حيوة عن ابن أبي حمزة قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فذكره وبقية وإن كان فيه ضعف فقد تابعه أبو حيوة وهو ثقة . وقد أخرج نحوه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي أيوب بلفظ : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين جميعا ) وأخرج نحوه ابن خزيمة من حديث زيد بن ثابت كما تقدم . ويشهد [ ص 259 ] لصحته ما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي من حديث زيد بن ثابت : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في المغرب بطولى الطوليين ) زاد أبو داود : ( قلت وما طولى الطوليين قال الأعراف ) قال الحافظ في الفتح : إنه حصل الاتفاق على تفسير الطولى بالأعراف
وقد استدل الخطابي وغيره بالحديث على امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق وكذلك استدل به المصنف رحمه الله كما تقدم في باب وقت صلاة المغرب من أبواب الأوقات وتقدم الكلام على ذلك هنالك

5 - وعن ابن عمر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في المغرب قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد )
- رواه ابن ماجه

6 - وفي حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا معاذ أفتان أنت أو قال أفاتن أنت فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى )
- متفق عليه

- أما الحديث الأول فقال الحافظ في الفتح : ظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول قال الدارقطني : أخطأ بعض رواته فيه وأخرج نحوه ابن حبان والبيهقي عن جابر بن سمرة وفي إسناده سعيد بن سماك وهو متروك
قال الحافظ أيضا : والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب
وأما الحديث الثاني فقال في الفتح : إن قصة معاذ كانت في العشاء وقد صرح بذلك البخاري في روايته لحديث جابر وسيأتي الخلاف في تعيين الصلاة وتعيين السورة التي قرأها معاذ في باب انفراد المؤتم لعذر . ولفظ الحديث في البخاري أنه قال جابر ( أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذا يصلي فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة والنساء فانطلق الرجل وبلغه أن معاذا نال منه فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه معاذا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى آخر ما ذكره المصنف
قوله ( فلولا صليت ) أي فهلا صليت
قوله ( أفتان أنت أو قال أفاتن ) قال ابن سيد الناس : الأولى أن يكون للشك من الراوي لا من باب الرواية بالمعنى كما زعم بعضهم لما تحلت به صيغة فعال من المبالغة التي خلت عنها صيغة فاعل
( والحديث ) يدل على مشروعية القراءة في العشاء بأوساط المفصل كما حكاه النووي عن العلماء . ويدل أيضا على مشروعية التخفيف للإمام لما بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض روايات حديث معاذ عند البخاري وغيره بلفظ : ( فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير ) وفي لفظ له : ( فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة ) قال أبو عمر : التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه إلا أن ذلك إنما [ ص 260 ] هو أقل الكمال وأما الحذف والنقصان فلا لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن نقر الغراب ورأى رجلا يصلي ولم يتم ركوعه وسجوده فقال له : ( ارجع فصل فإنك لم تصل ) وقال : ( لا ينظر الله عز و جل إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده ) وقال أنس : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخف الناس صلاة في تمام ) قال ابن دقيق العيد وما أحسن ما قال : إن التخفيف من الأمور الإضافية فقد يكون الشيء خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم طويلا بالنسبة إلى عادة آخرين انتهى
ولعله يأتي إن شاء الله تعالى للمقام مزيد تحقيق في باب ما يؤمر به الإمام من التخفيف من أبواب صلاة الجماعة . وسيذكر المصنف طرفا من حديث معاذ في باب انفراد المأموم لعذر . وفي باب هل يقتدي المفترض بالمتنفل أم لا وسنذكر إن شاء الله في شرحه هنالك بعضا من فوائده التي لم يذكرها ههنا

7 - وعن سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال : ( ما رأيت رجلا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فلان لإمام كان بالمدينة قال سليمان : فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الآخرتين ويخفف العصر ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل ويقرأ في الغداة بطوال المفصل )
- رواه أحمد والنسائي

- الحديث قال الحافظ في الفتح : صححه ابن خزيمة وغيره وقال في بلوغ المرام : إن إسناده صحيح
( والحديث ) استدل به على مشروعية ما تضمنه من القراءة في الصلوات لما عرفت من إشعار لفظ كان بالمداومة . وقيل في الاستدلال به على ذلك نظر لأن قوله أشبه صلاة يحتمل أن يكون في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها وقد تقدم نظير هذا ويمكن أن يقال في جوابه إن الخبر ظاهر في المشابهة في جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت ما يخصصه وقد تقدم الكلام في صلاة الصبح والظهر والعصر وأما المغرب فقد عرفت ما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يستمر على قراءة قصار المفصل فيها بل قرأ فيها بطولى الطوليين وبطوال المفصل وكانت قراءته في آخر صلاة صلاها بالمرسلات في صلاة المغرب كما تقدم
قال الحافظ في الفتح : وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب إما لبيان الجواز وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين ولكنه يقدح في هذا الجمع ما في البخاري وغيره من إنكار زيد بن ثابت على مروان مواظبته على قصار المفصل في المغرب ولو كانت قراءته صلى الله عليه وآله وسلم السور الطويلة في المغرب لبيان الجواز لما كان ما فعله مروان من المواظبة على قصار المفصل إلا [ ص 261 ] محض السنة ولم يحسن من هذا الصحابي الجليل إنكار ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعل غيره إلا لبيان الجواز ولو كان الأمر كذلك لما سكت مروان عن الاحتجاج بمواظبته صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك في مقام الإنكار عليه
وأيضا بيان الجواز يكفي فيه مرة واحدة . وقد عرفت أنه قرأ بالسور الطويلة مرات متعددة وذلك يوجب تأويل لفظ كان الذي استدل به على الدوام بمثل ما قدمنا . فالحق أن القراءة في المغرب بطوال المفصل وقصاره وسائر السور سنة والاقتصار على نوع من ذلك إن انضم إليه اعتقاد أنه السنة دون غيره مخالف لهديه صلى الله عليه وآله وسلم
قوله ( بقصار المفصل ) قد اختلف في تفسير المفصل على عشرة أقوال ذكرها صاحب القاموس وغيره وقد ذكرناها في باب وقت صلاة المغرب من أبواب الأوقات
قوله ( ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل ) قد تقدم في حديث معاذ ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بالقراءة بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ) وهذه السور من أوساط المفصل وزاد مسلم : ( أنه أمره بقراءة اقرأ باسم ربك الذي خلق ) وزاد عبد الرزاق الضحى وفي رواية للحميدي بزيادة : ( والسماء ذات البروج والسماء والطارق ) وقد عرفت أن قصة معاذ كانت في صلاة العشاء وثبت أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة العشاء بالشمس وضحاها ونحوها من السور أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه من حديث بريدة وأنه قرأ فيها بالتين والزيتون أخرجه البخاري ومسلم والترمذي من حديث البراء . وأنه قرأ بإذا السماء انشقت أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة

باب الحجة في الصلاة بقراءة ابن مسعود وأبي وغيرهما ممن أثني على قراءته

1 - عن عبد الله بن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد فبدأ به ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة )
- رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه

2 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد )
- رواه أحمد

[ ص 262 ] - حديث أبي هريرة أخرجه أيضا أبو يعلى والبزار وفيه جرير بن أيوب البجلي وهو متروك لكنه أخرجه بهذا اللفظ البزار والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمار بن ياسر قال في مجمع الزوائد : ورجال البزار ثقات
قوله ( ابن أم عبد ) هو عبد الله بن مسعود وقد روي أنه لم يحفظ القرآن جميعا في عصره صلى الله عليه وآله وسلم إلا هؤلاء الأربعة
والمصنف رحمه الله عقد هذا الباب للرد على من يقول أنها لا تجزئ في الصلاة إلا قراءة السبعة القراء المشهورين قالوا لأن ما نقل آحاديا ليس بقرآن ولم تتواتر إلا السبع دون غيرها فلا قرآن إلا ما اشتملت عليه وقد رد هذا الاشتراط إمام القراآت الجزري فقال في النشر : زعم بعض المتأخرين أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ولا يخفى ما فيه لأنا إذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابتة عن هؤلاء السبعة وغيرهم وقال : ولقد كنت أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف على خلافه وقال : القراءة المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما نقل عن غيرهم اه . فانظر كيف جعل اشتراط التواتر قولا لبعض المتأخرين وجعل قول أئمة السلف والخلف على خلافه
وقال أيضا في النشر : كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح إسنادها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم غيرهم من الأئمة عن المقبولين ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أو عمن هو أكبر منهم هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف صرح بذلك المدني والمكي والمهدوي وأبو شامة وهو مذهب السلف الذي لا يعرف من أحدهم خلافه قال أبو شامة في المرشد الوجيز : لا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى أحد هؤلاء السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة وأنها نزلت هكذا إلا إذا دخلت في تلك الضابطة وحينئذ لا ينفرد مصنف عن غيره ولا يختص ذلك بنقلها عنهم بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه إلى آخر كلام الجزري الذي حكاه عنه صاحب الإتقان
وقال أبو شامة : شاع على ألسنة جماعة من المقرئين [ ص 263 ] المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن السبع كلها متواترة أي كل حرف مما يروى عنهم قالوا والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب ونحن نقول بهذا القول ولكن فيما أجمعت على نقله عنهم الطرق واتفقت عليه الفرق من غير نكير فلا أقل من اشتراط ذلك إذ لم يتفق التواتر في بعضها اه
إذا تقرر لك إجماع أئمة السلف والخلف على عدم تواتر كل حرف من حروف القراآت السبع وعلى أنه لا فرق بينها وبين غيرها إذا وافق وجها عربيا وصح إسناده ووافق الرسم ولو احتمالا بما نقلناه عن أئمة القراء تبين لك صحة القراءة في الصلاة بكل قراءة متصفة بتلك الصفة سواء كانت من قراءة الصحابة المذكورين في الحديث أو من قراءة غيرهم وقد خالف هؤلاء الأئمة النويري المالكي في شرح الطيبة فقال عند شرح قول الجزري فيها :
فكل ما وافق وجه نحوي ... وكان للرسم احتمالا يحوي
وصح إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان
وكل ما خالف وجها أثبت ... شذوذه لو أنه في السبعة
ما لفظه : ظاهره أن القرآن يكتفى في ثبوته مع الشرطين المتقدمين بصحة السند فقط ولا يحتاج إلى التواتر وهذا قول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم من الأصوليين والمفسرين اه وأنت تعلم أن نقل مثل الإمام الجزري وغيره من أئمة القراءة لا يعارضه نقل النويري لما يخالفه لأنا إن رجعنا إلى الترجيح بالكثرة أو الخبرة بالفن أو غيرهما من المرجحات قطعنا بأن نقل أولئك الأئمة أرجح وقد وافقهم عليه كثير من أكابر الأئمة حتى إن الشيخ زكريا بن محمد الأنصاري لم يحك في غاية الوصول إلى شرح لب الأصول الخلاف لما حكاه الجزري وغيره عن أحد سوى ابن الحاجب

3 - وعن أنس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي : إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا ) وفي رواية : ( أن أقرأ عليك القرآن قال : وسماني لك . قال : نعم . فبكى )
- متفق عليه

- قوله ( أمرني أن أقرأ عليك ) فيه استحباب قراءة القرآن على الحذاق فيه وأهل العلم به والفضل وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه وفيه منقبة شريفة لأبي بقراءته صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشاركه فيها أحد لا سيما مع ذكر الله تعالى لاسمه ونصه عليه في هذه المنزلة الرفيعة
قوله ( لم يكن الذين كفروا ) وجه تخصيص هذه السورة أنها وجيزة جامعة [ ص 264 ] لقواعد كثيرة من أصول الدين وفروعه ومهماته والإخلاص وتطهير القلوب وكان الوقت يقتضي الاختصار
قوله ( وسماني لك ) فيه جواز الاستثبات في الاحتمالات وسببه ههنا أنه جوز أن يكون الله تعالى أمر النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ على رجل من أمته ولم ينص عليه
قوله ( فبكى ) فيه جواز البكاء للسرور والفرح بما يبشر الإنسان ويعطاه من معالي الأمور . واختلفوا في وجه الحكمة في قراءته على أبي فقيل سببها أن يسن لأمته بذلك القراءة على أهل الإتقان والفضل ويتعلموا آداب القراءة ولا يأنف أحد عن ذلك . وقيل التنبيه على جلالة أبي وأهليته لأخذ القرآن ولذلك كان بعده صلى الله عليه و سلم رأسا وإما ما في إقراء القرآن وهو أجل ناشريه أو من أجلهم

باب ما جاء في السكتتين قبل القراءة وبعدها

1 - عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنه كان يسكت سكتتين إذا استفتح الصلاة وإذا فرغ من القراءة كلها ) وفي رواية : ( سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين )
- روى ذلك أبو داود وكذلك أحمد والترمذي وابن ماجه بمعناه

- الحديث حسنه الترمذي وقد تقدم الكلام في سماع الحسن من سمرة لغير حديث العقيقة وقد صحح الترمذي حديث الحسن عن سمرة في مواضع من سننه . منها حديث : ( نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ) وحديث : ( جار الدار أحق بدار الجار ) وحديث : ( لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار ) وحديث : ( الصلاة الوسطى صلاة العصر ) فكان هذا الحديث على مقتضى تصرفه جديرا بالتصحيح . وقد قال الدارقطني : رواة الحديث كلهم ثقات وفي الباب عن أبي هريرة عند أبي داود والنسائي بلفظ : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت له سكتة إذا افتتح الصلاة )
قوله ( إذا استفتح الصلاة ) الغرض من هذه السكتة ليفرغ المأمومون من النية وتكبيرة الإحرام لأنه لو قرأ الإمام عقب التكبير لفات من كان مشتغلا بالتكبير والنية بعض سماع القراءة . وقال الخطابي : إنما كان يسكت في الموضعين ليقرأ من خلفه فلا ينازعونه القراءة إذا قرأ . قال اليعمري : كلام الخطابي هذا في السكتة التي بعد قراءة الفاتحة وأما السكتة الأولى فقد وقع بيانها [ ص 265 ] في حديث أبي هريرة السابق في باب الافتتاح : ( إنه كان يسكت بين التكبير والقراءة يقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي ) الحديث
قوله ( وإذا فرغ من القراءة كلها ) قيل وهي أخف من السكتتين اللتين قبلها وذلك بمقدار ما تنفصل القراءة عن التكبير فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الوصل فيه
قوله ( وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) قال النووي عن أصحاب الشافعي : يسكت قدر قراءة المأمومين الفاتحة قال : ويختار الذكر والدعاء والقراءة سرا لأن الصلاة ليس فيها سكوت في حق الإمام وقد ذهب إلى استحباب هذه السكتات الثلاث الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق . وقال أصحاب الرأي ومالك : السكتة مكروهة وهذه الثلاث السكتات قد دل عليها حديث سمرة باعتبار الروايتين المذكورتين . وفي رواية في سنن أبي داود بلفظ : ( إذا دخل في صلاته وإذا فرغ من القراءة ثم قال بعد وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) واستحب أصحاب الشافعي سكتة رابعة بين ولا الضالين وبين آمين قالوا ليعلم المأموم أن لفظة آمين ليست من القرآن

باب التكبير للركوع والسجود والرفع

1 - عن ابن مسعود قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه

- الحديث أخرج نحوه البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين وأخرجا نحوه أيضا من حديث أبي هريرة وأخرج نحوه البخاري من حديثه . وفي الباب عن أنس عند النسائي . وعن ابن عمر عند أحمد والنسائي . وعن أبي مالك الأشعري عند ابن أبي شيبة . وعن أبي موسى غير الحديث الذي سيذكره المصنف عند ابن ماجه . وعن وائل بن حجر عند أبي داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وفي الباب عن غير هؤلاء . وسيأتي في هذا الكتاب بعض من ذلك
( والحديث ) يدل على مشروعية التكبير في كل خفض ورفع وقيام وقعود إلا في الرفع من الركوع فإنه يقول سمع الله لمن حمده . قال النووي : وهذا مجمع عليه اليوم ومن الأعصار المتقدمة وقد كان فيه خلاف في زمن أبي هريرة وكان بعضهم لا يرى التكبير إلا للإحرام انتهى
وقد حكى مشروعية التكبير في كل خفض ورفع الترمذي عن الخلفاء الأربعة [ ص 266 ] وغيرهم ومن بعدهم من التابعين قال : وعليه عامة الفقهاء والعلماء . وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عمر وجابر وقيس بن عباد والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي ومالك وسعيد بن عبد العزيز وعامة أهل العلم
وقال البغوي في شرح السنة : اتفقت الأمة على هذه التكبيرات . قال ابن سيد الناس : وقال آخرون لا يشرع إلا تكبير الإحرام فقط يحكى ذلك عن عمر بن الخطاب وقتادة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري ونقله ابن المنذر عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر ونقله ابن بطال عن جماعة أيضا منهم معاوية بن أبي سفيان وابن سيرين قال أبو عمر : قال قوم من أهل العلم : إن التكبير ليس بسنة إلا في الجماعة وأما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر . وقال أحمد : أحب إلي أن يكبر إذا صلى وحده في الفرض وأما في التطوع فلا . وروي عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده
( واستدل ) من قال بعدم مشروعية التكبير كذلك بما أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن أبزى عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان لا يتم التكبير . وفي لفظ لأحمد إذا خفض ورفع . وفي رواية فكان لا يكبر إذا خفض يعني بين السجدتين وفي إسناده الحسن بن عمران قال أبو زرعة : شيخ ووثقه ابن حبان
وحكي عن أبي داود الطيالسي أنه قال : هذا عندي باطل وهذا لا يقوى على معارضة أحاديث الباب لكثرتها وصحتها وكونها مثبتة ومشتملة على الزيادة والأحاديث الواردة في هذا الباب أقل أحوالها الدالة على سنية التكبير في كل خفض ورفع . وقد روى أحمد عن عمران بن حصين أن أول من ترك التكبير عثمان حين كبر وضعف صوته وهذا يحتمل أنه ترك الجهر . وروى الطبري عن أبي هريرة أن أول من ترك التكبير معاوية وروى أبو عبيد أن أول من تركه زياد . وهذه الروايات غير متنافية لأن زيادا تركه بترك معاوية وكان معاوية تركه بترك عثمان وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء وحكى الطحاوي أن بني أمية كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع وما هذه بأول سنة تركوها . وقد اختلف القائلون بمشروعية التكبير فذهب جمهورهم إلى أنه مندوب فيما عدا تكبيرة الإحرام وقال أحمد في رواية عنه وبعض أهل الظاهر : إنه يجب كله
( واحتج الجمهور ) على الندبية بأن النبي [ ص 267 ] صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلمه المسيء صلاته ولو كان واجبا لعلمه وأيضا حديث ابن أبزى يدل على عدم الوجوب لأن تركه صلى الله عليه وآله وسلم له في بعض الحالات لبيان الجواز والإشعار بعدم الوجوب وسيأتي دليل القائلين بالوجوب . وأما الجواب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلمه المسيء فممنوع بل قد أخرج أبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للمسيء بلفظ : ( ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى يطمئن مفاصله ثم يقول سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائما ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى يطمئن مفاصله ثم يقول الله أكبر ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدا ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى يطمئن مفاصله ثم يرفع رأسه فيكبر فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته )

2 - وعن عكرمة قال : ( قلت لابن عباس صليت الظهر بالبطحاء خلف شيخ أحمق فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة يكبر إذا سجد وإذا رفع رأسه فقال ابن عباس : تلك صلاة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد والبخاري

- قوله ( الظهر ) لم يكن ذلك في البخاري وإنما زاده الإسماعيلي وبذلك يصح عدد التكبير لأن في كل ركعة خمس تكبيرات فتقع في الرباعية عشرون تكبيرة مع تكبيرة الافتتاح والقيام مع التشهد الأول . ولأحمد والطبراني عن عكرمة أنه قال : ( صلى بنا أبو هريرة )
قوله ( تلك صلاة أبي القاسم ) في لفظ للبخاري : ( أوليس تلك صلاة أبي القاسم لا أم لك ) وفي لفظ له : ( ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم )
( والحديث ) يدل على مشروعية تكبير الانتقال وقد تقدم الخلاف فيه

3 - وعن أبي موسى قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فتلك بتلك وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد يسمع الله لكم فإن الله تعالى قال على لسان نبيه سمع الله لمن حمده وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فتلك بتلك وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم التحيات الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود . وفي رواية بعضهم : ( وأشهد أن محمدا )

- قوله ( فأقيموا صفوفكم ) قال النووي : هو مأمور به بإجماع الأمة قال : وهو أمر ندب والإقامة [ ص 268 ] تسويتها والاعتدال فيها وتتميمها الأول فالأول والتراص فيها
قوله ( ثم ليؤمكم أحدكم ) فيه الأمر بالجماعة في المكتوبات وقد اختلفوا هل هو أمر ندب أو إيجاب وسيأتي بسط الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى
قوله ( فإذا كبر فكبروا ) فيه أن المأموم لا يكبر قبل الإمام ولا معه بل بعده لأن الفاء للتعقيب وقد قدمنا المناقشة في هذا
قوله ( وإذا قرأ فأنصتوا ) قد تقدم الكلام على هذه الزيادة في باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته
قوله ( فإذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين ) استدل به على مشروعية أن يكون تأمين الإمام والمأموم متفقا وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى
قوله ( يجبكم الله ) أي يستجب لكم وهذا حث عظيم على التأمين فيتأكد الاهتمام به
قوله ( فإذا كبر وركع إلى قوله فتلك بتلك ) معناه اجعلوا تكبيركم للركوع وركوعكم بعد تكبيره وركوعه وكذلك رفعكم من الركوع بعد رفعه . ومعنى تلك بتلك أي اللحظة التي سبقكم الإمام بها في تقدمه إلى الركوع تنجبر لكم بتأخيركم في الركوع بعد رفعه لحظة فتلك اللحظة بتلك اللحظة وصار قدر ركوعكم كقدر ركوعه وكذلك في السجود
قوله ( وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ) الخ فيه دلالة على استحباب الجهر من الإمام بالتسميع ليسمعوه فيقولون وفيه أيضا دليل لمذهب من يقول لا يزيد المأموم على قوله ربنا لك الحمد ولا يقول معه سمع الله لمن حمده . وفيه خلاف وسيأتي بسطه في باب ما يقول في رفعه . ومعنى سمع الله لمن حمده أجاب دعاء من حمده ومعنى قوله يسمع الله لكم يستجب لكم
قوله ( ربنا لك الحمد ) هكذا هو بلا واو وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بإثبات الواو وبحذفها والكل جائز ولا ترجيح لأحدهما على الآخر كذا قال النووي . والظاهر أن إثبات الواو أرجح لأنها زيادة مقبولة
قوله ( وإذا كان عند القعدة ) إلى آخر الحديث الكلام على بقية ألفاظه يأتي إن شاء الله تعالى في أبواب التشهد
وقد استدل بقوله ( فليكن من أول قول أحدكم ) على أنه يقول ذلك في أول جلوسه ولا يقول بسم الله . قال النووي : وليس هذا الاستدلال بواضح لأنه قال فليكن من أول ولم يقل فليكن أول
( والحديث ) يدل على مشروعية تكبير النقل وقد استدل به القائلون بوجوبه كما تقدم وهو أخص من الدعوى لأنه أمر للمؤتم فقط وقد دفعه الجمهور بما تقدم من عدم ذكر تكبير الانتقال في حديث المسيء وقد عرفت ما فيه بحديث ابن أبزى المتقدم

باب جهر الإمام بالتكبير ليسمع من خلفه وتبليغ الغير له عند الحاجة . [ ص 269 ]

1 - عن سعيد بن الحارث قال : ( صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين رفع وحين قام من الركعتين وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه البخاري وهو لأحمد بلفظ أبسط من هذا

- الحديث يدل على مشروعية الجهر بالتكبير للانتقال وقد كان مروان وسائر بني أمية يسرون به ولهذا اختلف الناس لما صلى أبو سعيد هذه الصلاة فقام على المنبر فقال إني والله ما أبالي اختلفت صلاتكم أم لم تختلف إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا يصلي وقد عرفت مما سلف أن أول من ترك تكبير النقل أي الجهر به عثمان ثم معاوية ثم زياد ثم سائر بني أمية

2 - وعن جابر قال : ( اشتكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه . ولمسلم والنسائي قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر وأبو بكر خلفه فإذا كبر كبر أبو بكر يسمعنا )

- الحديث يأتي وشرحه إن شاء الله تعالى في باب الإمام ينتقل مأموما وقد ذكره المصنف هنا للاستدلال به على جواز رفع الصوت بالتكبير ليسمعه الناس ويتبعوه وأنه يجوز للمقتدي إتباع صوت المكبر وهذا مذهب الجمهور وقد نقل أنه إجماع قال النووي : وما أراه يصح الإجماع فيه فقد نقل القاضي عياض عن مذهبهم أن منهم من أبطل صلاة المقتدي ومنهم من لم يبطلها ومنهم من قال إن أذن له الإمام في الإسماع صح الإقتداء به وإلا فلا ومنهم من أبطل صلاة المسمع ومنهم من صححها ومنهم من شرط إذن الإمام ومنهم من قال إن تكلف صوتا بطلت صلاته وصلاة من ارتبط بصلاته وكل هذا ضعيف والصحيح جواز كل ذلك وصحة صلاة المسمع والسامع ولا يعتبر إذن الإمام

باب هيئات الركوع . [ ص 270 ]

1 - عن أبي مسعود عقبة بن عمرو : ( أنه ركع فجافى يديه ووضع يديه على ركبتيه وفرج بين أصابعه من وراء ركبتيه وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي

2 - وفي حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك )
- رواه أبو داود

- الحديث الأول طرف من حديث أبي مسعود . والثاني طرف من حديث رفاعة بن رافع في وصف تعليمه صلى الله عليه وآله وسلم للمسيء صلاته وكلاهما لا مطعن فيه فإن جميع رجال إسنادهما ثقات
قوله ( فجافى يديه ) أي باعدهما عن جنبيه وهو من الجفاء وهو البعد عن الشيء
قوله ( وفرج بين أصابعه ) أي فرق بينها جاعلا لها وراء ركبتيه
قوله ( فضع راحتيك ) تثنية راحة وهي الكف جمعها راح بغير تاء
قوله ( على ركبتيك ) فيه رد على أهل التطبيق وسيأتي البحث في ذلك قريبا
( والحديثان ) يدلان على مشروعية ما اشتملا عليه من هيئات الركوع ولا خلاف في شيء منها بين أهل العلم إلا للقائلين بمشروعية التطبيق

3 - وعن مصعب بن سعد قال : ( صليت إلى جنب أبي فطبقت بين كفي ثم وضعتهما بين فخذي فنهاني عن ذلك وقال كنا نفعل هذا فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب )
- رواه الجماعة

- وفي الباب عن عمر عند النسائي والترمذي وصححه . وعن أنس أشار إليه الترمذي أيضا . وعن أبي حميد الساعدي وأبي أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة إلى تمام عشرة من الصحابة عند الخمسة وقد تقدم . وعن عائشة عند ابن ماجه
قوله ( مصعب بن سعد ) يعني ابن أبي وقاص
قوله ( فطبقت ) التطبيق الإلصاق بين باطني الكفين حال الركوع وجعلهما بين الفخذين
قوله ( كنا نفعل هذا فأمرنا ) لفظ البخاري والترمذي وغيرهما : ( كنا نفعله فنهينا عنه وأمرنا ) الخ فيه دليل على نسخ التطبيق لأن هذه الصيغة حكمها الرفع قال الترمذي : التطبيق منسوخ عند أهل العلم وقال : لا اختلاف بينهم في ذلك إلا ما روي عن ابن [ ص 271 ] مسعود وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبقون انتهى
وقد روى النووي عن علقمة والأسود أنهما يقولان بمشروعية التطبيق . وأخرج مسلم عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله فذكر الحديث قال : فوضعنا أيدينا على ركبنا فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه فلما صلى قال هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وروى ابن خزيمة عن ابن مسعود أنه قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد أن يركع طبق يديه بين ركبتيه فركع فبلغ ذلك سعدا فقال صدق أخي كنا نفعل ذلك ثم أمرنا بهذا . يعني الإمساك بالركب . وقد اعتذر عن ابن مسعود وصاحبيه بأن الناسخ لم يبلغهم . وقد روى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال إنما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة يعني التطبيق قال الحافظ : وإسناده قوي
واستدل ابن خزيمة بقوله نهينا على أن التطبيق غير جائز قال الحافظ : وفيه نظر لاحتمال حمل النهي على الكراهة فقد روى ابن أبي شيبة من طريق عاصم بن ضمرة عن علي قال : ( إذا ركعت فإن شئت قلت هكذا ) يعني وضعت يديك على ركبتيك ( وإن شئت طبقت ) وإسناده حسن وهو ظاهر في أنه كان يرى التخيير أو لم يبلغه الناسخ والظاهر ما قاله ابن خزيمة لأن المعنى الحقيقي للنهي على ما هو الحق التحريم وقول الصحابي لا يصلح قرينة لصرفه إلى المجاز

باب الذكر في الركوع والسجود

1 - عن حذيفة قال : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى وما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل ولا آية عذاب إلا تعوذ منها )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي

- الحديث أخرجه أيضا مسلم . قوله ( يسأل ) أي الرحمة . قوله ( تعوذ ) أي من العذاب وشر العقاب . قال ابن رسلان : ولا بآية تسبيح إلا سبح وكبر ولا بآية دعاء واستغفار إلا دعا واستغفر وإن مر بمرجو سأل يفعل ذلك بلسانه أو بقلبه
( والحديث ) يدل على مشروعية هذا التسبيح في الركوع والسجود وقد ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء من أئمة العترة وغيرهم إلى أنه سنة وليس بواجب . وقال إسحاق بن راهويه : التسبيح واجب فإن تركه عمدا بطلت صلاته وإن نسيه لم تبطل . وقال الظاهري : واجب مطلقا [ ص 272 ] وأشار الخطابي في معالم السنن إلى اختياره . وقال أحمد : التسبيح في الركوع والسجود وقول سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد والذكر بين السجدتين وجميع التكبيرات واجب فإن ترك منه شيئا عمدا بطلت صلاته وإن نسيه لم تبطل ويسجد للسهو هذا هو الصحيح عنه وعنه رواية أنه سنة كقول الجمهور وقد روي القول بوجوب تسبيح الركوع والسجود عن ابن خزيمة
( احتج الموجبون ) بحديث عقبة بن عامر الآتي بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وبقول الله تعالى { وسبحوه } ولا وجوب في غير الصلاة فتعين أن يكون فيها وبالقياس على القراءة
( واحتج الجمهور ) بحديث المسيء صلاته فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمه واجبات الصلاة ولم يعلمه هذه الأذكار مع أنه علمه تكبيرة الإحرام والقراءة فلو كانت هذه الأذكار واجبة لعلمه إياها لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فيكون تركه لتعليمه دالا على أن الأوامر الواردة بما زاد على ما علمه للاستحباب لا للوجوب
( والحديث ) يدل على أن التسبيح في الركوع والسجود يكون بهذا اللفظ فيكون مفسرا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عقبة ( اجعلوها في ركوعكم اجعلوها في سجودكم ) وإلى ذلك ذهب الجمهور من أهل البيت وبه قال جميع من عداهم . وقال الهادي والقاسم والصادق أنه سبحان الله العظيم وبحمده في الركوع وسبحان الله الأعلى وبحمده في السجود . واستدلوا بظاهر قوله { فسبح باسم ربك العظيم } و { سبح اسم ربك الأعلى } وقد أمر صلى الله عليه و سلم بجعل الأولى في الركوع والثانية في السجود كما سيأتي في حديث عقبة ولكنه لا يتم إلا على فرض أنه ليس لله جل جلاله إلا اسم واحد وقد تقرر أن له تسعة وتسعين اسما بالأحاديث الصحيحة وأن له أسماء متعددة بصريح القرآن { ولله الأسماء الحسنى } فامتثال ما في الآيتين يحصل بالمجيء بأي اسم منها مثل سبحان ربي وسبحان الله وسبحان الأحد وغير ذلك لكنه قد ورد من فعله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على بيان المراد من ذلك كحديث الباب وغيره وكذلك ورد من قوله ما يدل على ذلك كحديث ابن مسعود الآتي فتعين أن لفظ الرب هو المراد
وبهذا يندفع ما ألزم به صاحب البحر من تلاوة لفظ الآيتين في الركوع والسجود وأما زيادة وبحمده فهي عند أبي داود من حديث عقبة الآتي وعند الدارقطني من حديث ابن مسعود الآتي أيضا . وعنده أيضا من حديث حذيفة . وعند أحمد والطبراني من حديث أبي مالك الأشعري وعند الحاكم من حديث أبي جحيفة [ ص 273 ] ولكنه قال أبو داود بعد إخراجه لها من حديث عقبة أنه يخاف أن لا تكون محفوظة . وفي حديث ابن مسعود السري بن إسماعيل وهو ضعيف . وفي حديث حذيفة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف . وفي حديث أبي مالك شهر بن حوشب وقد رواه أحمد والطبراني أيضا من طريق ابن السعدي عن أبيه بدونها . وحديث أبي جحيفة قال الحافظ : إسناده ضعيف وقد أنكر هذه الزيادة ابن الصلاح وغيره ولكن هذه الطرق تتعاضد فيرد بها هذا الإنكار . وسئل أحمد عنها فقال أما أنا فلا أقول وبحمده انتهى

2 - وعن عقبة بن عامر قال : ( لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه
قوله ( اجعلوها ) قد تبين بالحديث الأول وبما سيأتي كيفية هذا الجعل والحكمة في تخصيص الركوع بالعظيم والسجود بالأعلى أن السجود لما كان فيه غاية التواضع لما فيه من وضع الجبهة التي هي أشرف الأعضاء على مواطئ الأقدام كان أفضل من الركوع فحسن تخصيصه بما فيه صيغة أفعل التفضيل وهو الأعلى بخلاف العظيم جعلا للأبلغ مع الأبلغ والمطلق مع المطلق
( والحديث ) يصلح متمسكا للقائلين بوجوب تسبيح الركوع والسجود وقد تقدم الجواب عنهم

3 - وعن عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

- قوله ( سبوح قدوس ) بضم أولهما وبفتحهما والضم أكثر وأفصح . قال ثعلب : كل اسم على فعول فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيهما أكثر . قال الجوهري : سبوح من صفات الله . وقال ابن فارس والزبيدي وغيرهما : سبوح هو الله عز و جل والمراد المسبح والمقدس فكأنه يقول مسبح مقدس . ومعنى سبوح المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالإلهية . وقدوس المطهر من كل ما لا يليق بالخالق وهما خبران مبتدؤهما محذوف تقديره ركوعي وسجودي لمن هو سبوح قدوس . وقال الهروي : قيل القدوس المبارك قال القاضي عياض : وقيل فيه سبوحا قدوسا على تقدير [ ص 274 ] أسبح سبوحا أو أذكر أو أعظم أو أعبد
قوله ( رب الملائكة والروح ) هو من عطف الخاص على العام لأن الروح من الملائكة وهو ملك عظيم يكون إذا وقف كجميع الملائكة . وقيل يحتمل أن يكون جبريل وقيل خلق لا تراهم الملائكة كنسبة الملائكة إلينا

4 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن )
- رواه الجماعة إلا الترمذي

- قوله ( يكثر أن يقول ) في رواية : ( ما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول فيها سبحانك ) الحديث وفي بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها
قوله ( سبحانك ) هو منصوب على المصدرية والتسبيح التنزيه كما تقدم
قوله ( وبحمدك ) هو متعلق بمحذوف دل عليه التسبيح أي وبحمدك سبحتك ومعناه بتوفيقك لي وهدايتك وفضلك علي سبحتك لا بحولي وقوتي . قال القرطبي : ويظهر وجه آخر وهو إبقاء معنى الحمد على أصله وتكون الباء باء السببية ويكون معناه بسبب أنك موصوف بصفات الكمال والجلال سبحك المسبحون وعظمك المعظمون . وقد روي بحذف الواو من قوله وبحمدك وبإثباتها
قوله ( اللهم اغفر لي ) يؤخذ منه إباحة الدعاء في الركوع وفيه رد على من كرهه فيه كمالك
( واحتج من قال ) بالكراهة بحديث مسلم وأبي داود والنسائي بلفظ : ( أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ) الحديث وسيأتي ولكنه لا يعارض ما ورد من الأحاديث الدالة على إثبات الدعاء في الركوع لأن تعظيم الرب فيه لا ينافي الدعاء كما أن الدعاء في السجود لا ينافي التعظيم . قال ابن دقيق العيد : ويمكن أن يحمل حديث الباب على الجواز وذلك على الأولوية ويحتمل أنه أمر في السجود بتكثير الدعاء والذي وقع في الركوع من قوله اللهم اغفر لي ليس كثيرا
قوله ( يتأول القرآن ) يعني قوله تعالى { فسبح بحمد ربك واستغفره } أي يعمل بما أمر به فيه فكان يقول هذا الكلام البديع في الجزالة المستوفي ما أمر به في الآية وكان يأتي به في الركوع والسجود لأن حالة الصلاة أفضل من غيرها فكان يختارها لأداء هذا الواجب الذي أمر به فيكون أكمل

5 - وعن عون بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله [ ص 275 ] عليه وآله وسلم قال : إذا ركع أحدهم فقال في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعه وذلك أدناه وإذا سجد فقال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجوده وذلك أدناه )
- رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وهو مرسل عون لم يلق ابن مسعود

- الحديث قال أبو داود : مرسل كما قال المصنف قال : لأن عونا لم يدرك عبد الله وذكره البخاري في تاريخه الكبير وقال : مرسل . وقال الترمذي : ليس إسناده بمتصل انتهى . وعون هذا ثقة سمع جماعة من الصحابة وأخرج له مسلم . وفي الحديث مع الإرسال إسحاق بن يزيد الهذلي راويه عن عون لم يخرج له في الصحيح . قال ابن سيد الناس : لا نعلمه وثق ولا عرف إلا برواية ابن أبي ذئب عنه خاصة فلم ترتفع عنه الجهالة العينية ولا الحالية
قوله ( وذلك أدناه ) في الموضعين أي أدنى الكمال وفيه إشعار بأنه لا يكون المصلي متسننا بدون الثلاث . وقد قال الماوردي : إن الكمال إحدى عشرة أو تسع وأوسطه خمس ولو سبح مرة حصل التسبيح . وروى الترمذي عن ابن المبارك وإسحاق بن راهويه أنه يستحب خمس تسبيحات للإمام وبه قال الثوري ولا دليل على تقييد الكمال بعدد معلوم بل ينبغي الاستكثار من التسبيح على مقدار تطويل الصلاة من غير تقييد بعدد . وإما إيجاب سجود السهو فيما زاد على التسع واستحباب أن يكون عدد التسبيح وترا لا شفعا فيما زاد على الثلاث فمما لا دليل عليه

6 - وعن سعيد بن جبير عن أنس قال : ( ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال : فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي

- الحديث رجال إسناده كلهم ثقات إلا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان أبو يزيد الصنعاني قال أبو حاتم : صالح الحديث . وقال النسائي : ليس به بأس وليس له عند أبي داود والنسائي إلا هذا الحديث
قوله ( فحزرنا ) أي قدرنا . قوله ( عشر تسبيحات ) قيل فيه حجة لمن قال إن كمال التسبيح عشر تسبيحات والأصح أن المنفرد يزيد في التسبيح ما أراد وكلما زاد كان أولى والأحاديث الصحيحة في تطويله صلى الله عليه وآله وسلم ناطقة بهذا وكذلك الإمام إذا كان المؤتمون لا يتأذون بالتطويل
( فائدة ) من الأذكار المشروعة في الركوع والسجود ما تقدم في حديث علي عليه السلام في باب الاستفتاح . ومنها ما أخرجه [ ص 276 ] أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عوف بن مالك الأشجعي : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في ركوعه سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ثم قال في سجوده مثل ذلك ) ومنها ما أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سجوده اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله أوله وآخره وعلانيته وسره ) ومنها ما أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة : ( أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في سجوده في صلاة الليل أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) وقد ورد الأذن بمطلق التعظيم في الركوع وبمطلق الدعاء في السجود كما سيأتي في الباب الذي بعد هذا

باب النهي عن القراءة في الركوع والسجود

1 - عن ابن عباس قال : ( كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال : يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود

- قوله ( كشف الستارة ) بكسر السين المهملة وهي الستر الذي يكون على باب البيت والدار
قوله ( من مبشرات النبوة ) أي من أول ما يبدو منها مأخوذ من تباشير الصبح وهو أول ما يبدو منه وهو كقول عائشة أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الحديث وفيه أن الرؤيا من المبشرات سواء رآها المسلم أو رآها غيره
قوله ( ألا وإني نهيت ) النهي له صلى الله عليه وآله وسلم نهي لأمته كما يشعر بذلك قوله في الحديث ( أما الركوع ) إلى آخره ويشعر به أيضا ما في صحيح مسلم وغيره أن عليا قال : ( نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا ) ويدل عليه أيضا التأسي العامة وفيه خلاف في الأصول وهذا النهي يدل على تحريم قراءة القرآن في الركوع والسجود وفي بطلان الصلاة بالقراءة حال الركوع والسجود خلاف
قوله ( أما الركوع فعظموا فيه الرب ) [ ص 277 ] أي سبحوه ونزهوه ومجدوه وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم اللفظ الذي يقع به هذا التعظيم بالأحاديث المتقدمة في الباب الذي قبل هذا
قوله ( وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ) فيه الحث على الدعاء في السجود وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء )
قوله ( فقمن ) قال النووي : هو بفتح القاف وفتح الميم وكسرها لغتان مشهورتان فمن فتح فهو عنده مصدر لا يثنى ولا يجمع ومن كسر فهو وصف يثنى ويجمع قال : وفيه لغة ثالثة قمين بزيادة الياء وفتح القاف وكسر الميم ومعناه حقيق وجدير . ويستحب الجمع بين الدعاء والتسبيح المتقدم ليكون المصلي عاملا بجميع ما ورد والأمر بتعظيم الرب في الركوع والاجتهاد في الدعاء في السجود محمول على الندب عند الجمهور وقد تقدم ذكر من قال بوجوب تسبيح الركوع والسجود

باب ما يقول في رفعه من الركوع وبعد انتصابه

1 - عن أبي هريرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد ثم يكبر حين يهوي ساجدا ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يهوي ساجدا ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس )
- متفق عليه . وفي رواية لهم ( ربنا لك الحمد )

- قوله ( إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ) فيه أن التكبير يكون مقارنا لحال القيام وأنه لا يجزئ من قعود . وقد اختلف في وجوب تكبيرة الإحرام وقد قدمنا الكلام على ذلك
قوله ( ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد ) فيه متمسك لمن قال إنه يجمع بين التسميع والتحميد كل مصل من غير فرق بين الإمام والمؤتم والمنفرد وهو الشافعي ومالك وعطاء وأبو داود وأبو بردة ومحمد بن سيرين وإسحاق وداود قالوا : إن المصلي إذا رفع رأسه من الركوع يقول في حال ارتفاعه سمع الله لمن حمده فإذا استوى قائما يقول ربنا ولك الحمد
وقال الإمام يحيى والثوري والأوزاعي وروي عن مالك : إنه يجمع بينهما الإمام والمنفرد ويحمد المؤتم . وقال أبو يوسف ومحمد : يجمع بينهما الإمام والمنفرد أيضا [ ص 278 ] ولكن يسمعل المؤتم . وقال الهادي والقاسم وأبو حنيفة : إنه يقول الإمام والمنفرد سمع الله لمن حمده فقط والمأموم ربنا لك الحمد فقط وحكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي ومالك وأحمد قال وبه أقول انتهى . وهو مروي عن الناصر
( احتج القائلون ) بأنه يجمع بينهما كل مصل بحديث الباب ولكنه أخص من الدعوى لأنه حكاية لصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إماما كما هو المتبادر والغالب إلا أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) يدل على عدم اختصاص ذلك بالإمام
( واحتجوا أيضا ) بما نقله الطحاوي وابن عبد البر من الإجماع على أن المنفرد يجمع بينهما وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما فيلحق بهما المؤتم لأن الأصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستثنائه
( واحتجوا ) أيضا بما أخرجه الدارقطني عن بريدة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بريدة إذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ) وظاهره عدم الفرق بين كونه منفردا أو إماما أو مأموما ولكن سنده ضعيف . وبما أخرجه أيضا عن أبي هريرة قال : ( كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال سمع الله لمن حمده قال من ورائه سمع الله لمن حمده )
( احتج القائلون ) بأنه يجمع بينهما الإمام والمنفرد ببعض هذه الأدلة
( واحتج القائلون ) بأن الإمام والمنفرد يقولان سمع الله لمن حمده فقط والمأموم ربنا لك الحمد فقط بحديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إنما جعل الإمام ليؤتم به ) وفيه ( وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد ) أخرجه الشيخان وأخرجا نحوه من حديث عائشة وقد تقدم نحو ذلك في باب التكبير للركوع والسجود من حديث أبي موسى وسيأتي نحوه من حديث أنس . ويجاب بأن أمر المؤتم بالحمد عند تسميع الإمام لا ينافي فعله له كما أنه لا ينافي قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين ) قراءة المؤتم للفاتحة وكذلك أمر المؤتم بالتحميد لا ينافي مشروعيته للإمام كما لا ينافي أمر المؤتم بالتأمين تأمين الإمام وقد استفيد التحميد للإمام والتسميع للمؤتم من أدلة أخرى هي المذكورة سابقا والواو في قوله ( ربنا ولك الحمد ) ثابتة في أكثر الروايات وقد قدمنا أنها زيادة فيكون الأخذ بها أرجح لا كما قال النووي إنه لا ترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى وهي عاطفة على مقدر بعد قوله ربنا وهو استجب كما قال ابن دقيق العيد أو حمدناك كما قال النووي أو الواو [ ص 279 ] زائدة كما قال أبو عمر بن العلاء أو للحال كما قال غيره . وروي عن أحمد بن حنبل أنه إذا قال ربنا قال ولك الحمد وإذا قال اللهم ربنا قال لك الحمد . قال ابن القيم : لم يأت في حديث صحيح الجمع بين لفظ اللهم وبين الواو . وأقول قد ثبت الجمع بينهما في صحيح البخاري في باب الصلاة للقاعد من حديث أنس بلفظ ( وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد ) وقد تطابقت على هذا اللفظ النسخ الصحيحة من صحيح البخاري
قوله ( ثم يكبر حين يهوي ) فيه أن التكبير ذكر الهوي فيبتدئ به من حين يشرع في الهوي بعد الاعتدال إلى حين يتمكن ساجدا
قوله ( وفي رواية لهم ) يعني البخاري ومسلما وأحمد لأن المتفق عليه في اصطلاحه هو ما أخرجه هؤلاء الثلاثة كما تقدم في أول الكتاب لا ما أخرجه الشيخان فقط كما هو اصطلاح غيره
( والحديث ) يدل على مشروعية تكبير النقل وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى

2 - وعن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد )
- متفق عليه

- الحديث قد سبق شرحه في باب التكبير للركوع والسجود . وفي الحديث الذي في أول الباب وقد احتج به القائلون بأن الإمام والمنفرد يقولان سمع الله لمن حمده فقط والمؤتم يقول ربنا ولك الحمد فقط . وقد عرفت الجواب عن ذلك

3 - وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد )
- رواه مسلم والنسائي

- الحديث قد تقدم طرف من شرحه في حديث علي المتقدم في باب ذكر الاستفتاح بين التكبير والقراءة
قوله ( أهل الثناء والمجد ) هو في صحيح مسلم بزيادة : ( أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد ) قبل قوله لا مانع الخ . وأهل منصوب على النداء أو الاختصاص وهذا هو المشهور وجوز بعضهم رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف والثناء الوصف الجميل والمجد العظمة والشرف وقد وقع في بعض نسخ مسلم الحمد مكان المجد
قوله ( لا مانع لما أعطيت ) هذه جملة مستأنفة متضمنة للتفويض والإذعان والاعتراف
قوله ( ذا الجد ) بفتح الجيم على المشهور وروى ابن عبد البر عن البعض الكسر . قال ابن جرير : وهو خلاف ما عرفه أهل النقل ولا يعلم من قاله غيره ومعناه بالفتح الحظ [ ص 280 ] والغنى والعظمة أي لا ينفعه ذلك وإنما ينفعه العمل الصالح وبالكسر الاجتهاد أي لا ينفعه اجتهاده وإنما تنفعه الرحمة
( والحديث ) يدل على مشروعية تطويل الاعتدال من الركوع والذكر فيه بهذا . وقد وردت في تطويله أحاديث كثيرة وسيأتي الكلام على ذلك

باب في أن الانتصاب بعد الركوع فرض

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده )
- رواه أحمد

2 - وعن علي بن شيبان : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود )
- رواه أحمد وابن ماجه

3 - وعن أبي مسعود الأنصاري قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي

- الحديث الأول تفرد به أحمد من رواية عبد الله بن زيد الحنفي قال في مجمع الزوائد : ولم أجد من ترجمه وقد ذكر ابن حجر في المنفعة أنه وهم الهيثمي في تسميته عبد الله بن زيد وأنه عبد الله بن بدر وهو معروف موثق ولكنه قال إن عبد الله بن بدر لا يروي عن أبي هريرة إلا بواسطة
والحديث الثاني أخرجه أيضا ابن ماجه من طريق أبي بكر ابن أبي شيبة عن ملازم بن عمرو وقد وثقه أحمد ويحيى والنسائي . وقال أبو داود : ليس به بأس عن عبد الله بن بدر وقد وثقه ابن معين والعجلي وأبو زرعة عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان وقد وثقه ابن حبان
والحديث الثالث إسناده صحيح وصححه الترمذي كما قال المصنف
( وفي الباب ) عن أنس عند الشيخين وعن أبي هريرة من حديث المسيء صلاته وسيأتي . وعن رفاعة الزرقي عند أبي داود والترمذي والنسائي من حديث المسيء صلاته أيضا . وعن حذيفة عند أحمد والبخاري وسيأتي . وعن أبي قتادة عند أحمد وعن أبي سعيد عنده أيضا وسيأتيان . وعن عبد الرحمن بن شبل عند أبي داود والنسائي وابن ماجه
( والأحاديث ) المذكورة في الباب تدل على وجوب الطمأنينة في الاعتدال من الركوع والاعتدال بين السجدتين وإلى ذلك ذهبت العترة والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وأكثر العلماء قالوا ولا تصح [ ص 281 ] صلاة من لم يقم صلبه فيهما وهو الظاهر من أحاديث الباب لما قررناه غير مرة من أن النفي إن لم يمكن توجهه إلى الذات توجه إلى الصحة لأنها أقرب إليها . وقال أبو حنيفة وهو مروي عن مالك إن الطمأنينة في الموضعين غير واجبة بل لو انحط من الركوع إلى السجود أو رفع رأسه عن الأرض أدنى رفع أجزأه ولو كحد السيف
( واحتج أبو حنيفة ) بقوله تعالى { اركعوا واسجدوا } وقد عرفناك في باب قراءة الفاتحة أن الفرض عنده لا يثبت بما يزيد على القرآن وبينا بطلانه هنالك وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب الجلسة بين السجدتين إن شاء الله

باب هيئات السجود وكيف الهوي إليه

1 - عن وائل بن حجر قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه )
- رواه الخمسة إلا أحمد

- الحديث قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرف أحدا رواه غير شريك وذكر أنهما ما رواه عن عاصم مرسلا ولم يذكر وائل بن حجر قال اليعمري : من شأن الترمذي التصحيح بمثل هذا الإسناد فقد صحح حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل ( لأنظرن إلى صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما جلس للتشهد ) الحديث وإنما الذي قصر بهذا عن التصحيح عنده الغرابة التي أشار إليها وهي تفرد يزيد بن هارون عن شريك وهو لا يحطه عن درجة الصحيح لجلالة يزيد وحفظه وأما تفرد شريك به عن عاصم وبه صار حسنا فإن شريكا لا يصحح حديثه منفردا هذا معنى كلامه
وكذلك علل الحديث النسائي بتفرد يزيد بن هارون عن شريك وقال الدارقطني : تفرد به يزيد عن شريك ولم يحدث به عن عاصم بن كليب غير شريك وشريك ليس بالقوي فيما يتفرد به . وقال البيهقي : هذا حديث يعد في أفراد شريك القاضي وإنما تابعه همام مرسلا هكذا ذكر البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين وأخرج الحديث أبو داود من طريق محمد بن جحادة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال المنذري : عبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه وكذا قال ابن معين وأخرجه أيضا من طريق همام عن شقيق عن عاصم بن كليب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مرسل . وكذا قال الترمذي وغيره كما تقدم لأن كليب بن شهاب والد عاصم لم يدرك النبي صلى الله عليه و سلم
( وفي الباب ) عن [ ص 282 ] أنس : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه ) أخرجه الحاكم والبيهقي والدارقطني وقال : تفرد به العلاء بن إسماعيل وهو مجهول وقال الحاكم : هو على شرطهما ولا أعلم له علة وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : إنه منكر
( الحديث ) يدل على مشروعية وضع الركبتين قبل اليدين ورفعهما عند النهوض قبل رفع الركبتين وإلى ذلك ذهب الجمهور وحكاه القاضي أبو الطيب عن عامة الفقهاء وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب والنخعي ومسلم بن يسار وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي قال وبه أقول
وذهبت العترة والأوزاعي ومالك وابن حزم إلى استحباب وضع اليدين قبل الركبتين وهي رواية عن أحمد وروى الحازمي عن الأوزاعي أنه قال : أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم قال ابن أبي داود : وهو قول أصحاب الحديث
( واحتجوا ) بحديث أبي هريرة الآتي وهو أقوى لأن له شاهدا من حديث ابن عمر أخرجه ابن خزيمة وصححه وذكره البخاري تعليقا موقوفا كذا قال الحافظ في بلوغ المرام . وقد أخرجه الدارقطني والحاكم في المستدرك مرفوعا بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه ) وقال : على شرط مسلم
( وأجاب الأولون ) عن ذلك بأجوبة : منها أن حديث أبي هريرة وابن عمر منسوخان بما أخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : ( كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين ) ولكنه قال الحازمي في إسناده مقال ولو كان محفوظا لدل على النسخ غير أن المحفوظ عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق . وقال الحافظ في الفتح : إنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن سلمة بن كهيل عن أبيه وهما ضعيفان وقد عكس ابن حزم فجعل حديث أبي هريرة في وضع اليدين قبل الركبتين ناسخا لما خالفه . ومنها ما جزم به ابن القيم في الهدي أن حديث أبي هريرة الآتي انقلب متنه على بعض الرواة قال : ولعله وليضع ركبتيه قبل يديه قال : وقد رواه كذلك أبو بكر ابن أبي شيبة فقال حدثنا محمد بن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل ) ورواه الأثرم في سننه أيضا عن أبي بكر كذلك وقد روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يصدق ذلك ويوافق حديث وائل بن حجر
قال ابن أبي داود حدثنا يوسف بن عدي حدثنا ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه ) اه ولكنه قد [ ص 283 ] ضعف عبد الله بن سعيد يحيى القطان وغيره قال أبو أحمد الحاكم : إنه ذاهب الحديث . وقال أحمد بن حنبل : هو منكر الحديث متروك الحديث . وقال يحيى بن معين : ليس بشيء لا يكتب حديثه وقال أبو زرعة : هو ضعيف لا يوقف منه على شيء وقال أبو حاتم : ليس بقوي . وقال ابن عدي : عامة ما يرويه الضعف عليه بين
( ومما أجاب به ابن القيم ) عن حديث أبي هريرة أن أوله يخالف آخره قال : فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير فإن البعير إنما يضع يديه أولا قال : ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا ركبتا البعير في يديه لا في رجليه فهو إذا برك وضع ركبتيه أولا فهذا هو المنهي عنه قال : وهو فاسد لوجوه حاصلها : أن البعير إذا برك يضع يديه ورجلاه قائمتان وهذا هو المنهي عنه وإن القول بأن ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة وأنه لو كان الأمر كما قالوا لقال صلى الله عليه وآله وسلم فليبرك كما يبرك البعير لأن أول ما يمس الأرض من البعير يداه
ومن الأجوبة التي أجاب بها الأولون عن حديث أبي هريرة الآتي أن حديث وائل أرجح منه كما قال الخطابي وغيره ويجاب عنه بأن المقال الذي سيأتي على حديث أبي هريرة لا يزيد على المقال الذي تقدم في حديث وائل على أنه قد رجحه الحافظ كما عرفت وكذلك الحافظ ابن سيد الناس قال : أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح وقال : ينبغي أن يكون حديث أبي هريرة داخلا في الحسن على رسم الترمذي لسلامة رواته من الجرح . ومنها الاضطراب في حديث أبي هريرة فإن منهم من يقول وليضع يديه قبل ركبتيه . ومنهم من يقول بالعكس كما تقدم . ومنهم من يقول وليضع يديه على ركبتيه كما رواه البيهقي . ومنها أن حديث وائل موافق لما نقل عن الصحابة كعمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن مسعود . ومنها أن لحديث وائل شواهد من حديث أنس وابن عمر ويجاب عنه بأن لحديث أبي هريرة شواهد كذلك . ومنها أنه مذهب الجمهور
( ومن المرجحات ) لحديث أبي هريرة أنه قول وحديث وائل حكاية فعل والقول أرجح مع أنه تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه و سلم لا يعارض قوله الخاص بالأمة ومحل النزاع من هذا القبيل
وأيضا حديث أبي هريرة مشتمل على النهي المقتضي للحظر وهو مرجح مستقل وهذا خلاصة ما تكلم به الناس في هذه المسألة وقد أشرنا إلى تزييف البعض منه والمقام من معارك الأنظار ومضايق الأفكار ولهذا قال النووي لا يظهر له ترجيح أحد المذهبين
وأما الحافظ ابن القيم فقد رجح حديث وائل بن حجر وأطال الكلام في ذلك وذكر عشرة مرجحات قد أشرنا ههنا إلى بعضها
وقد حاول المحقق المقبلي الجمع بين الأحاديث بما [ ص 284 ] حاصله أن من قدم يديه أو قدم ركبتيه وأفرط في ذلك بمباعدة سائر أطرافه وقع في الهيئة المنكرة ومن قارب بين أطرافه لم يقع فيها سواء قدم اليدين أو الركبتين وهو مع كونه جمعا لم يسبقه إليه أحد تعطيل لمعاني الأحاديث وإخراج لها عن ظاهرها ومصير إلى ما لم يدل عليه دليل . ومثل هذا ما روى البعض عن مالك من جواز الأمرين ولكن المشهور عنه ما تقدم

2 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه ثم ركبتيه )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقال الخطابي : حديث وائل بن حجر أثبت من هذا

- الحديث أخرجه الترمذي وقال : غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه اه . وقال البخاري : إن محمد بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب لا يتابع عليه وقال : لا أدري سمع من أبي الزناد أو لا . وقال الدارقطني : تفرد به الدراوردي عن محمد بن عبد الله المذكور . قال المنذري : وفيما قال الدارقطني نظر فقد روى نحوه عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثه وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني : هذه سنة تفرد بها أهل المدينة ولهم فيها إسنادان هذا أحدهما والآخر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد قدمنا أنه أخرج حديث ابن عمر هذا الدارقطني والحاكم وابن خزيمة وصححه وقد أعله الدارقطني بتفرد الدراوردي أيضا عن عبيد الله بن عمر وقال في موضع آخر : تفرد به أصبغ بن الفرج عن الدراوردي اه
ولا ضير في تفرد الدراوردي فإنه قد أخرج له مسلم في صحيحه واحتج به وأخرج له البخاري مقرونا بعبد العزيز بن أبي حازم وكذلك تفرد أصبغ فإنه قد حدث عنه البخاري في صحيحه محتجا به
( والحديث ) استدل به القائلون بوضع اليدين قبل الركبتين وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى
قوله ( وليضع يديه ثم ركبتيه ) هو في سنن أبي داود وغيرها بلفظ ( قبل ركبتيه ) ولعل ما ذكره المصنف لفظ أحمد

3 - وعن عبد الله بن بحينة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه )
- متفق عليه

- قوله ( يجنح ) بضم الياء المثناة من تحت وفتح الجيم وكسر النون المشددة وروي فرج . وروي خوى وكلها بمعنى واحد . والمراد أنه نحى كل يد عن الجنب الذي يليها
[ ص 285 ] قوله ( حتى يرى ) قال النووي : هو بالنون وروي بالياء المثناة من تحت المضمومة وكلاهما صحيح
قوله ( وضح إبطيه ) هو البياض وفي رواية : ( حتى يبدو بياض إبطيه ) وفي أخرى : ( حتى إني لأرى بياض إبطيه ) قال الحافظ : قال القرطبي : والحكمة في استحباب هذه الهيئة أن يخف اعتماده على وجهه ولا يتأثر أنفه ولا جبهته ولا يتأذى بملاقاة الأرض قال : وقال غيره : هو أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان
وقال ابن المنير ما معناه : أن يتميز كل عضو بنفسه . وأخرج الطبراني وغيره بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا تفترش افتراش السبع واعتمد على راحتيك وأبد ضبعيك فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك ) وأخرج مسلم من حديث عائشة : ( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع ) وأخرج أيضا من حديث البراء مرفوعا : ( إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك ) . وظاهر هذه الأحاديث مع حديث أنس الآتي وجوب التفريج المذكور لولا ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة بلفظ : ( شكى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم له مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا فقال استعينوا بالركب ) وترجم له باب الرخصة في ذلك أي في ترك التفريج وفسره ابن عجلان أحد رواته بوضع المرفقين على الركبتين إذا طال السجود
وقد أخرجه الترمذي ولم يقع في روايته إذا انفرجوا فترجم له باب ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود فجعل محل الاستعانة بالركب حين يرتفع من السجود طالبا للقيام واللفظ يحتمل ما قال والزيادة التي أخرجها أبو داود تعين المراد ولكنه قال الترمذي : إنه لم يعرف الحديث إلا من هذا الوجه وذكر أنه روي من غير هذا الوجه مرسلا وكأنه أصح . وقال البخاري : إرساله أصح من وصله وهذا الإعلال غير قادح لأنه قد رفعه أئمة فرواه الليث عن ابن عجلان عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا والرفع من هؤلاء زيادة وتفردهم غير ضائر

4 - وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب )
- رواه الجماعة

- قوله ( ولا يبسط ) في رواية ولا يبتسط بزيادة التاء المثناة من فوق وفي رواية ( ولا يفترش ) ومعناه واحد كما قال ابن المنير وابن رسلان أي لا يجعل ذراعيه على الأرض كالفراش والبساط . قال القرطبي : ولا شك في كراهة هذه الهيئة ولا في استحباب نقيضها
[ ص 286 ] قوله ( انبساط الكلب ) في رواية ( افتراش الكلب ) وقد عرفت أن معناهما واحد والانبساط مصدر فعل محذوف تقديره ولا يبسط فينبسط انبساط الكلب ومثله قوله تعالى { والله أنبتكم من الأرض نباتا } وقوله تعالى { وأنبتها نباتا حسنا } أي أنبتكم فنبتم نباتا وأنبتها نباتا . والمراد بالاعتدال المأمور به في الحديث هو التوسط بين الافتراش والقبض
وظاهر الحديث الوجوب وقد تقدم في شرح الحديث الأول ما يدل على صرفه عنه إلى الاستحباب

5 - وعن أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه )
- رواه أبو داود

- حديث أبي حميد قد تقدم ذكر من أخرجه في باب رفع اليدين وهذا طرف منه
قوله ( فرج بين فخذيه ) أي فرق بين فخذيه وركبتيه وقدميه قال أصحاب الشافعي : يكون التفريق بين القدمين بقدر شبر
قوله ( غير حامل بطنه ) بفتح الراء من غير والمراد أنه لم يجعل شيئا من فخذيه حاملا لبطنه بل يرفع بطنه عن فخذيه حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت
( والحديث ) يدل على مشروعية التفريج بين الفخذين في السجود ورفع البطن عنهما ولا خلاف في ذلك

6 - وعن أبي حميد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه )
- رواه أبو داود والترمذي وصححه

- وهذا أيضا طرف من حديث أبي حميد المتقدم وأخرجه بهذا اللفظ أيضا ابن خزيمة في صحيحه
قوله ( أمكن ) يقال أمكنته من الشيء ومكنته منه فتمكن واستمكن أي قوي عليه . وفيه دليل على مشروعية السجود على الأنف والجبهة وسيأتي الكلام عليه
قوله ( ونحى يديه ) فيه مشروعية التخوية في السجود كما في الركوع
قوله ( ووضع كفيه ) هذه الرواية مبينة للرواية الأخرى الواردة بلفظ : ( ووضع يديه )
قوله ( حذو منكبيه ) فيه مشروعية وضع اليدين في السجود حذو المنكبين

باب أعضاء السجود

1 - عن العباس بن عبد المطلب : ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه )
- رواه الجماعة إلا البخاري

[ ص 287 ] - قوله ( آراب ) بالمد جمع إرب بكسر أوله وإسكان ثانيه وهو العضو
( الحديث ) يدل على أن أعضاء السجود سبعة وأنه ينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها وقد اختلف العلماء في وجوب السجود على هذه السبعة الأعضاء فذهبت العترة والشافعي في أحد قوليه إلى وجوب السجود على جميعها للأوامر التي ستأتي من غير فصل بينها . وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وأكثر الفقهاء الواجب السجود على الجبهة فقط لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( ومكن جبهتك ) ووافقهم المؤيد بالله في عدم وجوب السجود على القدمين والحق ما قاله الأولون

2 - وعن ابن عباس قال : ( أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعرا ولا ثوبا الجبهة واليدين والركبتين والرجلين )
- أخرجاه وفي لفظ : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين والقدمين ) متفق عليه . وفي رواية : ( أمرت أن أسجد على سبع ولا أكفت الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين ) رواه مسلم والنسائي

- قوله ( أمر ) قال الحافظ : هو بضم الهمزة في جميع الروايات على البناء لما لم يسم فاعله وهو الله جل جلاله . قال البيضاوي : وعرف ذلك بالعرف وذلك يقتضي الوجوب ونظره الحافظ قال : لأنه ليس فيه صيغة أفعل وهو ساقط لأن لفظ أمر أدل على المطلوب من صيغة افعل كما تقرر في الأصول ولكن الذي يتوجه على القول باقتضائه الوجوب على الأمة أنه لا يتم إلا على القول بأن خطابه صلى الله عليه وآله وسلم خطاب لأمته وفيه خلاف معروف ولا شك أن عموم أدلة التأسي تقتضي ذلك وقد أخرجه البخاري في صحيحه من رواية شعبة عن عمرو ابن دينار عن طاوس عن ابن عباس بلفظ ( أمرنا ) وهو دال على العموم
قوله ( سبعة أعظم ) سمى كل واحد عظما وإن اشتمل على عظام باعتبار الجملة ويجوز أن يكون من باب تسمية الجملة باسم بعضها كذا قال ابن دقيق العيد
قوله ( ولا يكف شعرا ولا ثوبا ) جملة معترضة بين المجمل والمبين . والمراد بالشعر شعر الرأس . وظاهره أن ترك الكف واجب حال الصلاة لا خارجها ورده القاضي عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور فإنهم كرهوا ذلك للمصلي سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخلها . قال الحافظ : واتفقوا على أنه لا يفسد الصلاة لكن [ ص 288 ] حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة . ( قيل ) الحكمة في ذلك أنه إذا رفع ثوبه وشعره عن مباشرة الأرض أشبه المتكبرين
قوله ( الجبهة ) احتج به من قال بوجوب السجود على الجبهة دون الأنف وإليه ذهب الجمهور . وقال أبو حنيفة : إنه يجزئ السجود على الأنف وحده وقد نقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يحزئ السجود على الأنف وحده وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكية وغيرهم إلى أنه يجب أن يجمعهما وهو قول للشافعي
( واستدل ) أبو حنيفة بالرواية الثانية من حديث ابن عباس المذكور في الباب لأنه ذكر الجبهة وأشار إلى الأنف فدل على أنه المراد ورده ابن دقيق العيد فقال : إن الإشارة لا تعارض التصريح بالجبهة لأنها قد لا تعين المشار إليه بخلاف العبارة فإنها معينة وفيه أن الإشارة الحسية أقوى من الدلالة اللفظية وعدم التعيين المدعى ممنوع وقد صرح النحاة أن التعيين فيها يقع بالعين والقلب وفي المعرف باللام بالقلب فقط ولهذا جعلوها أعرف منه بل قال ابن السراج : إنها أعرف المعارف
واستدل القائلون بوجوب الجمع بينهما بالرواية الثالثة من حديث ابن عباس المذكور لأنه جعلهما كعضو واحد ولو كان كل واحد منهما عضوا مستقلا للزم أن تكون الأعضاء ثمانية وتعقب بأنه يلزم منه أن يكتفي بالسجود على الأنف وحده والجبهة وحدها فيكون دليلا لأبي حنيفة لأن كل واحد منهما بعض العضو وهو يكفي كما في غيره من الأعضاء وأنت خبير بأن المشي على الحقيقة هو المتحتم والمناقشة بالمجاز بدون موجب للمصير إليه غير ضائرة . ولا شك أن الجبهة والأنف حقيقة في المجموع ولا خلاف أن السجود على مجموع الجبهة والأنف مستحب . وقد أخرج أحمد من حديث وائل قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسجد على الأرض واضعا جبهته وأنفه في سجوده ) وأخرج الدارقطني من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين ) قال الدارقطني : الصواب عن عكرمة مرسلا وروى إسماعيل ابن عبد الله المعروف بسمويه في فوائده عن عكرمة عن ابن عباس قال : ( إذا سجد أحدكم فليضع أنفه على الأرض فإنكم قد أمرتم بذلك )
قوله ( واليدين ) المراد بهما الكفان بقرينة ما تقدم من النهي عن افتراش السبع والكلب
قوله ( والرجلين ) وفي الرواية الثانية والثالثة والركبتين والقدمين وهي معينة للمراد من الرجلين في الرواية الأولى
( والحديث ) يدل على وجوب السجود على السبعة الأعضاء جميعا وقد تقدم الخلاف [ ص 289 ] في ذلك وظاهره أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء لأن مسمى السجود يحصل بوضعها دون كشفها
قال ابن دقيق العيد : ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب لما يحذر فيه من كشف العورة وأما عدم وجوب كشف القدمين فلدليل لطيف وهو أن الشارع وقت المسح على الخف بمدة يقع فيها الصلاة بالخف فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخف المقتضي لنقض الطهارة فتبطل الصلاة اه ويمكن أن يخص ذلك بلابس الخف لأجل الرخصة . وأما كشف اليدين والجبهة فسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا
وقد ذهب الهادي والقاسم والشافعي إلى أنه لا يجب الكشف عن شيء من السبعة الأعضاء . وذهب الناصر والمرتضى وأبو طالب والشافعي في أحد قوليه إلى أنه يجب في الجبهة دون غيرها . وقال المؤيد بالله وأبو حنيفة : إنه يجزئ السجود على كور العمامة وفي قول للشافعي إنه يجب كشف اليدين كالجبهة وقال المؤيد بالله وأبو حنيفة وأهل القول الأول إنه لا يجب كعصابة الحرة وسيأتي الدليل على ذلك

باب المصلي يسجد على ما يحمله ولا يباشر مصلاه بأعضائه

1 - عن أنس قال : ( كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه )
- رواه الجماعة

- قوله ( ثوبه ) قال في الفتح : الثوب في الأصل يطلق على غير المخيط
( والحديث ) يدل على جواز السجود على الثياب لاتقاء حر الأرض وفيه إشارة إلى أن مباشرة الأرض عند السجود هي الأصل لتعليق بسط ثوب بعدم الاستطاعة . وقد استدل بالحديث على جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي . قال النووي : وبه قال أبو حنيفة والجمهور وحمله الشافعي على الثوب المنفصل
قال ابن دقيق العيد : يحتاج من استدل به على الجواز إلى أمرين : أحدهما أن لفظ ثوبه دال على المتصل به إما من حيث اللفظ وهو تعقيب السجود بالبسط وإما من خارج اللفظ وهو قلة الثياب عندهم وعلى تقدير أن يكون كذلك وهو الأمر الثاني يحتاج إلى ثبوت كونه متناولا لمحل النزاع وهو أن يكون مما يتحرك بحركة المصلي وليس في الحديث ما يدل عليه وقد عورض هذا الحديث بحديث خباب بن الأرت عند الحاكم في الأربعين والبيهقي بلفظ : ( شكونا إلى [ ص 290 ] رسول الله صلى الله عليه و سلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا ) وأخرجه مسلم بدون لفظ حر وبدون لفظ جباهنا وأكفنا ويجمع بين الحديثين بأن الشكاية كانت لأجل تأخير الصلاة حتى يبرد الحر لا لأجل السجود على الحائل إذ لو كان كذلك لأذن لهم بالحائل المنفصل كما تقدم أنه كان صلى الله عليه و سلم يصلي على الخمرة ذكر معنى ذلك الحافظ في التلخيص
وأما ما أخرجه أبو داود في المراسيل عن صالح بن خيوان السبائي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يسجد إلى جنبه وقد اعتم على جبهته فحسر عن جبهته . وأخرج ابن أبي شيبة عن عياض بن عبد الله قال : ( رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا يسجد على كور العمامة فأومأ بيده ارفع عمامتك ) فلا تعارضهما الأحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسجد على كور عمامته لأنها كما قال البيهقي لم يثبت منها شيء يعني مرفوعا
وقد رويت من طرق عن جماعة من الصحابة . منها عن ابن عباس عند أبي نعيم في الحلية وفي إسناده ضعف كما قال الحافظ . ومنها عن ابن أبي أوفى عند الطبراني وفيه قائد أبو الورقاء وهو ضعيف . ومنها عن جابر عند ابن عدي وفيه عمرو بن شمر وجابر الجعفي وهما متروكان . ومنها عن أنس عند ابن أبي حاتم في العلل وفيه حسان بن سيارة وهو ضعيف . ورواه عبد الرزاق مرسلا . وعن أبي هريرة قال أبو حاتم : هو حديث باطل ويمكن الجمع إن كان لهذه الأحاديث أصل في الاعتبار بأن يحمل حديث صالح بن خيوان وعياض بن عبد الله على عدم العذر من حر أو برد وأحاديث سجوده صلى الله عليه وآله وسلم على كور العمامة على العذر . وكذلك يحمل حديث الحسن الآتي على العذر المذكور
ومن القائلين بجواز السجود على كور العمامة عبد الرحمن بن يزيد وسعيد بن المسيب والحسن وبكر المزني ومكحول والزهري روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة . ومن المانعين عن ذلك علي ابن أبي طالب وابن عمر وعبادة بن الصامت وإبراهيم وابن سيرين وميمون بن مهران وعمر بن عبد العزيز وجعدة بن هبيرة روى ذلك عنهم أيضا أبو بكر ابن أبي شيبة

2 - وعن ابن عباس قال : ( لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مطير وهو يتقي الطين إذا سجد بكساء عليه يجعله دون يديه إلى الأرض إذا سجد )
- رواه أحمد

- الحديث أخرج نحوه ابن أبي شيبة عنه بلفظ : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الأرض وبردها ) وأخرجه بهذا اللفظ أحمد وأبو يعلى [ ص 291 ] والطبراني في الأوسط والكبير . قال في مجمع الزوائد : ورجال أحمد رجال الصحيح
( والحديث ) يدل على جواز الاتقاء بطرف الثوب الذي على المصلي ولكن للعذر إما عذر المطر كما في حديث الباب أو الحر والبرد كما في رواية ابن أبي شيبة . وهذا الحديث مصرح بأن الكساء الذي سجد عليه كان متصلا به . وبه استدل القائلون بجواز ترك كشف اليدين في الصلاة وقد تقدم ذكرهم في الباب الأول ولكنه مقيد بالعذر كما عرفت إلا أن القول بوجوب الكشف يحتاج إلى دليل إلا أن يقال إن الأمر بالسجود على الأعضاء المذكورة يقتضي أن يكون بينها وبين الأرض حائل وقد قدمنا أن مسمى السجود يحصل بوضعها دون كشفها

3 - وعن عبد الله بن عبد الرحمن قال : ( جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بنا في مسجد بني الأشهل فرأيته واضعا يديه في ثوبه إذا سجد )
- رواه أحمد وابن ماجه وقال : ( على ثوبه )

- الحديث أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن إسماعيل بن أبي حبيبة عنه . وهذا الحديث قد اختلف في إسناده فقال ابن أبي أويس عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن ثابت بن الصامت عن أبيه عن جده وهذا أولى بالصواب قاله المزني
وقد استدل به أيضا القائلون بجواز ترك كشف اليدين حال السجود وهو أدل على مطلوبهم من حديث ابن عباس لإطلاقه وتقييد حديث ابن عباس بالعذر وقد تقدم تمام الكلام عليه . قال المصنف : وقال البخاري : قال الحسن : كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة [ ص 292 ] ويداه في كمه . وروى سعيد في سننه عن إبراهيم قال : كانوا يصلون في المساتق والبرانس والطيالسة ولا يخرجون أيديهم انتهى
وكلام الحسن الذي علقه البخاري قد وصله البيهقي وقال : هذا أصح ما في السجود موقوفا على الصحابة . ووصله أيضا عبد الرزاق وابن أبي شيبة . والقلنسوة بفتح القاف واللام وسكون النون وضم المهملة وفتح الواو وقد تبدل ياء مثناة من تحت وقد تبدل الفاء وتفتح السين وبعدها هاء تأنيث وهي غشاء مبطن يستر به الرأس قاله القزاز في شرح الفصيح . وقال ابن هشام : التي يقال لها العمامة الشاشية . وفي المحكم هي من ملابس الروس معروفة . وقال أبو هلال العسكري : هي التي تغطى بها العمائم وتستر من الشمس والمطر كأنها عنده رأس البرنس . وقول الحسن ويداه في كمه أي يد كل واحد منهم قال الحافظ : وكأنه أراد بتغيير الأسلوب بيان أن كل واحد منهم ما كان يجمع بين السجود على العمامة والقلنسوة معا لكن في كل حالة كان يسجد ويداه في كمه . والمساتق جمع مستقة وهي فرو طويل الكمين كذا في القاموس . والبرانس جمع برنس بالضم قال في القاموس هو قلنسوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه دراعة كان أو جبة . والطيالسة جمع طيلسان

باب الجلسة بين السجدتين وما يقول فيها

1 - عن أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم )
- رواه مسلم . وفي رواية متفق عليها : ( أن أنسا قال : إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بنا فكان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول الناس قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول الناس قد نسي )

- الرواية الأولى أخرجها أيضا أبو داود وغيره . قوله ( قد أوهم ) بفتح الهمزة والهاء فعل ماض مبني للفاعل . قال القرطبي : ومعناه ترك . قال ثعلب : يقال أوهمت الشيء إذا تركته كله أوهم ووهمت في الحساب وغيره إذا غلطت أهم ووهمت إلى الشيء إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره . وقال في النهاية : أوهم في صلاته أي أسقط منها شيئا يقال أوهمت الشيء إذا تركته وأوهمت في الكلام والكتاب إذا أسقطت منه شيئا . ووهم يعني بكسر الهاء يوهم وهما بالتحريك إذا غلط . قال ابن رسلان : ويحتمل أن يكون معناه نسي أنه في صلاة وكذا قال الكرماني وزاد أو ظن أنه في وقت القنوت حيث كان معتدلا والتشهد حيث كان جالسا ويؤيد التفسير بالنسيان التصريح به في الرواية الأخرى
قوله ( إني لا آلو ) هو بهمزة ممدودة بعد حرف النفي ولام مضمومة بعدها واو خفيفة أي لا أقصر
قوله ( قد نسي ) أي نسي وجوب الهوي إلى السجود قاله الكرماني ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي في صلاة أو ظن أنه وقت القنوت حيث كان معتدلا والتشهد حيث كان جالسا قاله الحافظ . ووقع عند الإسماعيلي [ ص 293 ] من طريق غندر عن شعبة قلنا قد نسي طول القيام أي لأجل طول قيامه
( والحديث ) يدل على مشروعية تطويل الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين وقد ذهب بعض الشافعية إلى بطلان الصلاة بتطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين محتجا بأن طولهما ينفي الموالاة وما أدري ما يكون جوابه عن حديث الباب . وعن حديث حذيفة الآتي بعده . وعن حديث البراء المتفق عليه : ( أنه كان ركوعه صلى الله عليه وآله وسلم وسجوده وإذا رفع من الركوع وبين السجدتين قريبا من السواء ) ولفظ مسلم : ( وجدت قيامه فركعته فاعتداله ) الحديث . وفي لفظ للبخاري : ( كان ركوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء ) قال ابن دقيق العيد : هذا الحديث يدل على أن الاعتدال ركن طويل وحديث أنس أصرح في الدلالة على ذلك بل هو نص فيه فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف وهو قولهم لم يسن فيه تكرير التسبيحات كالركوع والسجود
ووجه ضعفه أنه قياس في مقابلة النص فهو فاسد انتهى . على أنه قد ثبتت مشروعية أذكار في الاعتدال أكثر من التسبيح المشروع في الركوع والسجود كما تقدم وسيأتي . وأما القول بأن طولهما ينفي الموالاة فباطل لأن معنى الموالاة أن لا يتخلل فصل طويل بين الأركان مما ليس فيها وما ورد به الشرع لا يصح نفي كونه منها وقد ترك الناس هذه السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة محدثهم وفقيههم ومجتهدهم ومقلدهم فليت شعري ما الذي عولوا عليه في ذلك والله المستعان

2 - وعن حذيفة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول بين السجدتين رب اغفر لي رب اغفر لي )
رواه النسائي وابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبو داود عن حذيفة مطولا ولفظه : ( إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل وكان يقول : الله أكبر ثلاثا ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ثم استفتح فقرأ البقرة ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه وكان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من قيامه ) وفي رواية الأسارى : ( نحوا من ركوعه وكان يقول لربي الحمد ثم يسجد فكان سجوده نحوا من قيامه فكان يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى ثم يرفع رأسه من السجود وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده وكان يقول رب اغفر لي رب [ ص 294 ] اغفر لي فصلى أربع ركعات فقرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام ) شك شعبة وفي إسناده رجل من بني عبس . قيل هو صلة بن زفر العبسي الكوفي وقد احتج به البخاري ومسلم
والحديث أصله في مسلم وهو يدل على مشروعية طلب المغفرة في الاعتدال بين السجدتين وعن استحباب تطويل صلاة النافلة والقراءة فيها بالسور الطويلة وتطويل أركانها جميعا . وفيه رد على من ذهب إلى كراهة تطويل الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين . قال النووي : والجواب عن هذا الحديث صعب . وقد تقدم بقية الكلام على ذلك

3 - وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول بين السجدتين اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني )
- رواه الترمذي وأبو داود إلا أنه قال فيه : ( وعافني ) مكان ( واجبرني )

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي وجمع ابن ماجه بين لفظ ارحمني واجبرني وزاد ارفعني ولم يقل اهدني ولا عافني . وجمع بينها الحاكم كلها إلا أنه لم يقل وعافني . وفي إسناده كامل أبو العلاء التميمي السعدي الكوفي وثقه يحيى بن معين وتكلم فيه غيره
( والحديث ) يدل على مشروعية الدعاء بهذه الكلمات في القعدة بين السجدتين . قال المتولي : ويستحب للمنفرد أن يزيد هنا اللهم هب لي قلبا نقيا من الشرك بريا لا كافرا ولا شقيا . قال الأذرعي : لحديث ورد فيه

باب السجدة الثانية ولزوم الطمأنينة في الركوع والسجود والرفع عنهما

1 - عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا فقال : والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني فقال : إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن [ ص 295 ] جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في الصلاة كلها )
- متفق عليه لكن ليس لمسلم فيه ذكر السجدة الثانية . وفي رواية لمسلم : ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ) الحديث

- الحديث فيه زيادات وله طرق وسنشير إلى بعضها عند الكلام على مفرداته . وفي الباب عن رفاعة بن رافع عند الترمذي وأبي داود والنسائي . وعن عمار بن ياسر أشار إليه الترمذي
قوله ( فدخل رجل ) هو خلاد بن رافع كذا بينه ابن شيبة
قوله ( فصلى ) زاد النسائي ركعتين وفيه إشعار بأنه صلى نفلا . قال الحافظ : والأقرب أنها تحية المسجد
قوله ( ثم جاء فسلم ) زاد البخاري فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي مسلم وكذا البخاري في الاستئذان من رواية ابن نمير فقال ( وعليك السلام ) وهذه الزيادة ترد ما قاله ابن المنير من أن الموعظة في وقت الحاجة أهم من رد السلام واستدل بالحديث قال : ولعله لم يرد عليه تأديبا له على جهله ولعله لم يستحضر هذه الزيادة
قوله ( فإنك لم تصل ) قال عياض : فيه أن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزئ وهذا مبني على أن المراد بالنفي نفي الإجزاء وهو الظاهر ومن حمله على نفي الكمال تمسك بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بالإعادة بعد التعليم فدل على إجزائها وإلا لزم تأخير البيان كذا قال بعض المالكية وتعقب بأنه قد أمره في المرة الأخيرة بالإعادة فسأله التعليم فعلمه فكأنه قال له أعد صلاتك على غير هذه الكيفية
وقد احتج لتوجه النفي إلى الكمال بما وقع في بعض روايات الحديث عند أبي داود والترمذي من حديث رفاعة بلفظ : ( فإن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك ) وكان أهون عليهم من الأول أنه من انتقص من ذلك شيئا انتقص من صلاته ولم تذهب كلها قالوا والنقص لا يستلزم الفساد وإلا لزم في ترك المندوبات لأنها تنتقص بها الصلاة وقد قدمنا الجواب على هذا الاحتجاج في شرح أول حديث من أبواب صفة الصلاة
قوله ( ثلاثا ) في رواية البخاري فقال في الثالثة أو في التي بعدها وفي أخرى له فقال في الثانية أو في الثالثة ورواية الكتاب أرجح لعدم الثالثة فيها ولكونه صلى الله عليه وآله وسلم كان من عادته استعمال الثلاث في تعليمه
قوله ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ) وفي رواية للبخاري : ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ) وهي في مسلم أيضا كما قال المصنف . وفي رواية للبخاري أيضا والترمذي وأبي داود : ( فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد وأقم ) والمراد بقوله ثم تشهد الأمر بالشهادتين عقيب [ ص 296 ] الوضوء لا التشهد في الصلاة كذا قال ابن رسلان وهو الظاهر من السياق لأنه جعله مرتبا على الوضوء ورتب عليه الإقامة والتكبير والقراءة كما في رواية أبي داود . والمراد بقوله وأقم الأمر بالإقامة
وفي رواية للنسائي وأبي داود ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه إلا أنه قال النسائي يمجده مكان يثني عليه ثم ساق أبو داود في هذه الرواية الأمر بتكبير الانتقال في جميع الأركان والتسميع وهي تدل على وجوبه وقد تقدم البحث عن ذلك . وظاهر قوله ( فكبر ) في رواية حديث الباب وجوب تكبيرة الافتتاح وقد تقدم الكلام على ذلك في أوائل أبواب صفة الصلاة
قوله ( ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ) وفي رواية لأبي داود والنسائي من حديث رفاعة : ( فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله تعالى وكبره وهلله ) وفي رواية لأبي داود من حديث رفاعة : ( ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله ) ولأحمد وابن حبان : ( ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت ) وقد تمسك بحديث الباب من لم يوجب قراءة الفاتحة في الصلاة وأجيب عنه بهذه الروايات المصرحة بأم القرآن وقد تقدم البحث عن ذلك في باب وجوب قراءة الفاتحة
قوله ( ثم اركع حتى تطمئن ) في رواية لأحمد وأبي داود : ( فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك ومكن ركوعك )
قوله ( ثم ارفع حتى تعتدل قائما ) في رواية لابن ماجه : ( تطمئن ) وهي على شرط مسلم وأخرجها إسحاق بن راهويه في مسنده وأبو نعيم في مستخرجه والسراج عن يوسف بن موسى أحد شيوخ البخاري
قال الحافظ : فثبت ذكر الطمأنينة في الاعتدال على شرط الشيخين ومثله في حديث رفاعة عند أحمد وابن حبان . وفي لفظ لأحمد : ( فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها ) وهذه الروايات ترد مذهب من لم يوجب الطمأنينة وقد تقدم الكلام في ذلك
قوله ( ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ) فيه دليل على وجوب السجود وهو إجماع ووجوب الطمأنينة فيه خلافا لأبي حنيفة
قوله ( ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ) فيه دلالة على وجوب الرفع والطمأنينة فيه ولا خلاف في ذلك . وقال أبو حنيفة : يكفي أدنى رفع وقال مالك : يكون أقرب إلى الجلوس
قوله ( ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ) فيه أيضا وجوب السجود والطمأنينة فيه ولا خلاف في ذلك
( وقد استدل ) بهذا الحديث على عدم وجوب قعدة الاستراحة وسيأتي الكلام على ذلك في الباب الذي بعد هذا ولكنه قد ثبت في رواية للبخاري من رواية ابن نمير في باب الاستئذان بعد ذكر السجود الثاني بلفظ : ( ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ) وهي [ ص 297 ] تصلح للمتمسك بها على الوجوب ولكنه لم يقل به أحد على أنه قد أشار البخاري إلى أن ذلك وهم لأنه عقبها بقوله قال أبو أسامة في الأخير حتى يستوي قائما . ويمكن أن يحمل إن كان محفوظا على الجلوس للتشهد انتهى . فشكك البخاري هذه الرواية التي ذكرها ابن نمير بمخالفة أبي أسامة وبقوله إن كان محفوظا
قال في البدر المنير ما معناه : وقد أثبت هذه الزيادة إسحاق بن راهويه في مسنده عن أبي أسامة كما قال ابن نمير . وكذلك البيهقي من طريقه وزاد أبو داود في حديث رفاعة : ( فإذا جلست في وسط الصلاة يعني التشهد الأوسط فاطمئن وافرش فخذك ثم تشهد )
( الحديث يدل ) على وجوب الطمأنينة في جميع الأركان كما تقدم وقد جزم كثير من العلماء بأن واجبات الصلاة هي المذكورة في طرق هذا الحديث واستدلوا به على عدم وجوب من لم يذكر فيه . قال ابن دقيق العيد : تقرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه وعدم وجوب ما لم يذكر فيه فأما وجوب ما ذكر فيه فلتعلق الأمر به وأما عدم وجوب غيره فليس ذلك بمجرد كون الأصل عدم الوجوب بل لأمر زائد على ذلك وهو أن الموضع موضع تعليم وبيان للجاهل وتعريف لواجبات الصلاة وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر ويقوي مرتبة الحصر أنه صلى الله عليه و سلم ذكر ما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي وما لم يتعلق به إساءته من واجبات الصلاة . وهذا يدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت به الإساءة فقط . فإذا تقرر هذا فكل موضع اختلفت العلماء في وجوبه وكان مذكورا في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في وجوبه وكل موضع اختلفوا في عدم وجوبه ولم يكن مذكورا في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في عدم وجوبه لكونه غير مذكور على ما تقدم من كونه موضع تعليم ثم قال : إلا أن على طالب التحقيق ثلاث وظائف :
أحدها أن يجمع طرق الحديث ويحصي الأمور المذكورة فيه ويأخذ بالزائد فالزائد فإن الأخذ بالزائد واجب . ثانيها إذا أقام دليلا على أحد الأمرين إما الوجوب أو عدم الوجوب فالواجب العمل به ما لم يعارضه ما هو أقوى وهذا عند النفي يجب التحرز فيه أكثر فلينظر عند التعارض أقوى الدليلين يعمل به قال : وعندنا أنه إذا استدل على عدم وجوب شيء بعدم ذكره في الحديث وجاءت صيغة الأمر به في حديث آخر فالمقدم صيغة الأمر وإن كان يمكن أن يقال الحديث دليل على عدم الوجوب ويحمل صيغة الأمر على الندب ثم ضعفه بأنه إنما يتم إذا [ ص 298 ] كان عدم الذكر في الرواية يدل على عدم الذكر في نفس الأمر وليس كذلك فإن عدم الذكر إنما يدل على عدم الوجوب وهو غير عدم الذكر في نفس الأمر فيقدم ما دل على الوجوب لأنه إثبات لزيادة يتعين العمل بها انتهى ( 1 ) والوظائف التي أرشد إليها قد امتثلنا رسمه فيها
فجمعنا من طرق هذا الحديث في هذا الشرح عند الكلام على مفرداته ما تدعو الحاجة إليه وتظهر للاختلاف في ألفاظه مزيد فائدة وعملنا بالزائد فالزائد من ألفاظه فوجدنا الخارج عما اشتمل عليه حديث الباب . الشهادتين بعد الوضوء . وتكبير الانتقال . والتسميع . والإقامة . وقراءة الفاتحة . ووضع اليدين على الركبتين حال الركوع . ومد الظهر . وتمكين السجود . وجلسة الاستراحة . وفرش الفخذ . والتشهد الأوسط . والأمر بالتحميد والتكبير والتهليل والتمجيد عند عدم استطاعة القراءة . وقد تقدم الكلام على جميعها إلا التشهد الأوسط وجلسة الاستراحة وفرش الفخذ فسيأتي الكلام على ذلك . والخارج عن جميع ألفاظه من الواجبات المتفق عليها كما قال الحافظ والنووي النية . والقعود الأخير . ومن المختلف فيها التشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم فيه . والسلام في آخر الصلاة . وقد قدمنا الكلام على النية في الوضوء وسيأتي الكلام على الثلاثة الأخيرة . وأما قوله أنها تقدم صيغة الأمر إذا جاءت في حديث آخر واختياره لذلك من دون تفصيل فنحن لا نوافقه بل نقول إذا جاءت صيغة أمر قاضية بوجوب زائد على ما في هذا الحديث فإن كانت متقدمة على تاريخه كان صارفا لها إلى الندب لأن اقتصاره صلى الله عليه و سلم في التعليم على غيرها وتركه لها من أعظم المشعرات بعدم وجوب ما تضمنته لما تقرر من أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإن كانت متأخرة عنه فهو غير صالح لصرفها لأن الواجبات الشرعية ما زالت تتجدد وقتا فوقتا وإلا لزم قصر واجبات الشريعة على الخمس المذكورة في حديث ضمام بن ثعلبة وغيره أعني الصلاة والصوم والحج والزكاة والشهادتين لأن النبي صلى الله عليه و سلم اقتصر عليها في مقام التعليم والسؤال عن جميع [ ص 299 ] الواجبات واللازم باطل فالملزوم مثله . وإن كانت صيغة الأمر الواردة بوجوب زيادة على هذا الحديث غير معلومة التقدم عليه ولا التأخر ولا المقارنة فهذا محل الإشكال ومقام الاحتمال والأصل عدم الوجوب والبراءة منه حتى يقوم دليل يوجب الانتقال عن الأصل والبراءة ولا شك أن الدليل المفيد للزيادة على حديث المسيء إذا التبس تاريخه محتمل لتقدمه عليه وتأخره فلا ينتهض للاستدلال به على الوجوب وهذا التفصيل لا بد منه وترك مراعاته خارج عن الاعتدال إلى حد الإفراط أو التفريط لأن قصر الواجبات على حديث المسيء فقط وإهدار الأدلة الواردة بعده تخيلا لصلاحيته لصرف كل دليل يرد بعده دالا على الوجوب سد لباب التشريع ورد لما تجدد من واجبات الصلاة ومنع للشارع من إيجاب شيء منها وهو باطل لما عرفت من تجدد الواجبات في الأوقات
والقول بوجوب كل ما ورد الأمر به من غير تفصيل يؤدي إلى إيجاب كل أقوال الصلاة وأفعالها التي ثبتت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من غير فرق بين أن يكون ثبوتها قبل حديث المسيء أو بعده لأنها بيان للأمر القرآني أعني قوله تعالى { أقيموا الصلاة } ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وهو باطل لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو لا يجوز عليه صلى الله عليه وآله وسلم
وهكذا الكلام في كل دليل يقضي بوجوب أمر خارج عن حديث المسيء ليس بصيغة الأمر كالتوعد على الترك أو الذم لمن لم يفعل . وهكذا يفصل في كل دليل يقتضي عدم وجوب شيء مما اشتمل عليه حديث المسيء أو تحريمه إن فرضنا وجوده
( وقد استدل ) بالحديث على عدم وجوب الإقامة ودعاء الافتتاح ورفع اليدين في الإحرام وغيره ووضع اليمنى على اليسرى وتكبيرات الانتقال وتسبيحات الركوع والسجود وهيئات الجلوس ووضع اليد على الفخذ والقعود ونحو ذلك
قال الحافظ : وهو في معرض المنع لثبوت بعض ما ذكر في بعض الطرق اه . وقد قدمنا البعض من ذلك . وللحديث فوائد كثيرة قال أبو بكر ابن العربي فيه أربعون مسألة ثم سردها
_________
( 1 ) وقد اختصر الشارح كلام العلامة ابن دقيق العيد ولم يذكر الوظيفة الثالثة وقد ذكر الوظائف الثلاثة العلامة ابن دقيق في كتابه إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام مستوفاة ونقلت كلام الشوكاني هذا هناك في تعليقي عليه ونص كلامه في الوظيفة الثالثة : وثالثها أن يستمر على طريقة واحدة ولا يستعمل في طريقة ما يتركه في آخر فيتشعب نظره وأن يستعمل القوانين المعتبرة في ذلك استعمالا واحدا فإنه يقع هذا الاختلاف في النظر في كلام كثير من المتناظرين انتهى . والله أعلم

2 - وعن حذيفة : ( أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده فلما قضى صلاته دعاه فقال له حذيفة : ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد والبخاري

- قوله ( رأى حذيفة رجلا ) روى عبد الرزاق وابن خزيمة وابن حبان من طريق [ ص 300 ] الثوري عن الأعمش أن هذا الرجل كان عند أبواب كندة . قال الحافظ : ولم أقف على اسمه
قوله ( ما صليت ) هو نظير قوله صلى الله عليه وآله وسلم للمسيء : ( فإنك لم تصل ) وزاد أحمد بعد قوله فقال له حذيفة : ( منذ كم صليت قال منذ أربعين سنة ) وللنسائي مثل ذلك . وحذيفة مات سنة ست وثلاثين من الهجرة فعلى هذا يكون ابتداء صلاة المذكور قبل الهجرة بأربع سنين أو أكثر . قال الحافظ : ولعل الصلاة لم تكن فرضت بعد فلعله أراد المبالغة أو لعله كان ممن يصلي قبل إسلامه فحصلت المدة المذكورة من الأمرين . ولهذه العلة لم يذكر البخاري هذه الزيادة
قوله ( غير الفطرة ) قال الخطابي : الفطرة الملة والدين قال : ويحتمل أن يكون المراد بها السنة كما في حديث : ( خمس من الفطرة ) وقد قدمنا تفسيرها في شرح حديث خصال الفطرة
( والحديث ) يدل على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود وعلى أن الإخلال بها يبطل الصلاة وعلى تكفير تارك الصلاة لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عنه وهو على حقيقته عند قوم وعلى المبالغة عند قوم آخرين . وقد تقدم الكلام على ذلك في أوائل كتاب الصلاة . وقال الحافظ : إن حذيفة أراد توبيخ الرجل ليرتدع في المستقبل . ويرجحه وروده من وجه آخر عند البخاري بلفظ : ( سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) وهذه الزيادة تدل على أن حديث حذيفة المذكور مرفوع لأن قول الصحابي من السنة يفيد ذلك وقد مال إليه قوم وخالفه آخرون والأول هو الراجح

3 - وعن أبي قتادة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أشر الناس سرقة الذي يسرق من صلاته فقالوا : يا رسول الله وكيف يسرق من صلاته قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها أو قال ولا يقيم صلبه في الركوع والسجود )
- رواه أحمد . ولأحمد من حديث أبي سعيد مثله إلا أنه قال : ( يسرق صلاته )

- الحديث أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط قال في مجمع الزوائد : ورجاله رجال الصحيح . وفيه أن ترك إقامة الصلب في الركوع والسجود جعله الشارع من أشر أنواع السرق وجعل الفاعل لذلك أشر من تلبس بهذه الوظيفة الخسيسة التي لا أوضع ولا أخبث منها تنفيرا عن ذلك وتنبيها على تحريمه . وقد صرح صلى الله عليه وآله وسلم بأن صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود غير مجزئة كما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه النسائي وابن ماجه من حديث ابن مسعود بلفظ : ( لا تجزئ صلاة الرجل [ ص 301 ] حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ) ونحوه عن علي بن شيبان عند أحمد وابن ماجه وقد تقدما في باب أن الانتصاب بعد الركوع فرض . والأحاديث في هذا الباب كثيرة وكلها ترد على من لم يوجب الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال منهما

باب كيف النهوض إلى الثانية وما جاء في جلسة الاستراحة

1 - عن وائل بن حجر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سجد وقعت ركبتاه إلى الأرض قبل أن يقع كفاه فلما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه )
- رواه أبو داود

- الحديث أخرجه أبو داود من طريق عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه وقد أخرج له مسلم ووثقه ابن معين وقال : لم يسمع من أبيه شيئا وقال أيضا : مات وهو حمل قال الذهبي : وهذا القول مردود بما صح عنه أنه قال : كنت غلاما لا أعقل صلاة أبي . وأخرجه من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكليب والد عاصم لم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحديثه مرسل قال ذلك الترمذي والمنذري وغيرهما وقد تقدم تفصيل ذلك في باب هيئات السجود
قوله ( وقعت ركبتاه إلى الأرض قبل أن يقع كفاه ) وقد تقدم الكلام على هذه الهيئة وما فيها من الاختلاف في باب هيئات السجود
قوله ( فلما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن إبطيه ) لم يذكر هذا أبو داود في الباب الذي ذكر فيه طرق حديث وائل وإنما ذكره في باب افتتاح الصلاة . والمجافاة المباعدة وهو من الجفاء وهو البعد عن الشيء
قوله ( وإذا نهض نهض على ركبتيه ) فيه مشروعية النهوض على الركبتين والاعتماد على الفخذين لا على الأرض
قوله ( على فخذيه ) الذي في سنن أبي داود على فخذه بلفظ الإفراد وقيده ابن رسلان في شرح السنن بالإفراد أيضا وقال : هكذا الرواية ثم قال : وفي رواية أظنها لغير المصنف يعني أبا داود على فخذيه بالتثنية وهو اللائق بالمعنى . ورواه أيضا أبو داود في باب افتتاح الصلاة بالإفراد قال ابن رسلان : ولعل المراد التثنية كما في ركبتيه

2 - وعن مالك بن الحويرث : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا )
- رواه الجماعة إلا مسلما وابن ماجه

[ ص 302 ] - الحديث فيه مشروعية جلسة الاستراحة وهي بعد الفراغ من السجدة الثانية وقبل النهوض إلى الركعة الثانية والرابعة . وقد ذهب إلى ذلك الشافعي في المشهور عنه وطائفة من أهل الحديث وعن أحمد روايتان . وذكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بها ولم يستحبها الأكثر واحتج لهم الطحاوي بحديث أبي أحمد الساعدي المشتمل على وصف صلاته صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكر فيه هذه الجلسة بل ثبت في بعض ألفاظه : ( أنه قام ولم يتورك ) كما أخرجه أبو داود قال : فيحتمل أن ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به فقعد من أجلها لأن ذلك من سنة الصلاة ثم قوى ذلك بأنها لو كانت مقصودة لشرع لها ذكر مخصوص وتعقب بأن الأصل عدم العلة وبأن مالك بن الحويرث هو راوي حديث ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فحكاياته لصفات صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم داخلة تحت هذا الأمر . وحديث أبي حميد يستدل به على عدم وجوبها وأنه تركها لبيان الجواز لا على عدم مشروعيتها على أنها لم تتفق الروايات عن أبي حميد في نفي هذه الجلسة بل أخرج أبو داود والترمذي وأحمد عنه من وجه آخر بإثباتها . وأما الذكر المخصوص فإنها جلسة خفيفة جدا استغنى فيها بالتكبير المشروع للقيام
( واحتج بعضهم ) على نفي كونها سنة بأنها لو كانت كذلك لذكرها كل من وصف صلاته وهو متعقب بأن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف صلاته إنما أخذ مجموعها عن مجموعهم
( واحتجوا أيضا ) على عدم مشروعيتها بما وقع في حديث وائل بن حجر عند البزار بلفظ : ( كان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائما ) وهذا الاحتجاج يرد على من قال بالوجوب لا من قال بالاستحباب لما عرفت على أن حديث وائل قد ذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف
( واحتجوا ) أيضا بما أخرجه الطبراني من حديث معاذ أنه كان يقوم كأنه السهم وهذا لا ينفي الاستحباب المدعى على أن في إسناده متهما بالكذب وقد عرفت مما قدمنا في شرح حديث المسيء أن جلسة الاستراحة مذكورة فيه عند البخاري وغيره لا كما زعمه النووي من أنها لم تذكر فيه وذكرها فيه يصلح للاستدلال به على وجوبها لولا ما ذكرنا فيما تقدم من إشارة البخاري إلى أن ذكر هذه الجلسة وهم وما ذكرنا أيضا من أنه لم يقل بوجوبها أحد وقد صرح بمثل ذلك الحافظ في الفتح
( ومن جملة ) ما احتج به القائلون بنفي استحبابها حديث وائل بن حجر عند أبي داود المتقدم قبل حديث الباب . وما روى ابن المنذر عن النعمان ابن أبي عياش [ ص 303 ] قال : أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس وذلك لا ينافي القول بأنها سنة لأن الترك لها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الحالات إنما ينافي وجوبها فقط وكذلك ترك بعض الصحابة لها لا يقدح في سنيتها لأن ترك ما ليس بواجب جائز

باب افتتاح الثانية بالقراءة من غير تعوذ ولا سكتة

1 - عن أبي هريرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نهض في الركعة الثانية افتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين ولم يسكت )
- رواه مسلم

- الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه من حديث عبد الواحد وغيره عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة أخرجه أيضا أبو داود وليس عنده إلا السكتة في الركعة الأولى وذكر دعاء الاستفتاح فيها وكذلك هو عند ابن ماجه بلفظ أبي داود وعند النسائي من هذا الوجه عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كانت له سكتة إذا افتتح الصلاة )
( والحديث ) يدل على عدم مشروعية السكتة قبل القراءة في الركعة الثانية وكذلك عدم مشروعية التعوذ فيها وحكم ما بعدها من الركعات حكمها فتكون السكتة قبل القراءة مختصة بالركعة الأولى وكذلك التعوذ قبلها وقد تقدم الكلام في السكتتين في باب ما جاء في السكتتين وفي التعوذ في بابه المتقدم وقد رجح صاحب الهدى الاقتصار على التعوذ في الأولى لهذا الحديث واستدل لذلك بأدلة فليراجع

باب الأمر بالتشهد الأول وسقوطه بالسهو

1 - عن ابن مسعود قال : ( أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فليدع به ربه عز و جل )
- رواه أحمد والنسائي

[ ص 304 ] - الحديث رواه أحمد من طرق بألفاظ فيها بعض اختلاف وفي بعضها طول وجميعها رجالها ثقات وإنما عزاه المصنف رحمه الله إلى أحمد والنسائي باعتبار الزيادة التي في أوله وهي ( إذا قعدتم في كل ركعتين ) فإنها لم تكن عند غيرهما بهذا اللفظ وهو عند الترمذي بلفظ : ( قال : علمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قعدنا في الركعتين ) وفي رواية أخرى للنسائي بلفظ : ( فقولوا في كل جلسة ) وأما سائر ألفاظ الحديث إلى قوله ( ثم ليتخير ) فقد اتفق على إخراجه الجماعة كلهم وسيذكره المصنف . وأما زيادة قوله ( ثم ليتخير ) إلى آخر الحديث فأخرجها البخاري بلفظ : ( ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به ) وفي لفظ له : ( ثم يتخير من الثناء ما شاء ) وأخرجها أيضا مسلم بلفظ : ( ثم يتخير من المسألة ما شاء ) وفي رواية للنسائي عن أبي هريرة : ( ثم يدعو لنفسه بما بدا له ) قال الحافظ : إسنادها صحيح . وفي رواية أبي داود : ( ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه )
وقوله ( فقولوا التحيات ) فيه دليل لمن قال بوجوب التشهد الأوسط وهو أحمد في المشهور عنه والليث وإسحاق وهو قول للشافعي وإليه ذهب داود وأبو ثور ورواه النووي عن جمهور المحدثين . ومما يدل على ذلك إطلاق الأحاديث الواردة بالتشهد وعدم تقييدها بالأخير
( واحتج الطبري ) لوجوبه بأن الصلاة وجبت أولا ركعتين وكان التشهد فيها واجبا فلما زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب وتعقب بأن الزيادة لم تتعين في الأخريين بل يحتمل أن يكون هما الفرض الأول والمزيد هما الركعتان الأوليان بتشهدهما . ويؤيده استمرار السلام بعد التشهد الأخير كما كان كذا قال الحافظ . ولا يخفى ما في هذا التعقب من التعسف وغاية ما استدل به القائلون بعدم الوجوب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك التشهد الأوسط ولم يرجع إليه ولا أنكر على أصحابه متابعته في الترك وجبره بسجود السهو فلو كان واجبا لرجع إليه وأنكر على أصحابه متابعته ولم يكتف في تجبيره بسجود السهو ويجاب عن ذلك بأن الرجوع على تسليم وجوبه للواجب المتروك إنما يلزم إذا ذكره المصلي وهو في الصلاة ولم ينقل إلينا أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكره قبل الفراغ اللهم إلا أن يقال إنه قد روى أن الصحابة سبحوا به فمضى حتى فرغ كما يأتي وذلك يستلزم أنه علم به . وترك إنكاره على المؤتمين به متابعته إنما يكون حجة بعد تسليم أنه يجب على المؤتمين ترك متابعة الإمام إذا ترك واجبا من واجبات الصلاة وهو ممنوع والسند الأحاديث الدالة على وجوب المتابعة وتجبيره بالسجود إنما يكون دليلا على عدم الوجوب إذا سلمنا أن [ ص 305 ] سجود السهو إنما يجبر به المسنون دون الواجب وهو غير مسلم
( والحاصل ) أن حكمه حكم التشهد الأخير وسيأتي والتفرقة بينهما ليس عليها دليل يرتفع به النزاع على أنه يدل على مزيد خصوصية للتشهد الأوسط ذكره في حديث المسيء كما تقدم في شرحه وسيأتي
قوله ( التحيات لله ) إلى آخر ألفاظ التشهد سيأتي شرحها في باب ذكر تشهد ابن مسعود
قوله ( ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه ) فيه الإذن بكل دعاء أراد المصلي أن يدعو به في هذا الموضع وعدم لزوم الاقتصار على ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم

2 - وعن رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا قمت في صلاتك فكبر ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد )
- رواه أبو داود

- هذا طرف من حديث رفاعة في تعليم المسيء وقد أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه ولكنه انفرد أبو داود بهذه الزيادة أعني قوله ( فإذا جلست في وسط الصلاة ) الخ وفي إسنادها محمد بن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث
قوله ( في وسط الصلاة ) بفتح السين قال في النهاية : يقال فيما كان متفرق الأجزاء غير متصل كالناس والدواب بسكون السين وما كان متصل الأجزاء كالدار والرأس فهو بالفتح والمراد هنا القعود للتشهد الأول في الرباعية ويلحق به الأول في الثلاثية
قوله ( فاطمئن ) يؤخذ منه أن المصلي لا يشرع في التشهد حتى يطمئن يعني يستقر كل مفصل في مكانه ويسكن من الحركة
قوله ( وافترش فخذك اليسرى ) أي ألقها على الأرض وابسطها كالفراش للجلوس عليها والافتراش في وسط الصلاة موافق لمذهب الشافعي وأحمد لكن أحمد يقول يفترش في التشهد الثاني كالأول . والشافعي يتورك في الثاني ومالك يتورك فيهما كذا ذكره ابن رسلان في شرح السنن . وفيه دليل لمن قال إن السنة الافتراش في الجلوس للتشهد الأوسط وهم الجمهور . قال ابن القيم : ولم يرو عنه في هذه الجلسة غير هذه الصفة يعني الفرش والنصب وقال مالك : يتورك فيه لحديث ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس في وسط الصلاة وفي آخرها متوركا ) قال ابن القيم : لم يذكر عنه صلى الله عليه وآله وسلم التورك إلا في التشهد الأخير
( والحديث ) فيه دليل لمن قال بوجوب التشهد الأوسط وقد تقدم الاختلاف فيه

3 - وعن عبد الله ابن بحينة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام في صلاة [ ص 306 ] الظهر وعليه جلوس فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدها الناس معه مكان ما نسي من الجلوس )
- رواه الجماعة

- قوله ( عن عبد الله ابن بحينة ) بحينة اسم أم عبد الله أو اسم أم أبيه قال الحافظ : فعلى هذا ينبغي أن يكتب ابن بحينة بالألف
قوله ( قام في صلاة الظهر ) زاد الضحاك بن عثمان الأعرج : ( فسبحوا به فمضى حتى فرغ من صلاته ) أخرجه ابن خزيمة . وعند النسائي والحاكم نحو هذه الزيادة
قوله ( وعليه جلوس ) فيه إشعار بالوجوب حيث قال وعليه جلوس
قوله ( يكبر في كل سجود ) فيه مشروعية تكبير النقل في سجود السهو
قوله ( وهو جالس ) جملة حالية متعلقة بقوله سجد أي أنشأ السجود جالسا
( والحديث ) استدل به من قال بأن التشهد الأوسط غير واجب وتقدم وجه دلالته على ذلك والجواب عنه

باب صفة الجلوس في التشهد وبين السجدتين وما جاء في التورك والإقعاء

1 - عن وائل بن حجر : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فسجد ثم قعد فافترش رجله اليسرى )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي . وفي لفظ لسعيد بن منصور قال : ( صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قعد وتشهد فرش قدمه اليسرى على الأرض وجلس عليها )

2 - وعن رفاعة بن رافع : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للأعرابي إذا سجدت فمكن سجودك فإذا جلست فاجلس على رجلك اليسرى )
- رواه أحمد

- حديث وائل أخرجه أيضا ابن ماجه والترمذي وقال : حسن صحيح وحديث رفاعة أخرجه أيضا أبو داود باللفظ الذي سبق في الباب الأول ولا مطعن في إسناده
وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وابن حبان وقد احتج بالحديثين القائلون باستحباب فرش اليسرى ونصب اليمنى في التشهد الأخير وهم زيد بن علي والهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو حنيفة وأصحابه والثوري . وقال مالك والشافعي وأصحابه : إنه يتورك المصلي في التشهد الأخير . وقال أحمد بن حنبل : إن التورك يختص بالصلاة التي فيها تشهدان
( واستدل ) الأولون أيضا بما أخرجه الترمذي وقال : حسن صحيح من حديث أبي حميد : ( أن رسول [ ص 307 ] الله صلى الله عليه وآله وسلم جلس يعني للتشهد فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدور اليمنى على قبلته ) الحديث وبحديث عائشة الآتي . ووجه الاستدلال بهذين الحديثين وبحديثي الباب أن رواتها ذكروا هذه الصفة لجلوس التشهد ولم يقيدوه بالأول واقتصارهم عليها من دون تعرض لذكر غيرها مشعر بأنها هي الهيئة المشروعة في التشهدين جميعا ولو كانت مختصة بالأول لذكروا هيئة التشهد الأخير ولم يهملوه لا سيما وهم بصدد بيان صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعليمه لمن لا يحسن الصلاة فعلم بذلك أن هذه الهيئة شاملة لهما . ويمكن أن يقال إن هذه الجلسة التي ذكر هيئتها أبو حميد في هذا الحديث هي جلسة التشهد الأول بدليل حديثه الآتي فإنه وصف هيئة الجلوس الأول بهذه الصفة ثم ذكر بعدها هيئة الجلوس الآخر فذكر فيها التورك واقتصاره على بعض الحديث في هذه الرواية ليس بمناف لما ثبت عنه في الرواية الأخرى لا سيما وهي ثابتة في صحيح البخاري ولا يعد ذلك الاقتصار إلا لبيان هيئة التشهد الأخير في مقام التصدي لصفة جميع الصلوات لأنه ربما اقتصر من ذلك على ما تدعو الحاجة إليه ويقال في حديث رفاعة المذكور ههنا أنه مبين بروايته المتقدمة في الباب الأول
وأما حديث وائل وحديث عائشة فقد أجاب عنهما القائلون بمشروعية التورك في التشهد الأخير بأنهما محمولان على التشهد الأوسط جمعا بين الأدلة لأنهما مطلقان عن التقييد بأحد الجلوسين . وحديث أبي حميد مقيد وحمل المطلق على المقيد واجب ولا يخفاك أنه يبعد هذا الجمع ما قدمنا من أن مقام التصدي لبيان صفة صلاته صلى الله عليه وآله وسلم يأبى الاقتصار على ذكر هيئة أحد التشهدين وإغفال الآخر مع كون صفته مخالفة لصفة المذكور لا سيما حديث عائشة فإنها قد تعرضت فيه لبيان الذكر المشروع في كل ركعتين وعقبت ذلك بذكر هيئة الجلوس قمن البعيد أن يخص بهذه الهيئة أحدهما ويهمل الآخر ولكنه يلوح من هذا أن مشروعية التورك في الأخير آكد من مشروعية النصب والفرش وأما أنه ينفي مشروعية النصب والفرش فلا وإن كان حق حمل المطلق على المقيد هو ذلك لكنه منع من المصير إليه ما عرفناك
والتفصيل الذي ذهب إليه أحمد يرده قول أبي حميد في حديثه الآتي فإذا جلس في الركعة الأخيرة . وفي رواية لأبي داود حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم . وقد اعتذر ابن القيم عن ذلك بما لا طائل تحته وقد ذكر مسلم في صحيحه من حديث ابن الزبير صفة ثالثة لجلوس التشهد الأخير وهي أنه صلى الله [ ص 308 ] عليه وآله وسلم كان يجعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه ويفرش قدمه اليمنى واختار هذه الصفة أبو القاسم الخرقي في مصنفه ولعله صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل هذا تارة
وقد وقع الخلاف في الجلوس للتشهد الأخير هل هو واجب أم لا فقال بالوجوب عمر بن الخطاب وأبو مسعود وأبو حنيفة والشافعي . ومن أهل البيت الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله . وقال علي بن أبي طالب والثوري والزهري ومالك إنه غير واجب
( استدل الأولون ) بملازمته صلى الله عليه وآله وسلم له والآخرون بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلمه المسيء ومجرد الملازمة لا تفيد الوجوب وهذا هو الظاهر لا سيما مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المسيء بعد أن علمه فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك ولا يتوهم أن ما دل على وجوب التسليم دل على وجوب جلوس التشهد لأنه لا ملازمة بينهما

3 - وعن أبي حميد أنه قال وهو في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته )
- رواه البخاري وقد سبق لغيره بلفظ أبسط من هذا

- الحديث تقدم في باب رفع اليدين وههنا ألفاظ لم تذكر هنالك وبعضها محتاج إلى الشرح فمن ذلك قوله ( ثم هصر ظهره ) هو بالهاء والصاد المهملة المفتوحتين أي ثناه في استواء من غير تقويس ذكره الخطابي
قوله ( حتى يعود كل فقار ) الفقار بفتح الفاء والقاف جمع فقارة وهي عظام الظهر وهي العظام التي يقال لها خرز الظهر قاله القزاز
وقال ابن سيده : هي من الكاهل إلى العجب وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي أن عدتها سبع عشرة وفي أمالي الزجاج أصولها سبع غير التوابع . وعن الأصمعي هي خمس وعشرون سبع في العنق وخمس في الصلب وبقيتها في طرف الأضلاع كذا في الفتح
قوله ( واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة ) فيه حجة لمن قال إن السنة أن ينصب قدميه في السجود وأن تكون أصابع رجليه متوجهة إلى القبلة وإنما يحصل توجيهها بالتحامل عليها والاعتماد على بطونها
( والحديث ) قد اشتمل على جمل واسعة من صفة صلاته صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدم الكلام على كل [ ص 309 ] فرد منها في بابه . وقد ساقه المصنف ههنا للاستدلال به على مشروعية التورك وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب

4 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه وكان بين ذلك وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما وإذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وكان ينهى عن عقب الشيطان وكان ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع وكان يختم الصلاة بالتسليم )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

- الحديث له علة وهي أنه رواه أبو الجوزاء عن عائشة قال ابن عبد البر : لم يسمع منها وحديثه عنها مرسل
قوله ( يفتتح الصلاة بالتكبير ) هو الله أكبر وفيه رد على من قال إنه يجزئ كل ما فيه تعظيم نحو الله أجل الله أعظم وهو أبو حنيفة
قوله ( والقراءة بالحمد لله ) قال النووي : هو برفع الدال على الحكاية وبه تمسك من قال بمشروعية ترك الجهر بالبسملة في الصلاة وأجيب عنه بأن المراد بذلك اسم السورة ونوقش هذا الجواب بأنه لو كان المراد اسم السورة لقالت عائشة بالحمد لأنه وحده هو الاسم ورد ذلك بما ثبت عند أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعا : ( الحمد لله رب العالمين أم القرآن والسبع المثاني ) وبما عند البخاري بلفظ : ( الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني ) ويمكن الجواب عن ذلك الاستدلال بأنها ذكرت أول آية من الآيات التي تخص السورة وتركت البسملة لأنها مشتركة بينها وبين غيرها من السورة وقد تقدم البحث عن هذا مبسوطا
قوله ( ولم يصوبه ) قد تقدم ضبط هذا اللفظ وتفسيره في حديث أبي حميد السابق في باب رفع اليدين
قوله ( وكان يقول في كل ركعتين التحية ) فيه التصريح بمشروعية التشهد الأوسط والأخير والتسوية بينهما وقد تقدم الكلام عليهما
قوله ( وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى ) استدل به من قال بمشروعية النصب والفرش في التشهدين جميعا ووجهه ما قدمنا من الإطلاق وعدم التقييد في مقام التصدي لوصف صلاته صلى الله عليه وآله وسلم لا سيما بعد وصفها للذكر المشروع في التشهدين جميعا وقد بينا ما هو الحق في أول الباب
قوله ( وكان ينهى عن عقب الشيطان ) قيده النووي وغيره بفتح العين وكسر القاف قال : وهذا هو الصحيح المشهور فيه . قال ابن رسلان : وحكي ضم العين مع فتح القاف جمع عقبة بضم العين وسكون القاف وقد ضعف [ ص 310 ] ذلك القاضي عياض وفسره أبو عبيد وغيره بالإقعاء المنهي عنه وهو أن يلصق إليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب . وقال ابن رسلان في شرح السنن : هي أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه
قوله ( وكان ينهى أن يفرش الرجل ذراعيه افتراش السبع ) هو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود ويفضي بمرفقه وكفه إلى الأرض
( والحديث ) قد اشتمل على كثير من فروض الصلاة وأركانها وقد تقدم الكلام على جميع ما فيه كل شيء في بابه إلا التسليم فسيأتي البحث عنه

5 - وعن أبي هريرة قال : ( نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ثلاث عن نقرة كنقرة الديك وإقعاء كإقعاء الكلب والتفات كالتفات الثعلب )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه البيهقي أيضا وأشار إليه الترمذي وهو من رواية ليث بن أبي سليم وأخرجه أيضا أبو يعلى والطبراني في الأوسط قال في مجمع الزوائد : وإسناد أحمد حسن والنهي عن نقرة كنقرة الغراب أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن شبل والنهي عن الإقعاء أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث علي مرفوعا بلفظ : ( لا تقع بين السجدتين ) وفي إسناده الحارث الأعور وأخرجه ابن ماجه من رواية أنس بلفظ : ( إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعى الكلب ضع إليتيك بين قدميك والزق ظاهر قدميك بالأرض ) وفي إسناده العلاء أبو محمد وقد ضعفه بعض الأئمة وأخرج البيهقي من روايته حديثا آخر بلفظ : ( نهى عن الإقعاء والتورك ) وأخرج أيضا من حديث جابر بن سمرة قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإقعاء في الصلاة ) وأخرج ابن ماجه عن عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد فرفع رأسه لم يسجد حتى يستوي جالسا وكان يفرش رجله اليسرى )
قوله ( عن نقرة كنقرة الديك ) النقرة بفتح النون والمراد بها كما قال ابن الأثير : ترك الطمأنينة وتخفيف السجود وأن لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد الأكل منه كالجيفة لأنه يتابع في النقر منها من غير تلبث
قوله ( وإقعاء كإقعاء الكلب ) الإقعاء قد اختلف في تفسيره اختلافا كثيرا . قال النووي : والصواب الذي لا يعدل عنه أن الإقعاء نوعان : أحدهما أن يلصق إليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب هكذا فسره أبو عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه أبو عبيد القاسم بن سلام وآخرون من أهل [ ص 311 ] اللغة وهذا النوع هو المكروه الذي ورد النهي عنه . والنوع الثاني أن يجعل إليتيه على العقبين بين السجدتين اه . قال في النهاية : والأول أصح
قوله ( والتفات كالتفات الثعلب ) فيه كراهة الالتفات في الصلاة وقد وردت بالمنع منه أحاديث وثبت أن الالتفات اختلاس من الشيطان وسيأتي الكلام على الالتفات في الباب الذي عقده المصنف له . وقد اختلف أهل العلم في كيفية الجمع بين هذه الأحاديث الواردة بالنهي عن الإقعاء وما روي عن ابن عباس أنه قال في الإقعاء على القدمين بين السجدتين : إنه السنة فقال له طاوس : إنا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس : هي سنة نبيكم . أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود . وأخرج البيهقي عن ابن عمر أنه كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه ويقول إنه من السنة . وعن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يقعيان . وعن طاوس قال : رأيت العبادلة يقعون . قال الحافظ : وأسانيدها صحيحة فقال الخطابي والماوردي : إن الإقعاء منسوخ ولعل ابن عباس لم يبلغه النهي
وقد أنكر القول بالنسخ ابن الصلاح والنووي وقال البيهقي والقاضي عياض وابن الصلاح والنووي وجماعة من المحققين : إنه يجمع بينها بأن الإقعاء الذي ورد النهي عنه هو الذي يكون كإقعاء الكلب على ما تقدم من تفسير أئمة اللغة والإقعاء الذي صرح ابن عباس وغيره أنه من السنة هو وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين والركبتان على الأرض وهذا الجمع لا بد منه
وأحاديث النهي والمعارض لها يرشد إليه لما فيها من التصريح بإقعاء الكلب ولما في أحاديث العبادلة من التصريح بالإقعاء على القدمين وعلى أطراف الأصابع . وقد روي عن ابن عباس أيضا أنه قال : من السنة أن تمس عقبيك إليتيك وهو مفسر للمراد فالقول بالنسخ غفلة عن ذلك وعما صرح به الحفاظ من جهل تاريخ هذه الأحاديث وعن المنع من المصير إلى النسخ مع إمكان الجمع
وقد روي عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم فعله كما قال النووي ونص الشافعي في البويطي والإملاء على استحبابه . وأما النهي عن عقب الشيطان فقد عرفت تفسير ذلك في شرح الحديث الأول . وقال الحافظ في التلخيص : يحتمل أن يكون واردا للجلوس للتشهد الأخير فلا يكون منافيا للقعود على العقبين بين السجدتين والأولى أن يمنع كون الإقعاء المروي عن العبادلة مما يصدق عليه حديث النهي عن عقب الشيطان مسندا بما تقدم في تفسيره

باب ذكر تشهد ابن مسعود وغيره . [ ص 312 ]

1 - عن ابن مسعود قال : ( علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله )
- رواه الجماعة وفي لفظ : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله ) وذكره وفيه عند قوله : ( وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض ) وفي آخره : ( ثم يتخير من المسألة ما شاء ) متفق عليه . ولأحمد من حديث أبي عبيدة عن عبد الله قال : ( علمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التشهد وأمره أن يعلمه الناس التحيات لله ) وذكره قال الترمذي : حديث ابن مسعود أصح حديث في التشهد والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين

- الحديث قال أبو بكر البزار أيضا : هو أصح حديث في التشهد قال : وقد روي من نيف وعشرين طريقا وسرد أكثرها
وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة وقال مسلم : إنما أجمع الناس على تشهد ابن مسعود لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضا وغيره قد اختلف أصحابه . وقال الذهلي : إنه أصح حديث روي في التشهد ومن مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره وأن رواته لم يختلفوا في حرف منه بل نقلوه مرفوعا على صفة واحدة وقد روى التشهد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من الصحابة غير ابن مسعود منهم ابن عباس وسيأتي حديثه . ومنهم جابر أخرج حديثه النسائي وابن ماجه والترمذي في العلل والحاكم ورجاله ثقات . ومنهم عمر أخرج حديثه مالك والشافعي والحاكم والبيهقي روي مرفوعا . وقال الدارقطني : لم يختلفوا في أنه موقوف عليه . ومنهم ابن عمر أخرج حديثه أبو داود والدارقطني والطبراني . ومنهم علي أخرج حديثه الطبراني بإسناد ضعيف . ومنهم أبو موسى أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والطبراني . ومنهم عائشة أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده والبيهقي ورجح الدارقطني وقفه . ومنهم سمرة أخرجه أبو داود وإسناده ضعيف . ومنهم ابن الزبير أخرجه الطبراني وقال : تفرد به ابن لهيعة . ومنهم معاوية [ ص 313 ] أخرجه الطبراني وإسناده حسن قاله الحافظ . ومنهم سلمان أخرجه الطبراني والبزار وإسناده ضعيف . ومنهم أبو حميد أخرجه الطبراني . ومنهم أبو بكر أخرجه البزار وإسناده حسن وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا . ومنهم الحسين بن علي أخرجه الطبراني . ومنهم طلحة بن عبيد الله قال الحافظ : وإسناده حسن . ومنهم أنس قال : وإسناده صحيح . ومنهم أبو هريرة قال : وإسناده صحيح أيضا . ومنهم أبو سعيد قال : وإسناده صحيح أيضا . ومنهم الفضل بن عباس وأم سلمة وحذيفة والمطلب بن ربيعة وابن أبي أوفى وفي أسانيدهم مقال وبعضها مقارب
قوله ( التحيات لله ) هي جمع تحية قال الحافظ : ومعناها السلام وقيل البقاء وقيل العظمة وقيل السلامة من الآفات والنقص وقيل الملك . قال المحب الطبري : يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركا بين هذه المعاني . وقال الخطابي والبغوي : المراد بالتحيات أنواع التعظيم
قوله ( والصلوات ) قيل المراد الخمس وقيل أعم وقيل العبادات كلها وقيل الدعوات وقيل الرحمة وقيل التحيات العبادات القولية والصلوات العبادات الفعلية والطيبات العبادات المالية كذا قال الحافظ
قوله ( والطيبات ) قيل هي ما طاب من الكلام . وقيل ذكر الله وهو أخص . وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم
قال البيضاوي : يحتمل أن يكون والصلوات والطيبات عطفا على التحيات ويحتمل أن تكون الصلوات مبتدأ خبره محذوف والطيبات معطوفة عليها . قال ابن مالك : إذا جعلت التحيات مبتدأ ولم يكن صفة لموصوف محذوف كان قولك والصلوات مبتدأ لئلا يعطف نعت على منعوته فيكون من باب عطف الجمل بعضها على بعض فكل جملة مستقلة وهذا المعنى لا يوجد عند إسقاط الواو
قوله ( السلام ) قال الحافظ في التلخيص : أكثر الروايات فيه يعني حديث ابن مسعود بتعريف السلام في الموضعين ووقع في رواية للنسائي سلام علينا بالتنكير وفي رواية للطبراني سلام عليك بالتنكير . وقال في الفتح : لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس قال النووي : لا خلاف في جواز الأمرين ولكن بالألف واللام أفضل وهو الموجود في روايات صحيحي البخاري ومسلم وأصله النصب وعدل إلى الرفع على الابتداء للدلالة على الدوام والثبات
والتعريف فيه بالألف واللام إما للعهد التقديري أي السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك أيها النبي أو للجنس أي السلام المعروف لكل أحد وهو اسم من أسماء الله تعالى ومعناه التعويذ بالله والتحصين أو هو السلامة من كل عيب وآفة ونقص وفساد . قال البيضاوي : علمهم [ ص 314 ] أن يفردوه صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم ثم علمهم أن يخصوا أنفسهم لأن الاهتمام بها أهم ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلاما منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملا لهم اه والمراد بقوله رحمة الله إحسانه . وقوله وبركاته زيادة من كل خير قاله الحافظ
قوله ( أشهد أن لا إله إلا الله ) زاد بن أبي شيبة وحده لا شريك له قال الحافظ في الفتح : وسنده ضعيف لكن ثبتت هذه الرواية في حديث أبي موسى عند مسلم . وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ . وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني وعند أبي داود عن ابن عمر أنه قال : زدت فيها وحده لا شريك له وإسناده صحيح
قوله ( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) سيأتي في حديث ابن عباس بدون قوله عبده . وقد أخرج عبد الرزاق عن عطاء : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر رجلا أن يقول عبده ورسوله ) ورجاله ثقات لولا إرساله
قوله ( فإنكم إذا فعلتم ذلك ) في لفظ للبخاري : فإنكم إذا قلتموها والمراد قوله وعلى عباد الله الصالحين وهو كلام معترض بين قوله الصالحين وبين قوله أشهد
قوله ( على كل عبد صالح ) استدل به على أن الجمع المضاف والجمع المحلى باللام يعم
قوله ( في السماء والأرض ) في رواية بين السماء والأرض أخرجها الإسماعيلي وغيره
قوله ( ثم يتخير من المسألة ) قد قدمنا في باب الأمر بالتشهد الأول اختلاف الروايات في هذه الكلمة وفي ذلك دليل على مشروعية الدعاء في الصلاة قبل السلام من أمور الدنيا والآخرة ما لم يكن إثما وإلى ذلك ذهب الجمهور . وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا بالدعوات المأثورة في القرآن والسنة وقالت الهادوية : لا يجوز مطلقا
( والحديث ) وغيره من الأدلة المتكاثرة التي فيها الإذن بمطلق الدعاء ومقيدة ترد عليهم ولولا ما رواه ابن رسلان عن البعض من الإجماع على عدم وجوب الدعاء قبل السلام لكان الحديث منتهضا للاستدلال به عليه لأن التخير في آحاد الشيء لا يدل على عدم وجوبه كما قال ابن رشد وهو المتقرر في الأصول إنه قد ذهب إلى الوجوب أهل الظاهر وروي عن أبي هريرة
( وقد استدل ) بقوله في الحديث : ( إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل ) وبقوله في الرواية الأخرى : ( وأمره أن يعلمه الناس ) القائلون بوجوب التشهد الأخير وهم عمر وابن عمر وأبو مسعود والهادي والقاسم والشافعي وقال النووي في شرح مسلم : مذهب أبي حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء أن التشهدين سنة وإليه ذهب الناصر من أهل البيت عليهم السلام . قال : وروي عن مالك القول بوجوب الأخير
( واستدل القائلون ) بالوجوب أيضا بقول ابن مسعود : كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد [ ص 315 ] السلام على عباد الله الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي وصححاه وهو مشعر بفرضية التشهد . وأجاب عن ذلك القائلون بعدم الوجوب بأن الأوامر المذكورة في الحديث للإرشاد لعدم ذكر التشهد الأخير في حديث المسيء وعن قول ابن مسعود بأنه تفرد به ابن عيينة كما قال ابن عبد البر ولكن هذا لا يعد قادحا . وأما الاعتذار بعدم الذكر في حديث المسيء فصحيح إلا أن يعلم تأخر الأمر بالتشهد عنه كما قدمنا . وأما الاعتذار عن الوجوب بأن الأمر المذكور صرف لهم عما كانوا يقولون من تلقاء أنفسهم فلا يدل على الوجوب أو بأن قول ابن عباس كما يعلمنا السورة يرشد إلى الإرشاد لأن تعليم السورة غير واجب فمما لا يعول عليه
( ومن جملة ) ما استدل به القائلون بعدم الوجوب ما ثبت في بعض روايات حديث المسيء من قوله صلى الله عليه و سلم : ( فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك ) ويتوجه على القائلين بالوجوب إيجاب جميع التشهد وعدم التخصيص بالشهادتين كما قالت الهادوية بنفس الدليل الذي استدلوا به على ذلك
وقد اختلف العلماء في الأفضل من التشهدات فذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك إلى أن تشهد ابن عباس أفضل لزيادة لفظ المباركات فيه كما يأتي . وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث : تشهد ابن مسعود أفضل لما قدمناه من المرجحات وقال مالك : تشهد عمر بن الخطاب أفضل لأنه علمه الناس على المنبر ولم ينازعه أحد ولفظه : ( التحيات لله الزاكيات الطيبات الصلوات لله ) الحديث . وفي رواية بسم الله خير الأسماء قال البيهقي : لم يختلفوا في أن هذا الحديث موقوف على عمر ورواه بعض المتأخرين عن مالك مرفوعا
قال الحافظ : وهو وهم وقالت الهادوية : أفضلها ما رواه زيد بن علي عن علي عليه السلام ولفظه : ( بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلها لله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) وضم إليه أبو طالب ما رواه الهادي في المنتخب من زيادة التحيات لله والصلوات والطيبات بعد قوله والأسماء الحسنى كلها لله . قال النووي : واتفق العلماء على جوازها كلها يعني التشهدات الثابتة من وجه صحيح وكذلك نقل الإجماع القاضي أبو الطيب الطبري

2 - وعن ابن عباس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله )
- رواه مسلم وأبو داود بهذا اللفظ ورواه الترمذي وصححه كذلك لكنه ذكر السلام منكرا ورواه ابن ماجه كمسلم لكنه قال : ( وأشهد [ ص 316 ] أن محمدا عبده ورسوله ) ورواه الشافعي وأحمد بتنكير السلام وقالا فيه : ( وأن محمدا ) ولم يذكرا أشهد والباقي كمسلم . ورواه أحمد من طريق آخر كذلك لكن بتعريف السلام . ورواه النسائي كمسلم لكنه نكر السلام وقال : ( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله )

- الحديث أخرجه أيضا الدارقطني في أحد روايتيه وابن حبان في صحيحه بتعريف السلام الأول وتنكير الثاني . وأخرجه الطبراني بتنكير الأول وتعريف الثاني
قوله ( التحيات المباركات الصلوات الطيبات ) قال النووي : تقديره والمباركات والصلوات والطيبات كما في حديث ابن مسعود وغيره ولكن حذفت اختصارا وهو جائز معروف في اللغة
( ومعنى الحديث ) أن التحيات وما بعدها مستحقة لله تعالى ولا يصلح حقيقتها لغيره . والمباركات جمع مباركة وهي كثيرة الخير وقيل النماء وهذه زيادة اشتمل عليها حديث ابن عباس كما اشتمل حديث ابن مسعود على زيادة الواو ولولا وقوع الإجماع كما قدمنا على جواز كل تشهد من التشهدات الصحيحة لكان اللازم الأخذ بالزائد فالزائد من ألفاظها وقد مر شرح بقية ألفاظ الحديث

باب في أن التشهد في الصلاة فرض

1 - عن ابن مسعود قال : ( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقولوا هكذا ولكن قولوا التحيات لله ) وذكره
- رواه الدارقطني وقال : إسناده صحيح

- الحديث أخرجه أيضا البيهقي وصححه وهو من جملة ما استدل به القائلون بوجوب التشهد وقد ذكرنا ذلك مستوفى في شرح حديث ابن مسعود وقد صرح صاحب ضوء النهار أن الفرض ههنا بمعنى التعيين وهو شيء لا وجود له في كتب اللغة وقد صرح صاحب النهاية أن معنى فرض الله أوجب وكذا في القاموس وغيره
وللفرض معان أخر مذكورة في كتب اللغة لا تناسب المقام ومن جملة ما اعتذر به في ضوء النهار أن قول ابن مسعود هذا اجتهاد منه ولا يخفى أن كلامه هذا خارج مخرج الرواية لأنه بصدد الرأي وقول الصحابي فرض علينا وجب علينا إخبار عن حكم الشارع وتبليغ إلى الأمة وهو من أهل اللسان العربي وتجويزه ما ليس بفرض فرضا بعيد فالأولى الاقتصار في الاعتذار [ ص 317 ] عن الوجوب على عدم الذكر في حديث المسيء وعدم العلم بتأخير هذا عنه كما تقدم . قال المصنف رحمه الله : وهذا يعني قول ابن مسعود يدل على أنه فرض عليهم اه

2 - وعن عمر بن الخطاب قال : ( لا تجزئ صلاة إلا بتشهد )
- رواه سعيد في سننه والبخاري في تاريخه

- الأثر من جملة ما تمسك به القائلون بوجوب التشهد وهو لا يكون حجة إلا على القائلين بحجية أقوال الصحابة لا على غيرهم لظهور أنه قاله رأيا لا رواية بخلاف ما تقدم عن ابن مسعود وقد حكى ابن عبد البر عن الشافعي أنه قال : من ترك التشهد ساهيا أو عامدا فعليه إعادة الصلاة إلا أن يكون الساهي قريبا فيعود إلى إتمام صلاته ويتشهد وإلى وجوب إعادة الصلاة على من ترك التشهد ذهبت الهادوية وقد قدمنا غير مرة أن الإخلال بالواجبات لا يستلزم بطلان الصلاة وأن المستلزم لذلك إنما هو الإخلال بالشروط والأركان

باب الإشارة بالسبابة وصفة وضع اليدين

1 - عن وائل بن حجر : ( أنه قال في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قعد فافترش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها )
- رواه أحمد والنسائي وأبو داود

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي وهو طرف من حديث وائل المذكور في صفة صلاته صلى الله عليه وآله وسلم
قوله ( ثم قعد فافترش رجله اليسرى ) استدل به من قال بمشروعية الفرش والنصب في الجلوس الأخير وقد تقدم تحقيق ذلك
قوله ( ووضع كفه اليسرى على فخذه ) أي ممدودة غير مقبوضة قال إمام الحرمين ينشر أصابعها مع التفريج
قوله ( وجعل حد مرفقه ) أي طرفه والمراد كما قال في شرح المصابيح أن يجعل عظم مرفقه كأنه رأس وتد . قال ابن رسلان : يرفع طرف مرفقه من جهة العضد عن فخذه حتى يكون مرتفعا عنه كما يرتفع الوتد عن الأرض ويضع طرفه الذي من جهة الكف على طرف فخذه الأيمن
قوله ( ثم قبض ثنتين ) أي [ ص 318 ] إصبعين من أصابع يده اليمنى وهما الخنصر والبنصر
قوله ( وحلق ) بتشديد اللام أي جعل إصبعيه حلقة والحلقة بسكون اللام جمعها حلق بفتحتين على غير قياس . وقال الأصمعي : الجمع حلق بكسر الحاء مثل قصعة وقصع
قوله ( فرأيته يحركها ) قال البيهقي : يحتمل أن يكون مراده بالتحريك الإشارة بها لا تكرير تحريكها حتى لا يعارض حديث ابن الزبير عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه بلفظ : ( كان يشير بالسبابة ولا يحركها ولا يجاوز بصره إشارته ) قال الحافظ : وأصله في مسلم دون قوله ( ولا يجاوز بصره إشارته ) انتهى . وليس في مسلم من حديث ابن الزبير إلا الإشارة دون قوله ولا يحركها وما بعده . ومما يرشد إلى ما ذكره البيهقي رواية أبي داود لحديث وائل فإنها بلفظ : ( وأشار بالسبابة )
وقد ورد في وضع اليمنى على الفخذ حال التشهد هيئات هذه إحداها . والثانية ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة ) . والثالثة قبض كل الأصابع والإشارة بالسبابة كما في حديث ابن عمر الذي سيذكره المصنف . والرابعة ما أخرجه مسلم من حديث ابن الزبير بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بإصبعه السبابة ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى ويلقم كفه اليسرى ركبته ) . والخامسة وضع اليد اليمنى على الفخذ من غير قبض والإشارة بالسبابة وقد أخرج مسلم رواية أخرى عن ابن الزبير تدل على ذلك لأنه اقتصر فيها على مجرد الوضع والإشارة . وكذلك أخرج عن ابن عمر ما يدل على ذلك كما سيأتي . وكذلك أخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي حميد بدون ذكر القبض اللهم إلا أن تحمل الرواية التي لم يذكر فيها القبض على الروايات التي فيها القبض حمل المطلق على المقيد
وقد جعل ابن القيم في الهدي الروايات المذكورة كلها واحدة قال : فإن من قال قبض أصابعه الثلاث أراد به أن الوسطى كانت مضمومة ولم تكن منشورة كالسبابة ومن قال قبض اثنتين أراد أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع البنصر بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض دون الوسطى . وقد صرح بذلك من قال : وعقد ثلاثا وخمسين فإن الوسطى في هذا العقد تكون مضمومة ولا تكون مقبوضة مع البنصر انتهى
( والحديث ) يدل على استحباب وضع اليدين على الركبتين حال الجلوس للتشهد وهو مجمع عليه . [ ص 319 ] قال أصحاب الشافعي : تكون الإشارة بالإصبع عند قوله إلا الله من الشهادة . قال النووي : والسنة أن لا يجاوز بصره إشارته وفيه حديث صحيح في سنن أبي داود ويشير بها موجهة إلى القبلة وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص . قال ابن رسلان : والحكمة في الإشارة بها إلى أن المعبود سبحانه وتعالى واحد ليجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد . وروي عن ابن عباس أنه قال : هي الإخلاص وقال مجاهد : مقمعة الشيطان

2 - وعن ابن عمر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها ) . وفي لفظ : ( كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى )
- رواهما أحمد ومسلم والنسائي

- وأخرج نحوه الطبراني بلفظ : ( كان إذا جلس في الصلاة للتشهد نصب يده على ركبته ثم يرفع إصبعه السبابة التي تلي الإبهام وباقي أصابعه على يمينه مقبوضة )
قوله ( وضع يده على ركبته ورفع إصبعه ) ظاهر هذا عدم القبض لشيء من الأصابع فيكون دليلا على الهيئة الخامسة التي قدمناها إلا أن يحمل على اللفظ الآخر كما سلف . ويمكن أن يقال إن قوله ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها مشعر بقبض اليمنى ولكنه إشعار فيه خفاء على أنه يمكن أن يكون توصيف اليسرى بأنها مبسوطة ناظرا إلى رفع إصبع اليمنى للدعاء فيفيد أنه لم يرفع إصبع اليسرى للدعاء
( والحديث ) يدل على مشروعية الإشارة وقبض الأصابع كما في اللفظ الآخر من حديث الباب وقد تقدم البحث عن ذلك

باب ما جاء في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

1 - عن أبي مسعود قال : ( أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على [ ص 320 ] آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه . ولأحمد في لفظ آخر نحوه وفيه : ( فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا )

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وحسنه والحاكم وصححه والبيهقي وصححه وزادوا : ( النبي الأمي ) بعد قوله : ( قولوا اللهم صل على محمد ) وزاد أبو داود بعد قول : ( كما باركت على آل إبراهيم ) لفظ : ( في العالمين ) وفي الباب عن كعب بن عجرة عند الجماعة وسيأتي
وعن علي عليه السلام عند النسائي في مسند علي بلفظ حديث أبي هريرة الآتي . وعن أبي هريرة وسيأتي أيضا . وعن طلحة بن عبيد الله عند النسائي بلفظ : ( اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ) وفي رواية وآل محمد في الموضعين ولم يقل فيهما وآل إبراهيم
وعن أبي سعيد عند البخاري والنسائي وابن ماجه بلفظ : ( قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ) وعن بريدة عند أحمد بلفظ : ( اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وآل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) وفيه أبو داود الأعمى اسمه نفيع وهو ضعيف جدا ومتهم بالوضع . وعن زيد بن خارجة عند أحمد والنسائي بلفظ : ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ) وعن أبي حميد وسيأتي
وعن رويفع بن ثابت وجابر وابن عباس عند المستغفري في الدعوات . قال النووي في شرح المهذب : ينبغي أن تجمع ما في الأحاديث الصحيحة فتقول اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد
قال العراقي : بقي عليه مما في الأحاديث الصحيحة ألفاظ آخر وهي خمسة يجمعها قولك اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد انتهى
وهذه الزيادات التي ذكرها العراقي ثابتة في أحاديث الباب التي ذكرها المصنف وذكرناها . وقد وردت زيادات غير هذه في أحاديث أخر عن علي [ ص 321 ] وابن مسعود وغيرهما ولكن فيها مقال
قوله في الحديث ( قولوا ) استدل بذلك على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم بعد التشهد وإلى ذلك ذهب عمر وابنه عبد الله وابن مسعود وجابر بن زيد . والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبو جعفر الباقر والهادي والقاسم والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وابن المواز واختاره القاضي أبو بكر ابن العربي
( وذهب الجمهور ) إلى عدم الوجوب منهم مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والناصر من أهل البيت وآخرون . قال الطبري والطحاوي : إنه أجمع المتقدمون والمتأخرون على عدم الوجوب . وقال بعضهم : إنه لم يقل بالوجوب إلا الشافعي وهو مسبوق بالإجماع . وقد طول القاضي عياض في الشفاء الكلام على ذلك ودعوى الإجماع من الدعاوى الباطلة لما عرفت من نسبة القول بالوجوب إلى جماعة من الصحابة والتابعين وأهل البيت والفقهاء ولكنه لا يتم الاستدلال على وجوب الصلاة بعد التشهد بما في حديث الباب من الأمر بها وبما في سائر أحاديث الباب لأن غايتها الأمر بمطلق الصلاة عليه صلى الله عليه و سلم وهو يقتضي الوجوب في الجملة فيحصل الامتثال بإيقاع فرد منها خارج الصلاة فليس فيها زيادة على ما في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ولكنه يمكن الاستدلال لوجوب الصلاة في الصلاة بما أخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي وصححوه وابن خزيمة في صحيحه والدارقطني من حديث ابن مسعود بزيادة : ( كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ) وفي رواية : ( كيف نصلي عليك في صلاتنا ) وغاية هذه الزيادة أن يتعين بها محل الصلاة عليه صلى الله عليه و سلم وهو مطلق الصلاة وليس فيها ما يعين محل النزاع وهو إيقاعها بعد التشهد الأخير
ويمكن الاعتذار عن القول بالوجوب بأن الأوامر المذكورة في الأحاديث تعليم كيفية وهي لا تفيد الوجوب فإنه لا يشك من له ذوق أن من قال لغيره إذا أعطيتك درهما فكيف أعطيك إياه أسرا أم جهرا فقال له أعطنيه سرا كان ذلك أمرا بالكيفية التي هي السرية لا أمرا بالإعطاء وتبادر هذا المعنى لغة وشرعا وعرفا لا يدفع
وقد تكرر في السنة وكثر فمنه ( إذا قام أحدكم الليل فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين ) الحديث . وكذا قوله صلى الله عليه و سلم في صلاة الاستخارة ( فليركع ركعتين ثم ليقل ) الحديث وكذا قوله في صلاة التسبيح ( فقم وصل أربع ركعات ) وقوله في الوتر ( فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة ) والقول بأن هذه الكيفية المسؤول عنها هي كيفية الصلاة المأمور بها في القرآن فتعليمها بيان للواجب [ ص 322 ] المجمل فتكون واجبة لا يتم إلا بعد تسليم أن الأمر القرآني بالصلاة مجمل وهو ممنوع لاتضاح معنى الصلاة والسلام المأمور بهما على أنه قد حكى الطبري الإجماع على أن محمل الآية على الندب فهو بيان لمجمل مندوب لا واجب ولو سلم انتهاض الأدلة على الوجوب لكان غايتها أن الواجب فعلها مرة واحدة فأين دليل التكرار في كل صلاة ولو سلم وجود ما يدل على التكرار لكان تركها في تعليم المسيء دالا على عدم وجوبه
( ومن جملة ) ما استدل به القائلون بوجوب الصلاة بعد التشهد الأخير ما أخرجه الترمذي وقال : حسن صحيح من حديث علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي ) قالوا وقد ذكر النبي في التشهد وهذا أحسن ما يستدل به على المطلوب لكن بعد تسليم تخصيص البخل بترك الواجبات وهو ممنوع فإن أهل اللغة والشرع والعرف يطلقون اسم البخيل على من يشح بما ليس بواجب فلا يستفاد من الحديث الوجوب
واستدلوا أيضا بحديث عائشة عند الدارقطني والبيهقي بلفظ : ( لا صلاة إلا بطهور والصلاة علي ) وهو مع كونه في إسناده عمرو بن شمر وهو متروك وجابر الجعفي وهو ضعيف لا يدل على المطلوب لأن غايته إيجاب الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم من دون تقييد بالصلاة فأين دليل التقييد بها سلمنا فأين دليل تعيين وقتها بعد التشهد
ومثله حديث سهل بن سعد عند الدارقطني والبيهقي والحاكم بلفظ : ( لا صلاة لمن لم يصل على نبيه ) وهو مع كونه غير مفيد للمطلوب كما عرفت ضعيف الإسناد كما قال الحافظ في التلخيص
( من جملة أدلتهم ) ما أخرجه الدارقطني من حديث أبي مسعود بلفظ : ( من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه ) وهو لا يدل على المطلوب وغايته إيجاب الصلاة في مطلق الصلاة فأين دليل التقييد ببعد التشهد على أنه لا يصلح للاستدلال به فإن الدارقطني قال بعد إخراجه : الصواب أنه من قول أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين
( واستدلوا ) أيضا بحديث فضالة بن عبيد الآتي وغايته إيجاب الصلاة في مطلق الصلاة عند إرادة الدعاء فما الدليل على الوجوب بعد التشهد على أنه حجة عليهم لا لهم كما سيأتي للمصنف
( ومن جملة أدلتهم ) ما قاله المهدي في البحر أنه لا حتم في غير الصلاة إجماعا فتعين فيها للأمر والإجماع ممنوع فقد قال مالك : إنها تجب في العمر مرة وإليه ذهب أهل الظاهر . وقال الطحاوي : إنها تجب كلما ذكر واختاره الحليمي من الشافعية . قال ابن دقيق العيد : وقد كثر الاستدلال على الوجوب في الصلاة بين المتفقهة بأن الصلاة [ ص 323 ] عليه واجبة بالإجماع ولا تجب في غير الصلاة بالإجماع فتعين أن تجب في الصلاة وهو ضعيف جدا لأن قوله لا تجب في غير الصلاة بالإجماع إن أراد لا تجب في غير الصلاة عينا فهو صحيح لكنه لا يلزم منه أن تجب في الصلاة عينا لجواز أن يكون الواجب مطلق الصلاة فلا يجب واحد من المعينين أعني خارج الصلاة وداخل الصلاة وإن أراد أعم من ذلك وهو الوجوب المطلق فممنوع اه
( ومن جملة أدلتهم ) ما أخرجه البزار في مسنده من رواية إسماعيل بن أبان عن قيس عن سماك عن جابر بن سمرة قال : ( صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فقال آمين آمين آمين فلما نزل سئل عن ذلك فقال أتاني جبريل ) الحديث . وفيه : ( ورغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل علي ) وإسماعيل بن أبان هو الغنوي كذبه يحيى بن معين وغيره نعم حديث كعب بن عجرة عند الطبراني : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوما إلى المنبر فقال حين ارتقى درجة آمين ثم رقى أخرى فقال آمين ) الحديث وفيه أن جبريل قال له عند الدرجة الثالثة ( بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين ) ورجاله ثقات كما قال العراقي
وحديث جابر عند الطبراني بلفظ : ( شقي من ذكرت عنده فلم يصل علي ) يفيد أن الوجوب عند الذكر من غير فرق بين داخل الصلاة وخارجها والقائلون بالوجوب في الصلاة لا يقولون بالوجوب خارجها فما هو جوابهم عن الوجوب خارجها فهو جوابنا عن الوجوب داخلها على أن التقييد بقوله عنده مشعر بوقوع الذكر من غير من أضيف إليه والذكر الواقع حال الصلاة ليس من غير الذاكر وإلحاق ذكر الشخص بذكر غيره يمنع منه وجود الفارق وهو ما يشعر به السكوت عند سماع ذكره صلى الله عليه وآله وسلم من الغفلة وفرط القسوة بخلاف ما إذا جرى ذكره صلى الله عليه وآله وسلم من الشخص نفسه فكفى به عنوانا على الالتفات والرقة . ويؤيد هذا الحديث الصحيح : ( إن في الصلاة لشغلا )
( ومن أنهض ) ما يستدل به على الوجوب في الصلاة مقيدا بالمحل المخصوص أعني بعد التشهد ما أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق يحيى بن السباق عن رجل من آل الحارث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم بلفظ : ( إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل ) الحديث لولا أن في إسناده رجلا مجهولا وهو هذا الحارثي
( والحاصل ) أنه لم يثبت عندي من الأدلة ما يدل على مطلوب القائلين بالوجوب وعلى فرض ثبوته فترك تعليم المسيء للصلاة لا سيما مع قوله صلى الله عليه و سلم ( فإذا فعلت [ ص 324 ] ذلك فقد تمت صلاتك ) قرينة صالحة لحمله على الندب
ويؤيد ذلك قوله لابن مسعود وبعد تعليمه التشهد ( إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد ) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني وفيه كلام يأتي إن شاء الله في باب كون السلام فرضا . وبعد هذا فنحن لا ننكر أن الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم من أجل الطاعات التي يتقرب بها الخلق إلى الخالق وإنما نازعنا في إثبات واجب من واجبات الصلاة بغير دليل يقتضيه مخافة من التقول على الله بما لم يقل ولكن تخصيص التشهد الأخير بها مما لم يدل عليه دليل صحيح ولا ضعيف وجميع هذه الأدلة التي استدل بها القائلون بالوجوب لا تختص بالأخير وغاية ما استدلوا به على تخصيص الأخير بها حديث : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس في التشهد الأوسط كما يجلس على الرضف ) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وليس فيه إلا مشروعية التخفيف وهو يحصل بجعله أخف من مقابله أعني التشهد الأخير وأما أنه يستلزم ترك ما دل الدليل على مشروعيته فيه فلا ولا شك أن المصلي إذا اقتصر على أحد التشهدات وعلى أخصر ألفاظ الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم كان مسارعا غاية المسارعة باعتبار ما يقع من تطويل الأخير بالتعوذ من الأربع والأدعية المأمور بمطلقها ومقيدها فيه
إذا تقرر لك الكلام في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة فاعلم أنه قد اختلف في وجوبها على الآل بعد التشهد فذهب الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي إلى الوجوب واستدلوا بالأوامر المذكورة في الأحاديث المشتملة على الآل . وذهب الشافعي في أحد قوليه وأبو حنيفة وأصحابه والناصر إلى أنها سنة فقط وقد تقدم ذكر الأدلة من الجانبين
( ومن جملة ) ما احتج به الآخرون هنا الإجماع الذي حكاه النووي على عدم الوجوب قالوا فيكون قرينة لحمل الأوامر على الندب قالوا ويؤيد ذلك عدم الأمر بالصلاة على الآل في القرآن والخلاف في تعيين الآل من هم وسيأتي في الباب الثاني . وشرح بقية ألفاظ حديث ابن مسعود يأتي في شرح ما بعده من أحاديث الباب

2 - وعن كعب بن عجرة قال : ( قلنا يا رسول الله قد علمنا أو عرفنا كيف السلام عليك فكيف الصلاة قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل [ ص 325 ] إبراهيم إنك حميد مجيد )
- رواه الجماعة إلا أن الترمذي قال فيه على إبراهيم في الموضعين لم يذكر آله

- قوله ( قد علمنا ) الخ يعني بما تقدم في أحاديث التشهد وهو السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وهو يدل على تأخر مشروعية الصلاة عن التشهد
قوله ( فكيف الصلاة ) فيه أنه يندب لمن أشكل عليه كيفية ما فهم جملته أن يسأل عنه من له به علم
قوله ( قولوا ) استدل به القائلون بوجوب الصلاة في الصلاة وقد تقدم البحث عن ذلك . وقوله ( وعلى آل محمد ) في رواية لأبي داود وآل محمد بحذف على وسائر الروايات في هذا الحديث وغيره بإثباتها . وقد ذهب البعض إلى وجوب زيادتها
قوله ( كما صليت على آل إبراهيم ) هم إسماعيل وإسحاق وأولادهما وقد جمع الله لهم الرحمة والبركة بقوله { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد } ولم يجمعا لغيرهم فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعطاء ما تضمنته الآية واستشكل جماعة من العلماء التشبيه للصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة على إبراهيم كما في بعض الروايات أو على آل إبراهيم كما في البعض الآخر مع أن المشبه دون المشبه به في الغالب وهو صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من إبراهيم وآله وأجيب عن ذلك بأجوبة :
منها أن المشبه مجموع الصلاة على محمد وآله بمجموع الصلاة على إبراهيم وآله وفي آل إبراهيم معظم الأنبياء فالمشبه به أقوى من هذه الحيثية . ومنها أن التشبيه وقع لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا للقدر بالقدر . ومنها أن التشبيه وقع في الصلاة على الآل لا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو خلاف الظاهر . ومنها أن الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار تكررها من كل فرد تصير باعتبار مجموع الأفراد أعظم وأوفر وإن كانت باعتبار الفرد مساوية أو ناقصة وفيه أن التشبيه حاصل في صلاة كل فرد فالصلاة من المجموع مأخوذ فيها ذلك فلا يتحقق كونها أعظم وأوفر
ومنها أن الصلاة عليه كانت ثابتة له والسؤال إنما هو باعتبار الزائد على القدر الثابت وبانضمام ذلك الزائد المساوي أو الناقص إلى ما قد ثبت تصير أعظم قدرا . ومنها أن التشبيه غير منظور فيه إلى جانب زيادة أو نقص وإنما المقصود أن لهذه الصلاة نوع تعظيم وإجلال كما فعل في حق إبراهيم وتقرر واشتهر من تعظيمه وتشريفه وهو خلاف الظاهر . ومنها أن الغرض من التشبيه قد يكون لبيان حال المشبه من غير نظر إلى قوة المشبه به وهو قليل لا يحمل عليه إلا لقرينة . ومنها أن التشبيه لا يقتضي أن يكون [ ص 326 ] المشبه دون المشبه به على جهة اللزوم كما صرح بذلك جماعة من علماء البيان وفيه أنه وإن لم يقتض ذلك نادرا فلا شك أنه غالب . ومنها إنه كان ذلك منه صلى الله عليه و سلم قبل أن يعلمه أنه أفضل من إبراهيم . ومنها أن مراده صلى الله عليه و سلم أن يتم النعمة عليه كما أتمها على إبراهيم وآله . ومنها أن مراده صلى الله عليه و سلم أن يبقي له لسان صدق في الآخرين كإبراهيم . ومنها أنه سأل أن يتخذه الله خليلا كإبراهيم . ومنها أنه صلى الله عليه و سلم من جملة آل إبراهيم . وكذلك آله فالمشبه هو الصلاة عليه وعلى آله بالصلاة على إبراهيم وآله الذي هو من جملتهم فلا ضير في ذلك
قوله ( إنك حميد ) أي محمود الأفعال مستحق لجميع المحامد لما في الصيغة من المبالغة وهو تعليل لطلب الصلاة منه والمجيد المتصف بالمجد وهو كمال الشرف والكرم والصفات المحمودة
قوله ( اللهم بارك ) البركة هي الثبوت والدوام من قولهم برك البعير إذا ثبت ودام أي أدم شرفه وكرامته وتعظيمه

3 - وعن فضالة بن عبيد قال : ( سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه و سلم ثم ليدع بعد ما شاء )
- رواه الترمذي وصححه

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم
قوله ( عجل هذا ) أي بدعائه قبل تقديم الصلاة وفيه دليل على مشروعية تقديم الصلاة قبل الدعاء ليكون وسيلة للإجابة لأن من حق السائل أن يتلطف في نيل ما أراده
وقد روى الحديث غير المصنف بلفظ : ( سمع رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي )
قوله ( والثناء عليه ) هو من عطف العام على الخاص . قوله ( ما شاء ) في أكثر الروايات بما شاء يعني من خير الدنيا والآخرة وفيه الأذن في الصلاة بمطلق الدعاء من غير تقييد بمحل مخصوص قيل هذا الحديث موافق في المعنى لحديث ابن مسعود وغيره في التشهد فإن ذلك متضمن للتمجيد والثناء وهذا مجمل وذلك مبين للمراد وهو لا يتم إلا بعد تسليم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع الرجل يدعو في قعدة التشهد
( وقد استدل ) بالحديث القائلون بوجوب الصلاة في الصلاة وقد تقدم الجواب عن ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه حجة [ ص 327 ] لمن لا يرى الصلاة عليه فرضا حيث لم يأمر تاركها بالإعادة . ويعضده قوله في خبر ابن مسعود بعد ذكر التشهد : ( ثم يتخير من المسألة ما شاء ) اه

باب ما يستدل به على تفسير آله المصلى عليهم

1 - عن أبي حميد الساعدي : ( أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد )
- متفق عليه

- الحديث احتج به طائفة من العلماء على أن الآل هم الأزواج والذرية ووجهه أنه أقام الأزواج والذرية مقام آل محمد في سائر الروايات المتقدمة . واستدلوا على ذلك بقوله تعالى { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } لأن ما قبل الآية وبعدها في الزوجات فأشعر ذلك بإرادتهن وأشعر تذكير المخاطبين بها بإرادة غيرهن . وبين هذا الحديث وحديث أبي هريرة الآتي من هم المرادون بالآية وبسائر الأحاديث التي أجمل فيها الآل ولكنه يشكل على هذا امتناعه صلى الله عليه وآله وسلم من إدخال أم سلمة تحت الكساء بعد سؤالها ذلك وقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول هذه الآية مشيرا إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ( اللهم إن هؤلاء أهل بيتي ) بعد أن جللهم بالكساء . وقيل إن الآل هم الذين حرمت عليهم الصدقة وهم بنو هاشم
ومن أهل هذا القول الإمام يحيى واستدل القائل بذلك بأن زيد بن أرقم فسر الآل بهم وبين أنهم آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس كما في صحيح مسلم والصحابي أعرف بمراده صلى الله عليه و سلم فيكون تفسيره قرينة على التعيين
وقيل إنهم بنو هاشم وبنو المطلب وإلى ذلك ذهب الشافعي وقيل فاطمة وعلي والحسنان وأولادهم . وإلى ذلك ذهب جمهور أهل البيت واستدلوا بحديث الكساء الثابت في صحيح مسلم وغيره وقوله صلى الله عليه و سلم فيه : ( اللهم إن هؤلاء أهل بيتي ) مشيرا إليهم ولكنه يقال إن كان هذا التركيب يدل على الحصر باعتبار المقام أو غيره فغاية ما فيه إخراج من عداهم بمفهومه والأحاديث الدالة على أنهم أعم منهم كما ورد في بني هاشم وفي الزوجات مخصصة بمنطوقها لعموم هذا المفهوم . واقتصاره صلى الله عليه و سلم على تعيين البعض عند نزول الآية لا ينافي إخباره بعد ذلك بالزيادة لأن الاقتصار [ ص 328 ] ربما كان لمزية للبعض أو قبل العلم بأن الآل أعم من المعنيين ثم يقال إذا كانت هذه الصيغة تقتضي الحصر فما الدليل على دخول أولاد المجللين بالكساء في الآل مع أن مفهوم هذا الحصر يخرجهم فإن كان إدخالهم بمخصص وهو التفسير بالذرية وذريته صلى الله عليه و سلم هم أولاد فاطمة فما الفرق بين مخصص ومخصص . وقيل إن الآل هم القرابة من غير تقييد وإلى ذلك ذهب جماعة من أهل العلم . وقيل هم الأمة جميعا . قال النووي في شرح مسلم : وهو أظهرها قال : وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين اه وإليه ذهب نشوان الحميري إمام اللغة ومن شعره في ذلك :
آل النبي هم أتباع ملته ... من الأعاجم والسودان والعرب
لو لم يكن آله إلا قرابته ... صلى المصلي على الطاغي أبي لهب
ويدل على ذلك أيضا قول عبد المطلب من أبيات :
وانصر على آل الصلي ... ب وعابديه اليوم آلك
والمراد بالصليب أتباعه
( ومن الأدلة ) على ذلك قول الله تعالى { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } لأن المراد بآله أتباعه واحتج لهذا القول بما أخرجه الطبراني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الآل قال : ( آل محمد كل تقي ) وروي هذا من حديث علي ومن حديث أنس وفي أسانيدها مقال
ويؤيد ذلك معنى الآل لغة فإنهم كما قال في القاموس أهل الرجل وأتباعه ولا ينافي هذا اقتصاره صلى الله عليه وآله وسلم على البعض منهم في بعض الحالات كما تقدم وكما في حديث مسلم في الأضحية ( اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ) فإنه لا شك أن القرابة أخص الآل فتخصيصهم بالذكر ربما كان لمزايا لا يشاركهم فيها غيرهم كما عرفت وتسميتهم بالأمة لا ينافي تسميتهم بالآل وعطف التفسير شائع ذائع كتابا وسنة ولغة على أن حديث أبي هريرة المذكور آخر هذا الباب فيه عطف أهل بيته على ذريته فإذا كان مجرد العطف يدل على التغاير مطلقا لزم أن تكون ذريته خارجة عن أهل بيته والجواب الجواب . ولكن ههنا مانع من حمل الآل على جميع الأمة وهو حديث : ( إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي ) الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره فإنه لو كان الآل جميع الأمة لكان المأمور بالتمسك والأمر المتمسك به شيئا واحدا وهو باطل

2 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من سره أن [ ص 329 ] يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد )
- رواه أبو داود

- الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وهو من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي عن المجمر عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم وقد اختلف فيه على أبي جعفر . وأخرجه النسائي في مسند علي من طريق عمرو بن عاصم عن حبان بن يسار الكلابي عن عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي عن أبي جعفر عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ حديث أبي هريرة
وقد اختلف فيه على أبي جعفر وعلى حبان بن يسار
( الحديث ) استدل به القائلون بأن الزوجات من الآل والقائلون إن الذرية من الآل وهو أدل على ذلك من الحديث الأول لذكر الآل وفيه مجملا ومبينا
قوله ( بالمكيال ) بكسر الميم وهو ما يكال به . وفيه دليل على أن هذه الصلاة أعظم أجرا من غيرها وأوفر ثوابا
قوله ( أهل البيت ) الأشهر فيه النصب على الاختصاص ويجوز إبداله من ضمير علينا
قوله ( فليقل اللهم صل على محمد ) قال الأسنوي : قد اشتهر زيادة سيدنا قبل محمد عند أكثر المصلين وفي كون ذلك أفضل نظر اه وقد روي عن ابن عبد السلام أنه جعله من باب سلوك الأدب وهو مبني على أن سلوك طريق الأدب أحب من الامتثال . ويؤيده حديث أبي بكر حين أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يثبت مكانه فلم يمتثل وقال ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك امتناع علي عن محو اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصحيفة في صلح الحديبية بعد أن أمره بذلك وقال لا أمحو اسمك أبدا وكلا الحديثين في الصحيح فتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لهما على الامتناع من امتثال الأمر تأدبا مشعر بأولويته

باب ما يدعو به في آخر الصلاة

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي

2 - [ ص 330 ] وعن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو في الصلاة اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه

- قوله ( إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير ) فيه تعيين محل هذه الاستعاذة بعد التشهد الأخير وهو مقيد وحديث عائشة مطلق فيحمل عليه وهو يرد ما ذهب إليه ابن حزم من وجوبها في التشهد الأول وما ورد من الأذن للمصلي بالدعاء بما شاء بعد التشهد يكون بعد هذه الاستعاذة لقوله إذا فرغ
قوله ( فليتعوذ ) استدل بهذا الأمر على وجوب الاستعاذة وقد ذهب إلى ذلك بعض الظاهرية وروي عن طاوس وقد ادعى بعضهم الإجماع على الندب وهو لا يتم مع مخالفة من تقدم والحق الوجوب إن علم تأخر هذا الأمر عن حديث المسيء لما عرفناك في شرحه
قوله ( من أربع ) ينبغي أن يزاد على هذه الأربع التعوذ من المغرم والمأثم المذكورين في حديث عائشة
قوله ( ومن عذاب القبر ) فيه رد على المنكرين لذلك من المعتزلة والأحاديث في هذا الباب متواترة
قوله ( ومن فتنة المحيا والممات ) قال ابن دقيق العيد : فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله أمر الخاتمة عند الموت وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إليه لقربها منه ويكون المراد على هذا بفتنة المحيا ما قبل ذلك ويجوز أن يراد بها فتنة القبر وقد صح أنهم يفتنون في قبورهم . وقيل أراد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر وبفتنة الممات السؤال في القبر مع الحيرة كذا في الفتح
قوله ( ومن شر المسيح الدجال ) قال أبو داود في السنن : المسيح مثقل الدجال ومخفف عيسى ونقل الفربري عن خلف بن عامر أن المسيح بالتشديد والتخفيف واحد ويقال للدجال ويقال لعيسى وأنه لا فرق بينهما . قال الجوهري في الصحاح : من قاله بالتخفيف فلمسحه الأرض ومن قاله بالتشديد فلكونه ممسوح العين . قال الحافظ : وحكي عن بعضهم بالخاء المعجمة في الدجال ونسب قائله إلى التصحيف . قال في القاموس والمسيح عيسى ابن مريم صلوات الله عليه لبركته قال وذكرت في اشتقاقه خمسين قولا في شرحي لمشارق الأنوار وغيره والدجال لشؤمه اه
قوله ( من المغرم والمأثم ) في البخاري بتقديم المأثم على المغرم . والمغرم الدين يقال غرم بكسر الراء أي أدان قيل المراد به ما يستدل فيما لا يجوز أو فيما يجوز ثم يعجز عن أدائه ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك وقد استعاذ صلى الله عليه [ ص 331 ] وسلم من غلبة الدين . وفي البخاري : ( أنه قال له صلى الله عليه وآله وسلم قائل : ما أكثر ما تستعيذ من المغرم فقال : إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف )

باب جامع أدعية منصوص عليها في الصلاة

1 - عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : ( أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال : قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم )
- متفق عليه

- قوله ( ظلمت نفسي ) قال في الفتح : أي بملابسة ما يوجب العقوبة أو ينقص الحظ وفيه أن الإنسان لا يعرى عن تقصير ولو كان صديقا
قوله ( كثيرا ) روي بالثاء المثلثة وبالباء الموحدة . قال النووي : ينبغي أن يجمع بينهما فيقول كثيرا كبيرا . قال الشيخ عز الدين بن جماعة : ينبغي أن يجمع بين الروايتين فيأتي مرة بالمثلثة ومرة بالموحدة فإذا أتى بالدعاء مرتين فقد نطق بما نطق به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيقين وإذا أتى بما ذكره النووي لم يكن آتيا بالسنة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينطق به كذلك اه
قوله ( ولا يغفر الذنوب إلا أنت ) قال الحافظ : فيه إقرار بالوحدانية واستجلاب للمغفرة وهو كقوله { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله } فأثنى على المستغفرين وفي ضمن ثنائه بالاستغفار لوح بالأمرية كما قبل إن كل شيء أثنى الله على فاعله فهو آمر به وكل شيء ذم فاعله فهو ناه عنه
قوله ( مغفرة من عندك ) قال الطيبي : ذكر التنكير يدل على أن المطلوب غفران عظيم لا يدرك كنهه ووصفه بكونه من عنده سبحانه وتعالى مريدا بذلك التعظيم لأن الذي يكون من عند الله لا يحيط به وصف
وقال ابن دقيق العيد : يحتمل وجهين أحدهما الإشارة إلى التوحيد المذكور كأنه قال لا يفعل هذا إلا أنت فافعله أنت والثاني وهو أحسن أنه أشار إلى طلب مغفرة متفضل بها لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي
قوله ( إنك أنت الغفور الرحيم ) قال الحافظ : هما صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما تقدم فالغفور مقابل لقوله ( اغفر لي ) والرحيم مقابل لقوله ( ارحمني ) وهي مقابلة مرتبة
( والحديث ) يدل [ ص 332 ] على مشروعية هذا الدعاء في الصلاة ولم يصرح بمحله
قال ابن دقيق العيد : ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين السجود أو التشهد لأنه أمر فيهما بالدعاء وقد أشار البخاري إلى محله فأورده في باب الدعاء قبل السلام . قال في الفتح : وفي الحديث من الفوائد استحباب طلب التعليم من العالم خصوصا ما في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم

2 - وعن عبيد بن القعقاع قال : ( رمق رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي فجعل يقول في صلاته اللهم اغفر لي ذنبي ووسع علي في ذاتي وبارك لي فيما رزقتني )
- رواه أحمد

- عبيد بن القعقاع ويقال حميد بن القعقاع لا يعرف حاله والراوي عنه أبو مسعود الجريري لا يعرف حاله وقد اختلف فيه على شعبة . قال ابن حجر في المنفعة : وله شاهد من حديث أبي موسى في الدعاء للطبراني وأبو مسعود الجريري هو سعيد ابن إياس ثقة أخرج له الجماعة فلا وجه لقول من قال لا يعرف حاله
( والحديث ) فيه مشروعية الدعاء بهذه الكلمات في مطلق الصلاة من غير تقييد بمحل منها مخصوص وجهالة الراوي عنه صلى الله عليه و سلم لا تضر لأن جهالة الصحابي مغتفرة كما ذهب إلى ذلك الجمهور ودلت عليه الأدلة وقد ذكرت الأدلة على ذلك في الرسالة التي سميتها القول المقبول في رد رواية المجهول من غير صحابة الرسول
قوله ( رمق رجل ) الرمق اللحظ الخفيف كما في القاموس

3 - وعن شداد بن أوس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في صلاته اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم )
- رواه النسائي

- الحديث رجال إسناده ثقات وقد ذكره في الجامع عند أدعية الاستخارة بلفظ : ( عن رجل من بني حنظلة قال : صحبت شداد بن أوس فقال : ألا أعلمك ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمنا نقول إذا روينا فذكره وزاد إنك أنت علام الغيوب ) أخرجه الترمذي وزاد في حديث آخر بمعناه ( إذا أوى إلى فراشه ) ولم يذكر فيه إذا روينا أمرا . وقد أخرجه النسائي في اليوم والليلة ولم يذكر في الصلاة . وأما صاحب التيسير فساقه باللفظ الذي ذكره المصنف
قوله ( كان يقول في صلاته ) هذا الدعاء ورد مطلقا في الصلاة غير مقيد بمكان مخصوص
قوله ( الثبات في الأمر ) سؤال الثبات في الأمر من جوامع الكلم النبوية [ ص 333 ] لأن من ثبته الله في أموره عصم عن الوقوع في الموبقات ولم يصدر منه أمر على خلاف ما يرضاه الله
قوله ( والعزيمة على الرشد ) هي تكون بمعنى إرادة الفعل وبمعنى الجد في طلبه والمناسب هنا هو الثاني
قوله ( قلبا سليما ) أي غير عليل بكدر المعصية ولا مريض بالاشتمال على الغل والانطواء على الإحن
قوله ( من خير ما تعلم ) هو سؤال لخير الأمور على الإطلاق لأن علمه جل جلاله محيط بجميع الأشياء وكذلك التعوذ من شر ما يعلم والاستغفار لما يعلم فكأنه قال أسألك من خير كل شيء وأعوذ بك من شر كل شيء وأستغفرك لكل ذنب

4 - وعن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سجوده اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره )
- رواه مسلم وأبو داود

- قوله ( ذنبي كله ) استدل به على جواز نسبة الذنب إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقد اختلف الناس في ذلك على أقوال مذكورة في الأصول
أحدها أن الأنبياء كلهم معصومون من الكبائر والصغائر وهذا هو اللائق بشرفهم لولا مخالفته لصرائح القرآن والسنة المشعرة بأن لهم ذنوبا
قوله ( دقه وجله ) بكسر أولهما أي قليله وكثيره . قوله ( وأوله وآخره ) هو من عطف الخاص على العام . قوله ( وعلانيته وسره ) هو كذلك . قال النووي : فيه تكثير ألفاظ الدعاء وتوكيده وإن أغنى بعضها عن بعض

5 - وعن عمار بن ياسر : ( أنه صلى صلاة فأوجز فيها فأنكروا ذلك فقال : ألم أتم الركوع والسجود فقالوا : بلى قال : أما أني دعوت فيها بدعاء كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو به اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحييني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وأعوذ بك من ضراء مضرة ومن فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين )
- رواه أحمد والنسائي

- الحديث رجال إسناده ثقات وساقه بإسناد آخر بنحو هذا اللفظ وإسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي قال حدثنا حماد قال حدثنا عطاء بن السائب عن أبيه قال صلى عمار فذكره وفي إسناده عطاء بن السائب وقد اختلط وأخرج له البخاري مقرونا بآخر وبقية رجاله ثقات ووالد عطاء هو السائب بن مالك الكوفي وثقه العجلي
قوله ( فأوجز فيها ) لعله لم يصاحب هذا الإيجاز تمام الصلاة [ ص 334 ] على الصفة التي عهدوا عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلا لم يكن للإنكار عليه وجه فقد ثبت من حديث أنس في مسلم وغيره أنه قال ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه و سلم في تمام
قوله ( فأنكروا ذلك عليه ) فيه جواز الإنكار على من أخف الصلاة من دون استكمال
قوله ( ألم أتم الركوع والسجود ) فيه إشعار بأنه لم يتم غيرهما ولذلك أنكروا عليه
قوله ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو به ) يحتمل أنه كان يدعو به في الصلاة ويكون فعل عمار قرينة على ذلك ويحتمل أنه كان يدعو به من غير تقييد بحال الصلاة كما هو الظاهر من الكلام
قوله ( بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ) فيه دليل على جواز التوسل إليه تعالى بصفات كماله وخصال جلاله
قوله ( أحييني ) إلى قوله ( خيرا لي ) هذا ثابت في الصحيحين من حديث أنس بلفظ : ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي ) وهو يدل على جواز الدعاء بهذا لكن عند نزول الضرر كما وقع التقييد بذلك في حديث أنس المذكور المتفق عليه ولفظه : ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ) إلى آخره
قوله ( خشيتك في الغيب والشهادة ) أي في مغيب الناس وحضورهم لأن الخشية بين الناس فقط ليست من الخشية لله بل من خشية الناس
قوله ( وكلمة الحق في الغضب والرضا ) إنما جمع بين الحالتين لأن الغضب ربما حال بين الإنسان وبين الصدع بالحق وكذلك الرضا ربما قاد في بعض الحالات إلى المداهنة وكتم كلمة الحق
قوله ( والقصد في الفقر والغنى ) القصد في كتب اللغة بمعنى استقامة الطريق والاعتدال وبمعنى ضد الإفراط وهو المناسب هنا لأن بطر الغنى ربما جر إلى الإفراط . وعدم الصبر على الفقر ربما أوقع في التفريط فالقصد فيهما هو الطريقة القويمة
قوله ( ولذة النظر إلى وجهك ) فيه متمسك للأشعرية ومن قال بقولهم والمسألة طويلة الذيل ومحلها علم الكلام . وقد أفردتها برسالة مطولة سميتها البغية في الرؤية
قوله ( والشوق إلى لقائك ) إنما سأله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه من موجبات محبة الله للقاء عبده لحديث ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ) ومحبة الله تعالى لذلك من أسباب المغفرة
قوله ( مضرة ) إنما قيد صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لأن الضراء ربما كانت نافعة آجلا أو عاجلا فلا يليق الاستعاذة منها
قوله ( مضلة ) وصفها صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لأن من الفتن ما يكون من أسباب الهداية وهذا بهذا الاعتبار مما لا يستعاذ منه . قال أهل اللغة : الفتنة الامتحان والاختبار

6 - [ ص 335 ] وعن معاذ بن جبل قال : ( لقيني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )
- رواه أحمد والنسائي وأبو داود

- الحديث قال الحافظ : سنده قوي . وذكره المصنف في هذا الباب المشتمل على أدعية الصلاة بناء على أن لفظ الحديث في كل صلاة كما في الكتاب وقد رواه غيره بلفظ : ( دبر كل صلاة ) وهو عند أبي داود بلفظ : ( في دبر كل صلاة ) وكذلك رويته من طريق مشايخي مسلسلا بالمحبة فلا يكون باعتبار هذه الزيادة من أدعية الصلاة لأن دبر الصلاة بعدها على الأقرب كما سيأتي ويحتمل دبر الصلاة آخرها قبل الخروج منها لأن دبر الحيوان منه وعليه بعض أئمة الحديث فلعل المصنف أراد ذلك ولكنه يشكل عليه إيراده لأدعية مقيدة بذلك في باب الذكر بعد الصلاة كحديث ابن الزبير وحديث المغيرة الآتيين
قوله ( إني أوصيك بكلمات تقولهن ) في رواية أبي داود لا تدعهن والنهي أصله التحريم فيدل على وجوب الدعاء بهذه الكلمات . وقيل إنه نهي إرشاد وهو محتاج إلى قرينة . ووجه تخصيص الوصية بهذه الكلمات أنها مشتملة على جميع خير الدنيا والآخرة

7 - وعن عائشة : ( أنها فقدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مضجعها فلمسته بيدها فوقعت عليه وهو ساجد وهو يقول رب أعط نفسي تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة بلفظ : ( فقدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فلمست المسجد فإذا هو ساجد وقدماه منصوبتان وهو يقول إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) فيمكن أن يكون اللفظ الذي ذكره أحمد من أحد روايات هذا الحديث . ويمكن أن يكون حديثا مستقلا ويحمل ذلك على تعدد الواقعة
قوله ( أعط نفسي تقواها ) أي اجعلها متقية سامعة مطيعة
قوله ( زكها ) أي اجعلها زاكية بما تفضلت به عليها من التقوى وخصال الخير
قوله ( أنت وليها ) أي متولي أمورها ( ومولاها ) أي مالكها
( والحديث ) يدل على مشروعية الدعاء في السجود وقد تقدم الكلام على ذلك

8 - وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى فجعل يقول في [ ص 336 ] صلاته أو في سجوده اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا وفوقي نورا وتحتي نورا واجعل لي نورا أو قال واجعلني نورا )
- مختصر من مسلم

- الحديث ذكره مسلم في صحيحه مطولا ومختصرا بطرق متعددة وألفاظ مختلفة وجميع الروايات مقيدة بصلاة الليل
قوله ( في صلاته أو في سجوده ) هذا الشك وقع في رواية محمد بن بشار عن محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن كريب عن ابن عباس . وفي رواية في مسلم : ( فخرج إلى الصلاة وهو يقول ) الحديث . وفي رواية له : ( وكان في دعائه اللهم اجعل ) الخ من غير تقييد بحال الصلاة ولا بحال الخروج
قوله ( اجعل في قلبي نورا ) إلى آخر الحديث قال النووي : قال العلماء سأل النور في أعضائه وجهاته والمراد بيان الحق وضياؤه والهداية إليه فسأل النور في جميع أعضائه وجسمه وتصرفاته وتقلباته وحالاته وجملته وفي جهاته الست حتى لا يزيغ شيء فيها عنه

باب الخروج من الصلاة بالسلام

1 - عن ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله حتى يرى بياض خده )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي

2 - وعن عامر بن سعد عن أبيه قال : ( كنت أرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه

- الحديث الأول أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وله ألفاظ وأصله في صحيح مسلم . قال العقيلي : والأسانيد صحاح ثابتة في حديث ابن مسعود في تسليمتين ولا يصح في تسليمة واحدة شيء
والحديث الثاني أخرجه أيضا البزار والدارقطني وابن حبان قال البزار : روي عن سعد من غير وجه
( وفي الباب ) أحاديث فيها ذكر التسليمتين . منها عن عمار عند ابن ماجه والدارقطني . وعن البراء عند ابن أبي شيبة في مصنفه والدارقطني أيضا . وعن سهل بن سعد عند أحمد وفيه ابن لهيعة . وعن حذيفة عند ابن ماجه . وعن عدي بن عميرة عند ابن ماجه أيضا وإسناده حسن . وعن طلق بن علي عند أحمد والطبراني [ ص 337 ] وفيه ملازم بن عمرو . وعن المغيرة عند المعمري في اليوم والليلة والطبراني قال الحافظ : وفي إسناده نظر . وعن واثلة ابن الأسقع عند الشافعي وإسناده ضعيف . وعن وائل بن حجر عند أبي داود والطبراني من طريق ابنه عبد الجبار ولم يسمع منه . وعن يعقوب بن الحصين عند أبي نعيم في المعرفة وفيه عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك وعن أبي رمثة عند الطبراني وابن منده قال الحافظ : وفي إسناده نظر . وعن أبي موسى عند أحمد وابن ماجه . وعن سمرة وسيأتي . وعن جابر بن سمرة وسيأتي أيضا
( وهذه الأحاديث ) تدل على مشروعية التسليمتين وقد حكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعلي وابن مسعود وعمار بن ياسر ونافع بن عبد الحارث من الصحابة . وعن عطاء بن أبي رباح وعلقمة والشعبي وأبي عبد الرحمن السلمي من التابعين . وعن أحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي . قال ابن المنذر : وبه أقول وحكاه في البحر عن الهادي والقاسم وزيد بن علي والمؤيد بالله من أهل البيت . وإليه ذهب الشافعي كما قال النووي . وذهب إلى أن المشروع تسليمة واحدة ابن عمر وأنس وسلمة بن الأكوع وعائشة من الصحابة والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز من التابعين ومالك والأوزاعي والإمامية وأحد قولي الشافعي وغيرهم . وذهب عبد الله بن موسى بن جعفر من أهل البيت إلى أن الواجب ثلاث يمينا وشمالا وتلقاء وجهه
واختلف القائلون بمشروعية التسليمتين هل الثانية واجبة أم لا فذهب الجمهور إلى استحبابها . قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة . وقال النووي في شرح مسلم : أجمع العلماء الذين يعتد بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة . وحكى الطحاوي وغيره عن الحسن بن صالح أنه أوجب التسليمتين جميعا وهي رواية عن أحمد وبها قال بعض أصحاب مالك ونقله ابن عبد البر عن بعض أصحاب الظاهر وإلى ذلك ذهبت الهادوية وسيأتي الكلام على وجوب التسليمة أو التسليمتين أو عدم ذلك في باب كون السلام فرضا وسنتكلم هاهنا في مجرد المشروعية من غير نظر إلى الوجوب . فنقول :
( احتج القائلون ) بمشروعية التسليمتين بالأحاديث المتقدمة . واحتج القائلون بمشروعية الواحدة فقط بالأحاديث التي سيأتي ذكرها في باب من اجتزأ بتسليمة . واحتج القائل بمشروعية ثلاث بأن في ذلك جمعا بين الروايات والحق ما ذهب إليه الأولون لكثرة الأحاديث الواردة بالتسليمتين وصحة بعضها وحسن بعضها واشتمالها على الزيادة وكونها مثبتة بخلاف الأحاديث [ ص 338 ] الواردة بالتسليمة الواحدة فإنها مع قلتها ضعيفة لا تنتهض للاحتجاج كما ستعرف ذلك ولو سلم انتهاضها لم تصلح لمعارضة أحاديث التسليمتين لما عرفت من اشتمالها على الزيادة
وأما القول بمشروعية ثلاث فلعل القائل به ظن أن التسليمة الواحدة الواردة في الباب الذي سيأتي غير التسليمتين المذكورتين في هذا الباب فجمع بين الأحاديث بمشروعية الثلاث وهو فاسد . وأفسد منه ما رواه في البحر عن البعض من أن المشروع واحدة في المسجد الصغير وثنتان في المسجد الكبير
قوله ( عن يمينه وعن يساره ) فيه مشروعية أن يكون التسليم إلى جهة اليمين ثم إلى جهة اليسار . قال النووي : ولو سلم التسليمتين عن يمينه أو عن يساره أو تلقاء وجهه أو الأولى عن يساره والثانية عن يمينه صحت صلاته وحصلت التسليمتان ولكن فاتته الفضيلة في كيفيتهما
قوله ( السلام عليكم ورحمة الله ) زاد أبو داود من حديث وائل ( وبركاته ) . وأخرجها أيضا ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود وكذلك ابن ماجه من حديثه قال الحافظ في التلخيص : فيتعجب من ابن الصلاح حيث يقول إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث إلا في رواية وائل بن حجر وقد ذكر لها الحافظ طرقا كثيرة في تلقيح الأفكار وتخريج الأذكار لما قال النووي : إن زيادة وبركاته رواية فردة . ثم قال الحافظ بعد أن ساق تلك الطرق : فهذه عدة طرق تثبت بها وبركاته بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ إنها رواية فردة انتهى . وقد صحح أيضا في بلوغ المرام حديث وائل المشتمل على تلك الزيادة
قوله ( حتى يرى بياض خده ) بضم الياء المثناة من تحت من قوله يرى مبنيا للمجهول كذا قال ابن رسلان وبياض بالرفع على النيابة . وفيه دليل على المبالغة في الالتفات إلى جهة اليمين وإلى جهة اليسار وزاد النسائي فقال : ( عن يمينه حتى يرى بياض خده الأيمن وعن يساره حتى يرى بياض خده الأيسر ) وفي رواية له : ( حتى يرى بياض خده من ههنا وبياض خده من ههنا )

3 - وعن جابر بن سمرة قال : ( إذا كنا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلنا السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله وأشار بيده إلى الجانبين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : علام تومون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه يسلم على أخيه من على يمينه وشماله )
- رواه أحمد ومسلم . وفي رواية : ( كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما بال هؤلاء [ ص 339 ] يسلمون بأيديهم كأنها أذناب خيل شمس إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يقول السلام عليكم السلام عليكم ) رواه النسائي

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود . قوله ( علام تومون ) في رواية أبي داود بلفظ : ( ما بال أحدكم يرمي بيده ) بالراء قال ابن الأثير : إن صحت الرواية بالراء ولم يكن تصحيفا للواو فقد جعل الرمي باليد موضع الإيماء بها لجواز ذلك في اللغة يقول رميت ببصري إليك أي مددته ورميت إليك بيدي أي أشرت بها
قال : والرواية المشهورة رواية مسلم ( علام تومؤن ) بهمزة مضمومة بعد الميم والإيماء الإشارة أو ما يومئ إيماء وهم يومؤن مهموزا ولا تقل أوميت بياء ساكنة قاله الجوهري . قال ابن الأثير : وقد جاء في رواية الشافعي يومون بضم الميم بلا همزة فإن صحت الرواية فيكون قد أبدل من الهمزة ياء فلما قلبت الهمزة ياء صارت يومي فلما لحقه ضمير الجماعة كان القياس يوميون فثقلت الياء وقلبها كسرة فحذفت ونقلت ضمتها إلى الميم فقيل يومون
قوله ( أذناب خيل شمس ) بإسكان الميم وضمها مع ضم الشين المعجمة جمع شموس بفتح الشين وهو من الدواب النفور الذي يمتنع على راكبه ومن الرجال صعب الخلق
قوله ( من على يمينه وشماله ) في رواية أبي داود : ( من عن يمينه ومن عن شماله ) وهو من الأدلة على مشروعية التسليمتين وقد قدمنا الكلام على ذلك
قوله ( ثم يقول السلام عليكم ) قال المصنف رحمه الله : وهو دليل على أنه إذا لم يقل ورحمة الله أجزأه انتهى
والأحاديث المتقدمة مشتملة على زيادة ورحمة الله وبركاته فلا يتم الإتيان بالمشروع إلا بذلك . وأما الإجزاء وعدمه فينبني على القول بالوجوب وعدمه وسيأتي ذلك

4 - وعن سمرة بن جندب : ( قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نسلم على أئمتنا وأن يسلم بعضنا على بعض )
- رواه أحمد وأبو داود ولفظه : ( أمرنا أن نرد على الإمام وأن نتحاب وأن يسلم بعضنا على بعض )

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبزار وزاد : ( في الصلاة ) قال الحافظ : وإسناده حسن انتهى . ولكنه رواية الحسن عن سمرة وقد اختلف في سماعه منه على أربعة مذاهب : سمع منه مطلقا . لم يسمع منه مطلقا . سمع منه حديث العقيقة . سمع منه ثلاثة أحاديث . وقد قدمنا بسط ذلك . وقد أخرج هذا الحديث أبو داود من طريق أخرى عن سمرة بلفظ : ( ثم سلموا على قارئكم وعلى أنفسكم ) قال الحافظ : لكنه ضعيف لما فيه من المجاهيل
قوله [ ص 340 ] ( أن نسلم على أئمتنا ) أي نرد السلام عليهم كما في الرواية الثانية . قال أصحاب الشافعي : إن كان المأموم عن يمين الإمام فينوي الرد عليه بالثانية وإن كان على يساره فينوي الرد عليه بالأولى وإن حاذاه فبما شاء وهو في الأولى أحب
قوله ( وأن يسلم بعضنا على بعض ) ظاهره شامل للصلاة وغيرها ولكنه قيده البزار بالصلاة كما تقدم ويدخل في ذلك سلام الإمام على المأمومين والمأمومين على الإمام وسلام المقتدين بعضهم على بعض . وقد ذهب المؤيد بالله وأبو طالب إلى وجوب قصد الملكين ومن في ناحيتهما من الإمام والمؤتمين في الجماعة تمسكا بهذا وهو ينبني على القول بإيجاب السلام وسيأتي الكلام فيه
قوله ( وأن نتحاب ) بتشديد الباء الموحدة آخر الحروف والتحابب التوادد وتحابوا أحب كل واحد منهم صاحبه

5 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : حذف التسليم سنة )
- رواه أحمد وأبو داود . ورواه الترمذي موقوفا وصححه . وقال ابن المبارك معناه : أن لا يمد مدا

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم وفي إسناده قرة بن عبد الرحمن بن حيويل بن ناشرة بن عبد بن عامر المعاقري المصري . قال أحمد : منكر الحديث جدا . وقال ابن معين : ضعيف وقال أبو حاتم : ليس بالقوي . وقال ابن عدي : لم أر له حديثا منكرا وأرجو أنه لا بأس به . وقد ذكره مسلم في الصحيح مقرونا بعمرو بن الحارث . وقال الأوزاعي : ما أعلم أحدا أعلم بالزهري من قرة وقد ذكره ابن حبان في ثقاته وصحح الترمذي هذا الحديث من طريقه وليس موقوفا كما قال المصنف لأن لفظ الترمذي عن أبي هريرة : ( قال : حذف السلام سنة ) قال ابن سيد الناس : وهذا مما يدخل في المسند عند أهل الحديث أو أكثرهم وفيه خلاف بين الأصوليين معروف
قوله ( حذف التسليم ) في نسخة من هذا الكتاب حذف السلام وهي الموافقة للفظ أبي داود والترمذي . والحذف بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة بعدها فاء هو ما رواه المصنف عن عبد الله بن المبارك أن لا يمده مدا يعني يترك الإطالة في لفظه ويسرع فيه . قال الترمذي : وهو الذي يستحبه أهل العلم قال : وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال : التكبير جزم والسلام جزم . قال ابن سيد الناس : قال العلماء يستحب أن يدرج لفظ السلام ولا يمد مدا لا أعلم في ذلك خلافا بين [ ص 341 ] العلماء وقد ذكر المهدي في البحر أن الرمي بالتسليم عجلا مكروه قال : لفعله صلى الله عليه وآله وسلم بسكينة ووقار انتهى . وهو مردود بهذا الدليل الخاص إن كان يريد كراهة الاستعجال باللفظ

باب من اجتزأ بتسليمة واحدة

1 - عن هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة فيحمد الله ويذكره ويدعو ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة فيجلس فيذكر الله ويدعو ثم يسلم تسليمة يسمعنا ثم يصلي ركعتين وهو جالس فلما كبر وضعف أوتر بسبع ركعات لا يقعد إلا في السادسة ثم ينهض ولا يسلم فيصلي السابعة ثم يسلم تسليمة ثم يصلي ركعتين وهو جالس )
- رواه أحمد والنسائي . وفي رواية لأحمد في هذه القصة : ( ثم يسلم تسليمة واحدة السلام عليكم يرفع بها صوته حتى يوقظنا )

2 - وعن ابن عمر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة يسمعناها )
- رواه أحمد

- أما حديث عائشة فأخرج نحوه أيضا الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والدارقطني بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ) قال الدارقطني في العلل : رفعه عن زهير بن محمد عن هشام عن أبيه عنها عمرو بن سلمة وعبد الملك الصنعاني وخالفهما الوليد فوقفه عليها أو قال عقبة قال الوليد قلت لزهير أبلغك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه شيء قال نعم أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبين أن الرواية المرفوعة وهم . وكذا رجح رواية الوقف الترمذي والبزار وأبو حاتم وقال في المرفوع : إنه منكر . وقال ابن عبد البر : لا يصح مرفوعا ولم يرفعه عن هشام غير زهير وهو ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به اه . وزهير لا ينتهي إلى هذه الدرجة في التضعيف فقد قال أحمد : إنه مستقيم الحديث وقال صالح بن محمد : إنه ثقة صدوق وقال موسى بن هارون : أرجو أنه صدوق . وقال الدارمي : ثقة له أغاليط كثيرة ووثقه [ ص 342 ] ابن معين وقال أبو حاتم : محله الصدق وفي حفظه سوء . وقد أخرج له الشيخان ولكنه روى الترمذي عن البخاري عن أحمد بن حنبل أنه قال : كأن زهير بن محمد هذا ليس هو الذي يروى عنه بالعراق وكأنه رجل آخر قلبوا اسمه . وقال الحاكم : رواه وهيب عن عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة مرفوعا وهذا إسناد صحيح . ورواه بقي بن مخلد في مسنده من رواية عاصم عن هشام بن عروة مرفوعا وهاتان الطريقتان فيهما متابعة لزهير فيقوى حديثه . قال الحافظ : وعاصم عندي هو ابن عمر وهو ضعيف وهم من زعم أنه ابن سليمان الأحول
وأخرجه ابن حبان في صحيحه والسراج في مسنده عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة باللفظ الذي ذكره المصنف . قال الحافظ : وإسناده على شرط مسلم ولم يستدركه الحاكم مع أنه أخرج حديث زهير بن محمد انتهى . وقد قدمنا أنه أخرج له البخاري أيضا فهو على شرط مسلم فقط وبما ذكرنا تعرف عدم صحة قول العقيلي : ولا يصح في تسليمة واحدة شيء . وكذا قول ابن القيم : إنه لم يثبت عنه ذلك من وجه صحيح
وأما حديث ابن عمر فأخرجه أيضا ابن حبان وابن السكن في صحيحيهما والطبراني من حديث إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر بلفظ : ( كان يفصل بين الشفع والوتر ) وقد عقد صاحب مجمع الزوائد لذلك بابا فقال باب الفصل بين الشفع والوتر عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في الحجرة وأنا في البيت فيفصل بين الشفع والوتر بتسليمة يسمعناها ) رواه الطبراني في الأوسط وفيه إبراهيم بن سعيد وهو ضعيف انتهى . ولم يذكر في هذا الباب إلا هذا الحديث
( وفي الباب ) عن سهل بن سعد عند ابن ماجه بلفظ : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ) وفي إسناده عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد . وقد قال البخاري : إنه منكر الحديث . وقال النسائي : متروك . وعن سلمة بن الأكوع عند ابن ماجه أيضا بلفظ : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلم مرة واحدة ) وفي إسناده يحيى بن راشد البصري قال يحيى : ليس بشيء . وقال النسائي : ضعيف . وعن أنس عند ابن أبي شيبة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم سلم تسليمة واحدة ) وعن الحسن مرسلا : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة ) ذكره ابن أبي شيبة . وقال حدثنا أبو خالد عن [ ص 343 ] حميد قال : ( كان أنس يسلم واحدة ) وحدثنا أبو خالد عن سعيد بن مرزبان قال صليت خلف ابن أبي ليلى فسلم واحدة ثم صليت خلف علي فسلم واحدة وذكر مثله عن أبي وائل ويحيى بن وثاب وعمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين والقاسم بن محمد وعائشة وأنس وأبي العالية وأبي رجاء وابن أبي أوفى وابن عمر وسعيد بن جبير وسويد وقيس ابن أبي حازم بأسانيده إليهم وذكر ذلك عبد الرزاق عن الزهري . قال الترمذي : ورأى قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين وغيرهم تسليمة واحدة في المكتوبة قال : وأصح الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسليمتان وعليه أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم انتهى
( وقد احتج ) بهذه الأحاديث المذكورة ههنا من قال بمشروعية تسليمة واحدة وقد قدمنا ذكرهم في الباب الأول وقد اشتمل حديث عائشة على صفتين من صفات صلاة الوتر وسيأتي الكلام على ذلك في بابه وكذلك يأتي الكلام في صلاة الركعتين بعد الوتر

باب في كون السلام فرضا

1 - قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( وتحليلها التسليم ) . وعن زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر عن الحسن بن مخيمرة قال : ( أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة ثم قال : إذا قلت هذا وقضيت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد )
- رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وقال : الصحيح أن قوله ( إذا قضيت هذا فقد قضيت صلاتك ) من كلام ابن مسعود فصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود . وقوله أشبه بالصواب ممن أدرجه وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود على حذفه

- الحديث الذي أشار إليه المصنف بقوله قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( وتحليلها التسليم ) هو من رواية علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وقد تقدم لفظه وذكر من خرجه والكلام عليه في باب افتراض افتتاح الصلاة بالتكبير وهو من جملة ما تمسك به القائلون بوجوب التسليم لأن الإضافة في قوله ( وتحليلها ) تقتضي الحصر فكأنه قال جميع [ ص 344 ] تحليلها التسليم أي انحصر تحليلها في التسليم لا تحليل لها غيره وسيأتي ذكر القائلين بالوجوب وذكر الجواب عليهم . وأما حديث ابن مسعود فقال البيهقي في الخلافيات : إنه كالشاذ من قول عبد الله وإنما جعله كالشاذ لأن أكثر أصحاب الحسن بن الحر لم يذكروا هذه الزيادة لا من قول ابن مسعود مفصولة من الحديث ولا مدرجة في آخره وإنما رواه بهذه الزيادة عبد الرحمن بن ثابت عن الحسن فجعلها من قول ابن مسعود وزهير بن معاوية عن الحسن فأدرجها في آخر الحديث في قول أكثر الرواة عنه ورواها شبابة بن سوار عنه مفصولة كما ذكر الدارقطني . وقد روى البيهقي من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود ما يخالف هذه الزيادة بلفظ : ( مفتاح الصلاة التكبير وانقضاؤها التسليم إذا سلم الإمام فقم إن شئت ) قال : وهذا الأثر صحيح عن ابن مسعود . وقال ابن حزم : قد صح عن ابن مسعود إيجاب السلام فرضا وذكر رواية أبي الأحوص هذه عنه . قال البيهقي : إن تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم التشهد لابن مسعود كان قبل فرض التسليم ثم فرض بعد ذلك . وقد صرح بأن تلك الزيادة المذكورة في حديث الباب مدرجة جماعة من الحفاظ منهم الحاكم والبيهقي والخطيب وقال البيهقي في المعرفة : ذهب الحفاظ إلى أن هذا وهم من زهير بن معاوية . وقال النووي في الخلاصة : اتفق الحفاظ على أنها مدرجة انتهى . وقد رواه عن الحسن بن الحر حسين الجعفي ومحمد بن عجلان ومحمد بن أبان فاتفقوا على ترك هذه الزيادة في آخر الحديث مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وعن غيره عن ابن مسعود على ذلك
( والحديث ) يدل على عدم وجوب السلام وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة والناصر وروى ذلك الترمذي عن أحمد وإسحاق بن راهويه . ورواه أيضا عن بعض أهل العلم . قال العراقي : وروي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود . وذهب إلى الوجوب أكثر العترة والشافعي قال النووي في شرح مسلم : وهو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم
( واحتجوا ) بحديث تحليلها التسليم وهو لا ينتهض للاحتجاج به إلا بعد تسليم تأخره عن حديث المسيء لما عرفناك في شرحه من أنه لا يثبت الوجوب إلا بما علم تأخره عنه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بالإجماع لا سيما وقد ثبت في بعض الروايات : ( فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك ) كما قدمنا ذلك . إذا عرفت هذا تبين لك أن هذا الحديث لا يكون حجة يجب التسليم لها إلا بعد العلم بتأخره . ويؤيد [ ص 345 ] القول بعدم الوجوب حديث ابن مسعود المذكور في الباب وحديث ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته ) أخرجه أبو داود والترمذي وقال : ليس إسناده بذاك القوي وقد اضطربوا في إسناده وإنما أشار إلى عدم قوة إسناده لأن فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وقد ضعفه بعض أهل العلم . وقال النووي في شرح المهذب : إنه ضعيف باتفاق الحفاظ وفيه نظر فإنه قد وثقه غير واحد منهم زكريا الساجي وأحمد بن صالح المصري وقال يعقوب بن سفيان : لا بأس به وقال يحيى بن معين : ليس به بأس . وأما الاستدلال للوجوب بحديث سمرة بن جندب المتقدم فهو أيضا لا ينتهض لذلك إلا بعد تسليم تأخره لما عرفت على أنه أخص من الدعوى لأن غاية ما فيه أمر المؤتمين بالرد على الإمام والتسليم على بعضهم بعضا وليس فيه ذكر المنفرد والإمام على أن الأمر بالرد على الإمام صيغته غير صيغة السلام الذي للخروج الذي هو محل النزاع فلا يصلح للتمسك به على الوجوب . وأما اعتذار صاحب ضوء النهار عن الحديث بهجر ظاهره بإسقاط التحاب المذكور فيه فغير صحيح لأن التحاب المأمور به هو الموالاة بين المؤمنين وهي واجبة فلم يهجر ظاهره
وقد احتج المهدي في البحر بقوله تعالى { ويسلموا تسليما } وبقوله تعالى { فسلموا } وهو غفلة عن سببهما ( فإن قال ) الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لزمه إيجاب السلام في غير الصلاة وقد أجمع الناس على عدم وجوبه فإن قال الإجماع صارف عن وجوبه خارج الصلاة قلنا سلمنا فحديث المسيء صارف عن الوجوب في محل النزاع مع عدم العلم بالتأخر

باب في الدعاء والذكر بعد الصلاة

1 - عن ثوبان قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- قوله ( إذا انصرف ) قال النووي : المراد بالانصراف السلام
قوله ( استغفر ثلاثا ) فيه مشروعية الاستغفار ثلاثا وقد استشكل استغفاره صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه مغفور له . قال ابن سيد الناس : هو وفاء بحق العبودية وقيام بوظيفة الشكر كما [ ص 346 ] قال : ( أفلا أكون عبدا شكورا ) وليبين للمؤمنين سننه فعلا كما بينها قولا في الدعاء والضراعة ليقتدى به في ذلك
قوله ( أنت السلام ومنك السلام ) السلام الأول من أسماء الله تعالى والثاني السلامة
قوله ( تباركت ) تفاعلت من البركة وهي الكثرة والنماء ومعناه تعاظمت إذ كثرت صفات جلالك وكمالك

2 - وعن عبد الله بن الزبير : ( أنه كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

- قوله ( في دبر كل صلاة ) بضم الدال على المشهور في اللغة والمعروف في الروايات قاله النووي . وقال أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت : دبر كل شيء بفتح الدال آخر أوقاته من الصلاة وغيرها قال : هذا هو المعروف في اللغة وأما الجارحة فبالضم . وقال الداودي عن ابن الأعرابي : دبر الشيء بالضم والفتح آخر أوقاته والصحيح الضم كما قال النووي ولم يذكر الجوهري وآخرون غيره . وفي القاموس الدبر بضمتين نقيض القبل ومن كل شيء عقبه وبفتحتين الصلاة في آخر وقتها
قوله ( حين يسلم ) فيه أنه ينبغي أن يكون هذا الذكر واليا للسلام مقدما على غيره لتقييد القول به بوقت التسليم
( والحديث ) يدل [ ص 347 ] على مشروعية هذا الذكر بعد الصلاة مرة واحدة لعدم ما يدل على التكرار

3 - وعن المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد )
- متفق عليه

- قوله ( في دبر ) تقدم ضبطه وتفسيره . قوله ( له الملك وله الحمد ) قال الحافظ في الفتح : زاد الطبري من طريق أخرى عن المغيرة : ( يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير إلى قدير ) ورواته موثقون وثبت مثله عند البزار من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح لكن في القول إذا أصبح وإذا أمسى انتهى
قوله ( ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) قد تقدم ضبط ذلك وتفسيره في باب ما يقول في رفعه من الركوع
( والحديث ) يدل على مشروعية هذا الذكر بعد الصلاة وظاهره أنه يقول ذلك مرة ووقع عند أحمد والنسائي وابن خزيمة أنه كان يقول الذكر المذكور ثلاث مرات . قال الحافظ في الفتح : وقد اشتهر على الألسنة في الذكر المذكور زيادة : ( ولا راد لما قضيت ) وهو في مسند عبد بن حميد من رواية معمر عن عبد الملك بهذا الإسناد لكن حذف قوله ( ولا معطي لما منعت ) ووقع عند الطبراني تاما من وجه آخر

4 - وعن عبد الله بن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خصلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة وهما يسير ومن يعمل بهما قليل يسبح الله في دبر كل صلاة عشرا ويكبره عشرا ويحمده عشرا . قال : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعقدها بيده فتلك خمسون ومائة باللسان وألف وخمسمائة في الميزان وإذا أوى إلى فراشه سبح وحمد وكبر مائة مرة فتلك مائة باللسان وألف بالميزان )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي

- الحديث ذكره الترمذي في الدعوات وزاد فيه النسائي بعد قوله ( وألف بالميزان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فأيكم يعمل في يوم وليلة ألفين وخمسمائة سيئة قيل : يا رسول الله وكيف لا يحصيها قال : إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته يقول اذكر كذا اذكر كذا ويأتيه عند منامه فينيمه )
قوله ( خصلتان ) هما المفسرتان بقوله في الحديث ( يسبح الله ) وبقوله ( وإذا آوى إلى فراشه )
قوله ( يسبح الله في دبر كل صلاة عشرا ) اعلم أن الأحاديث وردت بأعداد مختلفة في التسبيح والتكبير والتحميد وسنشير ههنا إليها :
( أما التسبيح ) فورد كونه عشرا كما في حديث الباب وحديث أنس عند الترمذي والنسائي وحديث سعد بن أبي وقاص عند النسائي . وعلي بن أبي طالب عند أحمد وأم مالك الأنصارية عند الطبراني وورد ثلاثا وثلاثين كما في حديث ابن عباس عند الترمذي والنسائي وحديث كعب بن عجرة عند مسلم والترمذي والنسائي وحديث أبي هريرة عند الشيخين وحديث أبي الدرداء عند النسائي . وورد خمسا وعشرين كما في حديث زيد بن ثابت عند النسائي وعبد الله بن عمر عند النسائي أيضا . وورد إحدى عشرة كما في بعض طرق حديث ابن عمر عند البزار . وورد ستا كما في بعض طرق حديث أنس . وورد مرة كما في بعض طرق حديث أنس أيضا عند البزار . وورد سبعين كما في حديث أبي زميل عند الطبراني في الكبير وفي إسناده جهالة . وورد مائة كما في بعض طرق حديث أبي [ ص 348 ] هريرة عند النسائي وفيه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح وهو ضعيف
( وأما التكبير ) فورد كونه أربعا وثلاثين كما في حديث ابن عباس عند الترمذي والنسائي وحديث كعب بن عجرة عند مسلم والترمذي والنسائي وأبي الدرداء عند النسائي كما تقدم في التسبيح وأبي هريرة عند مسلم في بعض الروايات وأبي ذر عند ابن ماجه وابن عمر عند النسائي وزيد بن ثابت عند النسائي . وعن عبد الله بن عمرو عند الترمذي والنسائي . وورد ثلاثا وثلاثين من حديث أبي هريرة عند الشيخين . وعن رجل من الصحابة عند النسائي في عمل اليوم والليلة . وورد خمسا وعشرين كما في حديث زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر عند من تقدم في التسبيح خمس وعشرون . وورد إحدى عشرة كما في بعض طرق حديث ابن عمر عند البزار كما تقدم في التسبيح وعشرا كما في حديث الباب وعن أنس وسعد بن أبي وقاص وعلي وأم مالك عند من تقدم في تسبيح هذا المقدار ومائة كما في حديث من ذكرنا في تسبيح هذا المقدار وعند من تقدم
( وأما التحميد ) فورد كونه ثلاثا وثلاثين وخمسا وعشرين وإحدى عشرة وعشرا ومائة كما في الأحاديث المذكورة في أعداد التسبيح وعند من رواها . وكل ما ورد من هذه الأعداد فحسن إلا أنه ينبغي الأخذ بالزائد فالزائد
قوله ( فتلك خمسون ومائة باللسان ) وذلك لأن بعد كل صلاة من الصلوات الخمس ثلاثين تسبيحة وتحميدة وتكبيرة وبعد جميع الخمس صلوات مائة وخمسين وقد صرح بهذا النسائي في عمل اليوم والليلة من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ : ( ما يمنع أحدكم أن يسبح دبر كل صلاة عشرا ويكبر عشرا ويحمد عشرا فذلك في خمس صلوات خمسون ومائة ) ثم ساق الحديث بنحو حديث عبد الله بن عمر
قوله ( وألف وخمسمائة في الميزان ) وذلك لأن الحسنة بعشرة أمثالها فيحصل من تضعيف المائة والخمسين عشر مرات ألف وخمسمائة
قوله ( وألف بالميزان ) لمثل ما تقدم
( والحديث ) يدل على مشروعية التسبيح والتكبير والتحميد بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة وتكريره عشر مرات
قال العراقي في شرح الترمذي : كان بعض مشايخنا يقول : إن هذه الأعداد الواردة عقب الصلاة أو غيرها من الأذكار الواردة في الصباح والمساء وغير ذلك إذا ورد لها عدد مخصوص مع ثواب مخصوص فزاد الآتي بها في أعدادها عمدا لا يحصل له ذلك الثواب الوارد على الإتيان بالعدد الناقص فلعل لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة تلك الأعداد وتعديها ولذلك نهى عن الاعتداء في الدعاء وفيما قاله نظر لأنه قد أتى [ ص 349 ] بالمقدار الذي رتب على الإتيان به ذلك الثواب فلا تكون الزيادة عليه مزيلة له بعد الحصول بذلك العدد الوارد
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يدل على ذلك ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك ) الحديث . ولمسلم من حديث أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه ) وقد يقال إن هذا واضح في الذكر الواحد الوارد بعدد مخصوص . وأما الأذكار التي يعقب كل عدد منها عدد مخصوص من نوع آخ كالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلوات فقد يقال إن الزيادة في كل عدد زيادة لم يرد بها نص يقطع التتابع بينه وبين ما بعده من الأذكار وربما كان لتلك الأعداد المتوالية حكمة خاصة فينبغي أن لا يزاد فيها على العدد المشروع
قال العراقي : وهذا محتمل لا تأباه النصوص الواردة في ذلك وفي التعبد بالألفاظ الواردة في الأذكار والأدعية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم للبراء : ( قل ونبيك الذي أرسلت ) انتهى . وهذا مسلم في التعبد بالألفاظ لأن العدول إلى لفظ آخر لا يتحقق معه الامتثال . وأما الزيادة في العدد فالامتثال متحقق لأن المأمور به قد حصل على الصفة التي وقع الأمر بها وكون الزيادة عليه مغيرة له غير معقول . وقيل إن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد ثم أتى بالزيادة فقد حصل الامتثال وإن زاد بغير نية لم يعد ممتثلا

5 - وعن سعد بن أبي وقاص : ( أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر )
- رواه البخاري والترمذي وصححه

- قوله ( من البخل ) بضم الباء الموحدة وإسكان الخاء المعجمة وبفتحهما وبضمهما وبفتح الباء وإسكان الخاء ضد الكرم ذكر معنى ذلك في القاموس وقد قيده بعضهم في [ ص 350 ] الحديث بمنع ما يجب إخراجه من المال شرعا أو عادة ولا وجه له لأن البخل بما ليس بواجب من غرائز النقص المضادة للكمال فالتعوذ منها حسن بلا شك فالأولى تبقية الحديث على عمومه وترك التعرض لتقييده بما لا دليل عليه
قوله ( والجبن ) بضم الجيم وسكون الباء وتضم المهابة للأشياء والتأخر عن فعلها وإنما تعوذ منه صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يؤدي إلى عدم الوفاء بفرض الجهاد والصدع بالحق وإنكار المنكر ويجر إلى الإخلال بكثير من الواجبات
قوله ( إلى أرذل العمر ) هو البلوغ إلى حد في الهرم يعود معه كالطفل في سخف العقل وقلة الفهم وضعف القوة
قوله ( من فتنة الدنيا ) هي بالاغترار بشهواتها المفضي إلى ترك القيام بالواجبات وقد تقدم الكلام على ذلك في شرح حديث التعوذ من الأربع لأن فتنة الدنيا هي فتنة المحيا
قوله ( من عذاب القبر ) قد تقدم شرحه في شرح حديث التعوذ من الأربع أيضا وإنما خص صلى الله عليه وآله وسلم هذه المذكورات بالتعوذ منها لأنها من أعظم الأسباب المؤدية إلى الهلاك باعتبار ما يتسبب عنها من المعاصي المتنوعة

6 - وعن أم سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا )
- رواه أحمد وابن ماجه

- الحديث أخرجه أيضا ابن أبي شيبة عن شبابة عن شعبة عن موسى ابن أبي عائشة عن مولى لأم سلمة عن أم سلمة . ورواه ابن ماجه في سننه عن أبي بكر ابن أبي شيبة بهذا الإسناد ورجاله ثقات لولا جهالة مولى أم سلمة وإنما قيد العلم بالنافع والرزق بالطيب والعمل بالمتقبل لأن كل علم لا ينفع فليس من عمل الآخرة وربما كان من ذرائع الشقاوة ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يتعوذ من علم لا ينفع . وكل رزق غير طيب موقع في ورطة العقاب وكل عمل غير متقبل إتعاب للنفس في غير طائل . اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ورزق لا يطيب وعمل لا يتقبل

7 - وعن أبي أمامة قال : ( قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع قال : جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات )
- رواه الترمذي

- الحديث حسنه الترمذي وهو من طريق محمد بن يحيى الثقفي المروزي عن حفص بن غياث عن ابن جريج عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفيه تصريح بأن جوف الليل ودبر الصلوات المكتوبات من أوقات الإجابة . وقد أخرج مسلم من [ ص 351 ] حديث جابر قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة ) فيمكن أن يقيد مطلق جوف الليل المذكور في حديث الباب بساعة من ساعاته كما في حديث جابر . وقد وردت أذكار عقب الصلوات غير ما ذكره المصنف . منها حديث أبي أمامة عند النسائي وصححه ابن حبان قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ) وزاد الطبراني : ( وقل هو الله أحد ) ومنها ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث زيد بن أرقم قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول دبر كل صلاة اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أنك أنت الرب وحدك لا شريك لك اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبدك ورسولك اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب الله أكبر الأكبر اللهم نور السماوات والأرض الله أكبر الأكبر حسبي ونعم الوكيل الله أكبر الأكبر ) وفي إسناده داود الطفاوي قال ابن معين : ليس بشيء
وأخرج أبو داود من حديث علي قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم من الصلاة قال اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر ) وأخرجه الترمذي أيضا وقال : حديث حسن صحيح
وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي من حديث عقبة بن عامر : ( أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة ) قال الترمذي : حديث غريب
وأخرج مسلم من حديث البراء أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول بعد الصلاة ( رب قني عذابك يوم تبعث عبادك ) ومنها عند الطبراني في الأوسط بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول دبر كل صلاة اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل أعذني من حر النار وعذاب القبر ) ومنها عند أحمد والطبراني في الكبير بلفظ : ( اللهم أصلح لي ديني ووسع لي داري وبارك لي في رزقي ) وعند الترمذي : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ) وأخرجه أيضا أبو بكر ابن [ ص 352 ] أبي شيبة من حديث أبي سعيد
وعند الطبراني : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى وفرغ من صلاته يمسح يمينه على رأسه ويقول بسم الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم اللهم أذهب عني الهم والحزن ) وعند النسائي التهليل مائة مرة . هذه الأذكار وردت في أدبار الصلوات غير مقيدة ببعضها
وورد عقب المغرب والفجر بخصوصهما عند أحمد والنسائي : ( من قال قبل أن ينصرف منهما لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات وكان يومه في حرز من الشيطان ) . وبعدهما أيضا قبل أن يتكلم عند أبي داود وابن حبان في صحيحه : ( اللهم أجرني من النار سبع مرات ) وعقب صلاة الفجر عند الترمذي وقال حسن صحيح : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان لم ينبغي لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله عز و جل ) وأخرجه أيضا النسائي وزاد فيه ( بيده الخير ) وعقب المغرب عند الترمذي وحسنه والنسائي من حديث عمارة بن شبيب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات على أثر المغرب بعث الله له ملائكة يحفظونه من الشيطان الرجيم حتى يصبح ويكتب له بها عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات موبقات وكانت له بعدل عشر رقبات مؤمنات ) وفي إسناده رشدين بن سعد وفيه مقال

باب الانحراف بعد السلام وقدر اللبث بينهما واستقبال المأمومين

1 - عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام )
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه

[ ص 353 ] - الحديث قد تقدم شرح ألفاظه في الباب الأول وساقه المصنف ههنا للاستدلال به على مشروعية قيام الإمام من موضعه الذي صلى فيه بعد سلامه وقد ذهب بعض المالكية إلى كراهة المقام للإمام في مكان صلاته بعد السلام . ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق من حديث أنس قال : ( صليت وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان ساعة يسلم يقوم ثم صليت وراء أبي بكر فكان إذا سلم وثب فكأنما يقوم عن رضفة ) ويؤيده أيضا ما سيأتي في باب لبث الإمام أنه كان يمكث صلى الله عليه وآله وسلم في مكانه يسيرا قبل أن يقوم لكي ينصرف النساء فإنه يشعر بأن الإسراع بالقيام هو الأصل والمشروع وقد عورض هذا بما تقدم من الأحاديث الدالة على استحباب الذكر بعد الصلاة وأنت خبير بأنه لا ملازمة بين مشروعية الذكر بعد الصلاة والقعود في المكان الذي صلى المصلي تلك الصلاة فيه لأن الامتثال يحصل بفعله بعدها سواء كان ماشيا أو قاعدا في محل آخر نعم ما ورد مقيدا نحو قوله ( وهو ثان رجليه ) وقوله ( قبل أن ينصرف ) كان معارضا ويمكن الجمع بحمل مشروعية الإسراع على الغالب كما يشعر به لفظ كان أو على ما عدا ما ورد مقيدا بذلك من الصلوات أو على أن اللبث مقدار الإتيان بالذكر المقيد لا ينافي الإسراع فإن اللبث مقدار ما ينصرف النساء ربما اتسع لأكثر من ذلك

2 - وعن سمرة قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه )
- رواه البخاري

3 - وعن البراء بن عازب قال : ( كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه فيقبل علينا بوجهه )
- رواه مسلم وأبو داود

- الحديث الأول ذكره البخاري في الصلاة بهذا اللفظ وذكره في الجنائز مطولا وهو يدل على مشروعية استقبال الإمام للمؤتمين بعد الفراغ من الصلاة والمواظبة على ذلك لما يشعر به لفظ كان كما تقرر في الأصول . قال النووي : المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين أن لفظة كان لا يلزمها الدوام ولا التكرار وإنما هي فعل ماض تدل على وقوعه مرة انتهى
قيل والحكمة في استقبال المؤتمين أن يعلمهم ما يحتاجون إليه وعلى هذا يختص بمن كان في مثل حاله صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاحية للتعليم والموعظة . وقيل الحكمة أن يعرف الداخل انقضاء الصلاة إذ لو استمر الإمام [ ص 354 ] على حاله وهم أنه في التشهد مثلا
وقال الزين ابن المنير : استدبار الإمام للمأمومين إنما هو لحق الإمامة فإذا انقضت الصلاة زال السبب واستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين
( والحديث الثاني ) يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل على من في جهة الميمنة ويمكن الجمع بين الحديثين بأنه كان تارة يستقبل جميع المؤتمين وتارة يستقبل أهل الميمنة أو يجعل حديث البراء مفسرا لحديث سمرة فيكون المراد بقوله ( أقبل علينا ) أي على بعضنا أو أنه كان يصلي في الميمنة فقال ذلك باعتبار من يصلي في جهة اليمين
( وفي الباب ) عن زيد بن خالد الجهني قال : ( صلى لنا صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس ) الحديث أخرجه البخاري والمراد بقوله انصرف أي من صلاته أو مكانه كذا قال الحافظ وهو على التفسير الأول من أحاديث الباب . وكذا ذكره البخاري في باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم . ومن أحاديث الباب ما أخرجه البخاري عن أنس قال : ( أخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل ثم خرج علينا فلما صلى أقبل علينا بوجهه )

4 - وعن يزيد بن الأسود قال : ( حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع قال : فصلى بنا صلاة الصبح ثم انحرف جالسا فاستقبل الناس بوجهه وذكر قصة الرجلين اللذين لم يصليا قال : ونهض الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونهضت معهم وأنا يومئذ أشب الرجال وأجلده قال : فما زلت أزحم الناس حتى وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذت بيده فوضعتها إما على وجهي أو صدري قال : فما وجدت شيئا أطيب ولا أبرد من يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : وهو يومئذ في مسجد الخيف )
- رواه أحمد . وفي رواية أيضا : ( أنه صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) فذكر الحديث قال : ( ثم ثار الناس يأخذون بيده يمسحون بها وجوههم قال : فأخذت بيده فمسحت بها وجهي فوجدتها أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك )

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والترمذي وقال : حسن صحيح لكن بلفظ : ( شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجته فصليت معه الصبح في مسجد الخيف فلما قضى صلاته وانحرف ) ثم ذكروا قصة الرجلين وفي إسناده جابر بن [ ص 355 ] يزيد بن الأسود السوائي عن أبيه روى عنه يعلى بن عطاء . قال ابن المديني : لم يرو عنه غيره وقد وثقه النسائي
قوله ( فاستقبل الناس بوجهه ) فيه دليل على مشروعية ذلك وقد تقدم الكلام فيه
قوله ( وذكر قصة الرجلين اللذين لم يصليا ) لفظهما عند الترمذي وأبي داود والنسائي : ( فلما قضى صلى الله عليه وآله وسلم صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه فقال : علي بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال : ما منعكما أن تصليا معنا فقالا : يا رسول الله إنا كنا صلينا في رحالنا قال : فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ) وسيأتي الكلام على ذلك في أبواب الجماعة
قوله ( وأجلده ) جعل ضمير الجماعة مفردا لغة قليلة ومنه هو أحسن الفتيان وأجمله . ومنه أيضا قول الشاعر :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
قوله ( فوضعتها إما على وجهي أو صدري ) فيه مشروعية التبرك بملامسة أهل الفضل لتقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم له على ذلك . وكذلك قوله ( ثم ثار الناس بيده يمسحون بها وجوههم )

5 - وعن أبي جحيفة قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة تمر من ورائها المرأة وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم قال : فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك )
- رواه أحمد والبخاري

- الحديث أخرجه البخاري مطولا ومختصرا في مواضع من كتابه ذكره في الطهارة وفي باب الصلاة في الثوب الأحمر في أوائل كتاب الصلاة وفي الأذان وفي أبواب السترة في موضعين وفي صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعين . وفي اللباس في موضعين
قوله ( إلى البطحاء ) يعني بطحاء مكة وهو موضع خارج مكة وهو الذي يقال له الأبطح . وقوله ( بالهاجرة ) يستفاد منه أنه جمع تقديم ويحتمل أن يكون قوله ( والعصر ركعتين ) أي بعد دخول وقتها
قوله ( عنزة ) هي الحربة القصيرة . قوله ( تمر من ورائها المرأة ) فيه متمسك لمن قال أن المرأة لا تقطع الصلاة وسيأتي الكلام على ذلك
قوله ( فيمسحون بها وجوههم ) فيه مشروعية التبرك كما تقدم
( والحديث ) لا يطابق الترجمة التي [ ص 356 ] ذكرها المصنف لأن قيام الناس إليه لا يستلزم أنه باق في المكان الذي صلى فيه فضلا عن استقباله للمصلين

باب جواز الانحراف عن اليمين والشمال

1 - عن ابن مسعود قال : ( لا يجعلن أحدكم للشيطان شيئا من صلاته يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا ينصرف عن يساره ) وفي لفظ : ( أكثر انصرافه عن يساره )
- رواه الجماعة إلا الترمذي

2 - وعن أنس قال : ( أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينصرف عن يمينه )
- رواه مسلم والنسائي

3 - وعن قبيصة بن هلب عن أبيه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤمنا فينصرف عن جانبيه جميعا على يمينه وعلى شماله )
- رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي . وقال : صح الأمران عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- الحديث الثالث حسنه الترمذي وصححه ابن عبد البر في الاستيعاب وذكره عبد الباقي ابن قانع في معجمه من طرق متعددة وفي إسناده قبيصة بن هلب وقد رماه بعضهم بالجهالة ولكنه وثقه العجلي وابن حبان ومن عرف حجة على من لم يعرف
( وفي الباب ) عن عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه بلفظ : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة )
قوله في الحديث الأول ( شيئا من صلاته ) في رواية مسلم ( جزءا من صلاته )
قوله ( يرى ) بفتح أوله أي يعتقد ويجوز الضم أي يظن
قوله ( أن حقا عليه ) هو بيان للجعل في قوله لا يجعلن
قوله ( أن لا ينصرف ) أي يرى أن عدم الانصراف حق عليه . وظاهر قوله في حديث ابن مسعود ( أكثر انصرافه عن يساره ) . وقوله في حديث أنس ( أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينصرف عن يمينه ) المنافاة لأن كل واحد منهما قد استعمل فيه صيغة أفعل التفضيل . قال النووي : ويجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا فأخبر كل منهما بما اعتقد أنه الأكثر وإنما كره ابن مسعود أن يعتقد وجوب الانصراف عن اليمين . قال الحافظ : ويمكن الجمع بينهما بوجه آخر وهو أن يحمل حديث [ ص 357 ] ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد لأن حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت من جهة يساره ويحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحالة السفر ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود لأنه أعلم وأسن وأجمل وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقرب إلى مواقفه في الصلاة من أنس
وبأن في إسناد حديث أنس من تكلم فيه وهو السدي . وبأن حديث ابن مسعود متفق عليه . وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال لأن حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت على جهة يساره كما تقدم
قال : ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بين الحديثين بوجه آخر وهو أن من قال كان أكثر انصرافه عن يساره نظرا إلى هيئته في حالة الصلاة ومن قال كان أكثر انصرافه عن يمينه نظرا إلى هيئته في حال استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة فعلى هذا لا يختص الانصراف بجهة معينة ومن ثم قال العلماء يستحب الانصراف إلى جهة حاجته لكن قالوا إذا استوت الجهتان في حقه فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل التيامن
قال ابن المنير : فيه أن المندوبات قد تنقلب مكروهات إذا رفعت عن رتبتها لأن التيامن مستحب في كل شيء لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته . قال الترمذي بعد أن ساق حديث هلب : وعليه العمل عند أهل العلم قال : ويروى عن علي أنه قال : إن كانت حاجته عن يمينه أخذ عن يمينه وإن كانت حاجته عن يساره أخذ عن يساره

باب لبث الإمام بالرجال قليلا ليخرج من صلى معه من النساء

1 - عن أم سلمة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه وهو يمكث في مكانه يسيرا قبل أن يقوم قالت فنرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال )
- رواه أحمد والبخاري

- الحديث فيه أنه يستحب للإمام مراعاة أحوال المأمومين والاحتياط في الاجتناب ما قد يفضي إلى المحذور واجتناب مواقع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالا فقط لا يستحب هذا المكث وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا [ ص 358 ] سلم لا يقعد إلا قدر ما يقول اللهم أنت السلام ) الحديث المتقدم وقد تقدم الكلام في ذلك
( وفي الحديث ) أنه لا بأس بحضور النساء الجماعة في المسجد . قوله ( فنرى ) بضم النون أي نظن

باب جواز عقد التسبيح باليد وعده بالنوى ونحوه

1 - عن بسيرة وكانت من المهاجرات قالت : ( قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس ولا تغفلن فتنسين الرحمة واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات )
- رواه أحمد والترمذي وأبو داود

2 - وعن سعد ابن أبي وقاص : ( أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به فقال أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل سبحان الله عدد ما خلق في السماء وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض وسبحان الله عدد ما بين ذلك وسبحان الله عدد ما هو خالق والله أكبر مثل ذلك والحمد لله مثل ذلك ولا إله إلا الله مثل ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك )
- رواه أبو داود والترمذي

3 - وعن صفية قالت : ( دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها فقال : لقد سبحت بهذا ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به فقالت : علمني فقال : قولي سبحان الله عدد خلقه )
- رواه الترمذي

- أما الحديث الأول فأخرجه أيضا الحاكم وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث هانئ بن عثمان وقد صحح السيوطي إسناد هذا الحديث
وأما الحديث الثاني فأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه وحسنه الترمذي
وأما الحديث الثالث فأخرجه أيضا الحاكم وصححه السيوطي
( والحديث الأول ) يدل على مشروعية عقد الأنامل بالتسبيح وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عمرو أنه قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعقد التسبيح ) زاد في رواية لأبي داود وغيره ( بيمينه ) وقد علل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في حديث الباب بأن الأنامل مسئولات مستنطقات يعني أنهن يشهدن بذلك فكان عقدهن بالتسبيح من هذه الحيثية أولى من السبحة والحصى
( والحديثان الآخران ) يدلان على جواز عد التسبيح بالنوى والحصى وكذا [ ص 359 ] بالسبحة لعدم الفارق لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم للمرأتين على ذلك . وعدم إنكاره والإرشاد إلى ما هو أفضل لا ينافي الجواز وقد وردت بذلك آثار ففي جزء هلال الحفار من طريق معتمر بن سليمان عن أبي صفية مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يوضع له نطع ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار ثم يرفع فإذا صلى أتى به فيسبح حتى يمسي وأخرجه الإمام أحمد في الزهد قال حدثنا عبد الواحد ابن زياد عن يونس بن عبيد عن أمه قالت : رأيت أبا صفية رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان خازنا قالت : فكان يسبح بالحصى . وأخرج ابن سعد عن حكيم بن الديلمي أن سعد بن أبي وقاص كان يسبح بالحصى
وقال ابن سعد في الطبقات : أخبرنا عبد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن جابر عن امرأة خدمته عن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب أنها كانت تسبح بخيط معقود فيها . وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن أبي هريرة أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح . وأخرج أحمد في الزهد عن القاسم بن عبد الرحمن قال : كان لأبي الدرداء نوى من العجوة في كيس فكان إذا صلى الغداة أخرجها واحدة واحدة يسبح بهن حتى ينفذهن . وأخرج ابن سعد عن أبي هريرة أنه كان يسبح بالنوى المجموع . وأخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق زينب بنت سليمان بن علي عن أم الحسن بنت جعفر عن أبيها عن جدها عن علي رضي الله عنه مرفوعا نعم المذكر السبحة . وقد ساق السيوطي آثارا في الجزء الذي سماه المنحة في السبحة وهو من جملة كتابه المجموع في الفتاوى وقال في آخره : ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون في ذلك مكروها انتهى
( وفي الحديثين ) الآخرين فائدة جليلة وهي أن الذكر يتضاعف ويتعدد بعدد ما أحال الذاكر على عدده وإن لم يتكرر الذكر في نفسه فيحصل مثلا على مقتضى هذين الحديثين لمن قال مرة واحدة سبحان الله عدد كل شيء من التسبيح ما لا يحصل لمن كرر لتسبيح ليالي وأياما بدون الإحالة على عدد وهذا مما يشكل على القائلين إن الثواب على قدر المشقة المنكرين للتفضل الثابت بصرائح الأدلة وقد أجابوا عن هذين الحديثين وما شابههما من نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من فطر صائما كان له مثل أجره ) . ( من عزى مصابا كان له مثل أجره ) بأجوبة متعسفة متكلفة

أبواب ما يبطل الصلاة وما يكره ويباح فيها . [ ص 360 ]

باب النهي عن الكلام في الصلاة

1 - عن زيد بن أرقم قال : ( كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه . وللترمذي فيه : ( كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة )

- الحديث قال الترمذي : حسن صحيح . ( وفي الباب ) عن جابر بن عبد الله عند الشيخين وعن عمار عند الطبراني وعن أبي أمامة عند الطبراني أيضا وعن أبي سعيد عند البزار وعن معاوية ابن الحكم وابن مسعود وسيأتيان
( والحديث ) يدل على تحريم الكلام في الصلاة ولا خلاف بين أهل العلم أن من تكلم في صلاته عامدا عالما فسدت صلاته . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة . واختلفوا في كلام الساهي والجاهل
وقد حكى الترمذي عن أكثر أهل العلم أنهم سووا بين كلام الناسي والعامد والجاهل وإليه ذهب الثوري وابن المبارك حكى ذلك الترمذي عنهما وبه قال النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وهو إحدى الروايتين عن قتادة وإليه ذهبت الهادوية
وذهب قوم إلى الفرق بين كلام الناسي والجاهل وبين كلام العامد وقد حكى ذلك ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن الزبير ومن التابعين عن عروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وقتادة في إحدى الروايتين عنه وحكاه الحازمي عن عمرو بن دينار . وممن قال به مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وابن المنذر وحكاه الحازمي عن نفر من أهل الكوفة وعن أكثر أهل الحجاز وأكثر أهل الشام . وعن سفيان الثوري وهو إحدى الروايتين عنه وحكاه النووي في شرح مسلم عن الجمهور
( استدل الأولون ) بحديث الباب وسائر الأحاديث المصرحة بالنهي عن التكلم في الصلاة وظاهرها عدم الفرق بين العامد والناسي والجاهل
( واحتج ) الآخرون لعدم فساد صلاة الناسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم في حال السهو وبنى عليه كما في حديث ذي اليدين وبما روى الطبراني في الأوسط [ ص 361 ] من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم في الصلاة ناسيا فبنى على ما صلى . وبحديث ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) الذي أخرجه ابن ماجه وابن حبان والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم بنحو هذا اللفظ
( واحتجوا ) لعدم فساد صلاة الجاهل بحديث معاوية ابن الحكم الذي سيأتي فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بالإعادة
وأجيب عن ذلك بأن عدم حكاية الأمر بالإعادة لا يستلزم العدم وغايته أنه لم ينقل إلينا فيرجع إلى غيره من الأدلة كذا قيل ويجاب أيضا عن الاستدلال بحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان أن المراد رفع الإثم لا الحكم فإن الله أوجب في قتل الخطأ الكفارة على أن الحديث مما لا ينتهض للاحتجاج به . وقد استوفى الحافظ الكلام عليه في باب شروط الصلاة من التلخيص ويجاب عن الاحتجاج بحديث ذي اليدين بأن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وقع وهو غير متصل وبناؤه على ما قد فعل قبل الكلام لا يستلزم أن يكون ما وقع قبله منها
قوله في الحديث ( حتى نزلت وقوموا لله قانتين ) فيه إطلاق القنوت على السكوت . قال زين الدين في شرح الترمذي : وذكر ابن العربي أن له عشرة معان قال : وقد نظمتها في بيتين بقولي :
ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد ... مزيدا على عشر معاني مرضية
دعاء خشوع والعبادة طاعة ... إقامتها إقرارنا بالعبودية
سكوت صلاة والقيام وطوله ... كذاك دوام الطاعة الرابح الفيه
قوله ( ونهينا عن الكلام ) هذه الزيادة ليست للجماعة كما يشعر به كلام المصنف وإنما زادها مسلم وأبو داود . وقد استدل بزيادتها على مسألة أصولية قال ابن العربي : قوله ( أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ) يعطي بظاهره أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده والكلام على ذلك مبسوط في الأصول . قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث : وهذا يدل على أن تحريم الكلام كان بالمدينة بعد الهجرة لأن زيدا مدني وقد أخبر أنهم كانوا يتكلمون خلف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة إلى أن نهوا انتهى
ويؤيد ذلك أيضا اتفاق المفسرين على أن قوله تعالى { وقوموا لله قانتين } نزلت بالمدينة ولكنه يشكل على ذلك حديث ابن مسعود الآتي بعد هذا فإن فيه أنه لما رجع من عند النجاشي كان تحريم الكلام وكان رجوعه من الحبشة من عند النجاشي بمكة قبل الهجرة . وقد أجاب عن ذلك ابن حبان في صحيحه فقال : توهم من لم يطلب العلم [ ص 362 ] من مظانه أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة قال : وليس مما يذهب إليه الوهم فيه في شيء منه وذلك لأن زيد بن أرقم كان من الأنصار من الذين أسلموا بالمدينة وصلوا بها قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يصلون بالمدينة كما يصلي المسلمون بمكة في إباحة الكلام في الصلاة لهم فلما نسخ ذلك بمكة نسخ كذلك بالمدينة فحكى زيد ما كانوا عليه لا أن زيدا حكى ما لم يشهده في الصلاة وهذا الجواب يرده قول زيد المتقدم كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وأيضا قد ذكر ابن حبان نفسه أن نسخ الكلام في الصلاة كان عند رجوع ابن مسعود من أرض الحبشة قبل الهجرة بثلاث سنين وإذا كان كذلك فلم يكن الأنصار حينئذ قد صلوا ولا أسلموا فإن إسلام من أسلم منهم كان حين أتى النفر الستة من الخزرج عند العقبة فدعاهم إلى الله فآمنوا ثم جاء الموسم الثاني منهم اثنا عشر رجلا فبايعوه وهي بيعة العقبة الأولى ثم جاؤوا في الموسم الثالث فبايعوه بيعة العقبة الثانية ثم هاجر إليهم في شهر ربيع الأول فكان إسلامهم قبل الهجرة بسنتين وثلاثة أشهر
( وأجاب العراقي ) عن ذلك الإشكال بأن الرواية الصحيحة المتفق عليها في حديث ابن مسعود هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجابه بقوله إن في الصلاة شغلا فيحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى ذلك منه اجتهاد قبل نزول الآية . قال : وأما الرواية التي فيها إن الله قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة فلا تقاوم الرواية الأولى للاختلاف في راويها وعلى تقدير ثبوتها فلعله أوحى إليه ذلك بوحي غير القرآن
وفيه أن الترجيح فرع التعارض ولا تعارض لأن رواية أن لا تتكلموا زيادة ثابتة من وجه معتبر كما سيأتي فقبولها متعين . وأما الاعتذار بأنها بوحي غير قرآن فذلك غير نافع لأن النزاع في كون التحريم للكلام في مكة أو في المدينة لا في خصوص أنه بالقرآن
( ومن جملة ) ما أجيب به عن ذلك الإشكال أن زيد بن أرقم ممن لم يبلغه تحريم الكلام في الصلاة إلا حين نزول الآية ويرده قوله في حديث الباب يكلم الرجل منا صاحبه وإن ذلك كان خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن المعلوم أن تكليم بعضهم بعضا في الصلاة لا يخفى عليه لأنه يراهم من خلفه كما صح عنه
( ومن الأجوبة ) أن يكون الكلام نسخ بمكة ثم أبيح ثم نسخت الإباحة بالمدينة . ومنها حمل حديث ابن مسعود على تحريم الكلام لغير مصلحة الصلاة [ ص 363 ] وحديث زيد على تحريم سائر الكلام . ومنها ترجيح حديث ابن مسعود والمصير إليه لأنه حكى فيه حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ابن سريج والقاضي أبو الطيب . ومنها أن زيد بن أرقم أراد بقوله كنا نتكلم في الصلاة الحكاية عمن كان يفعل ذلك في مكة كما يقول القائل فعلنا كذا وهو يريد بعض قومه ذكر معنى ذلك ابن حبان وهو بعيد

2 - وعن ابن مسعود قال : ( كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال إن في الصلاة لشغلا )
- متفق عليه . وفي رواية : ( كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كنا بمكة قبل أن نأتي أرض الحبشة فلما قدمنا من أرض الحبشة أتيناه فسلمنا عليه فلم يرد فأخذني ما قرب وما بعد حتى قضوا الصلاة فسألته فقال إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة ) . رواه أحمد والنسائي

- الرواية الثانية أخرجها أيضا أبو داود وابن حبان في صحيحه . قوله ( فلم يرد ) هو يرد على من قال بجواز رد السلام في الصلاة لفظا وهم أبو هريرة وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة
قوله ( لشغلا ) ههنا صفة محذوفة والتقدير لشغلا كافيا عن غيره من الكلام أو مانعا من الكلام
قوله ( ما قرب وما بعد ) لفظ أبي داود وابن حبان ما قدم وما حدث والمراد من هذا اللفظ ولفظ الكتاب اتصال الأحزان البعيدة أو المتقدمة بالقريبة أو الحادثة لسبب تركه صلى الله عليه وآله وسلم لرد السلام عليه
قوله ( أن لا نتكلم في الصلاة ) لفظ أبي داود وغيره : ( أن لا تكلموا في الصلاة ) وزاد : ( فرد علي السلام ) يعني بعد فراغه
( وقد استدل به ) على أنه يستحب لمن سلم عليه في الصلاة أن لا يرد السلام إلا بعد فراغه من الصلاة وروي هذا عن أبي ذر وعطاء والنخعي والثوري . قال ابن رسلان : ومذهب الشافعي والجمهور أن المستحب أن يرد السلام في الصلاة بالإشارة واستدلوا بما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن صهيب أنه قال : ( مررت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فرد إشارة ) قال الراوي عنه ولا أعلمه إلا قال ( إشارة بإصبعه ) وسيأتي الكلام على هذا في باب الإشارة في الصلاة لرد السلام

3 - وعن معاوية بن الحكم الأسلمي قال : ( بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى [ ص 364 ] الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أماه ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال : ( لا يحل ) مكان ( لا يصلح ) وفي رواية لأحمد : ( إنما هي التسبيح والتكبير والتحميد وقراءة القرآن )

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي . قوله ( فرماني القوم بأبصارهم ) أي نظروا إلي بأبصارهم نظر منكر ولذلك استعير له الرمي . قوله ( واثكل أماه ) وا حرف للندبة وثكل بضم المثلثة وإسكان الكاف وبفتحهما جميعا لغتان كالبخل والبخل حكاهما الجوهري وغيره وهو فقدان المرأة ولدها وحزنها عليه لفقده . وقوله ( أماه ) بتشديد الميم وأصله أم زيدت عليه ألف الندبة لمد الصوت وأردفت بهاء السكت وفي رواية إلى داود ( أمياه ) بزيادة الياء وأصله أمي زيدت عليه ألف الندبة لذلك
قوله ( على أفخاذهم ) هذا محمول على أنه وقع قبل أن يشرع التسبيح لمن نابه شيء في صلاته للرجال والتصفيق للنساء ولا يقال إن ضرب اليد على الفخذين تصفيق لأن التصفيق إنما هو ضرب الكف على الكف أو الأصابع على الكف . قال القرطبي : ويبعد أن يسمى من ضرب على فخذه وعليها ثوبه مصفقا ولهذا قال فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ولو كان يسمى هذا تصفيقا لكان الأقرب في اللفظ أن يقول يصفقون لا غير
قوله ( لكني سكت ) قال المنذري : يريد لم أتكلم لكني سكت وورود لكن هنا مشكل لأنه لا بد أن يتقدمها كلام مناقض لما بعدها نحو ما هذا ساكنا لكنه متحرك أو ضد له نحو ما هو أبيض لكنه أسود ويحتمل أن يكون التقدير هنا فلما رأيتهم يسكتوني لم أكلمهم لكني سكت فيكون الاستدراك لرفع ما توهم ثبوته مثل ما زيد شجاعا لكنه كريم لأن الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان فالاستدراك من توهم نفي كرمه ويحتمل أن يكون لكن هنا للتوكيد نحو لو جاءني أكرمته لكنه لم يجيء فأكدت لكن ما أفادته لو من الامتناع وكذا في الحديث أكدت لكن ما أفاده ضربهم من ترك الكلام
قوله ( فبأبي وأمي ) متعلق بفعل محذوف تقديره أفديه بأبي وأمي
قوله ( ما كهرني ) أي ما انتهرني والكهر الانتهار قاله أبو عبيد وقرأ عبد الله بن مسعود { فأما اليتيم فلا تكهر } وقيل الكهر العبوس في وجه من تلقاه
[ ص 365 ] قوله ( إن هذه الصلاة ) يعني مطلق الصلاة فيشمل الفرائض وغيرها
قوله ( لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ) في الرواية الأخرى لا يحل
( استدل ) بذلك على تحريم الكلام في الصلاة سواء كان لحاجة أم لا وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها فإن احتاج إلى تنبيه أو إذن لداخل سبح الرجل وصفقت المرأة وهذا مذهب الجمهور من أهل البيت وغيرهم من السلف والخلف . وقالت طائفة منهم الأوزاعي : إنه يجوز الكلام لمصلحة الصلاة واستدلوا بحديث ذي اليدين . وكلام الناس المذكور في الحديث اسم مصدر يراد به تارة ما يتكلم به على أنه مصدر بمعنى المفعول وتارة يراد به التكليم للغير وهو الخطاب للناس والظاهر أن المراد به ههنا الثاني بشهادة السبب
قوله ( إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) هذا الحصر يدل بمفهومه على منع التكلم في الصلاة بغير الثلاثة وقد تمسكت به الطائفة القائلة بمنع الدعاء في الصلاة بغير ألفاظ القرآن من الحنفية والهادوية ويجاب عنهم بأن الأحاديث المثبتة لأدعية وأذكار مخصوصة في الصلاة مخصصة لعموم هذا المفهوم وبناء العام على الخاص متعين لا سيما بعد ما تقرر أن تحريم الكلام كان بمكة كما قدمنا وأكثر الأدعية والأذكار في الصلاة كانت بالمدينة وقد خصصوا هذا المفهوم بالتشهد فما وجه امتناعهم من التخصيص بغيره وهذا واضح لا يلتبس على من له أدنى نظر في العلم ولكن المتعصب أعمى وكم من حديث صحيح وسنة صريحة قد نصبوا هذا المفهوم العام في مقابلتها وجعلوه معارضا لها وردوها به وغفلوا عن بطلان معارضة العام بالخاص وعن رجحان المنطوق على المفهوم إن سلم التعارض
( قال المصنف ) رحمه الله بعد أن ساق الحديث : وفيه دليل على أن التكبير من الصلاة وأن القراءة فرض وكذلك التسبيح والتحميد وأن تشميت العاطس من الكلام المبطل وأن من فعله جاهلا لم تبطل صلاته حيث لم يأمره بالإعادة انتهى

باب أن من دعا في صلاته بما لا يجوز جاهلا لم تبطل

1 - عن أبي هريرة قال : ( قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلاة وقمنا معه فقال أعرابي وهو في الصلاة اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا فلم سلم [ ص 366 ] النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للأعرابي : لقد تحجرت واسعا يريد رحمة الله )
- رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي

- الحديث أخرجه أيضا مسلم . قوله ( تحجرت واسعا ) أي ضيقت ما وسعه الله وخصصت به نفسك دون إخوانك من المسلمين هلا سألت الله لك ولكل المؤمنين وأشركتهم في رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء وفي هذا إشارة إلى ترك هذا الدعاء والنهي عنه وأنه يستحب الدعاء لغيره من المسلمين بالرحمة والهداية ونحوهما
( واستدل به ) المصنف على أنها لا تبطل صلاة من دعا به بما لا يجوز جاهلا لعدم أمر هذا الداعي بالإعادة
قوله ( يريد رحمة الله ) قال الحسن وقتادة : وسعت في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة جعلنا الله ممن وسعته رحمته في الدارين

باب ما جاء في النحنحة والنفخ في الصلاة

1 - عن علي قال : ( كان لي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدخلان بالليل والنهار وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي يتنحنح لي )
- رواه أحمد وابن ماجه والنسائي بمعناه

- الحديث صححه ابن السكن وقال البيهقي : هذا مختلف في إسناده ومتنه قيل سبح وقيل تنحنح ومداره على عبد الله بن نجي . قال الحافظ : واختلف عليه فيه فقيل عن علي وقيل عن أبيه عن علي قال البخاري : فيه نظر وضعفه غيره ووثقه النسائي وابن حبان . وقال يحيى بن معين : لم يسمعه عبد الله من علي بينه وبين علي أبوه
( والحديث ) يدل على أن التنحنح في الصلاة غير مفسد وقد ذهب إلى ذلك الإمام يحيى والشافعي وأبو يوسف كذا في البحر . وروي عن الناصر وقال المنصور بالله : إذا كان لإصلاح الصلاة لم تفسد به وذهب أبو حنيفة ومحمد والهادوية إلى أن التنحنح مفسد لأن الكلام لغة ما تركب من حرفين وإن لم يكن مفيدا ورد بأن الحرف ما اعتمد على مخرجه المعين وليس في التنحنح اعتماد . وقد أجاب المهدي عن الحديث بقوله لعله قبل نسخ الكلام ثم دليل التحريم أرجح للحظر
وقد عرفناك أن تحريم الكلام كان بمكة والاتكال على مثل هذه العبارة التي ليس فيها إلا مجرد الترجي من دون علم ولا ظن لو جاز التعويل على مثلها لرد من شاء ما شاء من [ ص 367 ] الشريعة المطهرة وهو باطل بالإجماع . وأما ترجيح دليل تحريم الكلام في كونه من ترجيح العام على الخاص قد عرفت أن العام غير صادق على محل النزاع

2 - وعن عبد الله بن عمرو : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفخ في صلاة الكسوف )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي وذكره البخاري تعليقا . وروى أحمد هذا المعنى من حديث المغيرة بن شعبة . وعن ابن عباس قال : النفخ في الصلاة كلام رواه سعيد بن منصور في سننه

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي ولفظ أبي داود : ( ثم نفخ في آخر سجوده فقال : أف أف ثم قال : يا رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ففرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد انمحصت الشمس ) وفي إسناده عطاء بن السائب وقد أخرج له البخاري مقرونا . وأثر ابن عباس أخرجه أيضا عبد الرزاق
قوله ( نفخ في صلاة الكسوف ) النفخ في أصل اللغة إخراج الريح من الفم كما في القاموس وغيره وقد فسر في الحديث بقوله أف أف
وقد استدل بالحديث من قال إن النفخ لا يفسد الصلاة واستدل من قال إنه يفسد الصلاة بأحاديث النهي عن الكلام والنفخ كلام كما قال ابن عباس . وأجيب بمنع كون النفخ من الكلام لما عرفت من أن الكلام متركب من الحروف المعتمدة على المخارج والاعتماد في النفخ وأيضا الكلام المنهي عنه في الصلاة هو المكالمة كما تقدم ولو سلم صدق اسم الكلام على النفخ كما قال ابن عباس لكان فعله صلى الله عليه و آله وسلم لذلك في الصلاة مخصصا لعموم النهي عن الكلام
واستدلوا أيضا بما رواه الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن النفخ في السجود وعن النفخ في الشراب ) ولا تقوم به حجة لأن في إسناده خالد بن إلياس وهو متروك وقال البيهقي : حديث زيد بن ثابت مرفوعا ضعيف بمرة
( واستدلوا ) أيضا بما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أنه كره أن ينفخ بين يديه في الصلاة أو في شرابه ) قال زين الدين العراقي : وفي إسناده غير واحد متكلم فيه
( واستدلوا ) أيضا بما رواه البزار في مسنده عن أنس بن مالك رفعه قال : ( ثلاثة من الجفاء أن ينفخ الرجل في سجوده أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته ) قال البزار : ذهبت عني الثالثة وفي إسناده خالد بن أيوب وهو ضعيف . ولأنس حديث آخر عند البيهقي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من ألهاه شيء في صلاته فذلك حظه والنفخ كلام ) وفي [ ص 368 ] إسناده نوح ابن أبي مريم وهو متروك الحديث لا يحتج به وروى البزار من حديث بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ثلاث من الجفاء أن يبول الرجل قائما أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته أو ينفخ في سجوده ) قال العراقي : ورجاله رجال الصحيح . ورأيت بخط الحافظ على كلام زين الدين ما لفظه : قوله ورجاله رجال الصحيح ليس بصحيح اه . وقال البزار : لا نعلم رواه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه إلا سعيد بن عبيد الله . ورواه الطبراني في الأوسط من هذا الوجه وقال : لا يروى عن بريدة إلا بهذا الإسناد تفرد به أبو عبيدة الحداد عن سعيد بن حبان قال العراقي : لم ينفرد به عنه بل تابعه عليه عبد الله بن داود الخريبي . وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليسو موضع سجوده ولا يدعه حتى إذا أهوى ليسجد نفخ ثم سجد ) وفي إسناده عبد المنعم بن بشير وهو منكر الحديث
وقد ذهب إلى كراهة النفخ ابن مسعود وابن عباس وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عباس أنه كان يخشى أن يكون النفخ كلاما وكرهه من التابعين النخعي وابن سيرين والشعبي وعطاء ابن أبي رباح وأبو عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن أبي الهذيل ويحيى بن أبي كثير
وروي أيضا عن سعيد بن الزبير ورخص فيه من الصحابة قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي كما رواه البيهقي عنه . وقالت الشافعية والهادوية : إن بان منه حرفان بطلت الصلاة وإلا فلا . ورواه ابن المنذر عن مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأجابوا عن حديث عبد الله بن عمر بأن قوله أف لا يكون كلاما حتى يشدد الفاء فيكون ثلاثة أحرف كذا قال الخطابي . قال ابن الصلاح : ما ذكره لا يستقيم على أصلنا لأن حرفين كلام مبطل وأجاب البيهقي بأن هذا نفخ يشبه الغطيط وذلك لما عرض عليه من تعذيب بعض من وجب عليه العذاب

باب البكاء في الصلاة من خشية الله تعالى

- قال الله تعالى { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا }

1 - عن عبد الله بن الشخير قال : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي

[ ص 369 ] - الحديث أخرجه أيضا الترمذي وصححه وابن حبان وابن خزيمة
قوله ( أزيز ) الأزيز بفتح الألف بعدها زاي مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم زاي أيضا وهو صوت القدر قال في النهاية : هو أن يجيش جوفه ويغلي من البكاء
قوله ( كأزيز المرجل ) المرجل بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم قدر من نحاس وقد يطلق على كل قدر يطبخ فيها ولعله المراد في الحديث . وفي رواية أبي داود كأزيز الرحا يعني الطاحون
قوله ( من البكاء ) فيه دليل على أن البكاء لا يبطل الصلاة سواء ظهر منه حرفان أم لا وقد قيل إن كان البكاء من خشية الله لم يبطل وهذا الحديث يدل عليه ويدل عليه أيضا ما رواه ابن حبان بسنده إلى علي بن أبي طالب قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الأسود ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح . وبوب عليه ذكر الإباحة للمرء أن يبكي من خشية الله . وأخرج البخاري وسعيد ابن منصور وابن المنذر ( أن عمر صلى صلاة الصبح وقرأ سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } فسمع نشيجه ) واستدل المصنف على جواز البكاء في الصلاة بالآية التي ذكرها لأنها تشمل المصلي وغيره

2 - وعن ابن عمر قال : ( لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه قيل له : الصلاة قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة : إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء فقال : مروه فليصل فعاودته فقال : مروه فليصل إنكن صواحب يوسف )
- رواه البخاري ومعناه متفق عليه من حديث عائشة

- قوله ( رجل رقيق ) أي رقيق القلب . وفي رواية للبخاري أنها قالت : ( إن أبا بكر أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس )
قوله ( إنكن صواحب يوسف ) صواحب جمع صاحبة والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن وهذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع فالمراد به واحدة هي عائشة فقط كما أن المراد بصواحب يوسف زليخا فقط كذا قال الحافظ
ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه ومرادها [ ص 370 ] زيادة وهو أن لا يتشاءم الناس به كما صرحت بذلك في بعض طرق الحديث فقالت : ( وما حملني على مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه )
( والحديث ) له فوائد ليس هذا محل بسطها . وقد استدل به المصنف ههنا على جواز البكاء في الصلاة . ووجه الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صمم على استخلاف أبي بكر بعد أن أخبر أنه إذا قرأ غلبه البكاء دل ذلك على الجواز

باب حمد الله في الصلاة لعطاس أو حدوث نعمة

1 - عن رفاعة بن رافع قال : ( صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعطست فقلت الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى فلما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من المتكلم في الصلاة فلم يتكلم أحد ثم قالها ثانية فلم يتكلم أحد ثم قالها الثالثة فقال رفاعة : أنا يا رسول الله فقال : والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضع وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها )
- رواه النسائي والترمذي

- الحديث أخرجه البخاري ولفظه عن رفاعة بن رافع الزرقي قال : ( كنا نصلي يوما وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال : سمع الله لمن حمده فقال رجل من ورائه : ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما انصرف قال : من المتكلم قال : أنا قال : رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدونها أيهم يكتبها أول ) ولم يذكر العطاس ولا زاد ( كما يحب ربنا ويرضى ) وزاد أن ذلك عند الرفع من الركوع فيجتمع بين الروايتين بأن الرجل المبهم في رواية البخاري هو رفاعة كما في حديث الباب ولا مانع أن يكني عن نفسه إما لقصد إخفاء عمله أو لنحو ذلك ويجمع أيضا بأن عطاسه وقع عند رفع رأسه
قوله ( بضع ) البضع ما بين الثلاث إلى التسع أو إلى الخمس أو ما بين الواحد إلى الأربعة أو من أربع إلى تسع أو سبع . كذا في القاموس . قال الفراء : ولا يذكر البضع مع العشرين إلى التسعين وكذا قال الجوهري . والحديث يرد ذلك
قوله ( أيهم يصعد بها ) في رواية البخاري ( يكتبها ) وفي رواية الطبراني ( يرفعها ) قال الحافظ : وأما أيهم فرويناه بالرفع وهو مبتدأ خبره يكتبها ويحوز النصب بتقدير ينظرون أيهم . وعن سيبويه أي موصولة والتقدير الذي هو يكتبها
( وقد استشكل ) تأخير رفاعة إجابة النبي [ ص 371 ] صلى الله عليه وآله وسلم حتى كرر سؤاله ثلاثا مع أن إجابته واجبة عليه بل وعلى من سمع رفاعة فإنه لم يسأل المتكلم وحده
وأجيب بأنه لما لم يعين واحدا بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم ولا من واحد بعينه وكأنهم انتظروا بعضهم ليجيب وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء ظنا منهم أنه أخطأ فيما فعل ورجوا أن يقع العفو عنه وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى سكوتهم فهم ذلك فعرفهم أنه لم يقل بأسا
( والحديث ) استدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور . وعلى جواز رفع الصوت بالذكر وتعقب بأن سماعه صلى الله عليه وآله وسلم لصوت الرجل لا يستلزم رفعه لصوته وفيه نظر . ويدل أيضا على مشروعية الحمد في الصلاة لمن عطس . ويؤيد ذلك عموم الأحاديث الواردة بمشروعيته فإنها لم تفرق بين الصلاة وغيرها

باب من نابه شيء في صلاته فإنه يسبح والمرأة تصفق

1 - عن سهل بن سعد : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنما التصفيق للنساء )

2 - وعن علي بن أبي طالب قال : ( كانت لي ساعة من السحر أدخل فيها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن كان قائما يصلي سبح لي فكان ذلك إذنه لي وإن لم يكن يصلي أذن لي )
- رواه أحمد

3 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : التسبيح للرجال والتصفيق للنساء في الصلاة )
- رواه الجماعة ولم يذكر فيه البخاري وأبو داود والترمذي في الصلاة

- الحديث الأول لم يخرجه المصنف وقد أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وهو حديث طويل هذا طرف منه . وفي لفظ أبي داود : ( إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفح النساء ) والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي والبيهقي وقال : هو مختلف في إسناده ومتنه فقيل سبح وقيل تنحنح ومداره على عبد الله بن نجي الحضرمي . قال البخاري : فيه نظر وضعفه غيره وقد وثقه النسائي وابن حبان ورواه النسائي وابن ماجه من رواية عبد الله بن نجي عن علي بلفظ : ( تنحنح ) وقد تقدم . والحديث الثالث أخرجه الجماعة كلهم كما ذكر المصنف
( وفي الباب ) عن جابر عند ابن أبي شيبة بلفظ حديث أبي هريرة دون زيادة في الصلاة واختلف في رفعه ووقفه . ورواه ابن أبي شيبة أيضا عن [ ص 372 ] جابر من قوله . وعن أبي سعيد عند ابن عدي في الكامل بلفظ حديث أبي هريرة بدون تلك الزيادة وفي إسناده أبو هارون عمارة بن جوين كذبه حماد بن زيد والجوزجاني . وعن ابن عمر عند ابن ماجه بلفظ : ( رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنساء في التصفيق وللرجال في التسبيح )
قوله ( من نابه شيء في صلاته ) أي نزل به شيء من الحوادث والمهمات وأراد إعلام غيره كإذنه للداخل وإنذاره لأعمى وتنبيه لساه أو غافل
قوله ( فإنما التصفيق للنساء ) هو بالقاف . وفي رواية لأبي داود ( فإنما التصفيح ) قال زين الدين العراقي : والمشهور إن معناهما واحد قال عقبة : والتصفيح التصفيق وكذا قال أبو علي البغدادي والخطابي والجوهري . قال ابن حزم : لا خلاف في أن التصفيح والتصفيق بمعنى واحد وهو الضرب بإحدى صفحتي اليدين على الأخرى . قال العراقي : وما ادعاه من نفى الخلاف ليس بجيد بل فيه قولان آخران إنهما مختلفا المعنى أحدهما أن التصفيح الضرب بظاهر إحداهما على الأخرى والتصفيق الضرب بباطن إحداهما على الأخرى حكاه صاحب الإكمال وصاحب المفهم . والقول الثاني أن التصفيح الضرب بإصبعين للإنذار والتنبيه وبالقاف بالجميع للهو واللعب . وروى أبو داود في سننه عن عيسى بن أيوب أن التصفيح الضرب بإصبعين من اليمين على باطن الكف اليسرى
( وأحاديث الباب ) تدل على جواز التسبيح للرجال والتصفيق للنساء إذا ناب أمر من الأمور وهي ترد على ما ذهب إليه مالك في المشهور عنه من أن المشروع في حق الجميع التسبيح دون التصفيق وعلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من فساد صلاة المرأة إذا صفقت في صلاتها وقد اختلف في حكم التسبيح والتصفيح هل الوجوب أو الندب أو الإباحة فذهب جماعة من الشافعية منهم الخطابي وتقي الدين السبكي والرافعي وحكاه عن أصحاب الشافعي==

 مجلد 4. : نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار محمد بن علي بن محمد الشوكاني

باب الفتح في القراءة على الإمام وغيره

1 - عن مسور بن يزيد المالكي قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فترك آية فقال له رجل : يا رسول الله آية كذا وكذا قال : فهلا ذكرتنيها )
- رواه أبو داود وعبد الله بن أحمد في مسند أبيه

2 - وعن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال لأبي : أصليت معنا قال : نعم قال : فما منعك )
- رواه أبو داود

[ ص 373 ] - الحديث الأول أخرجه أيضا ابن حبان والأثرم وفي إسناده يحيى بن كثير الكاهلي قال أبو حاتم لما سئل عنه : شيخ . والمسور بضم الميم وفتح السين المهملة وتشديد الواو وفتحها كذا قيده الدارقطني وابن ماكولا والمنذري . قال الخطيب : يروى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث واحد والحديث الثاني أخرجه الحاكم وابن حبان ورجال إسناده ثقات
( وفي الباب ) عن أنس عند الحاكم بلفظ : ( كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) قال الحافظ : وقد صح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : ( قال علي : إذا استطعمك الإمام فأطعمه )
قوله ( آية كذا وكذا ) رواية ابن حبان : ( يا رسول الله إنك تركت آية كذا وكذا )
قوله ( فهلا ذكرتنيها ) زاد ابن حبان فقال : ظننت أنها قد نسخت قال : فإنها لم تنسخ
قوله ( فلبس ) ضبطه ابن رسلان بفتح اللام والباء الموحدة المخففة أي التبس واختلط عليه قال : ومنه قوله تعالى { وللبسنا عليهم ما يلبسون } قال : وفي بعض النسخ بضم اللام وتشديد الموحدة المكسورة
قال المنذري : لبس بالتخفيف أي مع ضم اللام وكسر الموحدة
قوله ( فلما انصرف ) ولفظ ابن حبان : ( فالتبس عليه فلما فرغ قال لأبي : أشهدت معنا قال : نعم قال : فما منعك أن تفتحها علي )
( والحديثان ) يدلان على مشروعية الفتح على الإمام وقد ذهبت العترة والفريقان إلى أنه مندوب وذهب المنصور بالله إلى وجوبه . وقال زيد بن علي وأبو حنيفة في رواية عنه : إنه يكره . وقال أحمد بن حنبل : إنه يكره أن يفتح من هو في الصلاة على من هو في صلاة أخرى أو على من ليس في صلاة
( واحتج ) من قال بالكراهة بما أخرجه أبو داود عن ابن إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور عن علي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي لا تفتح على الإمام في الصلاة ) قال أبو داود : أبو إسحاق السبيعي لم يسمع من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها
قال المنذري : والحارث الأعور قال غير واحد من الأئمة : إنه كذاب وقد روى حديث الحارث عن علي مرفوعا عبد الرزاق في مصنفه بلفظ : ( لا تفتحن على الإمام وأنت في الصلاة ) وهذا الحديث لا ينتهض لمعارضة الأحاديث القاضية بمشروعية الفتح وتقييد الفتح بأن يكون على إمام لم يؤد الواجب من القراءة وبآخر ركعة مما لا دليل عليه . وكذا تقييده بأن يكون في القراءة الجهرية والأدلة قد دلت على مشروعية الفتح مطلقا فعند نسيان الإمام الآية في القراءة الجهرية يكون الفتح عليه بتذكيره تلك الآية كما في حديث الباب وعند نسيانه لغيرها من الأركان يكون [ ص 374 ] الفتح بالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء كما تقدم في الباب الأول

باب المصلي يدعو ويذكر الله إذا مر بآية رحمة أو عذاب أو ذكر

- رواه حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سبق

1 - وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة ليست بفريضة فمر بذكر الجنة والنار فقال أعوذ بالله من النار ويل لأهل النار )
- رواه أحمد وابن ماجه بمعناه

- حديث ابن أبي ليلى رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن علي ابن هاشم وحديث حذيفة الذي أشار إليه المصنف قد تقدم في باب قراءة سورتين في ركعة وذكرنا في شرحه أنه يدل على مشروعية السؤال عند المرور بآية فيها سؤال والتعوذ عند المرور بآية فيها تعوذ والتسبيح عند قراءة ما فيه تسبيح . وقد ذهب إلى استحباب ذلك الشافعية . وحديث الباب يدل على استحباب التعوذ من النار عند المرور بذكرها وقد قيده الراوي بصلاة غير فريضة . وكذلك حديث حذيفة مقيد بصلاة الليل . وكذلك حديث عائشة الآتي وحديث عوف بن مالك

2 - وعن عائشة قالت : ( كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة التمام فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء فلا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله عز و جل واستعاذ ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز و جل ورغب إليه )
- رواه أحمد

3 - وعن موسى بن أبي عائشة قال : ( كان رجل يصلي فوق بيته وكان إذا قرأ { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } قال سبحانك فبلى فسألوه عن ذلك فقال : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أبو داود

- الحديث الأول يشهد له حديث حذيفة المتقدم وحديث عوف الآتي والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري
قوله ( ليلة التمام ) أي ليلة تمام البدر
قوله ( عن موسى بن أبي عائشة ) هو الهمداني الكوفي مولى آل جعدة بن هبيرة المخزومي قال في التقريب : ثقة عابد من الخامسة وكان يرسل ومن دونه هم رجال الصحيح
قوله ( كان رجل ) جهالة الصحابي مغتفرة عند الجمهور وهو الحق
قوله ( يصلي فوق بيته ) فيه جواز الصلاة على ظهر البيت [ ص 375 ] والمسجد ونحوهما فرضا أو نفلا عند من جعل فعل الصحابي حجة أخذا بهذا . والأصل الجواز في كل مكان من الأمكنة ما لم يقم دليل على عدمه
قوله ( قال سبحانك ) أي تنزيها لك أن يقدر أحد على إحياء الموتى غيرك وهو منصوب على المصدر . وقال الكسائي : منصوب على أنه منادى مضاف
قوله ( فبلى ) في نسخة من سنن أبي داود فبكى بالكاف . قال ابن رسلان : وأكثر النسخ المعتمدة باللام بدل الكاف وبلى حرف لإيجاب النفي والمعنى أنت قادر على أن تحيي الموتى

4 - وعن عوف بن مالك قال : ( قمت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبدأ فاستاك وتوضأ ثم قام فصلى فبدأ فاستفتح البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل قال : ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ ثم ركع فمكث راكعا بقدر قيامه يقول في ركوعه سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ثم سجد بقدر ركوعه يقول في سجوده سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ثم قرأ آل عمران ثم سورة سورة ثم فعل مثل ذلك )
- رواه النسائي وأبو داود ولم يذكر الوضوء ولا السواك

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي ورجال إسناده ثقات لأن أبا داود أخرجه عن أحمد بن صالح عن ابن وهب عن معاوية بن صالح الحضرمي قاضي الأندلس . وقد أخرج له مسلم والأربعة عن عمرو بن قيس الكندي السكوني سيد أهل حمص عن عاصم بن حميد . قال الدارقطني : ثقة عن عوف بن مالك
قوله ( فاستفتح البقرة ) فيه جواز تسمية السورة بالبقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ونحو ذلك خلافا لمن كره ذلك وقال : إنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة
قوله ( فتعوذ ) قال عياض : وفيه آداب تلاوة القرآن في الصلاة وغيرها . قال النووي : وفيه استحباب هذه الأمور لكل قارئ في الصلاة وغيرها يعني فرضها ونفلها وللإمام والمأموم والمنفرد
قوله ( ذي الجبروت ) هو فعلوت من الجبر وهو القهر يقال جبرت وأجبرت بمعنى قهرت . وفي الحديث ( ثم يكون ملك وجبرؤت ) أي عتو وقهر . وفي كلام التهذيب للأزهري ما يشعر بأنه يقال في الآدمي جبرؤت بالهمز لأن زيادة الهمز تؤذن بزيادة الصفة وتجددها فالهمز للفرق بين صفة الله وصفة الآدمي . قال ابن رسلان : وهو فرق حسن
قوله ( والملكوت ) اسم من الملك . قوله ( والكبرياء ) من الكبر بكسر الكاف وهو العظمة فيكون على هذا عطفها عليه في الحديث عطف تفسير . وقيل وهي عبارة عن كمال [ ص 376 ] الذات والوجود ولا يوصف بها إلا الله
قوله ( ثم سجد بقدر ركوعه ) رواية أبي داود ( ثم سجد بقدر قيامه )
قوله ( ثم سورة سورة ) رواية أبي داود ( ثم قرأ سورة سورة ) قال ابن رسلان : يحتمل أن المراد ثم قرأ سورة النساء ثم سورة المائدة
قوله ( ثم فعل مثل ذلك ) هذه رواية للنسائي ولم يذكرها أبو داود أي فعل في الركوع والسجود مثل ما فعل في الركعتين قبلهما

باب الإشارة في الصلاة لرد السلام أو حاجة تعرض

1 - عن ابن عمر قال : ( قلت لبلال كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة قال يشير بيده )
- رواه الخمسة إلا أن في رواية النسائي وابن ماجه صهيبا مكان بلال

2 - وعن ابن عمر عن صهيب أنه قال : ( مررت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي فسلمت فرد إلي إشارة وقال لا أعلم إلا أنه قال إشارة بإصبعه )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه . وقال الترمذي : كلا الحديثين عندي صحيح . وقد صحت الإشارة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رواية أم سلمة في حديث الركعتين بعد العصر . ومن حديث عائشة وجابر لما صلى بهم جالسا في مرض له فقاموا خلفه فأشار إليهم أن اجلسوا )

- حديث بلال رجاله رجال الصحيح وحديث صهيب في إسناده نابل صاحب العباء وفيه مقال
( وفي الباب ) عن جماعة من الصحابة منهم الذين أشار إليهم المصنف بقوله وقد صحت الإشارة الخ . وحديث أم سلمة عند البخاري ومسلم وأبي داود من رواية كريب أن ابن عباس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن ابن أزهر أرسلوه إلى عائشة ثم إلى أم سلمة فقالت أم سلمة : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن الركعتين بعد العصر ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر ثم دخل علي وعندي نسوة من بني حرام فأرسلت إليه الجارية فقلت قومي بجنبه وقولي له تقول لك أم سلمة يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما فإن أشار بيده فاستأخري عنه ففعلت الجارية فأشار بيده ) الحديث
وحديث عائشة أخرجه أيضا الشيخان وأبو داود وابن ماجه في صلاته صلى الله عليه وآله وسلم شاكيا وفيه : ( فأشار [ ص 377 ] إليهم أن اجلسوا ) الحديث
وحديث جابر أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه في قصة شكوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه ( فأشار إلينا يقعدنا ) الحديث
( وفي الباب ) مما لم يذكره المصنف عن أنس عند أبي داود بإسناد صحيح . وعن بريدة عند الطبراني . وعن ابن عمر غير حديث الباب عند البيهقي . وعن ابن مسعود عند الطبراني والبيهقي بلفظ : ( مررت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلمت عليه فأشار إلي ) وعنه حديث آخر عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي ( سلمنا عليه فلم يرد علينا ) وقد تقدم . وعن معاذ بن جبل عند الطبراني وعن المغيرة عند أبي داود والترمذي . وعن أبي سعيد عند البزار في مسنده وفي إسناده عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو ضعيف . وعن أسماء عند الشيخين ولكنه من فعل عائشة وهو في حكم المرفوع
( والأحاديث ) المذكورة تدل على أنه لا بأس أن يسلم غير المصلي على المصلي لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم من سلم عليه على ذلك وجواز تكليم المصلي بالغرض الذي يعرض لذلك وجواز الرد بالإشارة وقد قدمنا في باب النهي عن الكلام في شرح حديث ابن مسعود ذكر القائلين أنه يستحب الرد بالإشارة والمانعين من ذلك
( وقد استدل ) القائلون بالاستحباب بالأحاديث المذكورة في هذا الباب واستدل المانعون بحديث ابن مسعود السابق لقوله فيه ( فلم يرد علينا ) ولكنه ينبغي أن يحمل الرد المنفي ههنا على الرد بالكلام لا الرد بالإشارة لأن ابن مسعود نفسه قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه رد عليه بالإشارة ولو لم ترد عنه هذه الرواية لكان الواجب هو ذلك جمعا بين الأحاديث
( واستدلوا ) أيضا بما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا غرار في الصلاة ولا تسليم ) والغرار بكسر الغين المعجمة وتخفيف الراء هو في الأصل النقض . قال أحمد بن حنبل : يعني فيما أرى أن لا تسلم ويسلم عليك ويغرر الرجل بصلاته فينصرف وهو فيها شاك
( واستدلوا ) أيضا بما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : التسبيح للرجال والتصفيق للنساء من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد لها ) يعني الصلاة ورواه البزار والدارقطني . ويجاب عن الحديث الأول بأنه لا يدل على المطلوب من عدم جواز رد السلام بالإشارة لأنه ظاهر في التسليم على المصلي لا في الرد منه . ولو سلم شموله للإشارة لكان غايته المنع من التسليم على المصلي باللفظ والإشارة وليس فيه تعرض للرد ولو سلم شموله للرد لكان الواجب [ ص 378 ] حمل ذلك على الرد باللفظ جمعا بين الأحاديث
وأما الحديث الثاني فقال أبو داود : إنه وهم اه وفي إسناده أبو غطفان . قال ابن أبي داود : هو رجل مجهول قال : وآخر الحديث زيادة والصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أنه كان يشير في الصلاة ) قال العراقي : قلت وليس بمجهول فقد روى عنه جماعة ووثقه النسائي وابن حبان وهو أبو غطفان المري قيل اسمه سعيد اه وعلى فرض صحته ينبغي أن تحمل الإشارة المذكورة في الحديث على الإشارة لغير رد السلام والحاجة جمعا بين الأدلة
( فائدة ) ورد في كيفية الإشارة لرد السلام في الصلاة حديث ابن عمر عن صهيب قال لا أعلمه إلا أنه قال أشار بإصبعه . وحديث بلال قال كان يشير بيده ولا اختلاف بينهما فيجوز أن يكون أشار مرة بإصبعه ومرة بجميع يده ويحتمل أن يكون المراد باليد الإصبع حملا للمطلق على المقيد . وفي حديث ابن عمر عند أبي داود ( أنه سأل بلالا كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي فقال يقول هكذا وبسط جعفر بن عون كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق ) ففيه الإشارة بجميع الكف
وفي حديث ابن مسعود عند البيهقي بلفظ : ( فأومأ برأسه ) وفي رواية له : ( فقال برأسه ) يعني الرد . ويجمع بين الروايات بأنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا مرة وهذا مرة فيكون جميع ذلك جائزا

باب كراهة الالتفات في الصلاة إلا من حاجة

1 - عن أنس قال : ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة )
- رواه الترمذي وصححه

2 - وعن عائشة قالت : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن التلفت في الصلاة فقال : اختلاس يختلسه الشيطان من العبد )
- رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود

3 - وعن أبي ذر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه )
- رواه أحمد والنسائي وأبو داود

- الحديث الثالث في إسناده أبو الأحوص الراوي له عن أبي ذر . قال المنذري : لا يعرف [ ص 379 ] له اسم لم يرو عنه غير الزهري وقد صحح له الترمذي وابن حبان وقال ابن عبد البر : هو مولى بني غفار إمام مسجد بني ليث . قال ابن معين : أبو الأحوص الذي حدث عنه الزهري ليس بشيء وليس لقول ابن معين هذا أصل إلا كونه انفرد الزهري بالرواية عنه . وقد قيل له ابن أكيمة لم يرو عنه غير الزهري فقال يكفيك قول الزهري حدثني ابن أكيمة فيلزمه مثل هذا في أبي الأحوص لأنه قال في حديث الباب سمعت أبا الأحوص . وقال أبو أحمد الكرابيسي : ليس بالمتين عندهم
قوله ( هلكة ) سمى الالتفات هلكة باعتبار كونه سببا لنقصان الثواب الحاصل بالصلاة أو لكونه نوعا من تسويل الشيطان واختلاسه فمن استكثر منه كان من المتبعين للشيطان وإتباع الشيطان هلكة أو لأنه إعراض عن التوجه إلى الله والإعراض عنه عز و جل هلكة
وقد أخرج الترمذي من حديث الحارث الأشعري وصححه من حديث طويل : ( إن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله تعالى ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت ) ونحوه حديث أبي ذر المذكور في الباب
قوله ( فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة ) فيه الإذن بالالتفات للحاجة في التطوع والمنع من ذلك في صلاة الفرض
قوله ( اختلاس يختلسه الشيطان ) الاختلاس أخذ الشيء بسرعة يقال اختلس الشيء إذا استلبه
( وفي الحديث ) النهي عن الخلسة بفتح الخاء وهو ما يستخلص من السبع فيموت قبل أن يذكى . وفي النهاية الاختلاس افتعال من الخلسة وهو ما يؤخذ سلبا . وقيل المختلس الذي يخطف الشيء من غير غلبة ويهرب ونسب إلى الشيطان لأنه سبب له لوسوسته به وإطلاق اسم الاختلاس على الالتفات مبالغة
( وأحاديث ) الباب تدل على كراهة الالتفات في الصلاة وهو قول الأكثر والجمهور على أنها كراهة تنزيه ما لم يبلغ إلى حد استدبار القبلة . والحكمة في التنفير عنه ما فيه من نقص الخشوع والإعراض عن الله تعالى وعدم التصميم على مخالفة وسوسة الشيطان

2 - وعن سهل بن الحنظلية قال : ( ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب )
- رواه أبو داود قال : وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم وقال : على شرط الشيخين وحسنه الحازمي . وأخرج الحازمي في الاعتبار عن ابن عباس أنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلتفت في صلاته يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه خلف ظهره ) قال : هذا حديث غريب [ ص 380 ] تفرد به الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند متصلا وأرسله غيره عن عكرمة قال : وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وقال : لا بأس بالالتفات في الصلاة ما لم يلو عنقه وإليه ذهب عطاء ومالك وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وأهل الكوفة ثم ساق الحازمي حديث الباب بإسناده وجزم بعدم المناقضة بين حديث الباب وحديث ابن عباس قال : لاحتمال أن الشعب كان في جهة القبلة فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلتفت إليه ولا يلوي عنقه
( واستدل ) على نسخ الالتفات بحديث رواه بإسناده إلى ابن سيرين قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا قام في الصلاة نظر هكذا وهكذا فلما نزل { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } نظر هكذا ) قال ابن شهاب ببصره نحو الأرض قال : وهذا وإن كان مرسلا فله شواهد . واستدل أيضا بقول أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزل { الذين هم في صلاتهم خاشعون } )

باب كراهة تشبيك الأصابع وفرقعتها والتخصر والاعتماد على اليد إلا لحاجة

1 - عن أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه )
- رواه أحمد

- الحديث أخرجه أحمد في مسنده عن مولى لأبي سعيد الخدري قال : ( بينا أنا مع أبي سعيد الخدري وهو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ دخلنا المسجد فإذا رجل جالس في المسجد وسط محتبيا مشبكا أصابعه بعضها في بعض فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يفطن الرجل لإشارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالتفت إلى أبي سعيد فقال إذا كان أحدكم ) الحديث قال في مجمع الزوائد : إسناده حسن . وقد اختلف في الحكمة في النهي عن التشبيك في المسجد كما في حديث أبي سعيد وفي غيره كما في حديث كعب بن عجرة فقيل لما فيه من العبث . وقيل لما فيه من التشبه بالشيطان . وقيل لدلالة الشيطان على ذلك وجعل بعضهم ذلك دالا على تشبيك الأحوال
قال ابن العربي : وقد شاهدت رجلا كان يكره رؤية ذلك ويقول فيه تطير في تشبيك الأحوال [ ص 381 ] والأمور على المرء . وظاهر النهي عن التشبيك التحريم لولا حديث ذي اليدين الذي سيشير إليه المصنف قريبا . وظاهره نهي من كان في المسجد عن التشبيك سواء كان في الصلاة أم لا كما جزم به النووي في التحقيق وكره النخعي التشبيك في الصلاة وقال النعمان بن أبي عياش : كانوا ينهون عنه وروى العراقي في شرح الترمذي عن ابن عمر وابنه سالم أنهما شبكا بين أصابعهما في الصلاة . وروي عن الحسن البصري أنه شبك أصابعه في المسجد
قال العراقي : وفي معنى التشبيك بين الأصابع تفقيعها فيكره أيضا في الصلاة ولقاصد الصلاة قال النووي : وكره ذلك في الصلاة ابن عباس وعطاء والنخعي ومجاهد وسعيد بن جبير وروى أحمد والطبراني من حديث أنس بن معاذ مرفوعا : ( إن الضاحك في الصلاة والملتفت والمفقع أصابعه بمنزلة واحدة ) وفي إسناده ابن لهيعة . ويدل على كراهة التفقيع حديث علي الآتي

2 - وعن كعب بن عجرة قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامدا إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وفي إسناده عند الترمذي رجل مجهول وهو الراوي له عن كعب بن عجرة وقد كنى أبو داود هذا الرجل المجهول فرواه من طريق سعد بن إسحاق قال حدثني أبو ثمامة الخياط عن كعب . وقد ذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له في صحيحه هذا الحديث
( الحديث ) فيه كراهة التشبيك من وقت الخروج إلى المسجد للصلاة . وفيه أنه يكتب لقاصد الصلاة أجر المصلي من حين يخرج من بيته إلى أن يعود إليه
قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث : وقد ثبت في خبر ذي اليدين أنه عليه الصلاة و السلام شبك أصابعه في المسجد وذلك يفيد عدم التحريم ولا يمنع الكراهة لكونه فعله نادرا انتهى
قد عارض حديث الباب مع ما فيه هذا الحديث الصحيح في تشبيكه صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه في المسجد وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين بلفظ : ( ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان وشبك بين أصابعه ) وفيهما من حديث أبي موسى : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان وشبك بين أصابعه ) وعند البخاري من حديث ابن عمر قال : ( شبك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصابعه ) وهذه الأحاديث أصح من حديث الباب ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث بأن تشبيكه صلى الله [ ص 382 ] عليه وآله وسلم في حديث السهو كان لاشتباه الحال عليه في السهو الذي وقع منه ولذلك وقف كأنه غضبان . وتشبيكه في حديث أبي موسى وقع لقصد التشبيه لتعاضد المؤمنين بعضهم ببعض كما أن البنيان المشبك بعضه ببعض يشد بعضه بعضا . فأما حديث الباب فهو محمول على التشبيك للعبث وهو منهي عنه في الصلاة ومقدماتها ولواحقها من الجلوس في المسجد والمشي إليه . أو يجمع بما ذكره المصنف من كان فعله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك نادرا يرفع التحريم ولا يرفع الكراهة ولكن يبعد أن يفعل صلى الله عليه وآله وسلم ما كان مكروها . والأولى أن يقال إن النهي عن التشبيك ورد بألفاظ خاصة بالأمة وفعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض قوله الخاص بهم كما تقرر في الأصول

3 - وعن كعب بن عجرة ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا قد شبك أصابعه في الصلاة ففرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه )

4 - وعن علي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تفقع أصابعك في الصلاة )
- رواهما ابن ماجه

- الحديث الأول في إسناده علقمة ابن عمر . والحديث الثاني في إسناده الحارث الأعور
قوله ( ففرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصابعه ) فيه كراهية التشبيك في الصلاة من غير تقييد بالمسجد سواء كان المصلي في المسجد أو في البيت أو في السوق لأنه نوع من العبث فلا يختص بكراهية الصلاة في المسجد . ويؤيد ذلك تعليله صلى الله عليه وآله وسلم للنهي عن التشبيك إذا خرج من بيته بأنه في صلاة وإذا نهى من يكتب له أجر المصلي لكونه قاصدا الصلاة فأولى من هو في حال الصلاة الحقيقية
قوله ( لا تفقع ) هو بالفاء بعد حرف المضارعة ثم القاف المشددة المكسورة ثم العين المهملة وهو غمز الأصابع حتى يسمع لها صوت . قال في القاموس والتفقيع التشدق في الكلام والفرقعة . وفسر الفرقعة بنقض الأصابع وقد تقدم في شرح حديث أبي سعيد ما أخرجه أحمد والطبراني من حديث أنس وهو مما يؤيد حديث علي هذا

5 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التخصر في الصلاة )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه

- وفي الباب عن ابن عمر عند أبي داود والنسائي
قوله ( عن التخصر في الصلاة ) [ ص 383 ] وهو وضع اليد على الخاصرة فسره بذلك الترمذي في سننه وأبو داود في سننه أيضا وفسره بذلك أيضا محمد بن سيرين روى ذلك عنه ابن أبي شيبة في مصنفه وكذلك فسره هشام بن حسان رواه عنه البيهقي في سننه قال : وروى سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة معنى هذا التفسير وحكى الخطابي وغيره قولا آخر في تفسير الاختصار فقال : وزعم بعضهم أن معنى الاختصار هو أن يمسك بيده مخصرة أي عصا يتوكأ عليها . قال ابن العربي : ومن قال إنه الصلاة على المخصرة لا معنى له وفيه قول ثالث حكاه الهروي في الغريبين وابن الأثير في النهاية وهو أن يختصر السورة فيقرأ من آخرها آية أو آيتين . وفيه قول رابع حكاه الهروي وهو أن يحذف من الصلاة فلا يمد قيامها وركوعها وسجودها . قال العراقي : والقول الأول هو الصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والحديث والفقه
وقد اختلف في المعنى الذي نهى عن الاختصار في الصلاة لأجله على أقوال :
الأول التشبيه بالشيطان قاله الترمذي في سننه وحميد بن هلال في رواية ابن أبي شيبة عنه . وروي أيضا عن ابن عباس حكاه عنه ابن أبي شيبة
والثاني أنه تشبه باليهود قالته عائشة فيما رواه البخاري عنها في صحيحه
والثالث أنه راحة أهل النار روى ذلك ابن أبي شيبة عن مجاهد ورواه أيضا عن عائشة . وروى البيهقي عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الاختصار في الصلاة راحة أهل النار ) . قال العراقي : وظاهر إسناده الصحة ورواه أيضا الطبراني
والرابع أنه فعل المختالين والمتكبرين قاله المهلب بن أبي صفرة
والخامس أنه شكل من أشكال أهل المصائب يصفون أيديهم على الخواصر إذا قاموا في المأتم قاله الخطابي
( والحديث ) يدل على تحريم الاختصار وقد ذهب إلى ذلك أهل الظاهر . وذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة وإبراهيم النخعي ومجاهد وأبو مجلز ومالك والأوزاعي والشافعي وأهل الكوفة وآخرون إلى أنه مكروه . والظاهر ما قاله أهل الظاهر لعدم قيام قرينة تصرف النهي عن التحريم الذي هو معناه الحقيقي كما هو الحق

6 - وعن ابن عمر قال : ( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده )
- رواه أحمد وأبو داود وفي لفظ لأبي داود : ( نهى أن يصلي الرجل وهو معتمد على يده )

7 - وعن أم قيس بنت محصن : ( أن النبي صلى [ ص 384 ] الله عليه وآله وسلم لما أسن وحمل اللحم اتخذ عمودا في مصلاه يعتمد عليه )
- رواه أبو داود

- الحديث الأول رواه أبو داود عن أربعة من مشايخه أحمد بن حنبل وأحمد بن شبويه ومحمد بن رافع ومحمد بن عبد الملك كلهم عن عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر
واللفظ الأول في حديث الباب لفظ أحمد بن حنبل . واللفظ الثاني لفظ محمد ابن رافع ولفظ ابن شبويه : ( نهى أن يعتمد الرجل على يده ) ولفظ محمد بن عبد الملك : ( نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة ) . وقد سكت أبو داود والمنذري عن الكلام على حديث ابن عمر وحديث أم قيس فهما صالحان للاحتجاج بهما كما صرح بذلك جماعة من الأئمة لكن حديث أم قيس هو من حديث عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصي عن أبيه وأبوه مجهول
والحديث الأول بجميع ألفاظه يدل على كراهة الاعتماد على اليدين عند الجلوس وعند النهوض وفي مطلق الصلاة . وظاهر النهي التحريم وإذا كان الاعتماد على اليد كذلك فعلى غيرها بالأولى . وحديث أم قيس يدل على جواز الاعتماد على العمود والعصا ونحوهما لكن مقيدا بالعذر المذكور وهو الكبر وكثرة اللحم ويلحق بهما الضعف والمرض ونحوهما فيكون النهي محمولا على عدم العذر وقد ذكر جماعة من العلماء أن من احتاج في قيامه إلى أن يتكأ على عصا أو عكاز أو يستند إلى حائط أو يميل على أحد جانبيه جاز له ذلك وجزم جماعة من أصحاب الشافعي باللزوم وعدم جواز القعود مع إمكان القيام مع الاعتماد منهم المتولي والأذرعي وكذا قال باللزوم ابن قدامة الحنبلي وقال القاضي حسين من أصحاب الشافعي : لا يلزم ذلك ويجوز القعود

باب ما جاء في مسح الحصى وتسويته

1 - عن معيقيب : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد : إن كنت فاعلا فواحدة )
- رواه الجماعة

2 - وعن أبي ذر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصى )
- رواه الخمسة . وفي رواية لأحمد : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 385 ] عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصى فقال : واحدة أو دع )

- الحديث الثاني في إسناده أبو الأحوص . قال المنذري : لا يعرف اسمه وقد صحح له الترمذي وابن حبان وغيرهما . وقد تقدم الكلام في أبي الأحوص في باب الالتفات . وهذا الحديث حسنه الترمذي
( وفي الباب ) عن علي عند أحمد وابن أبي شيبة . وعن حذيفة عند ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في المسند بلفظ الرواية الآخرة من حديث أبي ذر . وعن جابر عند ابن أبي شيبة وأحمد أيضا وفي إسناده شرحبيل بن سعد وهو ضعيف . وعن أنس عند البزار وأبي يعلى وفي إسناده يوسف بن خالد السمني وهو ضعيف جدا . وعن السائب بن يزيد عند الطبراني وفي إسناده يزيد بن عبد الملك النوفلي ضعفه الجمهور ووثقه ابن معين في رواية عنه . وعن ابن عمر عند الطبراني وفي إسناده الوزاع بن نافع وهو ضعيف وعن أبي هريرة عند مسلم وابن ماجه
( والأحاديث ) المذكورة في الباب تدل على كراهة المسح على الحصى وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة عمر بن الخطاب وجابر ومن التابعين مسروق وإبراهيم النخعي والحسن البصري وجمهور العلماء بعدهم وحكى النووي في شرح مسلم اتفاق العلماء على كراهته وفي حكاية الاتفاق نظر فإن مالكا لم ير به بأسا وكان يفعله في الصلاة كما حكاه الخطابي في المعالم وابن العربي . قال العراقي في شرح الترمذي : وكان ابن مسعود وابن عمر يفعلانه في الصلاة . وعن ابن مسعود أيضا أنه كان يفعله في الصلاة مرة واحدة . قال : وممن رخص فيه في الصلاة أبو ذر وأبو هريرة وحذيفة ومن التابعين إبراهيم النخعي وأبو صالح . وذهب أهل الظاهر إلى تحريم ما زاد على المرة
قوله ( فواحدة ) قال القرطبي : رويناه بنصب واحدة ورفعه فنصبه بإضمار فعل الأمر تقديره فامسح واحدة ويكون صفة مصدر محذوف أي امسح مسحة واحدة ورفعه على الابتداء تقديره فواحدة تكفيه . وفيه الأذن بمسحة واحدة عند الحاجة
قوله ( فإن الرحمة تواجهه ) هذا التعليل يدل على أن الحكمة في النهي عن المسح أن لا يشغل خاطره بشيء يلهيه عن الرحمة المواجهة له فيفوته حظه منها . وقد روي أن حكمة ذلك أن لا يغطي شيئا من الحصى بمسحه فيفوته السجود عليه رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي صالح قال : إذا سجدت فلا تمسح الحصى فإن كل حصاة تحب أن يسجد عليها وقال النووي : لأنه ينافي التواضع ويشغل المصلي
وقوله ( فلا يمسح الحصى ) التقييد [ ص 386 ] بالحصى خرج مخرج الغالب لكونه كان الغالب على فرش مساجدهم ولا فرق بينه وبين التراب والرمل على قول الجمهور . ويدل على ذلك قوله في حديث معيقيب في الرجل يسوي التراب . والمراد بقوله : ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة ) الدخول فيها فلا يكون منهيا عن مسح الحصى إلا بعد دخوله ويحتمل أن المراد قبل الدخول حتى لا يشتغل عند إرادة الصلاة إلا بالدخول فيها قال العراقي : والأول أظهر ويرجحه حديث معيقيب فإنه سأل عن مسح الحصى في الصلاة دون مسحه عند القيام كما في رواية الترمذي

باب كراهة أن يصلي الرجل معقوص الشعر

1 - عن ابن عباس : ( أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص إلى ورائه فجعل يحله وأقر له الأخر ثم أقبل على ابن عباس فقال : ما لك ورأسي قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنما مثل هذا كمثل الذي يصلي وهو مكتوف )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

2 - وعن أبي رافع قال : ( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي الرجل ورأسه معقوص )
- رواه أحمد وابن ماجه ولأبي داود والترمذي معناه

- الحديث الأول أخرجه من ذكر المصنف . وأخرج الأئمة الستة أيضا عن ابن عباس قال : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعرا ولا ثوبا ) وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجه عنه من طريق أخرى نحوه
والحديث الثاني أخرجه ابن ماجه من رواية مخول سمعت أبا سعد رجلا من أهل المدينة يقول رأيت رافعا مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى الحسن بن علي رضي الله عنه يصلي وقد عقص شعره فأطلقه أو نهى عنه وقال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره ) وأخرجه أبو داود والترمذي وصححه بمعناه كما ذكره المصنف . ولفظه عن أبي رافع : ( أنه مر بالحسن بن علي وهو يصلي وقد عقص ضفرته فحلها فالتفت إليه الحسن مغضبا فقال : أقبل على صلاتك ولا تغضب فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ذلك [ ص 387 ] كفل الشيطان )
( وفي الباب ) عن أم سلمة عند ابن أبي حاتم في العلل بنحو حديث أبي رافع . وعن علي رضي الله عنه عند أبي علي الطوسي . وعن ابن مسعود عند ابن ماجه بإسناد صحيح . وعن أبي موسى عند أبي علي الطوسي في الأحكام . وعن جابر عند ابن عدي في الكامل وفيه علي بن عاصم وهو ضعيف
قوله ( عبد الله بن الحارث ) هو ابن جزء بفتح الجيم وسكون الزاي وبعدها همزة السهمي شهد بدرا
قوله ( ورأسه معقوص ) عقص الشعر ضفره وفتله والعقاص خيط يشد به أطراف الذوائب ذكر معنى ذلك في القاموس
قوله ( وأقر له الآخر ) أي استقر لما فعله ولم يتحرك
قوله ( وهو مكتوف ) كتفته كتفا كضربته ضربا إذا شددت يده إلى خلف كتفيه موثقا بحبل
( والحديثان ) يدلان على كراهة صلاة الرجل وهو معقوص الشعر أو مكفوفه . وقد حكى الترمذي عن أهل العلم أنهم كرهوا ذلك . قال العراقي : وممن كرهه من الصحابة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وحذيفة وابن عمر وأبو هريرة وابن عباس وابن مسعود . ومن التابعين إبراهيم النخعي في آخرين
( والحكمة ) في ذلك أن الشعر يسجد معه إذا سجد وفيه امتهان له في العبادة قاله عبد الله بن مسعود فيما رواه ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد صحيح إليه : ( أنه دخل المسجد فرأى فيه رجلا يصلي عاقصا شعره فلما انصرف قال عبد الله : إذا صليت فلا تعقص شعرك فإن شعرك يسجد معك ولك بكل شعرة أجر فقال الرجل : إني أخاف أن يتترب فقال : تتريبه خير لك ) . وقال ابن عمر لرجل رآه يصلي معقوصا شعره : أرسله ليسجد معك . وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى عثمان بن عفان أنه رأى رجلا يصلي وقد عقد شعره فقال : يا ابن أخي مثل الذي يصلي وقد عقص شعره مثل الذي يصلي وهو مكتوف . وقد تقدم تمثيل من فعل ذلك بالمكتوف مرفوعا من حديث ابن عباس وفيه معنى ما أشار إليه ابن مسعود من سجود الشعر فإن المكتوف لا يسجد بيديه على الأرض وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح : ( اليدان يسجدان كما يسجد الوجه ) وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه كان إذا صلى وقع شعره على الأرض
وظاهر النهي في حديث الباب التحريم فلا يعدل عنه إلا لقرينة . قال العراقي : وهو مختص بالرجال دون النساء لأن شعرهن عورة يجب ستره في الصلاة فإذا نقضته ربما استرسل وتعذر ستره فتبطل صلاتها وأيضا فيه مشقة عليها في نقضه للصلاة وقد رخص لهن صلى الله عليه وآله وسلم في أن لا ينقضن ضفائرهن في الغسل مع الحاجة إلى بل جميع الشعر كما تقدم

باب كراهة تنخم المصلي قبله أو عن يمينه . [ ص 388 ]

1 - عن أبي هريرة وأبي سعيد : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى نخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فحتها وقال : إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى )
- متفق عليه . وفي رواية للبخاري ( فيدفنها )

2 - وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا قام أحدكم في صلاته فلا يبزقن قبل قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ورد بعضه على بعض فقال : أو يفعل هكذا )
- رواه أحمد والبخاري . ولأحمد ومسلم نحوه بمعناه من حديث أبي هريرة

- قوله ( نخامة ) قيل هي ما تخرج من الصدر وقيل النخاعة بالعين من الصدر وبالميم من الرأس كذا في الفتح
قوله ( في جدار المسجد ) في رواية للبخاري ( في القبلة ) وفي أخرى له أيضا ( في جدار القبلة ) وهذا يبين أن المراد بجدار المسجد الجدار الذي من جهة القبلة
قوله ( فتناول حصاة فحتها ) في رواية للبخاري ( فحكه بيده ) وفي رواية ( فحكه ) واختلاف الروايات يدل على جواز الحك باليد أو الحصى أو غيرهما مما يزيل الأثر . وقد بوب البخاري للحك باليد وبوب للحك بالحصى
قوله ( قبل وجهه ) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة وجهه
قوله ( ولا عن يمينه ) ظاهر حديث أبي هريرة كراهة ذلك داخل الصلاة وخارجها لعدم تقييده بحال الصلاة . وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها سواء كان في المسجد أم غيره
قال الحافظ : ويشهد للمنع ما رواه عبد الرزاق وغيره عن ابن مسعود أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة . وعن معاذ بن جبل : ما بصقت عن يميني منذ أسلمت . وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى ابنه عنه مطلقا . وقال مالك : لا بأس به خارج الصلاة ويدل لما قاله التقييد بالصلاة في حديث أنس المذكور في الباب
قوله ( وليبصق عن يساره ) ظاهر هذا جواز البصق عن اليسار في المسجد وغيره داخل الصلاة وخارجها . وظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ) كما أخرجه الشيخان عدم جواز التفل في المسجد إلى جهة اليسار وغيرها . قال الحافظ : وحاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا وهما قوله : البزاق في المسجد خطيئة . وقوله : وليبصق عن يساره أو تحت [ ص 389 ] قدمه . فالنووي يجعل الأول عاما ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد والقاضي عياض بخلافه يجعل الثاني عاما فيخص الأول بمن لم يرد دفنها . وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي والقرطبي وغيرهما . ويشهد له ما رواه أحمد بإسناد حسن من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا : ( فمن تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن يصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه ) وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد أيضا والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعا قال : ( من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة وإن دفنه فحسنة ) فلم يجعل سيئة إلا بقيد عدم الدفن . ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعا قال : ( ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن ) قال القرطبي : فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل به وبتركها غير مدفونة انتهى
ومما يدل على ذلك أي تخصيص عموم قوله البزاق في المسجد خطيئة جواز التنخم في الثوب ولو كان في المسجد بلا خلاف . وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشخير : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله ) قال الحافظ : إسناده صحيح وأصله في مسلم والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم ويؤيد قول النووي تصريحه صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه بأن البزاق في المسجد خطيئة وأن دفنها كفارة لها فإن دلالته على كتب الخطيئة بمجرد البزاق في المسجد ظاهرة غاية الظهور ولكنها تزول بالدفن وتبقى بعدمه . قال الحافظ : وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد والمنع على ما إذا لم يكن له عذر وهو تفصيل حسن انتهى
قوله ( فيدفنها ) قال النووي في الرياض : المراد بدفنها إذا كان المسجد ترابيا أو رمليا فأما إذا كان مبلطا مثلا فدلكها بشيء مثلا فليس ذلك بدفن بل زيادة في التقذر . قال الحافظ : لكن إذا لم يبق لها أثر البتة فلا مانع . وعليه قوله في حديث عبد الله بن الشخير المتقدم ثم دلكه بنعله
قوله ( أو يفعل هكذا ) ظاهر هذا أنه مخير بين ما ذكر وظاهر النهي عن البصق إلى القبلة التحريم . ويؤيده تعليله بأن ربه تعالى بينه وبين القبلة كما في البخاري من حديث أنس . وبأن الله قبل وجهه إذا صلى كما في حديث ابن عمر عند البخاري . قال في الفتح : وهذا التعليل يدل على أن البزاق في القبلة حرام سواء كان في المسجد أو لا ولا سيما من المصلي فلا يجري فيه الخلاف في أن كراهية البزاق في المسجد هل هي للتنزيه أو للتحريم
وفي صحيحي ابن حبان وابن خزيمة من حديث حذيفة مرفوعا : ( من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله [ ص 390 ] بين عينيه ) وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعا : ( يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه ) ولأبي داود وابن حبان من حديث السائب بن جلاد : ( أن رجلا أم قوما فبصق في القبلة فلما فرغ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يصلي بكم ) الحديث وفيه أنه قال : ( إنك آذيت الله ورسوله ) انتهى

باب في أن قتل الحية والعقرب والمشي اليسير للحاجة لا يكره

1 - عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة العقرب والحية )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي

- الحديث نقل ابن عساكر في الأطراف وتبعه المزي وتبعهما المصنف أن الترمذي صححه والذي في النسخ أنه قال : حديث حسن ولم يرتفع به إلى الصحة . وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه
( وفي الباب ) عن ابن عباس عند الحاكم بإسناد ضعيف . وعن أبي رافع عند ابن ماجه وفي إسناده مندل وهو ضعيف وكذلك شيخه محمد بن عبيد الله بن أبي رافع . وعن ابن عمر عن إحدى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند البخاري ومسلم . وعن عائشة عند أبي يعلى الموصلي وفي إسناده معاوية بن يحيى الصدفي ضعفه الجمهور . وعن رجل من بني عدي بن كعب عند أبي داود بإسناد منقطع
قوله ( أمر بقتل الأسودين ) تسمية الحية والعقرب بالأسودين من باب التغليب ولا يسمى بالأسود في الأصل إلا الحية
( والحديث ) يدل على جواز قتل الحية والعقرب في الصلاة من غير كراهة وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء كما قال العراقي . وحكى الترمذي عن جماعة كراهة ذلك منهم إبراهيم النخعي وكذا روي ذلك عن إبراهيم ابن أبي شيبة في المصنف . وروى ابن أبي شيبة أيضا عن قتادة أنه قال : إذا لم تتعرض لك فلا تقتلها . قال العراقي : وأما من قتلها في الصلاة أو هم بقتلها فعلي بن أبي طالب وابن عمر روى ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح أنه رأى ريشة وهو يصلي فحسب أنها عقرب فضربها بنعله . ورواه البيهقي أيضا وقال فضربها برجله وقال حسبت أنها عقرب . ومن التابعين الحسن البصري وأبو العالية وعطاء ومورق العجلي وغيرهم انتهى
( واستدل ) المانعون من ذلك إذا بلغ إلى حد الفعل الكثير كالهادوية والكارهون له كالنخعي بحديث ( إن في الصلاة [ ص 391 ] لشغلا ) المتقدم وبحديث ( اسكنوا في الصلاة ) عند أبي داود ويجاب عن ذلك بأن حديث الباب خاص فلا يعارضه ما ذكروه وهكذا يقال في كل فعل كثير ورد الإذن به كحديث حمله صلى الله عليه وآله وسلم لأمامة . وحديث خلعه للنعل . وحديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر ونزوله للسجود ورجوعه بعد ذلك . وحديث أمره صلى الله عليه وآله وسلم بدرء المار وإن أفضى إلى المقاتلة . وحديث مشيه لفتح الباب الآتي بعد هذا الحديث وكل ما كان كذلك ينبغي أن يكون مخصصا لعموم أدلة المنع
( واعلم ) أن الأمر بقتل الحية والعقرب مطلق غير مقيد بضربة أو ضربتين وقد أخرج البيهقي من حديث أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كفاك للحية ضربة أصبتها أم أخطأتها ) وهذا يوهم التقييد بالضربة . قال البيهقي : وهذا إن صح فإنما أراد والله أعلم وقوع الكفاية بها في الإتيان بالمأمور فقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم بقتلها وأراد والله أعلم إذا امتنعت بنفسها عند الخطأ ولم يرد به المنع من الزيادة على ضربة واحدة ثم استدل البيهقي على ذلك بحديث أبي هريرة عند مسلم : ( من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة أدنى من الأولى ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة أدنى من الثانية ) قال في شرح السنة : وفي معنى الحية والعقرب كل ضرار مباح القتل كالزنابير ونحوها

2 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في البيت والباب عليه مغلق فجئت فمشى حتى فتح لي ثم رجع إلى مقامه ووصفت أن الباب في القبلة )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه

- الحديث حسنه الترمذي وزاد النسائي : ( يصلي تطوعا ) وكذا ترجم عليه الترمذي
قوله ( والباب عليه مغلق ) فيه أن المستحب لمن صلى في مكان بابه إلى القبلة أن يغلق الباب عليه ليكون سترة للمار بين يديه وليكون أستر وفيه إخفاء الصلاة عن الآدميين
قوله ( فجئت فمشى ) لفظ أبي داود : ( فجئت فاستفتحت فمشى ) قال ابن رسلان : هذا المشي محمول على أنه مشى خطوة أو خطوتين أو مشى أكثر من ذلك متفرقا وهو من التقييد بالمذهب ولا يخفى فساده
( والحديث ) يدل على إباحة المشي في صلاة التطوع للحاجة

باب في أن عمل القلب لا يبطل وإن طال . [ ص 392 ]

1 - عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع الأذان فإذا قضى الأذان أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل إن يدري كم صلى فإذا لم يدر أحدكم ثلاثا صلى أو أربعا فليسجد سجدتين وهو جالس )
- متفق عليه . وقال البخاري : قال عمر : ( إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة )

- قوله ( وله ضراط ) جملة اسمية وقعت حالا . وفي رواية بدون واو لحصول الارتباط بالضمير . قال عياض : يمكن حمله على ظاهره لأنه جسم يصح منه خروج الريح ويحتمل أنها عبارة عن شدة نفاره ويقربه رواية مسلم بلفظ : ( له حصاص ) بمهملات مضموم الأول وقد فسره الأصمعي وغيره بشدة العدو . قال في الفتح : والمراد بالشيطان إبليس وعليه يدل كلام كثير من الشراح ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة
قوله ( حتى لا يسمع التأذين ) ظاهره أن يتعمد إخراج ذلك إما ليشغله سماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن أو يصنع ذلك استخفافا كما يفعله السفهاء ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف حتى يحدث له ذلك
قوله ( فإذا قضى ) بضم أوله والمراد به الفراغ والانتهاء ويروى بفتح أوله على حذف الفاعل والمراد المنادى
قوله ( أقبل ) زاد مسلم عن أبي هريرة فوسوس
قوله ( فإذا ثوب ) بضم المثلثة وتشديد الواو المكسورة قيل هو من ثاب إذا رجع وقيل هو من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفراغ لإعلام غيره
قال الجمهور : المراد بالتثويب هنا الإقامة وبذلك جزم أبو عوانة في صحيحه والخطابي والبيهقي وغيرهم . وقال القرطبي : ثوب بالصلاة إذا أقيمت وأصله رجع إلى ما يشبه الأذان وكل من يردد صوتا فهو مثوب وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن من الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة
قال الخطابي : لا تعرف العامة التثويب في الأذان إلا من قول المؤذن في الأذان الصلاة خير من النوم لكن المراد به في هذا الحديث الإقامة
قوله ( حتى يخطر ) [ ص 393 ] بضم الطاء . قال الحافظ : كذا سمعناه من أكثر الرواة وضبطناه عن المتقنين بالكسر وهو وجه ومعناه يوسوس . وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه . وأما بالضم فمن المرور أن يدنو منه فيشغله وضعف الهجري في نوادره الضم مطلقا
قوله ( بين المرء ونفسه ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق . قال الباجي : بمعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها
قوله ( لما لم يكن يذكر ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة وهو أعم من أن يكون من أمور الدنيا أو الآخرة . وهل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها لا يبعد ذلك لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان كذا قال الحافظ
قوله ( حتى يضل الرجل ) بضاد مكسورة كذا وقع عند الأصيلي ومعناه يجهل قال الحافظ في الفتح : وعند الجمهور بالظاء المشالة بمعنى يصير أو يبقى أو يتحير
قوله ( إن يدري كم صلى ) بكسر الهمزة وهي التي للنفي بمعنى لا . وحكى ابن عبد البر عن الأكثر فتح الهمزة ووجهه بما تعقبه عليه جماعة . قال القرطبي : ليست رواية الفتح بشيء إلا مع الضاد فيكون إن مع الفعل بتأويل المصدر مفعولا لضل بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته . وفي رواية للبخاري ( لا يدري كم صلى )
( والحديث ) يدل على أن الوسوسة في الصلاة غير مبطلة لها وكذلك سائر الأعمال القلبية لعدم الفارق . وللحديث فوائد ليس المقام محلا لبسطها
قوله ( إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة ) أي أدبر تجهيزه وأفكر فيه

باب القنوت في المكتوبة عند النوازل وتركه في غيرها

1 - عن أبي مالك الأشجعي قال : ( قلت لأبي يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة قريبا من خمس سنين أكانوا يقنتون قال أي بني محدث )
- رواه أحمد والترمذي وصححه ابن ماجه . وفي رواية : ( أكانوا يقنتون في الفجر ) والنسائي ولفظه : ( قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يقنت وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت وصليت خلف [ ص 394 ] عمر فلم يقنت وصليت خلف عثمان فلم يقنت وصليت خلف علي عليه السلام فلم يقنت ثم قال يا بني بدعة )

- الحديث قال الحافظ في التلخيص : إسناده حسن . وفي الباب عن ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي أنه قال القنوت في صلاة الصبح بدعة . قال البيهقي : لا يصح . وعن ابن عمر عند الطبراني قال في قيامهم عند فراغ القارئ من السورة يعني قيام القنوت إنها لبدعة ما فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي إسناده بشر بن حرب الرازي وهو ضعيف . وعن ابن مسعود عند الطبراني في الأوسط والبيهقي والحاكم في كتاب القنوت بلفظ : ( ما قنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شيء من صلاته ) زاد الطبراني : ( إلا في الوتر وأنه كان إذا حارب يقنت في الصلوات كلهن يدعو على المشركين ولا قنت أبو بكر ولا عمر حتى ماتوا ولا قنت علي حتى حارب أهل الشام وكان يقنت في الصلوات كلهن ) وكان معاوية يدعو عليه أيضا قال البيهقي : كذا رواه محمد بن جابر السحيمي وهو متروك . وعن أم سلمة عند ابن ماجه قالت : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن القنوت في الفجر ) ورواه الدارقطني وفي إسناده ضعف
( والحديث ) يدل على عدم مشروعية القنوت وقد ذهب إلى ذلك أكثر أهل العلم كما حكاه الترمذي في كتابه وحكاه العراقي عن أبي بكر وعمر وعلي وابن عباس وقال : قد صح عنهم القنوت وإذا تعارض الإثبات والنفي قدم المثبت وحكاه عن أربعة من التابعين . وعن أبي حنيفة وابن المبارك وأحمد وإسحاق وحكاه المهدي في البحر عن العبادلة وأبي الدرداء وابن مسعود . وقد اختلف النافون لمشروعيته هل يشرع عند النوازل أم لا وذهب جماعة إلى أنه مشروع في صلاة الفجر وقد حكاه الحازمي عن أكثر الناس من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من علماء الأمصار ثم عد من الصحابة الخلفاء الأربعة إلى تمام تسعة عشر من الصحابة ومن المخضرمين أبو رجاء العطاردي وسويد بن غفلة وأبو عثمان النهدي وأبو رافع الصائغ ومن التابعين اثنا عشر ومن الأئمة والفقهاء أبو إسحاق الفزاري وأبو بكر بن محمد والحكم بن عتيبة وحماد ومالك بن أنس وأهل الحجاز والأوزاعي . وأكثر أهل الشام والشافعي وأصحابه وعن الثوري روايتان . ثم قال : وغير هؤلاء خلق كثير . وزاد العراقي عبد الرحمن بن مهدي وسعيد بن عبد العزيز التنوخي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وداود ومحمد بن جرير وحكاه عن جماعة من أهل الحديث منهم [ ص 395 ] أبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي وأبو عبد الله الحاكم والدارقطني والبيهقي والخطابي وأبو مسعود الدمشقي . وحكاه الخطابي في المعالم عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وحكى الترمذي عنهما خلاف ذلك . قال النووي في شرح المهذب : القنوت في الصبح مذهبنا وبه قال أكثر السلف ومن بعدهم أو كثير منهم وحكاه المهدي في البحر عن الهادي والقاسم وزيد بن علي والناصر والمؤيد بالله من أهل البيت . وقال الثوري وابن حزم : كل من الفعل والترك حسن
واعلم أنه قد وقع الاتفاق على ترك القنوت في أربع صلوات من غير سبب وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ولم يبق الخلاف إلا في صلاة الصبح من المكتوبات وفي صلاة الوتر من غيرها . أما القنوت في الوتر فسيأتي الكلام عليه في أبواب الوتر
( وأما القنوت ) في صلاة الصبح فاحتج المثبتون له بحجج منها حديث البراء وأنس الآتيان ويجاب بأنه لا نزاع في وقوع القنوت منه صلى الله عليه وآله وسلم إنما النزاع في استمرار مشروعيته فإن قالوا لفظ كان يفعل يدل على استمرار المشروعية قلنا قد قدمنا عن النووي ما حكاه عن جمهور المحققين أنها لا تدل على ذلك سلمنا فغايته مجرد الاستمرار وهو لا ينافي الترك آخرا كما صرحت بذلك الأدلة الآتية على أن هذين الحديثين فيهما أنه كان يفعل ذلك في الفجر والمغرب فما هو جوابكم عن المغرب فهو جوابنا عن الفجر . وأيضا في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه كان يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح فما هو جوابكم عن مدلول لفظ كان ههنا فهو جوابنا . قالوا أخرج الدارقطني وعبد الرزاق وأبو نعيم وأحمد والبيهقي والحاكم وصححه عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قنت شهرا يدعو على قاتلي أصحابه ببئر معونة ثم ترك فأما الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ) وأول الحديث في الصحيحين ولو صح هذا لكان قاطعا للنزاع ولكنه من طريق أبي جعفر الرازي قال فيه عبد الله بن أحمد : ليس بالقوي . وقال علي بن المديني : إنه يخلط . وقال أبو زرعة : يهم كثيرا . وقال عمرو بن علي الفلاس : صدوق سيئ الحفظ . وقال ابن معين : ثقة ولكنه يخطئ وقال الدوري : ثقة ولكنه يغلط وحكى الساجي أنه قال : صدوق ليس بالمتقن وقد وثقه غير واحد . ولحديثه هذا شاهد ولكن في إسناده عمرو بن عبيد وليس بحجة
قال الحافظ : ويعكر على هذا ما رواه الخطيب من طريق قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قلنا لأنس : ( إن قوما يزعمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل [ ص 396 ] يقنت في الفجر فقال : كذبوا إنما قنت شهرا واحدا يدعو على حي من أحياء المشركين ) وقيس وإن كان ضعيفا لكنه لم يتهم بكذب . وروى ابن خزيمة في صحيحه من طريق سعيد عن قتادة عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم ) فاختلفت الأحاديث عن أنس واضطربت فلا يقوم لمثل هذا حجة انتهى
( إذا تقرر لك هذا ) علمت أن الحق ما ذهب إليه من قال إن القنوت مختص بالنوازل وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به صلاة دون صلاة . وقد ورد ما يدل على هذا الاختصاص من حديث أنس عند ابن خزيمة في صحيحه وقد تقدم
ومن حديث أبي هريرة عن ابن حبان بلفظ : ( كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد ) وأصله في البخاري كما سيأتي وستعرف الأدلة الدالة على ترك مطلق القنوت ومقيده وقد حاول جماعة من حذاق الشافعية الجمع بين الأحاديث بما لا طائل تحته وأطالوا الاستدلال على مشروعية القنوت في صلاة الفجر في غير طائل . ( وحاصله ) ما عرفناك وقد طول المبحث الحافظ ابن القيم في الهدى وقال ما معناه : الإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أنه صلى الله عليه وآله وسلم قنت وترك وكان تركه للقنوت أكثر من فعله فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين ثم تركه لما قدم من دعا لهم وخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم وجاؤوا تائبين وكان قنوته لعارض فلما زال ترك القنوت وقال في غضون ذلك المبحث : إن أحاديث أنس كلها صحاح يصدق بعضها بعضا ولا تتناقض وحمل قول أنس ما زال يقنت حتى فارق الدنيا على إطالة القيام بعد الركوع وقد أسلفنا الأدلة على مشروعية ذلك في باب الجلسة بين السجدتين وأجاب عن تخصيصه بالفجر بأنه وقع بحسب سؤال السائل فإنه إنما سأل أنسا عن قنوت الفجر فأجابه عما سأله عنه وبأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات قال : ومعلوم أنه كان يدعو ربه ويثني عليه ويمجده في هذا الاعتدال وهذا قنوت منه بلا ريب فنحن لا نشك ولا نرتاب أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا ولما صار القنوت في لسان الفقهاء وأكثر الناس هو هذا الدعاء المعروف اللهم اهدني فيمن هديت الخ وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم ونشأ من لا يعرف غير ذلك فلم يشك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا مداومين على هذا كل غداة وهذا هو الذي [ ص 397 ] نازعهم فيه جمهور العلماء وقالوا لم يكن من فعله الراتب بل ولا يثبت عنه أنه فعله وغاية ما روي عنه في هذا القنوت أنه علمه الحسن بن علي إلى آخر كلامه وهو على فرض صلاحية حديث أنس للاحتجاج وعدم اختلافه واضطرابه محمل حسن . واعلم أنه قد وقع الاتفاق على عدم وجوب القنوت مطلقا كما صرح بذلك صاحب البحر وغيره

2 - وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قنت شهرا ثم تركه )
- رواه أحمد . وفي لفظ : ( قنت شهرا يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه ) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه . وفي لفظ : ( قنت شهرا حين قتل القراء فما رأيته حزن حزنا قط أشد منه ) رواه البخاري

- قوله ( على أحياء من أحياء العرب ) هم بنو سليم قتلة القراء كما سيأتي في حديث ابن عباس
قوله ( حين قتل القراء ) هم أهل بئر معونة وقصتهم مشهورة
( والحديث ) يدل على عدم مشروعية القنوت في جميع الصلوات . وقد جمع بينه وبين حديث أنس الدال على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما زال يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا بأن المراد ترك الدعاء على الكفار لا أصل القنوت . وروى البيهقي مثل هذا الجمع عن عبد الرحمن بن مهدي بسند صحيح والقنوت له معان تقدم ذكرها في باب نسخ الكلام والمراد في هذا الباب الدعاء
( فائدة ) في البخاري من طريق عاصم الأحول عن أنس أن القنوت قبل الركوع . قال البيهقي : رواة القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ وعليه درج الخلفاء الراشدون . وروى الحاكم أبو أحمد في الكنى عن الحسن البصري قال : صليت خلف ثمانية وعشرين بدريا كلهم يقنت في الصبح بعد الركوع . قال الحافظ : وإسناده ضعيف . قال الأثرم : قلت لأحمد يقول أحد في حديث أنس إنه قنت قبل الركوع غير عاصم الأحول قال لا يقوله غيره خالفوه كلهم هشام عن قتادة والتيمي عن أبي مجلز وأيوب عن ابن سيرين وغير واحد عن حنظلة كلهم عن أنس . وكذا روى أبو هريرة وخفاف بن إيماء وغير واحد . وروى ابن ماجه من طريق سهل بن يوسف عن حميد عن أنس أنه سئل عن القنوت في صلاة الصبح قبل الركوع أم بعده فقال كلاهما قد كنا نفعل قبل وبعد . وصححه أبو موسى المديني كذا قال الحافظ

3 - وعن أنس قال : ( كان القنوت من المغرب والفجر )
- رواه البخاري

4 - وعن البراء بن عازب : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقنت في صلاة المغرب والفجر )
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه

[ ص 398 ] - قوله ( كان القنوت ) أي في أول الأمر . قوله ( في المغرب والفجر ) تمسك بهذا الطحاوي في ترك القنوت في الفجر قال : لأنهم أجمعوا على نسخه في المغرب فيكون في الصبح كذلك وقد عارضه بعضهم فقال : أجمعوا على أنه صلى الله عليه وآله وسلم قنت في الصبح ثم اختلفوا هل ترك أملا فيتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه وقد قدمنا ما هو الحق في ذلك

5 - وعن ابن عمر : ( أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخرة من الفجر يقول اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فأنزل الله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } إلى قوله : { فإنهم ظالمون } )
- رواه أحمد والبخاري

- الحديث أخرجه أيضا النسائي . قوله ( إذا رفع رأسه من الركوع ) هكذا وردت أكثر الروايات كما تقدم قريبا
قوله ( فلانا وفلانا وفلانا ) زاد النسائي يدعو على ناس من المنافقين وبهذه الزيادة يعلم أن هؤلاء الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير قتلة القراء . وفي رواية للبخاري من حديث أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت ) وفي رواية للترمذي : ( قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد يقول اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت ) وفي أخرى للترمذي : ( قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو على أربعة نفر فأنزل الله تعالى الآية )
( والحديث ) يدل على نسخ القنوت بلعن المستحقين وأن الذي يشرع فعله عند نزول النوازل إنما هو الدعاء لجيش المحقين بالنصرة وعلى جيش المبطلين بالخذلان والدعاء برفع المصائب ولكنه يشكل على ذلك ما سيأتي في حديث أبي هريرة من نزول الآية عقب دعائه للمستضعفين وعلى كفار مضر مع أن ذلك مما يجوز فعله في القنوت عند النوازل

6 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف قال : يجهر [ ص 399 ] بذلك ويقول في بعض صلاته في صلاة الفجر اللهم العن فلانا وفلانا حيين من أحياء العرب حتى أنزل الله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } الآية )
- رواه أحمد والبخاري

7 - وعن أبي هريرة قال : ( بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي العشاء إذ قال سمع الله لمن حمده ثم قال قبل أن يسجد اللهم نج الوليد بن الوليد اللهم نج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف )
- رواه البخاري

8 - [ ص 400 ] وعنه أيضا قال : ( لأقربن بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح بعد ما يقول سمع الله لمن حمده فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار )
- متفق عليه . وفي رواية لأحمد : ( وصلاة العصر ) مكان صلاة العشاء الآخرة

- قوله ( اللهم أنج الوليد ) فيه جواز الدعاء في القنوت لضعفة المسلمين بتخليصهم من الأسر ويقاس عليه جواز الدعاء لهم بالنجاة من كل ورطة يقعون فيها من غير فرق بين المستضعفين وغيرهم
قوله ( اشدد وطأتك ) الوطأة الضغطة أو الأخذة الشديدة كما في القاموس
قوله ( كسني يوسف ) هي السنين المذكورة في القرآن . وفيه جواز الدعاء على الكفار بالجدب والبلاء
قوله ( قال يجهر بذلك ) فيه مشروعية الجهر بالقنوت
قوله ( في صلاة الفجر ) بيان لقوله في بعض صلاته
قوله ( لأقربن ) في رواية الإسماعيلي : ( إني لأقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
قوله ( وكان أبو هريرة ) الخ . قيل المرفوع من هذا الحديث وجود القنوت لا وقوعه في الصلاة المذكورة فإنه موقوف على أبي هريرة ويوضحه ما ذكره البخاري في سورة النساء من تخصيص المرفوع بصلاة العشاء ولأبي داود : ( قنت رسول الله صلى الله عليه و سلم في صلاة العتمة شهرا ) ونحوه لمسلم ولكن هذا لا ينفي كونه صلى الله عليه و سلم قنت في غير العشاء . وظاهر سياق الحديث أن جميعه مرفوع
قوله ( في الركعة الآخرة ) قد تقدم بيان الاختلاف في كونه قبل الركوع أو بعده
قوله ( فيدعو للمؤمنين ) هم من كان مأسورا بمكة والكفار كفار قريش كما بينه البخاري في تفسير سورة آل عمران . وهذه الأحاديث تدل على مشروعية القنوت عند نزول النوازل وقد تقدم الكلام عليه وقد اقتصرنا في شرحها على هذا المقدار وإن كانت تحتمل البسط لعدم عود التطويل على ما نحن فيه بفائدة

9 - وعن ابن عباس قال : ( قنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمد من الركعة الآخرة يدعو عليهم على حي من بني سليم على رعل وذكوان وعصية ويؤمن من خلفه )
- رواه أبو داود وأحمد وزاد : ( أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام فقتلوهم ) قال عكرمة : كان هذا مفتاح القنوت

- الحديث أخرجه أبو داود من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس وأخرجه أيضا الحاكم وليس في إسناده مطعن إلا هلال بن خباب فإن فيه مقالا وقد وثقه أحمد وابن معين وغيرهما
قوله ( في دبر كل صلاة ) فيه أن القنوت للنوازل لا يختص ببعض الصلوات فهو يرد على من خصصه بصلاة الفجر عندها
قوله ( إذا قال سمع الله لمن حمده ) فيه التصريح بأن القنوت بعد الركوع وهو الثابت في أكثر الروايات كما تقدم
قوله ( من بني سليم ) بضم السين المهملة وفتح اللام قبيلة معروفة
قوله ( على رعل ) براء مكسورة وعين مهملة ساكنة قبيلة من سليم كما في القاموس وهو وما بعده بدل من قوله من بني سليم وقوله من بني سليم بدل أيضا من الضمير في قوله عليهم وفي قوله ( وعصية ) تصغير عصا سميت به قبيلة من سليم أيضا
قوله ( وذكوان ) هم قبيلة أيضا من سليم

[ تابع كتاب الصلاة ] [ ص 2 ]

أبواب السترة أمام المصلي وحكم المرور دونها

باب استحباب الصلاة إلى السترة والدنو منها والانحراف قليلا عنها والرخصة في تركها

بسم الله الرحمن الرحيم

1 - عن أبي سعيد قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها )
- رواه أبو داود وابن ماجه

- الحديث في إسناده محمد بن عجلان وبقية رجاله رجال الصحيح وقد أخرج أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة بمعناه وأخرجه أيضا النسائي قال أبو داود في سننه : وقد اختلف في إسناده وقد بين ذلك الاختلاف
قوله : ( فليصل إلى سترة ) فيه أن اتخاذ السترة واجب ويؤيده حديث أبي هريرة الآتي وحديث سبرة بن معبد الجهني عند الحاكم وقال على شرط مسلم بلفظ : ( ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم )
قوله : ( وليدن منها ) فيه مشروعية الدنو من السترة حتى يكون مقدار ما بينهما ثلاثة أذرع كما سيأتي . والحكمة في الأمر من الدنو أن لا يقطع الشيطان عليه صلاته كما أخرجه أبو داود في هذا الحديث متصلا بقوله ( وليدن منها ) . والمراد بالشيطان المار بين يدي المصلي كما في حديث ( فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان ) . قال في شرح المصابيح : معناه يدنو من السترة حتى لا يوسوس الشيطان عليه صلاته وسيأتي سبب تسمية المار شيطانا والخلاف فيه [ ص 3 ]

2 - وعن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلى فقال : كمؤخرة الرحل )
- رواه مسلم

- قوله : ( كمؤخرة الرحل ) قال النووي : المؤخرة بضم الميم وكسر الخاء وهمزة ساكنة ويقال بفتح الخاء مع فتح الهمزة وتشديد الخاء مع إسكان الهمزة وتخفيف الخاء ويقال آخرة الرحل بهمزة ممدودة وكسر الخاء فهذه أربع لغات وهي العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب من كور البعير وهي قدر عظم الذراع وهو نحو ثلثي ذراع
( والحديث ) يدل على مشروعية السترة قال النووي : ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه . قال العلماء : والحكمة في السترة كف البصر عما وراءها ومنع من يجتاز بقربه

3 - وعن ابن عمر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج يوم العيد يأمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر )
- متفق عليه

- قوله : ( يأمر بالحربة ) أي يأمر خادمه بحمل الحربة . وفي لفظ لابن ماجه وذلك أن المصلى كان فضاء ليس فيه شيء يستره
قوله : ( والناس ) بالرفع عطفا على فاعل فيصلي
قوله : ( وكان يفعل ذلك ) أي نصب الحربة بين يديه حيث لا يكون جدار
( والحديث ) يدل على مشروعية اتخاذ السترة في الفضاء وملازمة ذلك في السفر وعلى أن السترة تحصل بكل شيء ينصب تجاه المصلي وإن دق )

4 - وعن سهل بن سعد قال : ( كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الجدار ممر شاة )
- متفق عليه . وفي حديث بلال : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الكعبة فصلى وبينه وبين الجدار نحو من ثلاثة أذرع ) رواه أحمد والنسائي ومعناه للبخاري من حديث ابن عمر

- حديث بلال رجاله رجال الصحيح
قوله : ( وبين الجدار ) أي جدار المسجد مما يلي القبلة وقد صرح بذلك البخاري في الاعتصام
قوله : ( ممر شاة ) بالرفع وكان تامة أو ناقصة والخبر محذوف أو الظرف الخبر وأعربه الكرماني بالنصب على أن الممر خبر كان واسمها نحو قدر المسافة قال : والسياق يدل عليه
وروى الإسماعيلي من طريق أبي عاصم عن يزيد ابن أبي عبيد عن سلمة : ( كان المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنز ) وأصله في البخاري . قال ابن بطال : هذا أقل [ ص 4 ] ما يكون بين المصلي وسترته يعني قدر ممر الشاة . وقيل أقل ذلك ثلاثة أذرع لحديث ابن عمر عن بلال الذي أشار إليه المصنف . ولفظه في البخاري عن نافع أن عبد الله ( كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل وجعل الباب قبل ظهره فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع صلى يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى فيه ) وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة وأكثره ثلاثة أذرع
وجمع بعضهم بأن ممر الشاة في حال القيام والثلاثة الأذرع في حال الركوع والسجود كذا قال ابن رسلان . والظاهر أن الأمر بالعكس قال ابن الصلاح : قدروا ممر الشاة بثلاثة أذرع . قال الحافظ : ولا يخفى ما فيه . قال ابن رسلان : وثلث ذراع أقرب إلى المعنى من ثلاثة أذرع . قال البغوي : استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود وكذلك بين الصفوف اه

5 - وعن طلحة بن عبيد الله قال : ( كنا نصلي والدواب تمر بين أيدينا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : مثل مؤخرة الرحل يكون بين يدي أحدكم ثم لا يضره ما مر بين يديه )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه

- قوله : ( مثل مؤخرة الرحل ) قد تقدم ضبطه وتفسيره
قوله : ( بين يدي أحدكم ) هذا مطلق والأحاديث التي فيها التقدير بممر الشاة وبثلاثة أذرع مقيدة لذلك
قوله : ( ثم لا يضر ما مر بين يديه ) لأنه قد فعل المشروع من الإعلام بأنه يصلي والمراد بقوله لا يضره الضرر الراجع إلى نقصان صلاة المصلي . وفيه إشعار بأنه لا ينقص من صلاة من اتخذ سترة لمرور من مر بين يديه شيء وحصول النقصان إن لم يتخذ ذلك سيأتي الكلام فيه وقد قيد بما إذا كان منفردا أو إماما وأما إذا كان مؤتما فسترة الإمام سترة له
وقد بوب البخاري وأبو داود لذلك وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس مرفوعا : ( سترة الإمام سترة لمن خلفه ) وفي إسناده سويد بن عاصم وقد تفرد به وهو ضعيف . وأخرج نحوه عبد الرزاق عن ابن عمر موقوفا عليه . وروى عبد الرزاق التفرقة بين من يصلي إلى سترة أو إلى غير سترة عن عمر لأن الذي يصلي إلى غير سترة مقصر بتركها لا سيما إن صلى إلى شارع المشاة

6 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره ما مر بين يديه )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه [ ص 5 ]

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه والبيهقي وصححه أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبد البر في الاستذكار وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي وغيرهم . قال الحافظ : وأورده ابن الصلاح مثالا للمضطرب ونوزع في ذلك . قال في بلوغ المرام : ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل حسن
قوله : ( فليجعل تلقاء وجهه شيئا ) فيه أن السترة لا تختص بنوع بل بكل شيء ينصبه المصلي تلقاء وجهه يحصل به الامتثال كما تقدم
قوله : ( فلينصب ) بكسر الصاد أي يرفع أو يقيم
قوله : ( عصا ) ظاهره عدم الفرق بين الرقيقة والغليظة ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه و سلم : ( استتروا في صلاتكم ولو بسهم ) الحديث المتقدم . وقوله صلى الله عليه و سلم : ( يجزئ من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو بدقة شعرة ) أخرجه الحاكم وقال على شرطهما
قوله : ( فإن لم يكن معه عصا ) هكذا لفظ أبي داود وابن حبان . ولفظ ابن ماجه : ( فإن لم يجد )
قوله : ( فليخط ) هذا لفظ ابن ماجه . ولفظ أبي داود : ( فليخطط ) وصفة الخط ما ذكره أبو داود في سننه قال : سمعت أحمد بن حنبل سئل عن وصف الخط غير مرة فقال هكذا عرضا مثل الهلال وسمعت مسددا قال بل الخط بالطول اه فاختار أحمد أن يكون مقوسا كالمحراب ويصلي إليه كما يصلي في المحراب واختار مسدد أن يكون مستقيما من بين يديه إلى القبلة قال النووي في كيفيته : المختار ما قاله الشيخ أبو إسحاق إنه إلى القبلة لقوله في الحديث : ( تلقاء وجهه ) واختار في التهذيب أن يكون من المشرق إلى المغرب ولم ير مالك ولا عامة الفقهاء الخط كذا قال القاضي عياض واعتذروا عن الحديث بأنه ضعيف مضطرب وقالوا الغرض الإعلام وهو لا يحصل بالخط . واختلف قول الشافعي فروي عنه استحبابه وروي عنه عدم ذلك . وقال جمهور أصحابه باستحبابه
قوله : ( ولا يضر ما مر بين يديه ) لفظ أبي داود : ( ثم لا يضره ما مر أمامه ) ولفظ ابن حبان : ( من مر أمامه ) وقد تقدم الكلام على هذا

7 - وعن المقداد بن الأسود أنه قال : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيسر أو الأيمن ولا يصمد له صمدا )

8 - وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء )
- رواهما أحمد وأبو داود

- الحديث الأول في إسناده أبو عبيدة الوليد بن كامل البجلي الشامي قال المنذري : وفيه مقال . وقال في التقريب : لين الحديث
( والحديث الثاني ) أخرجه أيضا النسائي قال المنذري : وذكر بعضهم أن في إسناده مقالا
قوله : ( إلى عود ) هو واحد العيدان [ ص 6 ]
قوله : ( ولا عمود ) هو واحد العمد
قوله : ( الأيسر أو الأيمن ) قال ابن رسلان : ولعل الأيمن أولى ولهذا بدأ به في الحديث يعني في رواية أبي داود وعكس ذلك المصنف ولعلها رواية أحمد ويكفي في دعوى الأولوية حديث ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله )
( وفي الحديث ) استحباب أن تكون السترة على جهة اليمين أو اليسار
قوله : ( ولا يصمد ) بفتح أوله وضم ثالثه والصمد في اللغة القصد يقال اصمد صمد فلان أي أقصد قصده أي لا يجعله قصده الذي يصلي إليه تلقاء وجهه
قوله : ( صلى في فضاء ليس بين يديه شيء ) فيه دليل على أن اتخاذ السترة غير واجب فيكون قرينة لصرف الأوامر إلى الندب ولكنه قد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بنا وتلك الأوامر السابقة خاصة بالأمة فلا يصلح هذا الفعل أن يكون قرينة لصرفها
( فائدة ) اعلم أن ظاهر أحاديث الباب عدم الفرق بين الصحاري والعمران وهو الذي ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من اتخاذه السترة سواء كان في الفضاء أو في غيره وحديث أنه كان بين مصلاه وبين الجدار ممر شاة ظاهر أن المراد في مصلاه في مسجده لأن الإضافة للعهد وكذلك حديث صلاته في الكعبة المتقدم فلا وجه لتقييد مشروعية السترة بالفضاء

باب دفع المار وما عليه من الإثم والرخصة في ذلك للطائفين بالبيت

1 - عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه

2 - وعن أبي سعيد قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان )
- رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه

- قوله : ( إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع ) هذا مطلق مقيد بما في حديث أبي سعيد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره ) فلا يجوز الدفع والمقاتلة إلا لمن كان له ستر . قال النووي : واتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته بل احتاط وصلى إلى سترة أو في مكان يأمن المرور بين يديه
قوله : ( فلا يدع أحدا يمر بين [ ص 7 ] يديه ) ظاهر النهي التحريم
قوله : ( فإن أبى فليقاتله ) وفيه أنه يدافعه أولا بما دون القتل فيبدأ بأسهل الوجوه ثم ينتقل إلى الأشد فالأشد إلى حد القتل
قال القاضي عياض والقرطبي : وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة والاشتغال بها وأطلق جماعة من الشافعية أن له أن يقاتله حقيقة واستبعد ذلك ابن العربي وقال : المراد بالمقاتلة المدافعة وأغرب الباجي فقال : يحتمل أن يكون المراد بالمقاتلة اللعن أو التعنيف وتعقبه الحافظ بأنه يستلزم التكلم في الصلاة وهو مبطل بخلاف الفعل اليسير وقد روى الإسماعيلي بلفظ : ( فإن أبى فليجعل يده في صدره وليدفعه ) وهو صريح في الدفع باليد وكذلك فعل أبو سعيد بالغلام الذي أراد أن يجتاز بين يديه فإنه دفعه في صدره ثم عاد فدفعه أشد من الأولى كما في البخاري وغيره . ونقل البيهقي عن الشافعي أن المراد بالمقاتلة دفع أشد من الدفع الأول
قال القاضي عياض : فإن دفعه بما يجوز فهلك فلا قود عليه باتفاق العلماء وهل تجب دية أم يكون هدرا مذهبان للعلماء وهما قولان في مذهب مالك وحكى القاضي عياض وابن بطال الإجماع على أنه لا يجوز له المشي من مكانه ليدفعه ولا العمل الكثير في مدافعته لأن ذلك أشد في الصلاة من المرور
قال الحافظ : وذهب الجمهور إلى أنه إذا مر ولم يدفعه فلا ينبغي له أن يرده لأن فيه إعادة للمرور . قال : وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وغيره أن له ذلك
قال النووي : لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب هذا الدفع وتعقبه الحافظ بأنه قد صرح بوجوبه أهل الظاهر اه . وظاهر الحديث معهم
قوله : ( فإن معه القرين ) في القاموس القرين المقارن والصاحب والشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه وهو المراد هنا
قوله : ( فإنما هو شيطان ) قال الحافظ : إطلاق الشيطان على المار من الإنس شائع ذائع وقد جاء في القرآن قوله تعالى { شياطين الإنس والجن } وسبب إطلاقه عليه أنه فعل فعل الشيطان . وقيل معناه إنما حمله على مروره وامتناعه من الرجوع الشيطان
وقال ابن بطال : في هذا الحديث جواز إطلاق لفظ الشيطان على من يفتن في الدين . قال الحافظ : وهو مبني على أن لفظ الشيطان يطلق حقيقة على الإنسي ومجازا على الجني وفيه بحث . وقيل المراد بالشيطان القرين كما في الحديث الأول
وقد استنبط ابن أبي جمرة من قوله ( فإنما هو شيطان ) أن المراد بالمقاتلة المدافعة اللطيفة لا حقيقة القتال لأن مقابلة الشيطان إنما هي بالاستعاذة والتستر عنه بالتسمية ونحوها قال : وهل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي من المرور أو لدفع الإثم عن [ ص 8 ] المار الظاهر الثاني اه
قال الحافظ : وقال غيره بل الأول أظهر لأن إقبال المصلي على صلاته أولى من اشتغاله بدفع الإثم عن غيره . وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته . وروى أبو نعيم عن عمر : لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس . قال : فهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي ولا يختص بالمار وهما وإن كانا موقوفين لفظا فحكمهما حكم الرفع لأن مثلهما لا يقال بالرأي اه

2 - وعن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن بسر بن سعيد عن أبي جهيم عبد الله بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه ) قال أبو النضر : لا أدري قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة
- رواه الجماعة

- قوله : ( ماذا عليه ) في رواية للبخاري ( من الإثم ) تفرد بها الكشميهني
قال الحافظ : ولم أرها في شيء من الروايات مطلقا قال : فيحتمل أن تكون ذكرت في أصل البخاري حاشية فظنها الكشميهني أصلا وقد أنكر ابن الصلاح في مشكل الوسيط على من أثبتها
قوله : ( لكان أن يقف أربعين ) يعني لو علم المار مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم فجواب لو قوله لكان أن يقف
وقال الكرماني : جواب لو ليس هو المذكور بل التقدير لو يعلم ما عليه لوقف أربعين ولو وقف أربعين لكان خيرا له . قال الحافظ : وليس ما قاله متعينا
قوله : ( أربعين ) ذكر الكرماني لتخصيص الأربعين بالذكر حكمتين إحداهما كون الأربعة أصل جميع الأعداد فلما أريد التكثير ضربت في عشرة . ثانيهما كون كمال أطوار الإنسان بأربعين كالنطفة والمضغة والعلقة وكذا بلوغ الأشد . قال الحافظ : ويحتمل غير ذلك
وفي سنن ابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة : ( لكان أن يقف مائة عام خيرا له من الخطوة التي خطاها ) وهذا مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين . وفي مسند البزار لكان أن يقف أربعين خريفا
قوله : ( خيرا له ) روي بالنصب على أنه خبر كان وبالرفع على أنه اسم كان وهي رواية الترمذي . قال في الفتح : ويحتمل أن يكون اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها
قوله : ( قال أبو النضر ) إلى آخره فيه إبهام ما على المار من الإثم زجرا له
( والحديث ) يدل على أن المرور بين يدي المصلي من [ ص 9 ] الكبائر الموجبة للنار وظاهره عدم الفرق بين صلاة الفريضة والنافلة

4 - وعن المطلب ابن أبي وداعة أنه : ( رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة )
- رواه أحمد وأبو داود ورواه ابن ماجه والنسائي ولفظهما : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحازي بالركن فصلى ركعتين في حاشية المطاف وليس بينه وبين الطواف أحد )

- الحديث من رواية كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن بعض أهله عن جده ففي إسناده مجهول والمطلب وأبوه لهما صحبة وهما من مسلمة الفتح
قوله : ( والناس يمرون بين يديه ) فيه دليل على أن مرور المار بين يدي المصلي مع عدم اتخاذ السترة لا يبطل صلاته
قوله : ( وليس بينهما سترة ) قال سفيان : يعني ليس بينه وبين الكعبة سترة ( وفيه دليل ) على عدم وجوب السترة لكن قد عرفت أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بنا
قوله : ( من سبعه ) بضم السين المهملة وسكون الباء بعدها عين مهملة أي مر أشواطه السبعة
قوله : ( في حاشية المطاف ) أي جانبه

باب من صلى وبين يديه إنسان أو بهيمة

1 - عن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت )
- رواه الجماعة إلا الترمذي

- قوله : ( صلاته من الليل ) أي صلاة التطوع
قوله : ( وأنا معترضة بينه وبين القبلة ) زاد أبو داود : ( راقدة ) وفيه دلالة على جواز الصلاة إلى النائم من غير كراهة
وقد ذهب مجاهد وطاوس ومالك والهادوية إلى كراهة الصلاة إلى النائم خشية ما يبدو منه مما يلهي المصلي عن صلاته واستدلوا بحديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه بلفظ : ( لا تصلوا خلف النائم والمتحدث ) وقال أبو داود : طرقه كلها واهية وقال النووي : هو ضعيف باتفاق الحفاظ
( وفي الباب ) عن أبي هريرة عند الطبراني وعن ابن أبي عمر عند ابن عدي وهما واهيان
قوله : ( فإذا أراد أن يوتر ) فيه مشروعية جعل الوتر آخر صلاة الليل وسيأتي الكلام عليه
قوله : ( فأوترت ) فيه دليل على ما قاله النووي في شرح المهذب أن من لم [ ص 10 ] يكن له تهجد ووثق باستيقاظه آخر الليل فيستحب له تأخير الوتر ليفعله آخر الليل وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث عن ذلك
( وفي الحديث ) دليل على أن المرأة لا تقطع الصلاة وسيأتي أيضا الكلام فيه . قال المصنف بعد أن ساقه : وهو حجة في جواز الصلاة إلى النائم اه

2 - وعن ميمونة : ( أنها كانت تكون حائضا لا تصلي وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي على خمرته إذا سجد أصابني بعض ثوبه )
- متفق عليه

- وفي رواية للبخاري : ( حيال مصلى النبي صلى الله عليه و سلم ) وفي أخرى له : ( وأنا إلى جنبه نائمة ) ومعنى الروايات واحد
قوله : ( وهي مفترشة ) في رواية للبخاري ( وأنا على فراشي )
قوله : ( على خمرته ) هي السجادة وقد تقدم ضبطها وتفسيرها
قوله : ( أصابني بعض ثوبه ) وفي رواية للبخاري : ( أصابني ثوبه ) وفي أخرى له : ( أصابني ثيابه ) وفي أخرى له : ( فربما وقع ثوبه ) وفي أخرى له أيضا : ( فربما وقع ثيابه )
( الحديث ) يدل على أنه لا كراهة إذا أصاب ثوب المصلي امرأته الحائض وقد تقدم الكلام في ذلك وساقه المصنف هنا للاستدلال به على صحة صلاة من صلى وبين يديه إنسان ولا دلالة في الحديث على ذلك لأن غاية ما فيه أنها كانت بحذاء مسجده صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يستلزم أن تكون بين يديه وقد استدل به على أن المرأة لا تقطع الصلاة
قال ابن بطال : هذا الحديث وشبهه من الأحاديث التي فيها اعتراض المرأة بين المصلي وقبلته تدل على جواز القعود لا على جواز المرور

2 - وعن الفضل بن عباس قال : ( زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عباسا في بادية لنا ولنا كليبة وحمارة ترعى فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العصر وهما بين يديه فلم يؤخرا ولم يزجرا )
- رواه أحمد والنسائي . ولأبي داود معناه

- الحديث في إسناده عند أبي داود والنسائي محمد بن عمر بن علي والعباس بن عبيد الله بن العباس وهما صدوقان . وقال المنذري : ذكر بعضهم أن في إسناده مقالا
قوله : ( زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) الخ فيه مشروعية زيارة الفاضل للمفضول
قوله : ( في بادية لنا ) البادية البدو وهو خلاف الحضر
قوله ( كليبة ) بلفظ التصغير ورواية أبي داود ( كلبة ) بالتكبير . قوله : ( وحمارة ) قال في المفاتيح : التاء في حمارة وكلبة للإفراد كما يقال تمر وتمرة ويجوز أن تكون للتأنيث . قال الجوهري : وربما قالوا حمارة والأكثر أن يقال للأنثى أتان
( الحديث ) استدل به على أن الكلب والحمار لا يقطعان [ ص 11 ] الصلاة
وقد اختلفت في ذلك وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا وليس في هذا الحديث ذكر نعت الكلب بكونه أسود ولا ذكر أنهما مرا بين يديه وكونهما بين يديه لا يستلزم المرور الذي هو محل النزاع

باب ما يقطع الصلاة بمروره

1 - عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار )
- رواه أحمد وابن ماجه ومسلم وزاد : ( وبقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل )

2 - وعن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار )
- رواه أحمد وابن ماجه

3 - وعن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الأسود قلت : يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر قال : يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سألتني فقال الكلب الأسود شيطان )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- حديث عبد الله بن مغفل رواه ابن ماجه من طريق جميل بن الحسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات
وفي الباب عن الحكم الغفاري عند الطبراني في المعجم الكبير بلفظ حديث عبد الله بن مغفل
وعن أنس عند البزار بلفظ : ( يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة ) قال العراقي : ورجاله ثقات
وعن أبي سعيد أشار إليه الترمذي . وعن ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه بلفظ : ( يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض ) ولم يقل أبو داود الأسود . وقد روي موقوفا على ابن عباس . وعن ابن عباس حديث آخر مرفوع عند أبي داود وزاد فيه الخنزير واليهودي والمجوسي
وقد صرح أبو داود أن ذكر الخنزير والمجوسي فيه نكارة قال : ولم أسمع هذا الحديث إلا من محمد ابن إسماعيل وأحسبه وهم لأنه كان يحدثنا من حفظه اه
وعن عبد الله بن عمرو عند أحمد قال : ( بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببعض أعلى الوادي يريد أن يصلي قد قام وقمنا إذ خرج علينا حمار من شعب فأمسك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكبر وأجرى إليه يعقوب بن زمعة حتى رده ) . قال العراقي : وإسناده صحيح
وعن عائشة عند أحمد قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا [ ص 12 ] الحمار والكافر والكلب والمرأة لقد قرنا بدواب سوء ) قال العراقي : ورجاله ثقات
( وأحاديث ) الباب تدل على أن الكلب والمرأة والحمار تقطع الصلاة والمراد بقطع الصلاة إبطالها وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وأنس وابن عباس في رواية عنه وحكي أيضا عن أبي ذر وابن عمر وجاء عن ابن عمر أنه قال به في الكلب وقال به الحكم بن عمرو الغفاري في الحمار
وممن قال من التابعين بقطع الثلاثة المذكورة الحسن البصري وأبو الأحوص صاحب ابن مسعود . ومن الأئمة أحمد بن حنبل فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري وحكى الترمذي عنه أنه يخصص بالكلب الأسود ويتوقف في الحمار والمرأة . قال ابن دقيق العيد : وهو أجود مما دل عليه كلام الأثرم من جزم القول عن أحمد بأنه لا يقطع المرأة والحمار وذهب أهل الظاهر أيضا إلى قطع الصلاة بالثلاثة المذكورة إذا كان الكلب والحمار بين يديه سواء كان الكلب والحمار مارا أم غير مار وصغيرا أو كبيرا حيا أم ميتا وكون المرأة بين يدي الرجل مارة أم غير مارة صغيرة أم كبيرة إلا أن تكون مضطجعة معترضة
وذهب إلى أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض ابن عباس وعطاء ابن أبي رباح واستدلا بالحديث السابق عند أبي داود وابن ماجه بلفظ : ( يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض ) ولا عذر لمن يقول بحمل المطلق على المقيد من ذلك وهم الجمهور
وأما من يعمل بالمطلق وهم الحنفية وأهل الظاهر فلا يلزمهم ذلك وقال ابن العربي : إنه لا حجة لمن قيد بالحائض لأن الحديث ضعيف قال : وليست حيضة المرأة في يدها ولا بطنها ولا رجلها قال العراقي : إن أراد بضعفه ضعف رواته فليس كذلك فإن جميعهم ثقات وإن أراد به كون الأكثرين وقفوه على ابن عباس فقد رفعه شعبة ورفع الثقة مقدم على وقف من وقفه وإن كانوا أكثر على القول الصحيح في الأصول وعلوم الحديث انتهى
وروي عن عائشة أنها ذهبت إلى أنه يقطعها الكلب والحمار والسنور دون المرأة ولعل دليلها على ذلك ما روته من اعتراضها بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم
وقد عرفت أن الاعتراض غير المرور وقد تقدم أنها روت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المرأة تقطع الصلاة فهي محجوجة بما روت . ويمكن الاستدلال بحديث أم سلمة الآتي وسيأتي ما عليه
وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنه يقطعها الكلب الأسود فقط وحكاه ابن المنذر عن عائشة ودليل هذا القول أن حديث ابن عباس الآتي أخرج الحمار وحديث أم سلمة الآتي أيضا
وكذلك حديث عائشة المتقدم أخرج المرأة والتقييد [ ص 13 ] بالأسود أخرج ما عداه من الكلاب
وحديث أن الخنزير والمجوسي واليهودي يقطع لا تقوم بمثله حجة كما تقدم . وفيه أن حديث عائشة المتقدم مشتمل على ذكر الكافر ورجال إسناده ثقات كما عرفت . وذهب مالك والشافعي وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف ورواه المهدي في البحر عن العترة أنه لا يبطل الصلاة مرور شيء
قال النووي : وتأول هؤلاء هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء وليس المراد إبطالها ومنهم من يدعي النسخ بالحديث الآخر ( لا يقطع الصلاة شيء وادرؤا ما استطعتم ) قال : وهذا غير مرضي لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث وتأويلها وعلمنا التاريخ وليس هنا تاريخ ولا تعذر الجمع والتأويل بل يتأول على ما ذكرنا مع أن حديث ( لا يقطع صلاة المرء شيء ) ضعيف انتهى
وروي القول بالنسخ عن الطحاوي وابن عبد البر واستدلا على تأخر تاريخ حديث ابن عباس الآتي بأنه كان في حجة الوداع وهي في سنة عشر وفي آخر حياة النبي صلى الله عليه و سلم وعلى تأخر حديث عائشة وحديث ميمونة المتقدمين
وحديث أم سلمة الآتي بأن ما حكاه زوجاته عنه يعلم تأخره لكونه صلاته بالليل عندهن ولم يزل على ذلك حتى مات خصوصا مع عائشة مع تكرر قيامه في كل ليلة فلو حدث شيء مما يخالف ذلك لعلمن به وعلى تسليم صحة هذا الاستدلال على التأخر لا يتم به المطلوب من النسخ أما أولا فقد عرفت أن حديث عائشة وميمونة خارجان عن محل النزاع وحديث أم سلمة أخص من المتنازع فيه لأن الذي فيه مرور الصغيرة بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم . وحديث ابن عباس ليس فيه إلا مرور الأتان فهو أخص من الدعوى . وأما ثانيا فالخاص بهذه الأمور لا يصلح لنسخ ما اشتمل على زيادة عليها لما تقرر من وجوب بناء العام على الخاص مطلقا . وأما ثالثا فقد أمكن الجمع بما تقدم
وأما رابعا فيمكن الجمع أيضا بأن يحمل حديث عائشة وميمونة وأم سلمة على صلاة النفل وهو يغتفر فيه ما لا يغتفر في الفرض على أنه لم ينقل أنه اجتزأ بتلك الصلاة أو يحمل على أن ذلك وقع في غير حالة الحيض والحكم بقطع صلاة المرأة للصلاة إنما هو إذا كانت حائضا كما تقدم
وأيضا قد عرفت أن وقوع ثوبه صلى الله عليه وآله وسلم على ميمونة لا يستلزم أنها بين يديه فضلا عن أن يستلزم المرور وكذلك اعتراض عائشة لا يستلزم المرور ويحمل حديث ابن عباس على أن صلاته صلى الله عليه وآله وسلم كانت إلى سترة مع وجود السترة لا يضر مرور شيء من [ ص 14 ] الأشياء المتقدمة كما يدل على ذلك قوله في حديث أبي هريرة ( وبقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل ) وقوله في حديث أبي ذر ( فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل ) ولا يلزم نفي الجدار كما سيأتي في حديث ابن عباس نفي سترة أخرى من حربة أو غيرها كما ذكره العراقي
ويدل على هذا أن البخاري بوب على هذا الحديث باب سترة الإمام سترة لمن خلفه فاقتضى ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي إلى سترة لا يقال قد ثبت في بعض طرقه عند البزار بإسناد صحيح بلفظ : ( ليس شيء بسترة تحول بيننا وبينه ) لأنا نقول لم ينف السترة مطلقا إنما نفى السترة التي تحول بينهم وبين الجدار المرتفع الذي يمنع الرؤية بينهما وقد صرح بمثل هذا العراقي ولو سلم أن هذا يدل على نفي السترة مطلقا لأمكن الجمع بوجه آخر ذكره ابن دقيق العيد وهو أن قول ابن عباس كما سيأتي ولم ينكر ذلك على أحد ولم يقل ولم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك يدل على أن المرور كان بين يدي بعض الصف ولا يلزم من ذلك إطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجواز أن يكون الصف ممتدا ولا يطلع عليه
( لا يقال ) إن قوله أحد يشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لا معنى للاستدلال بعدم الإنكار من غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع حضرته ولو سلم إطلاعه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك كما ورد في بعض روايات الصحيح بلفظ فلم ينكر ذلك علي بالبناء للمجهول لم يكن ذلك دليلا على الجواز لأن ترك الإنكار إنما كان لأجل أن الإمام سترة للمؤتمين كما تقدم وسيأتي ولا قطع مع السترة لما عرفت ولو سلم صحة الاستدلال بهذا الحديث على الجواز وخلوصه من شوائب هذه الاحتمالات لكان غايته أن الحمار لا يقطع الصلاة ويبقى ما عداه
( وأما الاستدلال ) بحديث لا يقطع الصلاة شيء فستعرف عدم انتهاضه للاحتجاج ولو سلم انتهاضه فهو عام مخصص بهذه الأحاديث أما عند من يقول إنه يبنى العام على الخاص مطلقا فظاهر وعند من يقول إن العام المتأخر ناسخ فلا تأخر لعدم العلم بالتاريخ ومع عدم العلم يبنى العام على الخاص عند الجمهور . وقد ادعى أبو الحسين الإجماع على ذلك
وأما على القول بالتعارض بين العام والخاص مع جهل التاريخ كما هو مذهب جمهور الزيدية والحنفية والقاضي عبد الجبار والباقلاني فلا شك أن الأحاديث الخاصة فيما نحن بصدده أرجح من هذا الحديث العام إذا تقرر لك ما أسلفنا عرفت أن الكلب الأسود والمرأة الحائض يقطعان الصلاة ولم يعارض الأدلة القاضية بذلك معارض إلا ذلك العموم على المذهب الثاني وقد عرفت أنه مرجوح
وكذلك يقطع [ ص 15 ] الصلاة الخنزير والمجوسي واليهودي إن صح الحديث الوارد بذلك وقد تقدم ما يؤيده ويبقى النزاع في الحمار وقد أسلفنا في ذلك ما فيه كفاية . وأما المرأة غير الحائض والكلب الذي ليس بأسود فقد عرفت الكلام فيهما انتهى

4 - وعن أم سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في حجرتها فمر بين يديه عبد الله أو عمر فقال بيده هكذا فرجع فمرت ابنة أم سلمة فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : هن أغلب )
- رواه أحمد وابن ماجه

- الحديث في إسناده مجهول وهو قيس المدني والد محمد بن قيس القاص وبقية رجاله ثقات
قوله : ( عبد الله أو عمر ) يعني ابني أبي سلمة . قوله : ( ابنة أم سلمة ) تعني زينب بنت أبي سلمة . قوله : ( هن أغلب ) أي لا ينتهين لجهلهن
( والحديث ) يدل على أن مرور الجارية لا يقطع الصلاة والاستدلال به على ذلك لا يتم إلا بعد تسليم أنه لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم سترة عند مرورها وأنه اعتد بتلك الصلاة وقد عرفت بقية الكلام على ذلك في شرح الأحاديث التي قبله

5 - وعن أبي سعيد قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يقطع الصلاة شيء وادرؤا ما استطعتم فإنما هو شيطان )
- رواه أبو داود

- الحديث في إسناده مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني الكوفي وقد تكلم فيه غير واحد وأخرج له مسلم حديثا مقرونا بجماعة من أصحاب الشعبي
( وفي الباب ) عن ابن عمر عند الدارقطني بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر قالوا : لا يقطع صلاة المسلم شيء وادرأ ما استطعت ) وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي وهو ضعيف
قال العراقي : والصحيح عن ابن عمر ما رواه مالك في الموطأ من قوله إنه كان يقول : ( لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي ) . وأخرج الدارقطني عنه بإسناد صحيح أنه قال : ( لا يقطع صلاة المسلم شيء )
وفي الباب أيضا عن أنس عند الدارقطني بلفظ : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالناس فمر بين أيديهم حمار فقال عياش بن أبي ربيعة : سبحان الله سبحان الله فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من المسبح آنفا قال : أنا يا رسول الله إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة قال : لا يقطع الصلاة شيء ) وإسناده ضعيف كما قال الحافظ في الفتح
وعن جابر عند الطبراني في الأوسط بلفظ : ( قال [ ص 16 ] صلى الله عليه وآله وسلم : لا يقطع الصلاة شيء وادرؤا ما استعطتم ) وفي إسناده يحيى بن ميمون التمار وهو ضعيف
وعن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير والدارقطني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يقطع الصلاة شيء ) وفي إسناده عفير بن معدان وهو ضعيف . وعن أبي هريرة عند الدارقطني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يقطع صلاة المرء امرأة ولا كلب ولا حمار وادرأ ما استطعت ) وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة فإن صح كان صالحا للاستدلال به على النسخ إن صح تأخر تاريخه
وأما بقية أحاديث الباب فلا تصلح لذلك لأنها على ما فيها من الضعف عمومات مجهولة التاريخ وقد قدمنا كيفية العمل فيها على ما يقتضيه الأصول
وقد أخرج سعيد بن منصور عن علي عليه السلام وعثمان وغيرهما من أقوالهم نحو أحاديث الباب بأسانيد صحيحة

6 - وعن ابن عباس قال : ( أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد )
- رواه الجماعة

- قوله ( على أتان ) الأتان بهمزة مفتوحة وتاء مثناة من فوق الأنثى من الحمير ولا يقال أتانة . والحمار يطلق على الذكر والأنثى كالفرس . وفي بعض طرق البخاري على حمار أتان
قوله : ( ناهزت الاحتلام ) أي قاربته من قولهم نهز أي نهض يقال ناهز الصبي البلوغ أي داناه
وقد أخرج البزار بإسناد صحيح أن هذه القصة كانت في حجة الوداع كما تقدم ففيه دليل على أن ابن عباس كان في حجة الوداع دون البلوغ قال العراقي : وفد اختلف في سنه حين توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل ثلاث عشرة ويدل له قولهم إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين . وقيل كان عمره عشر سنين وهو ضعيف وقيل خمس عشرة قال أحمد : إنه الصواب انتهى
وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال : ( سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك )
قوله : ( بين يدي بعض الصف ) زاد البخاري في الحج ( حتى سرت بين يدي بعض الصف )
قوله : ( فلم ينكر ذلك علي أحد ) قال ابن دقيق العيد : استدل ابن عباس بترك الإنكار على الجواز ولم يستدل بترك إعادتهم [ ص 17 ] الصلاة لأن ترك الإنكار أكثر فائدة
قال الحافظ : وتوجيهه أن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور وترك الإنكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معا
( والحديث ) استدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة وإنه ناسخ لحديث أبي ذر المتقدم ونحوه لكون هذه القصة في حجة الوداع وقد تعقب بما قدمنا في شرح أحاديث أول الباب وحكى الحافظ عن ابن عبد البر أنه قال : حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد : ( إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه ) فإن ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه لحديث ابن عباس هذا قال : وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء وكذا نقل القاضي عياض الاتفاق على أن المأمومين يصلون إلى سترة لكن اختلفوا هل سترتهم سترة الإمام أو سترتهم الإمام بنفسه انتهى
إذا تقرر الإجماع على أن الإمام أو سترته سترة للمؤتمين وتقرر بالأحاديث المتقدمة أن الحمار ونحوه إنما يقطع مع عدم اتخاذ السترة تبين بذلك عدم صلاحية حديث ابن عباس للاحتجاج به على أن الحمار لا يقطع الصلاة لعدم تناوله لمحل النزاع وهو القطع مع عدم السترة ولو سلم تناوله لكان المتعين الجمع بما تقدم

أبواب صلاة التطوع

باب سنن الصلاة الراتبة المؤكدة

1 - عن عبد الله بن عمر قال : ( حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الغداة كانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها فحدثتني حفصة أنه كان إذا طلع الفجر وأذن المؤذن صلى ركعتين )
- متفق عليه

2 - وعن عبد الله بن شقيق قال : ( سألت عائشة عن صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد العشاء ركعتين وقبل الفجر ثنتين )
- رواه الترمذي وصححه . وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود بمعناه لكن ذكروا فيه قبل الظهر أربعا [ ص 18 ]

- قوله : ( حفظت ) في لفظ للبخاري : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم )
قوله : ( ركعتين ) في رواية للبخاري : ( سجدتين ) مكان ركعتين في جميع أطراف الحديث والمراد بهما الركعتان وقد ساقه البخاري في باب الركعتين قبل الظهر بنحو اللفظ الذي ذكره المصنف هنا
قوله : ( ركعتين قبل الظهر ) في الحديث الآخر أربع قبل الظهر . قال الداودي : وقع في حديث ابن عمر أن قبل صلاة الظهر ركعتين وفي حديث عائشة أربعا وهو محمول على أن كل واحد منهما وصف ما رأى قال : ويحتمل أن ينسى ابن عمر ركعتين من الأربع
قال الحافظ : وهذا الاحتمال بعيد والأولى أن يحمل على حالين فكان تارة يصلي ثنتين وتارة يصلي أربعا . وقيل هو محمول على أنه كان في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته يصلي أربعا ويحتمل أنه كان يصلي إذا كان في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته واطلعت عائشة على الأمرين
ويقوي الأول ما رواه أحمد وأبو داود من حديث عائشة أنه كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج
قال أبو جعفر الطبري : الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها
قوله : ( وركعتين بعد المغرب ) زاد البخاري : ( في بيته ) وفي لفظ له : ( فأما المغرب والعشاء ففي بيته ) وقد استدل بذلك على أن فعل النوافل الليلية في البيوت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار وحكي ذلك عن مالك والثوري
قال الحافظ : وفي الاستدلال به لذلك نظر والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد وإنما كان صلى الله عليه وآله وسلم يتشاغل بالناس في النهار غالبا وبالليل يكون في بيته غالبا
وروي عن ابن أبي ليلى أنها لا تجزئ صلاة سنة المغرب في المسجد واستدل بحديث محمود بن لبيد مرفوعا : ( أن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت ) وحكي ذلك لأحمد فاستحسنه
قوله : ( وركعتين بعد العشاء ) زاد البخاري : ( في بيته ) وقد تقدم الكلام في ذلك
قوله : ( وركعتين قبل الغداة ) إلى آخره فيه أنه إنما أخذ عن حفصة وقت إيقاع الركعتين لا أصل المشروعية كذا قال الحافظ
( والحديثان ) يدلان على مشروعية ما اشتملا عليه من النوافل وأنها مؤقتة واستحباب المواظبة عليها وإلى ذلك ذهب الجمهور وقد روي عن مالك ما يخالف ذلك
وذهب الجمهور أيضا إلى أنه لا وجوب لشيء من رواتب الفرائض وروي عن الحسن البصري القول بوجوب ركعتي الفجر [ ص 19 ]

3 - وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من صلى من يوم وليلة ثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة بني له بيت في الجنة )
- رواه الجماعة إلا البخاري . ولفظ الترمذي : ( من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر ) وللنسائي حديث أم حبيبة كالترمذي لكن قال : ( وركعتين قبل العصر ) ولم يذكر ركعتين بعد العشاء

- الحديث قال الترمذي بعد أن ساقه بهذا التفسير : حسن صحيح وقد فسره أيضا ابن حبان وقد ساقه بهذا التفسير الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة
وفي الباب عن أبي هريرة عند النسائي وابن ماجه بلفظ : قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة ركعتين قبل الفجر وركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين أظنه قال قبل العصر وركعتين بعد المغرب أظنه قال وركعتين بعد العشاء الآخرة ) وفي إسناده محمد بن سليمان الأصبهاني وهو ضعيف
وعن أبي موسى عند أحمد والبزار والطبراني في الأوسط بنحو حديث أم حبيبة بدون التفسير
( وأحاديث الباب ) تدل على تأكيد صلاة هذه الاثنتي عشرة ركعة وهي من السنن التابعة للفرائض
وقد اختلف في حديث أم حبيبة كما ذكر المصنف فالترمذي أثبت ركعتين بعد العشاء ولم يثبت ركعتين قبل العصر والنسائي عكس ذلك وحديث عائشة فيه إثبات الركعتين بعد العشاء دون الركعتين قبل العصر
وحديث أبي هريرة فيه إثبات ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء ولكنه لم يثبت قبل الظهر إلا ركعتين والمتعين المصير إلى مشروعية جميع ما اشتملت عليه هذه الأحاديث وهو وإن كان أربع عشرة ركعة
( والأحاديث ) مصرحة بأن الثواب يحصل باثنتي عشرة ركعة لكنه لا يعلم الإتيان بالعدد الذي نص عليه صلى الله عليه وآله وسلم في الأوقات التي جاء التفسير بها إلا بفعل أربع عشرة ركعة لما ذكرنا من الاختلاف

باب فضل الأربع قبل الظهر وبعدها وقبل العصر وبعد العشاء

1 - عن أم حبيبة قالت : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من [ ص 20 ] صلى أربع ركعات قبل الظهر وأربعا بعدها حرمه الله على النار )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي

- الحديث من رواية مكحول عن عنبسة بن أبي سفيان عن أم حبيبة وقد قال أبو زرعة وهشام بن عمار وأبو عبد الرحمن النسائي : إن مكحولا لم يسمع من عنبسة بن أبي سفيان كذا قال المنذري . وقد أعله ابن القطان وأنكره أبو الوليد الطيالسي وأما الترمذي فصححه كما قال المصنف لكن من طريق أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن صاحب أبي أمامة
قال المنذري والقاسم : هذا اختلف فيه فمنهم من يضعف روايته ومنهم من يوثقه انتهى
وقد روي عن ابن حبان أنه صححه ورواه الترمذي أيضا عن محمد بن عبد الله الشعيثي عن عنبسة بن أبي سفيان عن أم حبيبة وقال : حسن غريب
وهذه متابعة لمكحول والشعيثي المذكور وثقه دحيم والمفضل بن غسان العلائي والنسائي وابن حبان
قوله : ( حرمه الله على النار ) في رواية : ( لم تمسه النار ) وفي رواية : ( حرم على النار ) وفي أخرى : ( حرم الله لحمه على النار ) وقد اختلف في معنى ذلك هل المراد أنه لا يدخل النار أصلا أو أنه وإن قدر عليه دخولها لا تأكله النار أو إنه يحرم على النار أن تستوعب أجزاءه وإن مست بعضه كما في بعض طرق الحديث عند النسائي بلفظ : ( فتمس وجهه النار أبدا ) وهو موافق لقوله في الحديث الصحيح ( وحرم على النار أن تأكل مواضع السجود ) فيكون قد أطلق الكل وأريد البعض مجازا والحمل على الحقيقة أولى وأن الله تعالى يحرم جميعه على النار وفضل الله تعالى أوسع ورحمته أعم
( والحديث ) يدل على تأكد استحباب أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعده وكفى بهذا الترغيب باعثا على ذلك
وظاهر قوله ( من صلى ) أن التحريم على النار يحصل بمرة واحدة ولكنه قد أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما بلفظ : ( من حافظ ) فلا يحرم على النار إلا المحافظ

2 - وعن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي

- الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حبان وابن خزيمة وفي إسناده محمد بن مهران وفيه مقال ولكنه قد وثقه ابن حبان وابن عدي
( وفي الباب ) عن علي رضي الله عنه عند أهل السنن بلفظ : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم )
وزاد الترمذي والنسائي وابن ماجه : ( على الملائكة المقربين [ ص 21 ] ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين ) وله حديث آخر بمعناه عند الطبراني في الأوسط
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني في الكبير والأوسط مرفوعا بلفظ : ( من صلى أربع ركعات قبل العصر لم تمسه النار )
وعن أبي هريرة عند أبي نعيم قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى أربع ركعات قبل العصر غفر الله له ) وهو من رواية الحسن عن أبي هريرة ولم يسمع منه
وعن أم حبيبة عند أبي يعلى بلفظ : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من حافظ على أربع ركعات قبل العصر بنى الله له بيتا في الجنة ) وفي إسناده محمد بن سعيد المؤذن قال العراقي : لا أدري من هو
وعن أم سلمة عند الطبراني في الكبير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله بدنه على النار )
والأحاديث المذكورة تدل على استحباب أربع ركعات قبل العصر والدعاء منه صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة لمن فعل ذلك والتصريح بتحريم بدنه على النار مما يتنافس فيه المتنافسون

3 - وعن عائشة قالت : ( ما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشاء قط فدخل علي إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث رجال إسناده ثقات ومقاتل بن بشير العجلي قد وثقه ابن حبان وقد أخرجه أيضا النسائي وقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي من حديث ابن عباس قال : ( بت في بيت خالتي ميمونة ) الحديث . وفيه : ( فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات )
وروى محمد بن نصر في قيام الليل والطبراني في الكبير من حديث ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من صلى أربع ركعات خلف العشاء الآخرة قرأ في الركعتين الأولتين قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد وفي الركعتين الآخرتين تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك كتبن له كأربع ركعات من ليلة القدر )
وفي إسناده أبو فروة يزيد بن سنان الرهاوي ضعفه الجمهور . وقال أبو حاتم : محله الصدق . وقال البخاري : مقارب الحديث
وروى محمد بن نصر من حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى العشاء الآخرة ثم صلى أربع ركعات حتى لم يبق في المسجد غيري وغيره ) وفيه المنهال بن عمر وقد اختلف فيه
وروى الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعا : ( من صلى العشاء الآخرة في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر ) قال العراقي : ولم يصح وأكثر الأحاديث [ ص 22 ] أن ذلك كان في البيت ولم يرد التقييد بالمسجد إلا في حديث ابن عباس وحديث ابن عمر المذكورين
فأما حديث ابن عمر فقد تقدم ما قال العراقي فيه . وأما حديث ابن عباس ففي إسناده من تقدم
قال العراقي : وعلى تقدير ثبوته فيكون قد وقع ذلك منه لبيان الجواز أو لضرورة له في المسجد اقتضت ذلك
( والحديث ) يدل على مشروعية صلاة أربع ركعات أو ست ركعات بعد صلاة العشاء وذلك من جملة صلاة الليل وسيأتي الكلام فيها

4 - وعن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من صلى قبل الظهر أربعا كان كأنما تهجد من ليلته ومن صلاهن بعد العشاء كان كمثلهن من ليلة القدر )
- رواه سعيد بن منصور في سننه

- الحديث أخرجه أيضا الطبراني في الأوسط باللفظ الذي ذكره المصنف وهو من رواية ناهض بن سالم الباهلي قال حدثنا عمار أبو هاشم عن الربيع بن لوط عن عمه البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمار والربيع ثقتان . وأما ناهض فقال العراقي : لم أر لهم فيه جرحا ولا تعديلا ولم أجد له ذكرا انتهى
وأخرج الطبراني عن البراء حديثا آخر وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيء الحفظ
( وفي الباب ) عن أنس عند الطبراني أيضا بلفظ : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أربع قبل الظهر كعدلهن بعد العشاء وأربع بعد العشاء كعدلهن من ليلة القدر ) وفي إسناده يحيى بن عقبة وليس بثقة قاله النسائي وغيره . وقال ابن معين : ليس بشيء
( والحديث ) يدل على مشروعية أربع قبل الظهر وقد تقدم الكلام فيها وعلى مشروعية أربع بعد العشاء وقد قدمنا ما في ذلك من الأحاديث

باب تأكيد ركعتي الفجر وتخفيف قراءتهما والضجعة والكلام بعدهما وقضائهما إذا فاتتا

1 - عن عائشة قالت : ( لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر )
- متفق عليه

2 - وعنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها )
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه [ ص 23 ]

- وفي الباب عن علي عليه السلام عند ابن ماجه وعن ابن عمر عند أحمد وأبي داود والطبراني غير حديثه الآتي وعن ابن عباس عند ابن عدي في الكامل وعن بلال عند أبي داود
قوله : ( الضجعة ) بكسر الضاد المعجمة الهيئة وبفتحها المرة ذكر معنى ذلك في الفتح
قوله : ( أشد تعاهدا ) في رواية ابن خزيمة أشد معاهدة ولمسلم : ( ما رأيته إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر ) زاد ابن خزيمة من هذا الوجه ولا إلى غنيمة
( والحديثان ) يدلان على أفضلية ركعتي الفجر وعلى استحباب التعاهد لهما وكراهة التفريط فيهما . وقد استدل بهما على أن ركعتي الفجر أفضل من الوتر وهو أحد قولي الشافعي ووجه الدلالة أنه جعل ركعتي الفجر خيرا من الدنيا وما فيها وجعل الوتر خيرا من حمر النعم وحمر النعم جزء ما في الدنيا . وأصح القولين عن الشافعي أن الوتر أفضل
وقد استدل لذلك بما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( أفضل الصلاة بعد الفريضة الصلاة في جوف الليل ) وبالاختلاف في وجوبه كما سيأتي وقد وقع الاختلاف أيضا في وجوب ركعتي الفجر فذهب إلى وجوب الحسن البصري حكى ذلك عنه ابن أبي شيبة في المصنف وحكى صاحب البيان والرافعي وجها لبعض الشافعية أن الوتر وركعتي الفجر سواء في الفضيلة

3 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق المدني ويقال فيه عباد بن إسحاق أخرج له مسلم واستشهد به البخاري ووثقه يحيى بن معين
وقال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به وهو حسن الحديث وليس بثبت ولا قوي . وقال يحيى بن سعيد القطان : سألت عنه بالمدينة فلم يحمدوه وقال بعضهم : إنما لم يحمدوه في مذهبه فإنه كان قدريا فنفوه من المدينة فأما رواياته فلا بأس . وقال البخاري : مقارب الحديث . وقال العراقي : إن هذا الحديث صالح
( والحديث ) يقتضي وجوب ركعتي الفجر لأن النهي عن تركهما حقيقة في التحريم وما كان تركه حراما كان فعله واجبا ولا سيما مع تعقيب ذلك بقوله ( ولو طردتكم الخيل ) فإن النهي عن الترك في مثل هذه الحالة الشديدة التي يباح لأجلها كثير من الواجبات من الأدلة الدالة على ما ذهب إليه الحسن من الوجوب فلا بد للجمهور من قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي للنهي بعد تسليم صلاحية الحديث للاحتجاج
وأما الاعتذار عنه بحديث ( هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع ) فسيأتي الجواب عنه [ ص 24 ]

4 - وعن ابن عمر قال : ( رمقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهرا فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد )
- رواه الخمسة إلا النسائي

- الحديث أخرجه أيضا مسلم . وفي الباب عن ابن مسعود عند الترمذي . وعن أبي هريرة عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه . وعن أنس عند البزار ورجال إسناده ثقات . وعن عائشة عند ابن ماجه . وعن عبد الله بن جعفر عند الطبراني في الأوسط . وعن جابر عند ابن حبان في صحيحه
قوله : ( رمقت ) في رواية للنسائي : ( رمقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرين مرة ) وفي رواية ابن أبي شيبة في المصنف : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من عشرين مرة ) وفي رواية ابن عدي في الكامل ( رمقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وعشرين صباحا ) وجميع هذه الروايات مشعرة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر بقراءتهما
( والحديث ) يدل على استحباب قراءة سورتي الإخلاص في ركعتي الفجر . قال العراقي : وممن روى عنه ذلك من الصحابة عبد الله بن مسعود ومن التابعين سعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعبد الرحمن بن يزيد النخعي وسويد بن غفلة وغنيم بن قيس ومن الأئمة الشافعي وقال مالك : أما أنا فلا أزيد على أم القرآن في كل ركعة . وروي عن الأصم وابن علية أنه لا يقرأ فيهما أصلا وهو مخالف للأحاديث الصحيحة واحتج بحديث عائشة الآتي وسيأتي أنه مجرد شك منها فلا يصح الاحتجاج به
( وفي الحديث ) أيضا استحباب تخفيف ركعتي الفجر وسيأتي ذكر الحكمة في ذلك

5 - وعن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى أني لأقول هل قرأ فيهما بأم القرآن )
- متفق عليه

- وفي الباب عن ابن عباس عند الجماعة بلفظ : ( فصلى ركعتين خفيفتين ) وله حديث آخر عند مسلم وأبي داود والنسائي قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في ركعتي الفجر { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } والتي في آل عمران { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } ) وفي رواية لمسلم : ( وفي الآخرة { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } )
وعن حفصة عند الجماعة إلا أبا داود بلفظ : ( ركع ركعتين خفيفتين ) وعن الفضل بن عباس عند أبي داود بلفظ : ( فصلى سجدتين خفيفتين ) وعن أسامة بن عمر عند الطبراني بلفظ : ( فصلى ركعتين خفيفتين )
( الحديث ) وما ذكر في الباب معه يدل على مشروعية التخفيف وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وخالفت في ذلك الحنفية فذهبت إلى استحباب إطالة القراءة وهو مخالف لصرائح [ ص 25 ] الأدلة واستدلوا بالأحاديث الواردة في الترغيب في تطويل الصلاة نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( أفضل الصلاة طول القنوت ) ونحو ( إن طول صلاة الرجل مئنة من فقهه ) وهو من ترجيح العام على الخاص وبهذا الحديث تمسك مالك وقال بالاقتصار على قراءة فاتحة الكتاب في هاتين الركعتين وليس فيه إلا أن عائشة شكت هل كان يقرأ بالفاتحة أو لا لشدة تخفيفه لهما وهذا لا يصلح التمسك به لرد الأحاديث الصريحة الصحيحة الواردة من طرق متعددة كما تقدم
وقد أخرج ابن ماجه عن عائشة نفسها أنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ركعتي الفجر فكان يقول نعم السورتان هما يقرأ بهما في ركعتي الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ) ولا ملازمة بين مطلق التخفيف والاقتصار على الفاتحة لأنه من الأمور النسبية
( وقد اختلف ) في الحكمة في التخفيف لهما فقيل ليبادر إلى صلاة الفجر في أول الوقت وبه جزم القرطبي وقيل ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما يشابهه بنشاط واستعداد تام ذكره الحافظ في الفتح والعراقي في شرح الترمذي

6 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه

7 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن ) وفي رواية : ( كان إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع )
- متفق عليه

- الحديث الأول رجاله رجال الصحيح وقد أخرجه أيضا ابن ماجه . والحديث الثاني أخرجه الجماعة كلهم
( وفي الباب ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد والطبراني بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن ) وفي إسناده حي بن عبد الله المعافري وهو مختلف فيه وفي إسناد أحمد أيضا ابن لهيعة وفيه مقال مشهور
وعن ابن عباس عند البيهقي بنحو حديث عبد الله بن عمرو وفيه انقطاع واختلاف على ابن عباس . وعن أبي بكرة عند أبي داود بلفظ : ( قال خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الصبح فكان لا يمر برحل إلا ناداه بالصلاة أو حركه برجله ) أدخله أبو داود والبيهقي في باب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
( والأحاديث ) المذكورة تدل على مشروعية الاضطجاع بعد [ ص 26 ] صلاة ركعتي الفجر إلى أن يؤذن بالصلاة كما في صحيح البخاري من حديث عائشة وقد اختلف في حكم هذا الاضطجاع على ستة أقوال :
الأول : أنه مشروع على سبيل الاستحباب قال العراقي : فمن كان يفعل ذلك أو يفتي به من الصحابة أبو موسى الأشعري ورافع بن خديج وأنس بن مالك وأبو هريرة
واختلف فيه على ابن عمر فروى عنه فعل ذلك كما ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه وروى عنه إنكاره كما سيأتي
وممن قال به من التابعين ابن سيرين وعروة وبقية الفقهاء السبعة كما حكاه عبد الرحمن بن زيد في كتاب السبعة وهم سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار
قال ابن حزم : وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عثمان بن غياث هو ابن عثمان أنه حدثه قال : كان الرجل يجيء وعمر بن الخطاب يصلي بالناس فيصلي ركعتين في مؤخر المسجد ويضع جنبه في الأرض ويدخل معه في الصلاة . وممن قال باستحباب ذلك من الأئمة الشافعي وأصحابه
القول الثاني : أن الاضطجاع بعدهما واجب مفترض لا بد من الإتيان به وهو قول أبي محمد بن حزم واستدل بحديث أبي هريرة المذكور وحمله الأولون على الاستحباب لقول عائشة ( فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع ) وظاهره أنه كان لا يضطجع مع استيقاظها فكان ذلك قرينة لصرف الأمر إلى الندب وفيه أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر به أمرا خاصا بالأمة لا يعارض ذلك الأمر الخاص ولا يصرفه عن حقيقته كما تقرر في الأصول
القول الثالث : أن ذلك مكروه وبدعة وممن قال به من الصحابة ابن مسعود وابن عمر على اختلاف عنه فروى ابن أبي شيبة في المصنف من رواية إبراهيم قال : قال ابن مسعود : ما بال الرجل إذا صلى الركعتين يتمعك كما تتمعك الدابة أو الحمار إذا سلم فقد فصل
وروى ابن أبي شيبة أيضا من رواية مجاهد قال : صحبت ابن عمر في السفر والحضر فما رأيته اضطجع بعد ركعتي الفجر . وروى سعيد بن المسيب عنه أنه رأى رجلا يضطجع بعد الركعتين فقال : احصبوه . وروى أبو مجلز عنه أنه قال : إن ذلك من تلعب الشيطان
وفي رواية زيد العمى عن أبي الصديق الناجي عنه أنه قال : إنها بدعة ذكر ذلك جميعه ابن أبي شيبة
وممن كره ذلك من التابعين الأسود بن يزيد وإبراهيم النخعي وقال : هي ضجعة الشيطان وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير . ومن الأئمة مالك وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء
القول الرابع : أنه [ ص 27 ] خلاف الأولى روى ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
القول الخامس : التفرقة بين من يقوم بالليل فيستحب له ذلك للاستراحة وبين غيره فلا يشرع له واختاره ابن العربي وقال : لا يضطجع بعد ركعتي الفجر لانتظار الصلاة إلا أن يكون قام الليل فيضطجع استجماما لصلاة الصبح فلا بأس . ويشهد لهذا ما رواه الطبراني وعبد الرزاق عن عائشة أنها كانت تقول : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يضطجع لسنة ولكنه كان يدأب ليله فيستريح )
وهذا لا تقوم به حجة أما أولا فلأن في إسناده راويا لم يسم كما قال الحافظ في الفتح وأما ثانيا فلأن ذلك منها ظن وتخمين وليس بحجة وقد روت أنه كان يفعله والحجة في فعله وقد ثبت أمره به فتأكدت بذلك مشروعيته
القول السادس : أن الاضطجاع ليس مقصودا لذاته وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر وبين الفريضة روى ذلك البيهقي عن الشافعي
وفيه أن الفصل يحصل بالقعود والتحول والتحدث وليس بمختص بالاضطجاع . قال النووي : والمختار الاضطجاع لظاهر حديث أبي هريرة
وقد أجاب من لم ير مشروعية الاضطجاع عن الأحاديث المذكورة بأجوبة منها : أن حديث أبي هريرة من رواية عبد الواحد ابن زياد عن الأعمش وقد تكلم فيه بسبب ذلك يحيى بن سعيد القطان أبو داود الطيالسي قال يحيى بن سعيد : ما رأيته يطلب حديثا بالبصرة ولا بالكوفة قط وكنت أجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة أذاكره بحديث الأعمش لا يعرف منه حرفا
وقال عمرو بن علي الفلاس : سمعت أبا داود يقول عمد عبد الواحد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها يقول حدثنا الأعمش حدثنا مجاهد في كذا وكذا انتهى
وهذا من روايته عن الأعمش وقد رواه الأعمش بصيغة العنعنة وهو مدلس وقال عثمان بن سعيد الدارمي سألت يحيى بن معين عن عبد الواحد بن زياد فقال ليس بشيء
والجواب عن هذا الجواب أن عبد الواحد بن زياد قد احتج به الأئمة الستة ووثقه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وابن حبان وقد روي عن ابن معين ما يعارض قوله السابق فيه من طريق من روى عنه التضعيف له وهو عثمان بن سعيد الدارمي المتقدم فروى عنه أنه قال : إنه ثقة وروى معاوية بن صالح عن يحيى بن معين أنه صرح بأن عبد الواحد من أثبت أصحاب الأعمش
قال العراقي : وما روى عنه من أنه ليس بثقة فلعله اشتبه على ناقله بعبد الواحد بن زيد وكلاهما بصري ومع هذا فلم ينفرد به عبد [ ص 28 ] الواحد بن زياد ولا شيخه الأعمش فقد رواه ابن ماجه من رواية شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه إلا أنه جعله من فعله لا من قوله
( ومن جملة ) الأجوبة التي أجاب بها النافون لشرعية الاضطجاع أنه اختلف في حديث أبي هريرة المذكور هل من أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من فعله كما تقدم وقد قال البيهقي : إن كونه من فعله أولى أن يكون محفوظا والجواب عن هذا الجواب أن وروده من فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينافي كونه ورد من قوله فيكون عند أبي هريرة حديثان حديث الأمر به وحديث ثبوته من فعله على أن الكل يفيد ثبوت أصل الشرعية فيرد نفي النافين
( ومن الأجوبة ) التي ذكروها أن ابن عمر لما سمع أبا هريرة يروي حديث الأمر به قال : أكثر أبو هريرة على نفسه والجواب عن ذلك أن ابن عمر سئل هل تنكر شيئا مما يقول أبو هريرة فقال : لا وإن أبا هريرة قال : فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا . وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا له بالحفظ
( ومن الأجوبة ) التي ذكروها أن أحاديث الباب ليس فيها الأمر بذلك إنما فيها فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاضطجاع من فعله المجرد إنما يدل على الإباحة عند مالك وطائفة والجواب منع كون فعله لا يدل إلا على الإباحة والسندان قوله { ما آتاكم الرسول فخذوه } وقوله { فاتبعوني } يتناول الأفعال كما يتناول الأقوال
وقد ذهب جمهور العلماء وأكابرهم إلى أن فعله يدل على الندب وهذا على فرض أنه لم يكن في الباب إلا مجرد الفعل وقد عرفت ثبوت القول من وجه صحيح
( ومن الأجوبة ) التي ذكروها أن أحاديث عائشة في بعضها الاضطجاع قبل ركعتي الفجر وفي بعضها بعد ركعتي الفجر . وفي حديث ابن عباس قبل ركعتي الفجر وقد أشار القاضي عياض إلى أن رواية الاضطجاع بعدهما مرجوحة فتقدم رواية الاضطجاع قبلهما ولم يقل أحد في الاضطجاع قبلهما أنه سنة فكذا بعدهما ويجاب عن ذلك بأنا لا نسلم أرجحية رواية الاضطجاع بعد صلاة الليل وقبل ركعتي الفجر على رواية الاضطجاع بعدهما بل رواية الاضطجاع بعدهما أرجح والحديث من رواية عروة عن عائشة ورواه عن عروة محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة والزهري ففي رواية محمد بن عبد الرحمن إثبات الاضطجاع بعد ركعتي الفجر وهي في صحيح البخاري ولم تختلف الرواية عنه في ذلك واختلفت الرواة عن الزهري فقال مالك في أكثر الروايات عنه أنه كان إذا فرغ من صلاة الليل اضطجع على شقه الأيمن الحديث ولم يذكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
وقال معمر ويونس وعمرو بن الحارث والأوزاعي وابن أبي ذئب وشعيب بن أبي [ ص 29 ] حمزة عن عروة عن عائشة : ( كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن ) وهذه الرواية اتفق عليها الشيخان فرواها البخاري من رواية معمر ومسلم من رواية يونس بن يزيد وعمرو بن الحارث قال البيهقي عقب ذكرهما : والعدد أولى بالحفظ من الواحد قال : وقد يحتمل أن يكونا محفوظين فنقل مالك أحدهما ونقل الباقون الآخر قال : واختلف فيه أيضا على ابن عباس قال : وقد يحتمل مثل ما احتمل في رواية مالك
وقال النووي : إن حديث عائشة وحديث ابن عباس لا يخالفان حديث أبي هريرة فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلهما أن لا يضطجع بعدهما ولعله صلى الله عليه وآله وسلم ترك الاضطجاع بعدهما في بعض الأوقات بيانا للجواز ويحتمل أن يكون المراد بالاضطجاع قبلهما هو نومه صلى الله عليه وآله وسلم بين صلاة الليل وصلاة الفجر كما ذكره الحافظ وفي تحديثه صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة بعد ركعتي الفجر دليل على جواز الكلام بعدهما وإليه ذهب الجمهور وقد روي عن ابن مسعود أنه كرهه روى ذلك الطبراني عنه وممن كرهه من التابعين سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وحكي عن سعيد بن المسيب وقال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون الكلام بعد الركعتين
وعن عثمان بن أبي سليمان قال : إذا طلع الفجر فليسكتوا وإن كانوا ركبانا وإن لم يركعوهما فليسكتوا
إذا عرفت الكلام في الاضطجاع تبين لك مشروعيته وعلمت بما أسلفنا لك من أن تركه صلى الله عليه و سلم لا يعارض الأمر للأمة الخاص بهم ولاح لك قوة القول بالوجوب والتقييد في الحديث بأن الاضطجاع كان على الشق الأيمن يشعر بأن حصول المشروع لا يكون إلا بذلك لا بالاضطجاع على الجانب الأيسر ولا شك في ذلك مع القدرة
وأما مع التعذر فهل يحصل المشروع بالاضطجاع على الأيسر أم لا بل يشير إلى الاضطجاع على الشق الأيمن جزم بالثاني ابن حزم وهو الظاهر
( والحكمة ) في ذلك أن القلب معلق في الجانب الأيسر فإذا اضطجع على الجانب الأيسر غلبه النوم وإذا اضطجع على الأيمن قلق لقلق القلب وطلبه لمستقره

7 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس )
- رواه الترمذي . وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضاهما مع الفريضة لما نام عن الفجر في السفر

- الحديث قال الترمذي بعد إخراجه له : حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه [ ص 30 ] وأخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه والدارقطني والبيهقي
والحديث الذي أشار إليه المصنف قد تقدم في باب قضاء الفوائت من أبواب الأوقات
( والحديث ) استدل به على أن من لم يركع ركعتي الفجر قبل الفريضة فلا يفعل بعد الصلاة حتى تطلع الشمس ويخرج الوقت المنهي عن الصلاة فيه وإلى ذلك ذهب الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق حكى ذلك الترمذي عنهم وحكاه الخطابي عن الأوزاعي قال العراقي : والصحيح من مذهب الشافعي أنهما يفعلان بعد الصبح ويكونان أداء
( والحديث ) لا يدل صريحا على أن من تركهما قبل الصبح لا يفعلهما إلا بعد طلوع الشمس وليس فيه إلا الأمر لمن لم يصلهما مطلقا أن يصليهما بعد طلوع الشمس ولا شك أنهما إذا تركا في وقت الأداء فعلا في وقت القضاء وليس في الحديث ما يدل على المنع من فعلهما بعد صلاة الصبح ويدل على ذلك رواية الدارقطني والحاكم والبيهقي فإنها بلفظ : ( من لم يصل ركعتي الفجر حتى تطلع الشمس فليصلهما ) ويدل على عدم الكراهة أيضا حديث قيس بن عمرو أو ابن فهد أو ابن سهل على اختلاف الروايات عند الترمذي وأبي داود وابن ماجه قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقيمت الصلاة فصليت معه الصبح ثم انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدني أصلي فقال : مهلا يا قيس أصلاتان معا قلت : يا رسول الله إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر قال : فلا إذن ) ولفظ أبي داود قال : ( رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال : صلاة الصبح ركعتان فقال الرجل : إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن فسكت )
قال الترمذي : إنما يروى هذا الحديث مرسلا وإسناده ليس بمتصل لأن فيه محمد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو ومحمد لم يسمع من قيس
وقول الترمذي إنه مرسل ومنقطع ليس بجيد فقد جاء متصلا من رواية يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس رواه ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان من طريقه وطريق غيره والبيهقي في سننه عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس المذكور
وقد قيل إن سعيد بن قيس لم يسمع من أبيه فيصح ما قاله الترمذي من الانقطاع
وأجيب عن ذلك بأنه لم يعرف القائل بذلك وقد أخرجه أيضا الطبراني في الكبير من طريق أخرى متصلة فقال : حدثنا إبراهيم بن متويه الأصبهاني حدثنا أحمد بن الوليد بن برد الأنصاري حدثنا أيوب بن سويد عن ابن جريج عن عطاء أن قيس بن سهل حدثه : ( أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ولم يكن صلى الركعتين فصلى [ ص 31 ] مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما قضى صلاته قام فركع )
وأخرجه ابن حزم في المحلى من رواية الحسن بن ذكوان عن عطاء بن أبي رباح عن رجل من الأنصار قال : ( رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يصلي بعد الغداة فقال : يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر فصليتهما الآن فلم يقل له شيئا ) قال العراقي : وإسناده حسن ويحتمل أن الرجل هو قيس المتقدم
ويؤيد الجواز حديث ثابت بن قيس بن شماس عند الطبراني في الكبير قال : ( أتيت المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة فلما سلم النبي التفت إلي وأنا أصلي فجعل ينظر إلي وأنا أصلي فلما فرغت قال : ألم تصل معنا قلت : نعم قال : فما هذه الصلاة قلت : يا رسول الله ركعتا الفجر خرجت من منزلي ولم أكن صليتهما قال : فلم يعب ذلك علي ) وفي إسناده الجراح بن منهال وهو منكر الحديث قاله البخاري ومسلم ونسبه ابن حبان إلى الكذب
( وفي الحديث ) مشروعية قضاء النوافل الراتبة وظاهره سواء فاتت لعذر أو لغير عذر
وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال :
أحدها : استحباب قضائها مطلقا سواء كان الفوت لعذر أو لغير عذر لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أطلق الأمر بالقضاء ولم يقيده بالعذر وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة عبد الله بن عمر ومن التابعين عطاء وطاوس والقاسم ابن محمد ومن الأئمة ابن جريج والأوزاعي والشافعي في الجديد وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن والمزني
والقول الثاني : أنها لا تقضى وهو قول أبي حنيفة ومالك وأبي يوسف في أشهر الروايتين عنه وهو قول الشافعي في القديم ورواية عن أحمد والمشهور عن مالك قضاء ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس
والقول الثالث : التفرقة بين ما هو مستقل بنفسه كالعيد والضحى فيقضى وبين ما هو تابع لغيره كرواتب الفرائض فلا يقضى وهو أحد الأقوال عن الشافعي
والقول الرابع : إن شاء قضاها وإن شاء لم يقضها على التخيير وهو مروي عن أصحاب الرأي ومالك
والقول الخامس : التفرقة بين الترك لعذر نوم أو نسيان فيقضى أو لغير عذر فلا يقضى وهو قول ابن حزم واستدل بعموم قوله ( من نام عن صلاته ) الحديث
وأجاب الجمهور أن قضاء التارك لها تعمد من باب الأولى وقد قدمنا الجواب عن هذه الأولوية [ ص 32 ]

باب ما جاء في قضاء سنتي الظهر

1 - عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها )
- رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب

2 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر صلاهن بعد الركعتين بعد الظهر )
- رواه ابن ماجه

- الحديث الأول رجال إسناده ثقات إلا عبد الوارث بن عبيد الله العتكي وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقد حسنه الترمذي كما قال المصنف وقال : إنه غريب إنما نعرفه من حديث ابن المبارك من هذا الوجه قال : وقد رواه قيس بن الربيع عن شعبة عن خالد الحذاء نحو هذا ولا نعلم أحدا رواه عن شعبة غير قيس بن الربيع
والحديث الثاني رواه ابن ماجه عن محمد بن يحيى وزيد بن أخزم ومحمد بن معمر ثلاثتهم عن موسى بن داود الكوفي عن قيس بن الربيع عن شعبة عن خالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق عن عائشة وكلهم ثقات إلا قيس بن الربيع ففيه مقال وقد وثق وفي الباب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا عند ابن أبي شيبة قال : قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فاتته أربع قبل الظهر صلاها بعدها )
( والحديثان ) يدلان على مشروعية المحافظة على السنن التي قبل الفرائض وعلى امتداد وقتها إلى آخر وقت الفريضة وذلك لأنها لو كانت أوقاتها تخرج فعل الفرائض لكان فعلها بعدها قضاء وكانت مقدمة على فعل سنة الظهر
وقد ثبت في حديث الباب أنها تفعل بعد ركعتي الظهر ذكر معنى ذلك العراقي قال : وهو الصحيح عند الشافعية قال : وقد يعكس هذا فيقال لو كان وقت الأداء باقيا لقدمت على ركعتي الظهر وذكر أن الأول أولى

3 - وعن أم سلمة قالت : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عنهما تعني الركعتين بعد العصر ثم رأيته يصليهما أما حين صلاهما فإنه صلى العصر ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما فأرسلت إليه الجارية فقلت : قومي بجنبه فقولي له تقول لك أم سلمة يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما فإن أشار بيده فاستأخري عنه ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت عنه فلما انصرف [ ص 33 ] قال : يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر فإنه أتاني ناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان )
- متفق عليه . وفي رواية لأحمد : ( ما رأيته صلاهما قبلها ولا بعدها )

- قوله : ( أما حين صلاهما فإنه صلى العصر ) هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري : ( ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر
قوله : ( من بني حرام ) بفتح المهملتين
قوله : ( فصلاهما ) يعني بعد الدخول
قوله : ( فأشار بيده ) قيد جواز الإشارة باليد في الصلاة لمن كلم المصلي في حاجة وقد تقدم البحث في ذلك
قوله : ( يا بنت أبي أمية ) هو والد أم سلمة واسمه حذيفة وقيل سهيل بن المغيرة المخزومي
قوله : ( عن الركعتين ) يعني اللتين صليتهما الآن
قوله : ( فإنه أتاني ناس من بني عبد القيس ) زاد في المغازي بالإسلام ( من قومهم فسألوني ) وفي رواية للطحاوي : ( فنسيتهما ثم ذكرتهما فكرهت أن أصليهما في المسجد والناس يرون فصليتهما عندك ) وله من وجه آخر : ( فجاءني مال فشغلني ) وله من وجه آخر : ( قدم علي وفد من بني تميم أو جاءتني صدقة )
قوله : ( فهما هاتان ) زاد الطحاوي : ( فقلت أمرت بهما فقال لا ولكن كنت أصليهما بعد الظهر فشغلت عنهما فصليتهما الآن )
قوله : ( ما رأيته صلاهما قبلها ولا بعدها ) لفظ الطحاوي : ( لم أره صلاهما قبل ولا بعد ) وعند الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : ( إنما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الركعتين بعد العصر لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر ثم لم يعد )
ولكن هذا لا ينفي الوقوع فقد ثبت في صحيح مسلم : ( أن عائشة قالت : كان يصليهما قبل العصر فشغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما وكان إذا صلى صلاة أثبتها ) أي داوم عليها
وفي البخاري عنها أنها قالت : ( ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجدتين بعد العصر عندي قط ) وفيه عنها ( ركعتان لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعهما سرا ولا علانية ركعتان قبل صلاة الصبح وركعتان بعد العصر ) وفيه أيضا عنها ( ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين )
وقد جمع بين رواية النفي وروايات الإثبات بحمل النفي على المسجد أي لم يفعلهما في المسجد والإثبات على البيت
وقد تمسك بحديث الباب من قال بجواز قضاء الفوائت في الأوقات المكروهة ومن أجاز التنفل بعد العصر مطلقا ما لم يقصد الصلاة عند غروب الشمس وأجاب من أطلق الكراهة بأن ذلك من خصائصه والدليل عليه ما أخرجه أبو داود عن عائشة أنها قالت : ( كان يصلي بعد العصر وينهى عنهما ويواصل وينهى [ ص 34 ] عن الوصال ) وما أخرجه أحمد عن أم سلمة أنها قالت : ( فقلت يا رسول الله أنقضيهما إذا فاتا فقال : لا ) قال البيهقي : وهي رواية ضعيفة
وقد احتج بها الطحاوي على أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم قال البيهقي : الذي اختص به صلى الله عليه وآله وسلم المداومة على ذلك لا أصل القضاء اه
وعلى تسليم عدم اختصاصه بالقضاء بل بمجرد المداومة كما دل عليه حديث عائشة المذكور فليس في حديث الباب إلا جواز قضاء الفائتة لا جواز التنفل مطلقا
وللعلماء في ذلك مذاهب يأتي ذكرها وبيان الراجح منها في باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
وللحديث فوائد ليس هذا محل بسطها وقد أشار في الفتح قبيل كتاب الجنائز إلى بعض منها

باب ما جاء في قضاء سنة العصر

1 - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : ( أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصليهما بعد العصر فقالت : كان يصليهما قبل العصر ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما وكان إذا صلى صلاة داوم عليها )
- رواه مسلم والنسائي

2 - وعن أم سلمة قالت : ( شغل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الركعتين قبل العصر فصلاهما بعد العصر )
- رواه النسائي

3 - وعن ميمونة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهز بعثا ولم يكن عنده ظهر فجاءه ظهر من الصدقة فجعل يقسمه بينهم فحبسوه حتى أرهق العصر وكان يصلي قبل العصر ركعتين أو ما شاء الله فصلى العصر ثم رجع فصلى ما كان يصلي قبلها وكان إذا صلى صلاة أو فعل شيئا يحب أن يداوم عليه )
- رواه أحمد

- الحديث الأول له طرق وألفاظ هذا الذي ذكر المصنف أحدها
والحديث الثاني رجاله رجال الصحيح وقد أخرجه أيضا البخاري ومسلم وغيرهما لكن ليس فيه قوله عن الركعتين قبل العصر بل فيه التصريح بأن الركعتين اللتين شغل عنهما الركعتان اللتان بعد الظهر
والحديث الثالث في إسناده حنظلة السدوسي وهو ضعيف وقد أخرجه أيضا الطبراني وأشار إليه الترمذي
( وأحاديث الباب ) تدل على مشروعية قضاء ركعتي العصر بعد فعل الفريضة فيكون قضاؤهما في ذلك الوقت مخصصا لعموم أحاديث النهي وسيأتي [ ص 35 ] البحث مستوفى في باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
وأما المداومة على ذلك فمختصة به صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم واعلم أنها قد اختلفت الأحاديث في النافلة المقضية بعد العصر هل هي الركعتان بعد الظهر المتعلقتان به أو هي سنة العصر المفعولة قبله ففي حديث أم سلمة المتقدم في الباب الأول وكذلك حديث ابن عباس المتقدم التصريح بأنهما ركعتا الظهر وفي أحاديث الباب أنهما ركعتا العصر
ويمكن الجمع بين الروايات بأن يكون مراد من قال بعد الظهر ومن قال قبل العصر الوقت الذي بين الظهر والعصر فيصح أن يكون مراد الجميع سنة الظهر المفعولة بعده أو سنة العصر المفعولة قبله
وأما الجمع بتعدد الواقعة وأنه صلى الله عليه وآله وسلم شغل تارة عن أحدهما وتارة عن الأخرى فبعيد لأن الأحاديث مصرحة بأنه داوم عليهما وذلك يستلزم أنه كان يصلي بعد العصر أربع ركعات ولم ينقل ذلك أحد

باب أن الوتر سنة مؤكدة وأنه جائز على الراحلة

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من لم يوتر فليس منا )
- رواه أحمد

2 - وعن علي رضي الله عنه قال : ( الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ولكنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه . ولفظه : ( إن الوتر ليس بحتم ولا كصلاتكم المكتوبة ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوتر فقال : يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر )

3 - وعن ابن عمر : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوتر على بعيره )
- رواه الجماعة

4 - وعن أبي أيوب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الوتر حق فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل )
- رواه الخمسة إلا الترمذي . وفي لفظ لأبي داود : ( الوتر حق على كل مسلم ) ورواه ابن المنذر وقال فيه : ( الوتر حق وليس بواجب )

- أما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وفي إسناده الخليل بن مرة قال فيه أبو زرعة : شيخ صالح وضعفه أبو حاتم والبخاري
وأما حديث علي فحسنه الترمذي وصححه الحاكم
وأما حديث ابن عمر فأخرجه الجماعة كما ذكر المصنف
وأما حديث [ ص 36 ] أبي أيوب فأخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم وله ألفاظ وصحح أبو حاتم والذهلي والدارقطني في العلل والبيهقي وغير واحد وقفه . قال الحافظ : وهو الصواب
( وفي الباب ) عن أبي هريرة غير حديثه المذكور في الباب عند البيهقي في الخلافيات بلفظ : ( إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن ) وعن ابن عمرو عند ابن أبي شيبة وأحمد بلفظ : ( وزادكم صلاة حافظوا عليها وهي الوتر ) وفي إسناده ضعيفان
وعن بريدة عند أبي داود بلفظ : ( الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا ) ورواه الحاكم في المستدرك ولم يكرر لفظه . وقال : هذا حديث صحيح
وعن أبي بصرة عند أحمد بلفظ : ( إن الله زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها فيما بين العشاء إلى الفجر ) ورواه الطبراني بلفظ : ( فحافظوا عليها )
وعن سليمان بن صرد عند الطبراني في الأوسط بلفظ : ( وأوتروا فالله وتر يحب الوتر )
وعن ابن عباس عند البزار بلفظ : ( إن الله قد أمدكم بصلاة وهي الوتر )
وعن ابن عمر عند البيهقي بلفظ : ( إن الله زادكم صلاة وهي الوتر ) وفي إسناده مقال
وعن ابن مسعود عند البزار بلفظ : ( الوتر واجب على كل مسلم ) وفي إسناده جابر الجعفي وقد ضعفه الجمهور ووثقه الثوري وله حديث آخر عند أبي داود وابن ماجه بلفظ حديث أبي هريرة الذي ذكرناه
وعن عبد الله بن أبي أوفى عند البيهقي بلفظ حديث أبي بصرة المتقدم وفي إسناده أحمد بن مصعب وهو ضعيف
وعن علي عند أهل السنن بنحو حديث أبي هريرة الذي ذكرناه
وعن عقبة بن عامر وعمرو بن العاص عند الطبراني في الكبير والأوسط بنحو حديث أبي بصرة . وعن معاذ عند أحمد بنحو حديث أبي بصرة أيضا . وعن ابن مسعود حديث آخر عند الطبراني في الصغير بلفظ : ( الوتر على أهل القرآن )
وعن ابن عباس حديث آخر عند أحمد والطبراني والدارقطني والبيهقي بلفظ : ( ثلاث علي فرائض وهي لكم تطوع النحر والوتر وركعتا الفجر ) وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك شاهدا على أن الوتر ليس بحتم وسكت عليه
وقال البيهقي في روايته ركعتا الضحى بدل ركعتي الفجر . وعن أنس عند الدارقطني بلفظ : قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت بالوتر والأضحى ولم يعزم علي ) وفي إسناده عبد الله بن محرر ( 1 ) وهو ضعيف . وعن جابر عند المرزوي بلفظ : ( إني كرهت أو خشيت أن يكتب عليكم الوتر ) وعن [ ص 37 ] عائشة عند الطبراني في الأوسط بلفظ : ( ثلاث هن علي فريضة وهن لكم سنة الوتر والسواك وقيام الليل )
واعلم أن هذه الأحاديث فيها ما يدل على الوجوب كقوله ( فليس منا ) وقوله ( الوتر حق ) وقوله ( أوتروا وحافظوا ) وقوله ( الوتر واجب ) وفيها ما يدل على عدم الوجوب وهو بقية أحاديث الباب فتكون صارفة لما يشعر بالوجوب . وأما حديث الوتر واجب فلو كان صحيحا لكان مشكلا لما عرفناك في باب غسل يوم الجمعة من أن التصريح بالوجوب لا يصح أن يقال إنه مصروف إلى غيره بخلاف بقية الألفاظ المشعرة بالوجوب
( وقد ذهب الجمهور ) إلى أن الوتر غير واجب بل سنة وخالفهم أبو حنيفة فقال إنه واجب وروي عنه فرض وتمسك بما عرفت من الأدلة الدالة على الوجوب وأجاب عليه الجمهور بما تقدم
قال ابن المنذر : ولا أعلم أحدا وافق أبا حنيفة في هذا وأورد المصنف في الباب حديث ابن عمر ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم أوتر على بعيره ) للاستدلال به على عدم الوجوب لأن الفريضة لا تصلى على الراحلة وكذلك إيراده حديث أبي أيوب للاستدلال بما فيه من التخيير على عدم الوجوب وهو إنما يدل على عدم وجوب أحدها على التعيين لا على عدم الوجوب مطلقا ويمكن أنه أورده للاستدلال به على الوجوب لقوله فيه حق
ومن الأدلة الدالة على عدم وجوب الوتر ما اتفق عليه الشيخان من حديث طلحة بن عبيد الله قال : ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل نجد ) الحديث . وفيه : ( فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خمس صلوات في اليوم والليلة قال : هل علي غيرها قال : لا إلا أن تطوع )
وروى الشيخان أيضا من حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معاذا إلى اليمن ) الحديث . وفيه : ( فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ) وهذا من أحسن ما يستدل به لأن بعث معاذ كان قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم بيسير
( وأجاب الجمهور ) أيضا عن أحاديث الباب المشعرة بالوجوب بأن أكثرها ضعيف وهو حديث أبي هريرة وعبد الله ابن عمر وبريدة وسليمان ابن صرد وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وابن أبي أوفى وعقبة بن عامر ومعاذ بن جبل كذا قال العراقي . وبقيتها لا يثبت بها المطلوب لا سيما مع قيام ما أسلفناه من الأدلة الدالة على عدم الوجوب [ ص 38 ]
_________
( 1 ) هو بمهملات الجزري القاضي . قال الحافظ في التقريب : متروك من السابعة مات في خلافة أبي جعفر

باب الوتر بركعة وبثلاث وخمس وسبع وتسع بسلام واحد وما يتقدمها من الشفع

1 - عن ابن عمر قال : ( قام رجل فقال : يا رسول الله كيف صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة )
- رواه الجماعة . وزاد أحمد في رواية : ( صلاة الليل مثنى مثنى تسلم في ركعتين ) وذكر الحديث . ولمسلم : ( قيل لابن عمر ما مثنى مثنى قال يسلم في كل ركعتين )

- الحديث زاد فيه الخمسة : ( صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ) وقد اختلف في زيادة قوله والنهار فضعفها جماعة لأنها من طريق علي البارقي الأزدي عن ابن عمر وهو ضعيف عند ابن معين وقد خالفه جماعة من أصحاب ابن عمر ولم يذكروا فيه النهار
وقال الدارقطني في العلل : إنها وهم وقد صححها ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك وقال : رواتها ثقات وقال الخطابي : إن سبيل الزيادة من الثقة أن تقبل وقال البيهقي : هذا حديث صحيح وعلي البارقي احتج به مسلم والزيادة من الثقة مقبولة وقد صححه البخاري لما سئل عنه ثم روى ذلك بسنده إليه قال : وقد روي عن محمد بن سيرين عن ابن عمر مرفوعا بإسناد كلهم ثقات اه كلام البيهقي . وله طرق وشواهد وقد ذكر بعض ذلك الحافظ في التلخيص
قوله : ( قام رجل ) وقع في معجم الطبراني الصغير أن السائل هو ابن عمر ولكنه يشكل عليه ما وقع في بعض الروايات عن ابن عمر بلفظ : ( أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا بينه وبين السائل ) فذكر الحديث
وفيه ( ثم سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان منه قال : فما أدري أهو ذلك الرجل أم غيره ) وعند النسائي أن السائل المذكور من أهل البادية
قوله : ( كيف صلاة الليل ) الجواب عن هذا السؤال يشعر بأنه وقع عن كيفية الوصل والفصل لا عن مطلق الكيفية
قوله : ( مثنى مثنى ) أي اثنتين اثنتين وهو غير منصرف للعدل والوصف وتكرار لفظ مثنى للمبالغة وقد فسر ذلك ابن عمر في رواية أحمد ومسلم عنه كما ذكره المصنف
وقد أخذ مالك بظاهر الحديث فقال : لا تجوز الزيادة على الركعتين
قال ابن دقيق العيد : وهو ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل لما صح من فعله صلى الله عليه وآله وسلم مما يخالف ذلك كما سيأتي ويحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف [ ص 39 ] إذ السلام من الركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها لما فيه من الراحة غالبا
وقد اختلف السلف في الأفضل من الفصل والوصل فقال أحمد : الذي أختاره في صلاة الليل مثنى مثنى وإن صلى بالنهار أربعا فلا بأس
وقال محمد بن نصر نحوه في صلاة الليل قال : وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرها إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على الوصل
قوله : ( فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ) استدل به على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر . وأصرح منه ما رواه أبو داود والنسائي وصححه أبو عوانة وغيره عن ابن عمر أنه قال : ( من صلى الليل فليجعل آخر صلاته وترا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بذلك فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر ) وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي سعيد مرفوعا : ( من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له ) وسيأتي الكلام على هذا في باب وقت صلاة الوتر
( والحديث ) يدل على مشروعية الإيتار بركعة واحدة عند مخافة هجوم الصبح وسيأتي ما يدل على مشروعية ذلك من غير تقييد وقد ذهب إلى ذلك الجمهور
قال العراقي : وممن كان يوتر بركعة من الصحابة الخلفاء الأربعة وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري وأبو الدرداء وحذيفة وابن مسعود وابن عمر وابن عباس ومعاوية وتميم الداري وأبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة وفضالة بن عبيد وعبد الله بن الزبير ومعاذ بن الحارث القاري وهو مختلف في صحبته وقد روي عن عمر وعلي وأبي وابن مسعود الإيتار بثلاث متصلة
قال : وممن أوتر بركعة سالم بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة والحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء ابن أبي رباح وعقبة بن عبد الغافر وسعيد بن جبير ونافع بن جبير بن مطعم وجابر بن زيد والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وغيرهم
ومن الأئمة مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وابن حزم . وذهبت الهادوية وبعض الحنفية إلى أنه لا يجوز الإيتار بركعة وإلى أن المشروع الإيتار بثلاث . واستدلوا بما روي من حديث محمد بن كعب القرظي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن البتيراء ) قال العراقي : وهذا مرسل ضعيف
وقال ابن حزم : لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهي عن البتيراء قال : ولا في الحديث على سقوطه بيان ما هي البتيراء
قال : وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس الثلاث بتيراء يعني الوتر قال : فعاد البتيراء على المحتج بالخبر الكاذب فيها اه
واحتجوا أيضا بما حكي عن ابن مسعود أنه قال : ما أجزأت [ ص 40 ] ركعة قط . قال النووي في شرح المهذب : إنه ليس بثابت عنه قال : ولو ثبت لحمل على الفرائض فقد قيل إنه ذكره ردا على ابن عباس في قوله إن الواجب من الصلاة الرباعية في حال الخوف ركعة واحدة فقال ابن مسعود : ما أجزأت ركعة قط أي عن المكتوبات اه وقد روى ابن أبي شيبة في المصنف ومحمد بن نصر في قيام الليل من رواية محمد بن سيرين قال : سمر حذيفة وابن مسعود عند الوليد بن عقبة وهو أمير مكة فلما خرجا أوتر كل واحد منهما بركعة ومحمد بن سيرين لم يدرك ابن مسعود ولكن القائل بعدم صحة الإيتار بركعة من الهادوية والحنفية يرى الاحتجاج بالمرسل واحتج بعض الحنفية على الاقتصار على ثلاث وعدم إجزاء غيرها بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز واختلفوا فيما عداه قال : فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه وتعقب بمنع الإجماع وبما سيأتي من النهي عن الإيتار بثلاث

2 - وعن ابن عمر أنه : ( كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى أنه كان يأمر ببعض حاجته )
- رواه البخاري

3 - وعن ابن عمر وابن عباس أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( الوتر ركعة من آخر الليل )
- رواه أحمد ومسلم

- الأثر والحديث يدلان على مشروعية الإيتار بركعة وتعريف المسند من قوله الوتر ركعة مشعر بالحصر لولا ورود منطوقات قاضية بجواز الإيتار بغير ركعة وسيأتي
قال الحافظ : وظاهر الأثر المروي عن ابن عمر أنه كان يصلي الوتر موصولا فإن عرضت له حاجة فصل . وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني قال : ( صلى ابن عمر ركعتين ثم قال يا غلام ارحل لنائم قام وأوتر بركعة ) . وروى الطحاوي عن ابن عمر : ( أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمه وأخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعله ) وإسناده قوي وقد تقدم الكلام على الإيتار بركعة

4 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة فإذا سكب المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر وجاء المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة )
- رواه الجماعة إلا الترمذي

- الحديث قد تقدم الكلام على أطراف منه في ركعتي الفجر وفي الاضطجاع وفي الإيتار بركعة وقد تقدم الكلام في دلالة كان على الدوام وقد ورد عن عائشة في [ ص 41 ] الإخبار عن صلاته صلى الله عليه وآله وسلم بالليل روايات مختلفة . منها هذه ومنها الرواية الآتية في هذا الباب أنه : ( كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ويوتر بخمس )
ومنها عند الشيخين أنه : ( ما كان يزيد صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا ) . ومنها أيضا ما سيأتي في هذا الباب أنه : ( كان يصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة ثم ينهض ولا يسلم فيصلي التاسعة ثم يسلم ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة فلما أسن أوتر بسبع )
ولأجل هذا الاختلاف نسب بعضهم إلى حديثها الاضطراب وأجيب عن ذلك بأنه لا يتم الاضطراب إلا على تسليم أن إخبارها عن وقت واحد وليس كذلك بل هو محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط ويجمع بين قولها أنه ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعة وبين إثباتها الثلاث عشرة ركعة بأنها أضافت إلى الإحدى عشرة ما كان يفتتح به صلاته من الركعتين الخفيفتين كما ثبت في صحيح مسلم
ويدل على ذلك أنها قالت عند تفصيل الإحدى عشرة كان يصلي أربعا ثم أربعا وتركت التعرض للافتتاح بالركعتين وكذلك قالت في الرواية الأخرى أنه كان يصلي تسع ركعات ثم يصلي ركعتين والجمع بين الروايات ما أمكن هو الواجب
قوله : ( وسكب المؤذن ) هو بفتح السين المهملة والكاف وبعدها باء موحدة أي أسرع مأخوذ من سكب الماء
قوله : ( قام فركع ركعتين ) وقد تقدم الكلام فيهما

5 - وعن أبي بن كعب : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وفي الركعة الثانية بقل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بقل هو الله أحد ولا يسلم إلا في آخرهن )
- رواه النسائي

- الحديث رجال إسناده ثقات إلا عبد العزيز بن خالد وهو مقبول وقد أخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجه بدون قوله ولا يسلم إلا في آخرهن
وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد في ركعة ركعة ) ولم يذكر فيه ولا يسلم إلا في آخرهن أيضا
وعن عبد الرحمن ابن أبزي عند النسائي بنحو حديث ابن عباس وقد اختلف في صحبته وفي إسناد حديثه [ ص 42 ] هذا وسيأتي . وعن أنس عند محمد بن نصر المروزي بنحو حديث ابن عباس . وعن عبد الله بن أبي أوفى عند البزار بنحوه . وعن عبد الله بن عمرو عند الطبراني والبزار أيضا بنحوه في إسناده سعيد بن سنان وهو ضعيف جدا . وعن عبد الله بن مسعود عند البزار وأبي يعلى والطبراني في الكبير والأوسط بنحوه أيضا وفي إسناده عبد الملك بن الوليد بن معدان وثقه يحيى بن معين وضعفه البخاري وغير واحد . وعن عبد الرحمن بن سبرة عند الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه أيضا وفي إسناده إسماعيل بن رزين ذكره الأزدي في الضعفاء وابن حبان في الثقات . وعن عمران بن حصين عند النسائي والطبراني بنحوه أيضا . وعن النعمان بن بشير عند الطبراني في الأوسط بنحوه وفي إسناده السري بن إسماعيل وهو ضعيف . وعن أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط بزيادة والمعوذتين في الثالثة وفي إسناده المقدام بن داود وهو ضعيف . وعن عائشة عند أبي داود والترمذي بزيادة كل سورة في ركعة وفي الأخيرة قل هو الله أحد والمعوذتين وفي إسناده خصيف الجزري وفيه لين ورواه الدارقطني وابن حبان والحاكم من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة وتفرد به يحيى بن أيوب عنه وفيه مقال ولكنه صدوق وقال العقيلي : إسناده صالح قال ابن الجوزي : وقد أنكر أحمد ويحيى زيادة المعوذتين وروى ابن السكن في صحيحه لذلك شاهدا من حديث عبد الله بن سرجس بإسناد غريب وروى المعوذتين محمد بن نصر من حديث ابن ضميرة عن أبيه عن جده وهو حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة وهو ضعيف عند أحمد وابن معين وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم . وكذبه مالك وأبوه لا يعرف وجده ضميرة يقال إنه مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
( والأحاديث ) تدل على مشروعية قراءة هذه السورة في الوتر وحديث الباب يدل أيضا على مشروعية الإيتار بثلاث ركعات متصلة وسيأتي الكلام على ذلك

6 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن )
- رواه أحمد والنسائي ولفظه : ( كان لا يسلم في ركعتي الوتر ) وقد ضعف أحمد إسناده وإن ثبت فيكون قد فعله أحيانا كما أوتر بالخمس والسبع والتسع كما سنذكره

7 - وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا توتروا بثلاث أوتروا بخمس أو سبع ولا تشبهوا بصلاة المغرب )
- رواه الدارقطني بإسناده وقال : كلهم ثقات

- أما حديث عائشة فأخرجه أيضا البيهقي والحاكم بلفظ أحمد وأخرجه أيضا [ ص 43 ] البيهقي والحاكم بلفظ النسائي وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وأخرج الحاكم أيضا من حديث عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر بثلاث ) وليس فيه لا يفصل بينهن وصححه وقال على شرط الشيخين وأخرجه أيضا الترمذي وأخرج الشيخان وغيرهما عنها أنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا )
وفي الباب عن علي عند الترمذي بلفظ : ( كان يوتر بثلاث ) . وعن عمران بن حصين عند محمد بن نصر بلفظ حديث علي . وعن ابن عباس عند مسلم وأبي داود والنسائي بلفظ : ( أوتر بثلاث ) . وعن أبي أيوب عند أبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ : ( ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ) وعن أبي بن كعب عند أبي داود والنسائي وابن ماجه أيضا بنحو حديث علي . وعن عبد الرحمن بن أبزي عند النسائي بنحوه أيضا . وعن ابن عمر عند ابن ماجه بنحوه أيضا . وعن ابن مسعود عند الدارقطني بنحوه أيضا وفي إسناده يحيى بن زكريا بن أبي الحواجب وهو ضعيف . وعن أنس عند محمد بن نصر بنحوه أيضا . وعن ابن أبي أوفى عند البزار بنحوه أيضا . وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه . قال الحافظ . ورجاله كلهم ثقات ولا يضره وقف من وقفه . وأخرجه أيضا محمد بن نصر من رواية عراك بن مالك عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك ) قال العراقي : وإسناده صحيح
وأخرج أيضا من رواية عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا توتروا بثلاث أوتروا بخمس أو بسبع ولا تشبهوا بصلاة المغرب ) قال العراقي أيضا : وإسناده صحيح ثم روى محمد بن نصر قول مقسم إن الوتر لا يصلح إلا بخمس أو سبع وإن الحكم بن عتيبة سأله عمن فقال عن الثقة عن الثقة عن عائشة وميمونة وقد روى نحوه النسائي عن ميمونة مرفوعا
وروى محمد بن نصر أيضا بإسناد قال العراقي : صحيح عن ابن عباس قال : ( الوتر سبع أو خمس ولا نحب ثلاثا بتراء )
وروي أيضا عن عائشة بإسناد قال العراقي أيضا : صحيح أنها قالت : ( الوتر سبع أو خمس وإني لأكره أن يكون ثلاثا بتراء ) . وروي أيضا بإسناد صححه العراقي أيضا عن سليمان بن يسار : ( أنه سئل عن الوتر بثلاث فكره الثلاث وقال : لا تشبه التطوع بالفريضة أوتر بركعة أو بخمس أو [ ص 44 ] بسبع ) قال محمد بن نصر : لم نجد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبرا ثابتا صريحا أنه أوتر بثلاث موصولة قال : نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أم مفصولة اه وتعقبه العراقي والحافظ بحديث عائشة الذي ذكره المصنف وبحديث كعب بن عجرة المتقدم قالا : ويجاب عن ذلك باحتمال أنهما لم يثبتا عنده . وقد قال البيهقي في حديث عائشة المذكور أنه خطأ وجمع الحافظ بين الأحاديث بحمل أحاديث النهي على الإيتار بتشهدين لمشابهة ذلك لصلاة المغرب وأحاديث الإيتار بثلاث على أنها متصلة بتشهد في آخرها وروى فعل ذلك عن جماعة من السلف ويمكن الجمع بحمل النهي عن الإيتار بثلاث على الكراهة والأحوط ترك الإيتار بثلاث مطلقا لأن الإحرام بها متصلة بتشهد واحد في آخرها ربما حصلت به المشابهة لصلاة المغرب وإن كانت المشابهة الكاملة تتوقف على فعل التشهدين وقد جعل الله في الأمر سعة وعلمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوتر على هيئات متعددة فلا ملجئ إلى الوقوع في مضيق التعارض

8 - وعن أم سلمة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام )
- رواه أحمد والنسائي وابن ماجه

9 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن )
- متفق عليه

- الحديث الأول رواه النسائي وابن ماجه من رواية الحكم عن مقسم عن أم سلمة وقد روى في الإيتار بسبع وبخمس أحاديث . منها عن عائشة عند محمد بن نصر بلفظ : ( أوتر بخمس وأوتر بسبع ) وعن ابن عباس عند أبي داود بلفظ : ( ثم صلى سبعا أو خمسا أوتر بهن لم يسلم إلا في آخرهن ) وعن أبي أيوب عند النسائي بلفظ : ( الوتر حق فمن شاء أوتر بسبع ومن شاء أوتر بخمس ) وعن ميمونة عند النسائي بلفظ : ( لا يصلح يعني الوتر إلا بتسع أو خمس ) وعن أبي هريرة عند الدارقطني وقد تقدم وفي الإيتار بخمس أو بسبع أحاديث كثيرة قد تقدم بعضها وسيأتي بعضها قال الترمذي : وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوتر بثلاث عشرة وإحدى عشرة وتسع وسبع وخمس وثلاث وواحدة اه
وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس بلفظ : ( ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن ) وأخرجه البخاري عنه بلفظ : ( ثم صلى خمس ركعات ) وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( أوتر بسبع ) وسيأتي عن عائشة نحوه
وعن أبي أمامة عند أحمد والطبراني [ ص 45 ] نحوه بإسناد صحيح . وعن ابن عباس عند محمد بن نصر نحوه
( والأحاديث ) المذكورة في الباب تدل على مشروعية الإيتار بخمس ركعات أو بسبع وهي ترد على من قال بتعين الثلاث وقد تقدم ذكرهم

10 - وعن سعيد بن هشام أنه قال لعائشة : ( أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول فتلك تسع يا بني وكان نبي الله إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ولا أعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح ولا صام شهرا كاملا غير رمضان )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي . وفي رواية لأحمد والنسائي وأبي داود نحوه وفيها : ( فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة ) وفي رواية للنسائي قالت : ( فلما أسن وأخذه اللحم صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن )

- الإيتار بتسع مروي من طريق جماعة من الصحابة غير عائشة والإيتار بسبع قد تقدم ذكر طرقه
قوله : ( فيتسوك ويتوضأ ) فيه استحباب السواك عند القيام من النوم
قوله : ( ويصلي تسع ركعات ) الخ فيه مشروعية الإيتار بتسع ركعات متصلة لا يسلم إلا في آخرها ويقعد في الثامنة ولا يسلم
قوله : ( ثم يسلم تسليما يسمعنا ) فيه استحباب الجهر بالتسليم
قوله : ( ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد ) أخذ بظاهر الحديث الأوزاعي وأحمد فيما حكاه القاضي عنهما وأباحا ركعتين بعد الوتر جالسا قال أحمد : لا أفعله ولا أمنع من فعله قال : وأنكره مالك
قال النووي : الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما صلى الله عليه و سلم بعد الوتر جالسا لبيان الجواز ولم يواظب على ذلك بل فعله مرة أو مرات قليلة قال : ولا يغتر بقولها كان يصلي فإن المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين أن لفظة كان لا يلزم منها الدوام ولا التكرار وإنما هي فعل ماض تدل على وقوعه مرة فإن دل [ ص 46 ] دليل عمل به وإلا فلا تقتضيه بوضعها وقد قالت عائشة : ( كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه و سلم لحله قبل أن يطوف ) ومعلوم أنه صلى الله عليه و سلم لم يحج بعد أن صحبته عائشة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع قال : ولا يقال لعلها طيبته في إحرامه بعمرة لأن المعتمر لا يحل له الطيب قبل الطواف بالإجماع فثبت أنها استعملت كان في مرة واحدة قال : وإنما تأولنا حديث الركعتين لأن الروايات المشهورة في الصحيحين مصرحة بأن آخر صلاته صلى الله عليه و سلم في الليل كانت وترا وفي الصحيحين أحاديث كثيرة مشهورة بالأمر بجعل آخر صلاة الليل وترا فكيف يظن به صلى الله عليه و سلم مع هذه الأحاديث وأشباهها أنه يداوم على ركعتين بعد الوتر ويجعلهما آخر صلاة الليل قال : وإما ما أشار إليه القاضي عياض من ترجيح الأحاديث المشهورة ورد رواية الركعتين فليس بصواب لأن الأحاديث إذا صحت وأمكن الجمع بينها تعين وقد جمعنا بينها ولله الحمد اه . ( وأقول ) أما الأحاديث التي فيها الأمر للأمة بأن يجعلوا آخر صلاة الليل وترا فلا معارضة بينها وبين فعله صلى الله عليه و سلم للركعتين بعد الوتر لما تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه و سلم لا يعارض القول الخاص بالأمة فلا معنى للاستنكار وأما أحاديث أنه كان آخر صلاته صلى الله عليه و سلم من الليل وترا فليس فيها ما يدل على الدوام لما قرره من عدم دلالة لفظ كان عليه فطريق الجمع باعتباره صلى الله عليه وآله وسلم أن يقال إنه كان يصلي الركعتين بعد الوتر تارة ويدعهما تارة وأما باعتبار الأمة فغير محتاج إلى الجمع لما عرفت من أن الأوامر بجعل آخر صلاة الليل وترا مختصة بهم وأن فعله صلى الله عليه و سلم لا يعارض ذلك
قال ابن القيم في الهدى : وقد أشكل هذا يعني حديث الركعتين بعد الوتر على كثير من الناس فظنوه معارضا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ) ثم حكى عن مالك وأحمد ما تقدم وحكى عن طائفة ما قدمنا عن النووي ثم قال : والصواب أن يقال إن هاتين الركعتين تجريان مجرى السنة وتكميل الوتر فإن الوتر عبادة مستقلة ولا سيما إن قيل بوجوبه فتجري الركعتين بعده مجرى سنة المغرب من المغرب فإنها وتر النهار والركعتان بعدها تكميل لها فكذلك الركعتان بعد وتر الليل والله أعلم اه
والظاهر ما قدمنا من اختصاص ذلك به صلى الله عليه وآله وسلم وقد ورد فعله صلى الله عليه وآله وسلم لهاتين الركعتين بعد الوتر من طريق أم سلمة عند أحمد في المسند ومن طريق غيرها قال الترمذي : روي نحو هذا عن أبي أمامة وعائشة وغير واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وفي المسند أيضا [ ص 47 ] والبيهقي عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما بإذا زلزلت الأرض زلزالها وقل يا أيها الكافرون ) وروى الدارقطني نحوه من حديث أنس وسيأتي ذكر القائلين باستحباب التنفل لمن استيقظ من النوم وقد كان أوتر قبله وحديث أبي بكر وعمر الدال على جواز ذلك في باب لا وتران في ليلة
قوله : ( صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ) فيه مشروعية قضاء الوتر وسيأتي
قوله : ( ولا صام شهرا كاملا ) سيأتي في باب ما جاء في صوم شعبان من كتاب الصيام عن عائشة ما يدل على أنه كان يصوم شعبان كله ويأتي الكلام هناك إن شاء الله تعالى
قوله : ( لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ) وفي الرواية الثانية : ( صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن ) الرواية الأولى تدل على إثبات القعود في السادسة والرواية الثانية تدل على نفيه ويمكن الجمع بحمل النفي للقعود في الرواية الثانية على القعود الذي يكون فيه التسليم
وظاهر هذا الحديث وغيره من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يوتر بدون سبع ركعات
وقال ابن حزم في المحلى : إن الوتر وتهجد الليل ينقسم إلى ثلاثة عشر وجها أيها فعل أجزأه ثم ذكرها واستدل على كل واحد منها ثم قال : وأحبها إلينا وأفضلها أن يصلي ثنتي عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ثم يصلي ركعة واحدة ويسلم

باب وقت صلاة الوتر ( 1 ) والقراءة فيها والقنوت

1 - عن خارجة بن حذافة قال : ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة فقال : لقد أمدكم الله بصلاة هي خير لكم من حمر النعم قلنا : وما هي يا رسول الله قال : الوتر فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر )
- رواه الخمسة إلا النسائي

- الحديث أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم وصححه وضعفه البخاري وقال ابن حبان : إسناده منقطع ومتنه باطل . قال الخطابي : فيه عبد الله بن أبي مرة الزوفي ( 2 ) عن خارجة
( وفي الباب ) عن أبي هريرة عند أحمد وابن أبي شيبة وعنه حديث آخر عند البيهقي وفيه أبو إسماعيل الترمذي وثقه الدارقطني وقال الحاكم : تكلم فيه أبو حاتم . وعن [ ص 48 ] عبد الله بن عمرو عند أحمد والدارقطني وفي إسناده العرزمي وهو ضعيف . وعن بريدة عند أبي داود والحاكم في المستدرك وقال صحيح . وعن أبي بصرة الغفاري عند أحمد والحاكم والطحاوي وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف ولكنه توبع وعن سليمان بن صرد عند الطبراني في الأوسط وفي إسناده إسماعيل بن عمرو البجلي وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم والدارقطني وابن عدي
وعن ابن عباس عند البزار والطبراني في الكبير والدارقطني وفي إسناده النصر أبو عمرو الخزاز وهو ضعيف متروك وقال البخاري منكر الحديث . وعن ابن عمر عند البيهقي في الخلافيات وابن حبان في الضعفاء وفي إسناده حماد بن قيراط وهو ضعيف
وقال أبو حاتم : لا يجوز الاحتجاج به وكان أبو زرعة يمرض القول فيه . وادعى ابن حبان أن الحديث موضوع وله حديث آخر عند الطبراني وفي إسناده أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وغيره
وعن ابن مسعود عند البزار وفي إسناده جابر الجعفي وقد ضعفه الجمهور . وعن عبد الله بن أبي أوفى عند البيهقي في الخلافيات وفي إسناده أحمد بن محمد بن مصعب بن بشر بن فضالة وقد قيل إنه كان يضع المتون والآثار ويقلب الأسانيد للأخبار
قال أبو حاتم : ولعله قد قلب على الثقات أكثر من عشرة آلاف حديث . وعن علي عليه السلام عند أهل السنن . وعن عقبة ابن عامر عند الطبراني وفيه ضعف . وعن عمرو بن العاص عند الطبراني أيضا وفيه ضعف . وعن معاذ بن جبل عند أحمد وفي إسناده عبيد الله بن زحر ( 3 ) وهو ضعيف وفيه انقطاع وعن أبي أيوب الطبراني في الكبير والأوسط
قوله : ( أمدكم ) الإمداد يكون بمعنى الإعانة ومنه الإمداد بالملائكة وبمعنى الإعطاء ومنه { وأمددناهم بفاكهة } الآية فيحتمل أن يكون هذا من الإعانة أي أعانكم بها على الانتهاء عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } ويحتمل أن يكون من الإعطاء قال العراقي : والظاهر أن المراد الزيادة في الإعطاء ويدل عليه قوله في بعض طرق الحديث ( إن الله زادكم صلاة ) كما في حديث عبد الله بن عمرو وأبي بصرة وابن عمر وابن أبي أوفى وعقبة بن عامر
قوله : ( الوتر ) بكسر الواو وفتحها لغتان وقرئ بهما في السبعة
قوله : ( بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر ) استدل به على أن أول وقت الوتر يدخل بالفراغ من صلاة العشاء ويمتد إلى طلوع الفجر كما قالت عائشة في الحديث الصحيح وانتهى وتره إلى السحر وفي وجه لأصحاب الشافعي أنه يمتد بعد طلوع الفجر إلى صلاة الصبح وفي وجه آخر [ ص 49 ] يمتد إلى صلاة الظهر . وفي وجه آخر أنه يصح الوتر قبل العشاء وكلها مخالفة للأدلة
( واستدل ) بالحديث أيضا أبو حنيفة على وجوب الوتر وقد تقدم الكلام على ذلك واستدل به أيضا على أن الوتر أفضل من ركعتي الفجر وقد تقدمت الإشارة إليه
واستدل به المصنف أيضا على أن الوتر لا يصح الاعتداد به قبل العشاء فقال ما لفظه : وفيه دليل على أنه لا يعتد به قبل العشاء بحال انتهى
_________
( 1 ) الوتر بالكسر على لغة الحجاز وتميم وبالفتح في لغة غيرهم هو الفرد وقرئ في السبعة قوله تعالى { والشفع والوتر } بالكسر والفتح . يقال وترت الصلاة وأوترتها جعلتها وترا
( 2 ) الزوفي هو بفتح الزاي وسكون الواو بعدها فاء
( 3 ) هو بفتح الزاي وسكون الحاء المهملة . قال الحافظ في التقريب : صدوق يخطئ

2 - وعن عائشة قالت : ( من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر )
- رواه الجماعة

3 - وعن أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أوتروا قبل أن تصبحوا )
- رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود

4 - وعن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر ثم ليرقد ومن وثق بقيام من آخر الليل فليوتر من آخره فإن قراءة آخر الليل محضورة وذلك أفضل )
- رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه

- في الباب أحاديث منها عن أبي هريرة عند البزار والطبراني في الأوسط قال : ( سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر كيف توتر قال : أوتر أول الليل قال : حذر كيس ثم سأل عمر كيف توتر قال : من آخر الليل قال : قوي معان ) وفي إسناده سليمان بن داود اليمامي وقد ضعف
وعن أبي مسعود عند أحمد والطبراني : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره ) قال العراقي : وإسناده صحيح
وعن أبي قتادة عند أبي داود بنحو حديث أبي هريرة المتقدم وصححه الحاكم على شرط مسلم وقال العراقي : صحيح
وعن ابن عمر عند ابن ماجه بنحو حديث أبي هريرة المتقدم وصححه الحاكم . وعن عقبة بن عامر عند الطبراني بنحو حديث أبي هريرة المتقدم أيضا
وعن علي عليه السلام عند ابن ماجه بلفظ : ( من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أوله وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر ) قال العراقي : وإسناده جيد
وعن أبي موسى عند الطبراني في الكبير قال : ( كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحيانا أول الليل ووسطه ليكون سعة للمسلمين )
وعن ابن عمر عند أبي داود والترمذي وصححه والحاكم في المستدرك بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : بادروا الصبح بالوتر ) وله حديث آخر عند الترمذي بلفظ : ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل [ ص 50 ] طلوع الفجر )
وعن أبي ذر عند النسائي بلفظ : ( أوصاني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أوصاني بصلاة الضحى والوتر قبل النوم وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر )
وعن سعد بن أبي وقاص عند أحمد بلفظ : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي لا ينام حتى يوتر حازم )
وعن علي عليه السلام عند البزار قال : ( نهاني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أنام إلا على وتر ) وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وثقه أحمد وضعفه الجمهور
وعن عمر عند ابن ماجه بلفظ : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تسأل الرجل فيم يضرب امرأته ولا تنم إلا على وتر ) والحديث عند أبي داود والنسائي ولكنهما اقتصرا على النهي عن السؤال عن ضرب الرجل امرأته . وعن أبي الدرداء عند مسلم بنحو حديث أبي ذر المتقدم
( وأحاديث ) الباب تدل على أن جميع الليل وقت للوتر إلا الوقت الذي قبل صلاة العشاء إذ لم ينقل أنه صلى الله عليه و سلم أوتر فيه ولم يخالف في ذلك أحد لا أهل الظاهر ولا غيرهم إلا ما قدمنا أنه يجوز ذلك في وجه لأصحاب الشافعي وهو وجه ضعيف صرح بذلك العراقي وغيره منهم
وقد حكى صاحب المفهم الإجماع على أنه لا يدخل وقت الوتر إلا بعد صلاة العشاء وورد في حديث عائشة الصحيح أنه كان يصلي صلى الله عليه و سلم ما بين أن يصلي العشاء إلى أن يطلع الفجر إحدى عشرة ركعة
واستدل بحديث أبي سعيد وما شابهه من الأحاديث المذكورة في الباب على أن الوتر لا يجوز بعد الصبح وهو يرد على ما تقدم في أحد الوجوه لأصحاب الشافعي أنه يمتد إلى صلاة الصبح أو إلى صلاة الظهر
واستدل بحديث جابر وما في معناه من الأحاديث المذكورة على مشروعية الإيتار قبل النوم لمن خاف أن ينام عن وتره وعلى مشروعية تأخيره إلى آخره لمن لم يخف ذلك ويمكن تقييد الأحاديث المطلقة التي فيها الوصية بالوتر قبل النوم والأمر به بالأحاديث المقيدة بمخافة النوم عنه

5 - وعن أبي بن كعب قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد )
- رواه الخمسة إلا الترمذي وللخمسة إلا أبا داود مثله من حديث ابن عباس وزاد أحمد والنسائي في حديث أبي ( فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ) ولهما مثله من حديث عبد الرحمن بن أبزي وفي آخره : ( ورفع صوته في الآخرة )

- حديث أبي بن كعب قد تقدم وتقدم الكلام عليه ولعل إعادة المصنف لذكره [ ص 51 ] لهذه الزيادة التي ذكرها أعني قوله ( فإذا سلم قال سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ) قال العراقي : وهي مصرح بها في حديث أبي بن كعب وعبد الرحمن بن أبزي وكلاهما عند النسائي بإسناد صحيح انتهى
وقد أخرجها أيضا البزار من حديث ابن أبي أوفى وقال : أخطأ فيه هاشم بن سعيد لأن الثقات يروونه عن زبيد عن سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وزاد هاشم : ( فإذا سلم قال سبحان الملك القدوس ) وليس هذا في حديث غيره . قال العراقي : بل هذه الزيادة في حديث غيره من الثقات انتهى
وعبد الرحمن بن أبزي قد وقع الاختلاف في صحبته كما قدمنا وقد اختلفوا هل هذا الحديث من روايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من روايته عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الترمذي : يروى عن عبد الرحمن بن أبزي عن أبي بن كعب ويروى عن عبد الرحمن بن أبزي عن النبي صلى الله عليه و سلم

6 - وعن الحسن بن علي عليه السلام قال : ( علمني رسول الله صلى الله عليه و سلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وعافيني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت

7 - وعن علي بن أبي طالب عليه السلام : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في آخر وتره اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك )
- رواه الخمسة

- أما حديث الحسن فأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي من طريق بريد عن أبي الحوراء بالحاء المهملة والراء عن الحسن وأثبت بعضهم الفاء في قوله ( فإنك تقضي ) وبعضهم أسقطها وزاد الترمذي قبل تباركت وتعاليت سبحانك . وزاد البيهقي قبل تباركت وتعاليت أيضا : ( ولا يعز من عاديت )
قال النووي في الخلاصة : بسند ضعيف وتبعه ابن الرفعة فقال : لم تثبت هذه الرواية قال الحافظ : وهو معترض فإن البيهقي رواها من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن أو الحسين بن علي وهذا التردد من إسرائيل إنما هو في الحسن أو الحسين قال البيهقي : كأن الشك إنما وقع في الإطلاق أو في النسبة قال : ويؤيد الشك أن أحمد بن حنبل أخرجه في مسند الحسين من مسنده من غير تردد ومن حديث [ ص 52 ] شريك عن أبي إسحاق بسنده قال : وهذا وإن كان الصواب خلافه والحديث من حديث الحسن لا من حديث أخيه الحسين فإنه يدل على أن الوهم فيه من أبي إسحاق فلعله ساء فيه حفظه فنسي هل هو الحسن أو الحسين قال : ثم إن الزيادة اعني قوله ( ولا يعز من عاديت ) رواها الطبراني أيضا من حديث شريك وزهير بن معاوية عن أبي إسحاق ومن حديث أبي الأحوص عن أبي إسحاق ثم ذكره الحافظ بإسناد له متصل وفيه تلك الزيادة وزاد النسائي بعد قوله ( تباركت وتعاليت وصلى الله على النبي )
قال النووي : إنها زيادة بسند صحيح أو حسن وتعقبه الحافظ بأنه منقطع . وروى تلك الزيادة الطبراني والحاكم وقد ضعف ابن حبان حديث الحسن هذا وقال : توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحسن ابن ثماني سنين فكيف يعلمه صلى الله عليه وآله وسلم هذا الدعاء
وقد أشار صاحب البدر المنير إلى تضعيف كلام ابن حبان وقد نبه ابن خزيمة وابن حبان على أن قوله في قنوت الوتر تفرد به أبو إسحاق عن بريد بن أبي مريم وتبعه ابناه يونس وإسرائيل وقد رواه شعبة وهو أحفظ من مائتين مثل أبي إسحاق وابنيه فلم يذكر فيه القنوت ولا الوتر وإنما قال ( كان يعلمنا هذا الدعاء ) وأيد ذلك الحافظ برواية الدولابي والطبراني فإن فيها التصريح بالقنوت وكذلك رواية البيهقي عن ابن الحنفية وكذلك رواية محمد ابن نصر
وروى البيهقي عن ابن عباس وابن الحنفية أنهما كانا يقولان ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات ) وفي إسناده عبد الرحمن بن هرمز قال الحافظ : وهو محتاج إلى الكشف عن حاله
وقال ابن حبان : إن ذكر صلاة الصبح ليس بمحفوظ . وقال ابن النحوي : إن إسنادها جيد وصرح الحافظ في بلوغ المرام إن إسنادها ضعيف وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ حديث الحسن مقيدا بصلاة الصبح وقال : صحيح
قال الحافظ : وليس كما قال وهو ضعيف لأن في إسناده عبد الله بن سعيد المقبري ولولاه لكان صحيحا وكان الاستدلال به أولى من الاستدلال بحديث الحسن بن علي في قنوت الوتر
وروى الطبراني في الأوسط من حديث بريدة نحوه وفي إسناده كما قال الحافظ رحمه الله تعالى مقال
وأما حديث علي المذكور فأخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححه مقيدا بالقنوت . وأخرجه الدارمي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان في كتبهم وليس فيه ذكر الوتر
( وفي الباب ) عن علي حديث آخر عند الدارقطني بلفظ : ( قنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الوتر ) وفي إسناده [ ص 53 ] عمرو بن شمر الجعفي أحد الكذابين الوضاعين
وعن أبي بكر وعمر وعثمان عند الدارقطني أنهم كانوا يقولون : ( قنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الوتر وكانوا يفعلون ذلك ) وفي إسناده أيضا عمر بن شمر المذكور
وعن أبي بن كعب عند النسائي وابن ماجه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع )
وعن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة في المصنف والدارقطني : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقنت في الوتر قبل الركوع ) وفي إسناده أبان بن عياش وهو ضعيف
وعن ابن عباس عند محمد بن نصر المروزي قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الصبح بهؤلاء الكلمات ) وقد تقدم
وعن ابن عمر عند الحاكم في كتاب القنوت قال : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم أحد ابنيه في القنوت اللهم اهدني فيمن هديت ) الحديث
وعن عبد الرحمن بن أبزي عند محمد بن نصر وفيه ذكر القنوت في الوتر . وعن أم عبد أم عبد الله بن مسعود عند ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( قنت قبل الركوع ) والأحاديث المذكورة تدل على مشروعية القنوت بهذا الدعاء المذكور في حديث الحسن وفي حديث علي . وإلى ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة وبعض الشافعية من غير فرق بين رمضان وغيره وروى ذلك الترمذي عن ابن مسعود . ورواه أيضا عنه محمد بن نصر قال العراقي : بأسانيد جيدة . ورواه محمد بن نصر أيضا عن علي وعمر . وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبي ثور ورواية عن أحمد . وروى محمد بن نصر عن علي عليه السلام أنه كان يقنت في النصف الأخير من رمضان وهو من رواية الحارث عنه . وروى أبو داود أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب وكان يصلي لهم عشرين ليلة ولا يقنت إلا في النصف الباقي من رمضان . وروى محمد بن نصر بإسناد صحيح أن ابن عمر كان لا يقنت في الصبح ولا في الوتر إلا في النصف الآخر من رمضان ) وروى العراقي عن معاذ بن الحارث الأنصاري أنه كان إذا انتصف رمضان لعن الكفرة . قال : وعن الحسن كانوا يقنتون في النصف الأخير من رمضان . وروي أيضا عن الزهري أنه قال : لا قنوت في السنة كلها إلا في النصف الأخير من رمضان . وروي عن عثمان بن سراقة نحوه . وذهب مالك فيما حكاه النووي في شرح المهذب وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي كما قال العراقي إلى مشروعية القنوت في جميع رمضان دون بقية السنة وذهب الحسن وقتادة ومعمر [ ص 54 ] كما روى ذلك محمد بن نصر عنهم أنه يقنت في جميع السنة إلا في النصف الأول من رمضان . وقد روي عن الحسن القنوت في جميع السنة كما تقدم . وذهب طاوس إلى أن القنوت في الوتر بدعة وروى ذلك محمد بن نصر عن ابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير . وروي عن مالك مثل ذلك
قال بعض أصحاب مالك : سألت مالكا عن الرجل يقوم لأهله في شهر رمضان أترى أن يقنت بهم في النصف الباقي من الشهر فقال مالك : لم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قنت ولا أحدا من أولئك وما هو من الأمر القديم وما أفعله أنا في رمضان ولا أعرف القنوت قديما
وقال معن بن عيسى عن مالك : لا يقنت في الوتر عندنا . وقال ابن العربي : اختلف قول مالك فيه في صلاة رمضان قال : والحديث لم يصح والصحيح عندي تركه إذ لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله ولا قوله اه
قال العراقي : قلت بل هو صحيح أو حسن . وروى محمد بن نصر أنه سئل سعيد بن جبير عن بدء القنوت في الوتر فقال : بعث عمر بن الخطاب جيشا فتورطوا متورطا خاف عليهم فلما كان النصف الآخر من رمضان قنت يدعو لهم فهذه خمسة مذاهب في القنوت وبها يتبين عدم صحة دعوى المهدي في البحر أنه مجمع عليه في النصف الأخير من رمضان . وقد اختلف في كونه قبل الركوع أو بعده ففي بعض طرق الحديث عند البيهقي التصريح بكونه بعد الركوع وقال : تفرد بذلك أبو بكر بن شيبة الحزامي وقد روى عنه البخاري في صحيحه وذكره ابن حبان في الثقات فلا يضر تفرده
وأما القنوت قبل الركوع فهو ثابت عند النسائي من حديث أبي بن كعب كما تقدم وعبد الرحمن بن أبزي وضعف أبو داود ذكر القنوت فيه وثابت أيضا في حديث ابن مسعود كما تقدم
قال العراقي : وهو ضعيف قال : ويعضد كونه بعد الركوع أولى فعل الخلفاء الأربعة لذلك والأحاديث الواردة في الصبح كما تقدم في بابه
وقد روى محمد بن نصر عن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقنت بعد الركعة وأبو بكر وعمر حتى كان عثمان فقنت قبل الركعة ليدرك الناس ) قال العراقي : وإسناده جيد
قوله في حديث علي : ( أعوذ بك منك ) أي أستجير بك من عذابك

باب لا وتران في ليلة وختم صلاة الليل بالوتر وما جاء في نقضه

1 - عن طلق بن علي قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا وتران في ليلة )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه

2 - وعن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه

- أما حديث طلق بن علي فحسنه الترمذي قال عبد الحق : وغير الترمذي صححه وأخرجه أيضا ابن حبان وصححه وقد احتج به على أنه لا يجوز نقض الوتر
ومن جملة المحتجين به على ذلك طلق بن علي الذي رواه كما قال العراقي قال : وإلى ذلك ذهب أكثر العلماء وقالوا إن من أوتر وأراد الصلاة بعد ذلك لا ينقض وتره ويصلي شفعا شفعا حتى يصبح قال : فمن الصحابة أبو بكر الصديق وعمار بن ياسر ورافع بن خديج وعائد بن عمرو وطلق بن علي وأبو هريرة وعائشة . ورواه ابن أبي شيبة في المصنف عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس . وممن قال به من التابعين سعيد بن المسيب وعلقمة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول والحسن البصري روى ذلك ابن أبي شيبة عنهم في المصنف أيضا
وقال به من التابعين طاوس وأبو مجلز ومن الأئمة سفيان الثوري ومالك وابن المبارك وأحمد روى ذلك الترمذي عنهم في سننه وقال : إنه أصح
ورواه العراقي عن الأوزاعي والشافعي وأبي ثور وحكاه القاضي عياض عن كافة أهل الفتيا وروى الترمذي عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ومن بعدهم جواز نقض الوتر وقالوا يضيف إليها أخرى ويصلي ما بدا له ثم يوتر في آخر صلاته قال : وذهب إليه إسحاق واستدلوا بحديث ابن عمر المذكور في الباب وقالوا إذا أوتر ثم نام ثم قام فلم يشفع وتره وصلى مثنى مثنى كما قال الأولون ولم يوتر في آخر صلاته كان قد جعل آخر صلاته من الليل شفعا لا وترا وفيه مخالفة لقوله صلى الله عليه و سلم ( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ) واستدل الأولون على جواز صلاة الشفع بعد الوتر بحديث عائشة المتقدم وبحديث أم سلمة الآتي وقد قدمنا الكلام على ذلك في شرح حديث عائشة

3 - وعن ابن عمر : ( أنه كان إذا سئل عن الوتر قال : أما أنا فلو أوترت قبل أن أنام ثم أردت أن أصلي بالليل شفعت بواحدة ما مضى من وتري ثم صليت مثنى مثنى فإذا [ ص 56 ] قضيت صلاتي أوترت بواحدة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا أن نجعل آخر صلاة الليل الوتر )
- رواه أحمد

4 - وعن علي قال : ( الوتر ثلاثة أنواع فمن شاء أن يوتر أول الليل أوتر فإن استيقظ فشاء أن يشفعها بركعة ويصلي ركعتين ركعتين حتى يصبح ثم يوتر فعل وإن شاء ركعتين حتى يصبح وإن شاء آخر الليل أوتر )
- رواه الشافعي في مسنده

- حديث ابن عمر قال في مجمع الزوائد : فيه ابن إسحاق وهو مدلس وهو ثقة وبقية رجاله رجال الصحيح اه والمرفوع من حديث ابن عمر متفق عليه كما تقدم
وأثر علي أخرجه البيهقي أيضا وقد استدل به ابن عمر ومن معه على جواز نقض الوتر وقد قدمنا وجه دلالته على ذلك
وقد ناقضهم القائلون بعدم الجواز فاستدلوا به على أنه لا يجوز النقض قالوا : لأن الرجل إذا أوتر أول الليل فقد قضى وتره فإذا هو نام بعد ذلك ثم قام وتوضأ وصلى ركعة أخرى فهذه صلاة غير تلك الصلاة وغير جائز في النظر أن تتصل هذه الركعة بالركعة الأولى التي صلاها في أول الليل فلا يصيران صلاة واحدة وبينهما نوم وحدث ووضوء وكلام في الغالب وإنما هما صلاتان متباينتان كل واحدة غير الأولى ومن فعل ذلك فقد أوتر مرتين ثم إذا هو أوتر أيضا في آخر صلاته صار موترا ثلاث مرات
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترا ) وهذا قد جعل الوتر في مواضع من صلاة الليل . وأيضا قال صلى الله عليه و سلم : ( لا وتران في ليلة ) وهذا قد أوتر ثلاث مرات

5 - وعن أم سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يركع ركعتين بعد الوتر )
- رواه الترمذي . ورواه أحمد وابن ماجه وزاد : ( وهو جالس ) وقد سبق هذا المعنى من حديث عائشة وهو حجة لمن لم ير نقض الوتر

6 - وقد روى سعيد بن المسيب : ( أن أبا بكر وعمر تذاكرا الوتر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو بكر : أما أنا فأصلي ثم أنام على وتر فإذا استيقظت صليت شفعا شفعا حتى الصباح . وقال عمر : لكن أنام على شفع ثم أوتر من آخر السحر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر : حذر هذا وقال لعمر : قوي هذا )
- رواه أبو سليمان الخطابي بإسناده

- أما حديث أم سلمة فصححه الدارقطني في سننه ثبت ذلك في رواية محمد بن عبد الملك بن بشران عنه وليس في رواية أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم عن الدارقطني تصحيح له كذا قال العراقي . قال الترمذي : وقد روي نحو هذا عن أبي أمامة [ ص 57 ] وعائشة وغير واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اه
وأما حديث عائشة الذي أشار إليه المصنف فقد تقدم وتقدم شرحه . وأما حديث أبي بكر وعمر فقد ورد من طرق ليس فيها قول أبي بكر فإذا استيقظت صليت شفعا شفعا . منها عند البزار والطبراني عن أبي هريرة . ومنها عند ابن ماجه عن جابر . ومنها عند أبي داود والحاكم عن أبي قتادة . ومنها عند ابن ماجه عن ابن عمر . ومنها عند الطبراني في الكبير ومحمد بن نصر عن عقبة ابن عامر فإن صحت هذه الزيادة التي ذكرها الخطابي كانت صالحة للاستدلال بها على من أجاز التنفل بعد الوتر وقد تقدم ذكرهم وإن لم تصح فالكلام ما قدمنا في شرح حديث عائشة من اختصاص الركعتين بعد الوتر به صلى الله عليه وآله وسلم لما سلف

باب قضاء ما يفوت من الوتر والسنن الراتبة والأوراد

1 - عن أبي سعيد الخدري قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره )
- رواه أبو داود

- الحديث أخرجه الترمذي وزاد : ( أو إذا استيقظ ) وأخرجه أيضا ابن ماجه والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين وإسناد الطريق التي أخرجه منها أبو داود صحيح كما قال العراقي وإسناد طريق الترمذي وابن ماجه ضعيف أوردها ابن عدي وقال إنها غير محفوظة وكذا أوردها ابن حبان في الضعفاء
وأخرجه الترمذي من طريق زيد بن أسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من نام عن وتره فليصل إذا أصبح ) قال : وهذا أصح من الحديث الأول يعني حديث أبي سعيد
( وفي الباب ) عن عبد الله ابن عمر عند الدارقطني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من فاته الوتر من الليل فليقضه من الغد ) قال العراقي : وإسناده ضعيف وله حديث آخر عند البيهقي : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أصبح فأوتر )
وعن أبي هريرة عند الحاكم والبيهقي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر ) وصححه الحاكم على شرط الشيخين
وعن أبي الدرداء عند الحاكم والبيهقي بلفظ : ( ربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر وقد قام الناس لصلاة الصبح ) وصححه الحاكم
وعن الأغر المزني عند الطبراني في الكبير بلفظ : ( أن رجلا قال : يا نبي الله إني أصبحت ولم أوتر فقال : إنما الوتر بالليل فقال : يا نبي الله إني أصبحت ولم أوتر قال : [ ص 58 ] فأوتر ) وفي إسناده خالد بن أبي كريمة ضعفه ابن معين وأبو حاتم ووثقه أحمد وأبو داود والنسائي
وعن عائشة عند أحمد والطبراني في الأوسط بلفظ : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبح فيوتر ) وإسناده حسن
( الحديث ) يدل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبادة بن الصامت وعامر بن ربيعة وأبو الدرداء ومعاذ بن جبل وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عباس كذا قال العراقي
قال : ومن التابعين عمرو بن شرحبيل وعبيدة السلماني وإبراهيم النخعي ومحمد ابن المنتشر وأبو العالية وحماد ابن أبي سليمان . ومن الأئمة سفيان الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة ثم اختلف هؤلاء إلى متى يقضى على ثمانية أقوال :
أحدها : ما لم يصل الصبح وهو قول ابن عباس وعطاء ابن أبي رباح ومسروق والحسن البصري وإبراهيم النخعي ومكحول وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي أيوب وأبي خيثمة حكاه محمد بن نصر عنهم
ثانيها : أنه يقضى الوتر ما لم تطلع الشمس ولو بعد صلاة الصبح وبه قال النخعي
ثالثها : أنه يقضى بعد الصبح وبعد طلوع الشمس إلى الزوال روي ذلك عن الشعبي وعطاء والحسن وطاوس ومجاهد وحماد ابن أبي سليمان وروي أيضا عن ابن عمر
رابعها : أنه لا يقضيه بعد الصبح حتى تطلع الشمس فيقضيه نهارا حتى يصلي العصر فلا يقضيه بعده ويقضيه بعد المغرب إلى العشاء ولا يقضيه بعد العشاء لئلا يجمع بين وترين في ليلة حكي ذلك عن الأوزاعي
خامسها : أنه إذا صلى الصبح لا يقضيه نهارا لأنه من صلاة الليل ويقضيه ليلا قبل وتر الليلة المستقبلة ثم يوتر للمستقبلة روي ذلك عن سعيد بن جبير
سادسها : أنه إذا صلى الغداة أوتر حيث ذكره نهارا فإذا جاءت الليلة الأخرى ولم يكن أوتر لم يوتر لأنه إن أوتر في ليلة مرتين صار وتره شفعا حكي ذلك عن الأوزاعي أيضا
سابعها : أنه يقضيه أبدا ليلا ونهارا وهو الذي عليه فتوى الشافعية
ثامنها : التفرقة بين أن يتركه لنوم أو نسيان وبين أن يتركه عمدا فإن تركه لنوم أو نسيان قضاه إذا استيقظ أو إذا ذكره في أي وقت كان ليلا أو نهارا وهو ظاهر الحديث واختاره ابن حزم واستدل بعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) قال : وهذا عموم يدخل فيه كل فرض أو نافلة وهو في الفرض أمر فرض وفي النفل أمر ندب قال : ومن تعمد تركه حتى دخل الفجر فلا يقدر على قضائه أبدا [ ص 59 ] قال : فلو نسيه أحببنا له أن يقضيه أبدا متى ذكره ولو بعد أعوام . وقد استدل بالأمر بقضاء الوتر على وجوبه وحمله الجمهور على الندب وقد تقدم الكلام في ذلك

2 - وعن عمر بن الخطاب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل )
- رواه الجماعة إلا البخاري . وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وجع صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة وقد ذكرنا عنه قضاء السنن في غير حديث

- قوله : ( عن حزبه ) الحزب بكسر الحاء المهملة وسكون الزاي بعدها باء موحدة الورد والمراد هنا الورد من القرآن وقيل المراد ما كان معتاده من صلاة الليل
( والحديث ) يدل على مشروعية اتخاذ ورد في الليل . وعلى مشروعية قضائه إذا فات لنوم أو عذر من الأعذار وأن من فعله ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كان كمن فعله في الليل
قوله : ( وثبت عنه صلى الله عليه و سلم ) الخ هو ثابت من حديث عائشة عند مسلم والترمذي وصححه والنسائي . وفيه استحباب قضاء التهجد إذا فاته من الليل ولم يستحب أصحاب الشافعي قضاءه إنما استحبوا قضاء السنن الرواتب ولم يعدوا التهجد من الرواتب
قوله : ( وقد ذكرنا عند قضاء السنن في غير حديث ) قد تقدم بعض من ذلك في باب القضاء وبعض في أبواب التطوع

باب صلاة التروايح

1 - عن أبي هريرة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة فيقول : من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )
- رواه الجماعة

2 - وعن عبد الرحمن بن عوف : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله عز و جل فرض صيام رمضان وسننت قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )
- رواه أحمد والنسائي وابن ماجه

- حديث عبد الرحمن بن عوف في إسناده النضر بن شيبان وهو ضعيف . وقال النسائي : هذا الحديث خطأ والصواب حديث أبي سلمة عن أبي هريرة
قوله : ( من غير أن يأمر فيه بعزيمة ) فيه التصريح بعدم وجوب القيام وقد فسره بقوله ( من قام ) الخ فإنه يقتضي الندب [ ص 60 ] دون الإيجاب وأصرح منه قوله في الحديث الآخر وسننت قيامه بعد قوله فرض صيام رمضان
قوله : ( من قام رمضان ) المراد قيام لياليه مصليا ويحصل بمطلق ما يصدق عليه القيام وليس من شرطه استغراق جميع أوقات الليل قيل ويكون أكثر الليل . وقال النووي : إن قيام رمضان يحصل بصلاة التراويح يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها وأغرب الكرماني فقال : اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح
قوله : ( إيمانا واحتسابا ) قال النووي : معنى إيمانا تصديقا بأنه حق معتقدا فضيلته ومعنى احتسابا أن يريد الله تعالى وحده لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص
قوله : ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) زاد أحمد والنسائي وما تأخر
قال الحافظ : وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد اه ( 1 ) . ( قيل ) ظاهر الحديث يتناول الصغائر والكبائر وبذلك جزم ابن المنذر وقيل الصغائر فقط وبه جزم إمام الحرمين . قال النووي : وهو المعروف عند الفقهاء وعزاه عياض إلى أهل السنة وقد أورد أن غفران الذنوب المتقدمة معقول وأما المتأخرة فلا لأن المغفرة تستدعي سبق ذنب وأجيب عنه بأن ذلك كناية عن عدم الوقوع . وقال الماوردي : إنها تقع منهم الذنوب مغفورة
( والحديث ) يدل على فضيلة قيام رمضان وتأكد استحبابه واستدل به أيضا على استحباب صلاة التراويح لأن القيام المذكور في الحديث المراد به صلاة التراويح كما تقدم عن النووي والكرماني
قال النووي : اتفق العلماء على استحبابها قال : واختلفوا في أن الأفضل صلاتها في بيته منفردا أم في جماعة في المسجد فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم : الأفضل صلاتها جماعة كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم واستمر عمل المسلمين عليه لأنه من الشعائر الظاهرة فأشبه صلاة العيد وبالغ الطحاوي فقال : إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم : الأفضل فرادى في البيت لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) متفق عليه
وقالت العترة : إن التجميع فيها بدعة وسيأتي تمام الكلام على صلاة التراويح
_________
( 1 ) وقد وفقنا لطبعه والحمد لله في ضمن مجموعة الرسائل المنيرية اه

3 - وعن جبير بن نفير عن أبي ذر قال : ( صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ثم لم يقم بنا في الثالثة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه فقال : إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ثم لم يقم بنا حتى [ ص 61 ] بقي ثلاث من الشهر فصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح قلت له : وما الفلاح قال : السحور )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي

- الحديث رجال إسناده عند أهل السنن كلهم رجال الصحيح
قوله : ( فلم يصل بنا ) لفظ أبي داود : ( صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع )
قوله : ( لو نفلتنا ) النفل محركة في الأصل الغنيمة والهبة ونفله النفل وأنفله أعطاه إياه والمراد هنا لو قمت بنا طول ليلتنا ونفلتنا من الأجر الذي يحصل من ثواب الصلاة
قوله : ( فصلى بنا في الثالثة ) أي في ليلة ثلاث بقيت من الشهر وكذا قوله في السادسة في الخامسة . وفيه أنه كان يتخولهم بقيام الليل لئلا يثقل عليهم كما كان ديدنه صلى الله عليه وآله وسلم في الموعظة فكان يقوم بهم ليلة ويدع القيام أخرى وفيه تأكد مشروعية القيام في الأفراد من ليالي العشر الآخرة من رمضان لأنها مظنة الظفر بليلة القدر
قوله : ( ودعا أهله ونساءه ) وفيه استحباب ندب الأهل إلى فعل الطاعات وإن كانت غير واجبة
وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضخ في وجهها الماء ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضخت في وجهه الماء )
وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه أيضا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة قالا : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعا كتب في الذاكرين والذاكرات )
قوله : ( الفلاح ) قال في القاموس : الفلاح الفوز والنجاة والبقاء في الخير . والسحور قال : والسحور ما يتسحر به أي ما يؤكل في وقت السحر وهو قبيل الصبح
( والحديث ) استدل به على استحباب صلاة التراويح لأن الظاهر منه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمهم في تلك الليالي

4 - وعن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى الثانية فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما أصبح قال : رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفترض عليكم وذلك في رمضان )
- متفق عليه . وفي رواية : ( قالت : كان الناس يصلون في المسجد في رمضان بالليل أوزاعا يكون مع الرجل الشيء من القرآن فيكون معه النفر الخمسة أو السبعة أو أقل من ذلك أو أكثر يصلون بصلاته قالت : فأمرني [ ص 62 ] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنصب له حصيرا على باب حجرتي ففعلت فخرج إليه بعد أن صلى عشاء الآخرة فاجتمع إليه من في المسجد فصلى بهم ) وذكرت القصة بمعنى ما تقدم غير أن فيها أنه : ( لم يخرج إليهم في الليلة الثانية ) رواه أحمد

- قوله : ( صلى في المسجد ) الخ قال النووي : فيه جواز النافلة جماعة ولكن الاختيار فيها الانفراد إلا نوافل مخصوصة وهي العيد والكسوف والاستسقاء . وكذا التراويح عند الجمهور كما سبق . وفيه جواز النافلة في المسجد وإن كان البيت أفضل ولعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما فعلها في المسجد لبيان الجواز أو أنه كان معتكفا . وفيه جواز الإقتداء بمن لم ينو إمامته قال : وهذا صحيح على المشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء ولكن إن نوى الإمام إمامتهم بعد إقتدائهم حصلت فضيلة الجماعة له ولهم وإن لم ينوها حصلت لهم فضيلة الجماعة ولا تحصل للإمام على الأصح لأنه لم ينوها والأعمال بالنيات وأما المأمومون فقد نووها . وفيه إذا تعارضت مصلحة وخوف مفسدة أو مصلحتان اعتبر أهمها لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان رأى الصلاة في المسجد مصلحة لما ذكرناه فلما عارضه خوف الافتراض عليهم تركه لعظم المفسدة التي يخاف من عجزهم وتركهم للفرض وفيه أن الإمام وكبير القوم إذا فعل شيئا خلاف ما يتوقعه أتباعه وكان له فيه عذر يذكره لهم تطييبا لقلوبهم وإصلاحا لذات البين لئلا يظنوا خلاف هذا وربما ظنوا ظن السوء
قوله : ( أوزاعا ) أي جماعات
( والحديث ) استدل به المصنف على صلاة التراويح . وقد استدل به على ذلك غيره كالبخاري فإنه ذكره من جملة الأحاديث التي ذكرها في كتاب التراويح من صحيحه . ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل الصلاة في المسجد وصلى خلفه الناس ولم ينكر عليهم وكان ذلك في رمضان ولم يترك إلا لخشية الافتراض فصح الاستدلال به على مشروعية مطلق التجمع في النوافل في ليالي رمضان وأما فعلها على الصفة التي يفعلونها الآن من ملازمة عدد مخصوص وقراءة مخصوصة في كل ليلة فسيأتي الكلام عليه
( ومن جملة ) ما استدل به البخاري عليها حديث عائشة وهو أيضا في صحيح مسلم : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى [ ص 63 ] بصلاته فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الصلاة أقبل على الناس فتشهد ثم قال : أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكن خشيت أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمر على ذلك )

5 - وعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال : ( خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر : نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله )
- رواه البخاري . ولمالك في الموطأ عن يزيد بن رومان قال : ( كان الناس في زمن عمر يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة )

- قوله : ( أوزاع ) قد تقدم تفسيره
قوله : ( فقال عمر نعمت البدعة ) قال في الفتح : البدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق وتطلق في الشرع على مقابلة السنة فتكون مذمومة والتحقيق أنها إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة انتهى ( 1 )
قوله : ( بثلاث وعشرين ركعة ) قال ابن إسحاق : وهذا أثبت ما سمعت في ذلك . ووهم في ضوء النهار فقال : إن في سنده أبا شيبة وليس الأمر كذلك لأن مالكا في الموطأ ذكره كما ذكر المصنف . والحديث الذي في إسناده أبو شيبة هو حديث ابن عباس الآتي كما في البدر المنير
والتلخيص وفي الموطأ أيضا عن محمد بن يوسف عن السائب ابن يزيد أنها إحدى عشرة . وروى محمد بن نصر عن محمد بن يوسف أنها إحدى وعشرون ركعة . وفي الموطأ من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد أنها عشرون ركعة . وروى محمد بن نصر من طريق عطاء قال : أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة وثلاث [ ص 64 ] ركعات الوتر
قال الحافظ : والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها فحيث تطول القراءة تقلل الركعات وبالعكس وبه جزم الداودي وغيره قال : والاختلاف فيما زاد على العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر فكأنه تارة يوتر بواحدة وتارة بثلاث
وقد روى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس قال : أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز يعني بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث . وقال مالك : الأمر عندنا بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين وليس في شيء من ذلك ضيق
قال الترمذي : أكثر ما قيل إنه يصلي إحدى وأربعين ركعة بركعة الوتر
ونقل ابن عبد البر عن الأسود بن يزيد أربعين يوتر بسبع وقيل ثمان وثلاثين ذكره محمد بن نصر عن ابن يونس عن مالك
قال الحافظ : وهذا يمكن رده إلى الأول بانضمام ثلاث الوتر لكن صرح في روايته بأنه يوتر بواحدة فيكون أربعين إلا واحدة . قال مالك : وعلى هذا العمل منذ بضع ومائة سنة . وروي عن مالك ست وأربعون وثلاث الوتر
قال في الفتح : وهذا المشهور عنه وقد رواه ابن وهب عن العمري عن نافع قال : لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعا وثلاثين ويوترون منها بثلاث
وعن زرارة بن أوفى أنه كان يصلي بهم بالبصرة أربعا وثلاثين ويوتر
وعن سعيد بن جبير أربعا وعشرين وقيل ست عشرة غير الوتر هذا حاصل ما ذكره في الفتح من الاختلاف في ذلك
وأما العدد الثابت عنه صلى الله عليه و سلم في صلاته في رمضان فأخرج البخاري وغيره عن عائشة أنها قالت : ( ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة )
وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر )
وأخرج البيهقي عن ابن عباس : ( كان يصلي في شهر رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر ) زاد سليم الرازي في كتاب الترغيب له : ( ويوتر بثلاث ) قال البيهقي : تفرد به أبو شيبة إبراهيم بن عثمان وهو ضعيف . وأما مقدار القراءة في كل ركعة فلم يرد به دليل
( والحاصل ) أن الذي دلت عليه أحاديث الباب وما يشابهها هو مشروعية القيام في رمضان والصلاة فيه جماعة وفرادى فقصر الصلاة المسماة بالتراويح على عدد معين وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة ( 2 ) [ ص 65 ]
_________
( 1 ) البدعة التي تنقسم إلى خمسة أقسام هي ما كانت خارجة عن نوع العبادات وأما إذا كانت مما يدخل في العبادة فلا . وقد ذكرنا كلام العلامة الشاطبي في ذلك ورده كل بدعة لها دخل في العبادات . وقول عمر ونعمت البدعة أي الأمر البديع الذي ثبت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وترك في زمن أبي بكر لاشتغال الناس فيما حصل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . ولشارح بلوغ المرام كلام نفيس على هذا الحديث وقد ذكرته في تعليقي على أحكام الأحكام فارجع إليه والله أعلم
( 2 ) أقول : ذكر العلامة النووي في شرح المهذب فرعا في مذهب علماء السلف فيما يقرأ في صلاة التراويح . قال : روى مالك في الموطأ عن داود بن الحصين عن عبد الرحمن الأعرج قال : ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفر في رمضان قال : وكان القارئ يقوم بسورة البقرة في ثمان ركعات وإذا قام بها في ثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه خفف
وقال النووي : وروى مالك أيضا عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس وكان القارئ يقرأ بالمائتين حتى كنا نعتمد على عصا في طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر . وذكر آثارا غير ما ذكرته . والله أعلم

باب ما جاء في الصلاة بين العشاءين

1 - عن قتادة عن أنس : ( في قوله تعالى { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } قال : كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء وكذلك { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } )
- رواه أبو داود

2 - وعن حذيفة قال : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغرب فلما قضى الصلاة قام يصلي فلم يزل يصلي حتى صلى العشاء ثم خرج )
- رواه أحمد والترمذي

- أما قول أنس فرواه أيضا ابن مردويه في تفسيره من رواية الحارث بن وجيه قال : سمعت مالك بن دينار قال : سألت أنس بن مالك عن قوله تعالى { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } فقال : كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فأنزل الله فيهم { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } والحارث بن وجيه ضعيف ورواه أيضا من رواية أبان بن أبي عياش عن أنس نحوه وأبان ضعيف أيضا ورواه أيضا من رواية الحسن بن أبي جعفر عن مالك بن دينار عنه
ورواه أيضا من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في هذه الآية قال : يصلون ما بين المغرب والعشاء . قال العراقي : وإسناده جيد ورواه أيضا من رواية خالد بن عمران الخزاعي عن ثابت عن أنس
وأخرج نحوه أيضا من رواية يزيد بن أسلم عن أبيه قال : قال بلال : لما نزلت هذه الآية { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يصلون بعد المغرب إلى العشاء فنزلت . وأخرج محمد بن نصر عن أنس في قوله تعالى { إن ناشئة الليل } قال : ما بين المغرب والعشاء . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ما بين المغرب والعشاء . وفي إسناده منصور بن شقير كتب عنه أحمد بن حنبل وقال فيه أبو حاتم : ليس بقوي وفي حديثه اضطراب . وقال العقيلي : في حديثه بعض [ ص 66 ] الوهم وفي إسناده أيضا عمارة بن زاذان وثقه الجمهور وضعفه الدارقطني . وقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن حميد بن عبد الرحمن عن عمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس أنه كان يصلي ما بين المغرب والعشاء ويقول هي ناشئة الليل هكذا جعله موقوفا وهكذا رواه القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث في كتاب الصلاة من رواية حماد بن سلمة عن عمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس أنه كان يحيي ما بين المغرب والعشاء ويقول هي ناشئة الليل . وممن قال بذلك من التابعين أبو حازم ومحمد بن المنكدر وسعيد ابن جبير وزين العابدين ذكره العراقي في شرح الترمذي وروى محمد بن نصر عن أنس قال العراقي : بإسناد صحيح إن قوله تعالى { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } نزلت فيمن كان يصلي بين العشاء والمغرب وأخرج محمد بن نصر عن سفيان الثوري أنه سئل عن قوله تعالى { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } فقال : بلغني أنهم كانوا يصلون ما بين العشاء والمغرب . وقد روي عن محمد بن المنكدر : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنها صلاة الأوابين )
وهذا وإن كان مرسلا لا يعارضه ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال ) فإنه لا مانع أن يكون كل من الصلاتين صلاة الأوابين . وأما حديث حذيفة المذكور في الباب فأخرجه الترمذي في باب مناقب الحسن والحسين من آخر كتابه مطولا وقال : حسن غريب . وأخرجه أيضا النسائي مختصرا وأخرج أيضا ابن أبي شيبة عنه نحوه
( وفي الباب ) عن ابن عباس عند أبي الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب وفضائل الأعمال قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أحيا ما بين الظهر والعصر وما بين المغرب والعشاء غفر له وشفع له ملكان ) وفي إسناده حفص بن عمر القزاز قال العراقي : مجهول
ولابن عباس حديث آخر رواه الديلمي في مسند الفردوس بلفظ : قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من صلى أربع ركعات بعد المغرب قبل أن يتكلم رفعت له في عليين وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى وهي خير من قيام نصف ليلة ) قال العراقي : وفي إسناده جهالة ونكارة وهو أيضا من رواية عبد الله بن أبي سعيد فإن كان الذي يروي عن الحسن ويروي عنه يزيد بن هارون فقد جهله أبو حاتم وذكره ابن حبان في الثقات وإن كان ابن أبي سعيد المقبري فهو ضعيف
وعن ابن عمر عند محمد بن نصر في كتاب قيام الليل بلفظ : ( سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : من صلى ست ركعات بعد المغرب [ ص 67 ] قبل أن يتكلم غفر له بها خمسين سنة ) وفي إسناده محمد بن غزوان الدمشقي قال أبو زرعة : منكر الحديث وقال ابن حبان : لا يحل الاحتجاج به وله حديث آخر عند الديلمي في مسند الفردوس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى أربع ركعات بعد المغرب كان كالمعقب غزوة بعد غزوة في سبيل الله ) وفي إسناده موسى بن عبيد الربذي وهو ضعيف جدا
قال العراقي : والمعروف أنه من قول ابن عمر غير مرفوع هكذا رواه ابن أبي شيبة في المصنف . وعن ابن مسعود عند محمد بن نصر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بين المغرب والعشاء أربع ركعات ) وهو منقطع لأنه من رواية معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن جده ولم يدركه . وعن عبيد مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند أحمد والطبراني : ( أنه سئل أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بصلاة بعد المكتوبة أو سوى المكتوبة قال : نعم بين المغرب والعشاء )
وعن عمار بن ياسر عند الطبراني في معاجيمه الثلاثة وابن منده في معرفة الصحابة : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بعد المغرب ست ركعات وقال : من صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ) قال الطبراني : تفرد به صالح بن قطن . وقال ابن الجوزي : إن في هذه الطريق مجاهيل
وعن أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم بينهن عدلن له بعبادة ثنتي عشرة سنة ) وفي إسناده عمر بن عبد الله بن أبي خثعم وهو ضعيف جدا
وعن عائشة عند الترمذي عن النبي صلى الله عليه و سلم : ( من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة )
( والآيات والأحاديث ) المذكورة في الباب تدل على مشروعية الاستكثار من الصلاة ما بين المغرب والعشاء والأحاديث وإن كان أكثرها ضعيفا فهي منتهضة بمجموعها لا سيما في فضائل الأعمال قال العراقي : وممن كان يصلي ما بين المغرب والعشاء من الصحابة عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وسلمان الفارسي وابن عمر وأنس بن مالك في ناس من الأنصار . ومن التابعين الأسود بن يزيد وأبو عثمان النهدي وابن أبي مليكة وسعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر وأبو حاتم وعبد الله بن سخبرة وعلي بن الحسين وأبو عبد الرحمن الحبلي وشريح القاضي وعبد الله بن مغفل وغيرهم . ومن الأئمة سفيان الثوري [ ص 68 ]

باب ما جاء في قيام الليل

1 - عن أبي هريرة قال : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة قال : الصلاة في جوف الليل قال : فأي الصيام أفضل بعد رمضان قال : شهر الله المحرم )
- رواه الجماعة إلا البخاري . ولابن ماجه منه فضل الصوم فقط

- وفي الباب عن بلال عند الترمذي في كتاب الدعوات من سننه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم )
وعن أبي أمامة عند ابن عدي في الكامل والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي مثل حديث بلال وفي إسناده عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو مختلف فيه . ولأبي أمامة حديث آخر عند محمد بن نصر والطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر الحديث وفيه : ( والصلاة بالليل والناس نيام ) وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو مختلف فيه
وعن جابر عند ابن ماجه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ) قال العراقي : وهذا الحديث شبه الموضوع اشتبه على ثابت بن موسى وإنما قاله شريك القاضي لثابت عقب إسناد ذكره فظنه ثابت حديثا
ولجابر حديث آخر رواه الطبراني في الأوسط عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا بد عن صلاة الليل ولو حلب شاة ) قال الطبراني : تفرد به بقية
ولجابر أيضا حديث آخر عند ابن حبان في صحيحه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر حديثا وفيه : وإن هو توضأ ثم قام إلى الصلاة أصبح نشيطا قد أصاب خيرا وقد انحلت عقده كلها )
وعن سلمان الفارسي عند ابن عدي في الكامل والطبراني بلفظ حديث بلال المتقدم
وعن ابن عباس عند محمد بن نصر والطبراني في الكبير قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليكم بقيام الليل ولو ركعة واحدة ) وفي إسناده حسين بن عبد الله وهو ضعيف . وله حديث آخر عند الترمذي في التفسير مثل حديث أبي أمامة الثاني
وعن عبد الله بن سلام عند الترمذي في الزهد وصححه وابن ماجه بنحو حديث أبي أمامة الثاني أيضا
وعن ابن عمر عند محمد بن نصر بنحو حديث أبي أمامة الثاني أيضا
وعن عبد الله بن عمر عند محمد بن نصر بنحوه أيضا
وعن علي عند الترمذي [ ص 69 ] في البر بنحوه أيضا
وعن أبي مالك الأشعري عند محمد بن نصر والطبراني بنحوه أيضا بإسناد جيد
وعن معاذ عند الترمذي في التفسير بنحو حديث ابن عباس
وعن ثوبان عند البزار بنحو حديث أبي أمامة
وعن ابن مسعود عند ابن حبان في صحيحه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : عجب ربنا من رجلين رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته فيقول الله تعالى انظروا إلى عبدي ثار من وطائه وفراشه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي ) الحديث . ورواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير قال العراقي : وإسناده جيد
وعن سهل بن سعد عند الطبراني في الأوسط قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه : واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل )
وعن أبي سعيد عند ابن ماجه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله ليضحك إلى ثلاثة للصف في الصلاة وللرجل يصلي في جوف الليل وللرجل يقاتل الكتيبة )
وعن إياس بن معاوية المزني عند الطبراني في الكبير مثل حديث جابر الثاني
( وهذه الأحاديث ) تدل على تأكد استحباب قيام الليل ومشروعية الاستكثار من الصلوات فيه وبها استدل من قال إن الوتر أفضل من صلاة الصبح وقد قدمنا الخلاف في ذلك
وحديث الباب أيضا يدل على تفضيل الصيام في المحرم وأن صيامه أفضل من صيام بقية الأشهر وهو مخصص لعموم ما عند البخاري والترمذي وصححه والنسائي وأبي داود من حديث ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر فقالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله فقال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) وهذا إذا كان كون الشيء أحب إلى الله يستلزم أنه أفضل من غيره وإن كان لا يستلزم ذلك فلا حاجة إلى التخصيص لعدم التنافي

2 - وعن عمرو بن عبسة : ( أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن )
- رواه الترمذي وصححه

- الحديث رجال إسناده رجال الصحيح وأخرجه أيضا أبو داود والحاكم . وفي الباب عن أبي هريرة عند الجماعة كلهم قال : ( قال : ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني [ ص 70 ] فأعطيه من ذا الذي يستغفر لي فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر )
وعن علي عند أحمد والدارقطني قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) فذكر حديثا وفيه : ( فإنه إذا مضى ثلث الليل الأول هبط الله إلى السماء الدنيا فلم يزل هنالك حتى يطلع الفجر فيقول القائل ألا سائل يعطي سؤاله ألا داع يجاب )
وعن أبي سعيد عند مسلم والنسائي في اليوم والليلة بنحو حديث أبي هريرة . وعن جبير بن مطعم عند النسائي في اليوم والليلة بنحو حديث أبي هريرة أيضا . وعن ابن مسعود عند أحمد بنحوه
وعن أبي الدرداء عند الطبراني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) فذكر حديثا وفيه : ( ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له ألا سائل يسألني فأعطيه ألا داع يدعوني فأستجيب له حتى يطلع الفجر ) قال الطبراني : وهو حديث منكر
وعن عثمان بن العاص عند أحمد والبزار قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ينادي مناد كل ليلة هل من داع فيستجاب له هل من سائل فيعطى هل من مستغفر فيغفر له حتى يطلع الفجر )
وعن جابر عند الدارقطني وأبي الشيخ بنحو حديث أبي هريرة وفي إسناده محمد بن إسماعيل الجعفري وهو منكر الحديث قاله أبو حاتم
وعن عبادة بن الصامت عند الطبراني في الكبير والأوسط بنحو حديث أبي هريرة أيضا
وعن عقبة بن عامر عند الدارقطني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا مضى ثلث الليل أو قال نصف الليل ينزل الله عز و جل إلى السماء الدنيا فيقول لا أسأل عن عبادي أحدا غيري )
وعن عمرو بن عبسة حديث آخر غير المذكور في الباب عند الدارقطني قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله جعلني الله فداك علمني شيئا تعلمه وأجهله ينفعني ولا يضرك ما ساعة أقرب من ساعة فقال : يا عمرو لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك إن الرب عز و جل يتدلى من جوف الليل ) زاد في رواية : ( فيغفر إلا ما كان من الشرك ) وله حديث آخر عند أحمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( صلاة الليل مثنى مثنى وجوف الليل الآخر أجوبه دعوة قلت : أوجبه قال : لا أجوبه ) يعني بذلك الإجابة وفي إسناده أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي مريم وهو ضعيف . وعن أبي الخطاب عند أحمد بنحو حديث أبي هريرة
( وهذه الأحاديث ) تدل على استحباب الصلاة والدعاء في ثلث الليل الآخر وأنه وقت الإجابة والمغفرة . والنزول المذكور في الأحاديث قد طول علماء الإسلام الكلام في تأويله وأنكر الأحاديث الواردة به كثير من المعتزلة والطريقة المستقيمة ما كان عليه التابعون [ ص 71 ] كالزهري ومكحول والسفيانين والليث وحماد بن سلمة وحماد بن زيد والأوزاعي وابن المبارك والأئمة الأربعة مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم فإنهم أجروها كما جاءت بلا كيفية ولا تعرض لتأويل ( 1 )
_________
( 1 ) وللإمام ابن تيمية كتاب مؤلف شرح فيه حديث النزول وقد طبع . وللعلامة ابن القيم مؤلف أيضا سماه اجتماع الجيوش الإسلامية على المعطلة والجهمية وقد طبع أيضا

3 - وعن عبد الله بن عمرو : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أحب الصيام إلى الله صيام داود وأحب الصلاة إلى الله عز و جل صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما )
- رواه الجماعة إلا الترمذي فإنه إنما روى فضل الصوم فقط

- الحديث يدل على أن صوم يوم وإفطار يوم أحب إلى الله من غيره وإن كان أكثر منه وما كان أحب إلى الله جل جلاله فهو أفضل والاشتغال به أولى . وفي رواية لمسلم : ( إن عبد الله بن عمرو قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إني أطيق أفضل من ذلك فقال صلى الله عليه و سلم : لا أفضل من ذلك ) وسيأتي ذكر الحكمة في ذلك في كتاب الصيام عند ذكر المصنف لهذا الحديث إن شاء الله . ويدل على أفضلية قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه وتعقيب قيام ذلك الثلث بنوم السدس الآخر ليكون ذلك كالفاصل ما بين صلاة التطوع والفريضة ويحصل بسببه النشاط لتأدية صلاة الصبح لأنه لو وصل القيام بصلاة الفجر لم يأمن أن يكون وقت القيام إليها ذاهب النشاط والخشوع لما به من التعب والفتور ويجمع بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة المتقدم بنحو ما سلف

4 - وعن عائشة : ( أنها سئلت كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالليل فقالت : كل ذلك قد كان يفعل ربما أسر وربما جهر )
- رواه الخمسة وصححه الترمذي

- الحديث رجاله رجال الصحيح . وفي الباب عن أبي قتادة عند الترمذي وأبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي بكر : مررت بك وأنت تقرأ وأنت تخفض من صوتك فقال : إني سمعت من ناجيت قال : ارفع قليلا وقال لعمر : مررت بك وأنت تقرأ وأنت ترفع صوتك فقال : إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان قال : اخفض قليلا )
وعن ابن عباس عند أبي داود قال : ( كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قدر [ ص 72 ] ما يسمعه من في الحجرة وهو في البيت ) وعن علي نحو حديث أبي قتادة . وعن عمار عند الطبراني بنحو حديث أبي قتادة أيضا . وعن أبي هريرة عند أبي داود بنحوه أيضا وله حديث آخر عند أبي داود قال : ( كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالليل يرفع طورا ويخفض طورا ) وله حديث ثالث عند أحمد والبزار ( أن عبد الله بن حذافة قام يصلي فجهر بصلاته فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا ابن حذافة لا تسمعني وأسمع ربك ) قال العراقي : وإسناده صحيح
وعن أبي سعيد عند أبي داود والنسائي قال : ( اعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال : ألا أن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة )
وعن ابن عمر عند أحمد والبزار والطبراني بنحو حديث أبي سعيد
وعن البياضي واسمه فروة بن عمر وعند أحمد قال العراقي : بإسناد صحيح : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال : إن المصلي يناجي ربه عز و جل فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن )
وعن عقبة بن عامر عند أبي داود والترمذي والنسائي قالا : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة )
وعن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير بنحو حديث عقبة وفي إسناده إسحاق بن مالك الحضرمي ضعفه الأزدي ورواه الطبراني من وجه آخر وفيه بسر بن نمير وهو ضعيف جدا
( وفي الباب ) أحاديث كثيرة وفيها أن الجهر والإسرار جائزان في قراءة صلاة الليل وأكثر الأحاديث المذكورة تدل على أن المستحب في القراءة في صلاة الليل التوسط بين الجهر والإسرار وحديث عقبة وما في معناه يدل على أن السر أفضل لما علم من أن إخفاء الصدقة أفضل من إظهارها

5 - وعن عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين )
- رواه أحمد ومسلم

6 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

- الحديثان يدلان على مشروعية افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين لينشط بهما لما بعدهما وقد تقدم الجمع بين روايات عائشة المختلفة في حكايتها لصلاته صلى الله عليه [ ص 73 ] وآله وسلم أنها ثلاث عشرة تارة وأنها إحدى عشرة تارة أخرى بأنها ضمت هاتين الركعتين فقالت ثلاث عشرة ولم تضمهما فقالت إحدى عشرة ولا منافاة بين هذين الحديثين وبين قولها في صفة صلاته صلى الله عليه و سلم : ( صلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ) لأن المراد صلى أربعا بعد هاتين الركعتين . وقد استدل المصنف بذلك على ترك نقض الوتر فقال : وعمومه حجة في ترك نقض الوتر انتهى . وقد قدمنا الكلام على هذا

باب صلاة الضحى

1 - عن أبي هريرة قال : ( أوصاني خليلي صلى الله عليه و سلم بثلاث بصيام ثلاثة أيام في كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام )
- متفق عليه . وفي لفظ لأحمد ومسلم : ( وركعتي الضحى كل يوم )

- في الباب أحاديث منها ما سيذكره المصنف في هذا الباب . ومنها غير ما ذكره عن أنس عند الترمذي وابن ماجه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة )
وعن أبي الدرداء عند الترمذي وحسنه مثل حديث نعيم بن همار الذي سيذكره المصنف وعنه حديث آخر عند مسلم بنحو حديث أبي هريرة المذكور
وعن أبي هريرة حديث آخر عند الترمذي وابن ماجه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر )
وعن أبي سعيد عند الترمذي وحسنه قال : ( كان صلى الله عليه و سلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليها )
وعن عائشة غير الحديث الذي سيذكره المصنف عنها عند مسلم والنسائي والترمذي في الشمائل من رواية معاذة العدوية قالت : ( قلت لعائشة أكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي الضحى قالت نعم أربعا ويزيد ما شاء الله )
وعن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير مثل حديث نعيم بن همار الذي سيذكره المصنف وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن وثقه الجمهور وضعفه بعضهم وله حديث آخر عند الطبراني بنحو حديث عائشة الذي سيذكره المصنف وفي إسناده ميمون ابن زيد عن ليث بن أبي سليم وكلاهما متكلم فيه
وعن عتبة بن عبد عند الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم يثبت حتى يسبح سبحة الضحى كان له كأجر حاج ومعتمر تام له حجه وعمرته ) وفي إسناده الأحوص بن حكيم [ ص 74 ] ضعفه الجمهور ووثقه العجلي
وعن ابن أبي أوفى عند الطبراني في الكبير أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى يوم الفتح ركعتين
وعن ابن عباس عند الطبراني في الأوسط بنحو حديث أبي ذر الذي سيذكره المصنف
وعن جابر عند الطبراني في الأوسط أيضا أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم صلى الضحى ست ركعات
وعن حذيفة عند ابن أبي شيبة في المصنف أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى ثمان ركعات طول فيهن
وعن عائذ بن عمرو عند أحمد والطبراني أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى الضحى
وعن عبد الله بن عمر عند الطبراني في الكبير مثل حديث نعيم بن همار الذي سيذكره المصنف
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد والطبراني قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية فغنموا وأسرعوا الرجعة فتحدث الناس بقرب مغزاهم وكثرة غنيمتهم وسرعة رجعتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أدلكم على أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة من توضأ ثم خرج إلى المسجد لسبحة الضحى فهو أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة )
وعن أبي موسى عند الطبراني في الأوسط قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى الضحى أربعا وقبل الأولى أربعا بني له بيت في الجنة )
وعن عتبان بن مالك عند أحمد : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى الضحى في بيته ) وقصة عتبان في صلاة النبي صلى الله عليه و سلم في بيته في الصحيح لكن ليس فيها ذكر سبحة الضحى
وعن عقبة بن عامر عند أحمد وأبي يعلى بنحو حديث نعيم بن همار
وعن علي عليه السلام عند النسائي : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي الضحى ) وإسناده قال العراقي : جيد
وعن معاذ بن أنس عند أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر ) قال العراقي : وإسناده ضعيف
وعن النواس بن سمعان عند الطبراني في الكبير مثل حديث نعيم بن همار قال العراقي : وإسناده صحيح
وعن أبي بكرة عند ابن عدي قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى فجاء الحسن وهو غلام فلما سجد ركب ظهره ) وفي إسناده عمرو بن عبيد وهو متروك
وعن أبي مرة الطائفي عند أحمد مثل حديث نعيم بن همار
وعن سعد بن أبي وقاص عند البزار : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بمكة ثمان ركعات يطيل القراءة فيها والركوع ) قال السيوطي : وسنده ضعيف وعن قدامة وحنظلة الثقفيين عند ابن منده وابن شاهين قالا : ( كان رسول الله [ ص 75 ] صلى الله عليه وآله وسلم إذا ارتفع النهار وذهب كل أحد وانقلب الناس خرج إلى المسجد فركع ركعتين أو أربعا ثم ينصرف )
وعن رجل من الصحابة عند ابن عدي أنه : ( رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى )
وعن ابن عباس حديث آخر عند بن أبي حاتم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( أمرت بالضحى ولم تؤمروا بها )
وعن الحسن بن علي عند البيهقي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من صلى الفجر ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى من الضحى ركعتين حرمه الله على النار أن تلحقه أو تطعمه )
وعن عبد الله ابن جراد بن أبي جراد عند الديلمي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ قل يا أيها الكافرون )
وعن عمر بن الخطاب عند حميد بن زنجويه بنحو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم وله حديث آخر عند ابن أبي شيبة
وعن أبي هريرة حديث آخر عند أبي يعلى بسند رجاله ثقات بنحو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص السابق
( وهذه الأحاديث ) المذكورة تدل على استحباب صلاة الضحى وقد ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء منهم الشافعية والحنفية ومن أهل البيت علي بن الحسين وإدريس بن عبد الله
( وقد جمع ابن القيم ) في الهدي الأقوال فبلغت ستة :
الأول : منها أنها سنة واستدلوا بهذه الأحاديث التي قدمناها
الثاني : لا تشرع إلا لسبب واحتجوا بأنه صلى الله عليه و سلم لم يفعلها إلا لسبب فاتفق وقوعه وقت الضحى وتعددت الأسباب فحديث أم هانئ في صلاته يوم الفتح كان لسبب الفتح وأن سنة الفتح أن يصلي عنده ثمان ركعات قال : وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح وصلاته عند القدوم من مغيبه كما في حديث عائشة كانت لسبب القدوم فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين وصلاته في بيت عتبان بن مالك كانت لسبب وهو تعليم عتبان إلى أين يصلي في بيته النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأل ذلك
( وأما أحاديث ) الترغيب فيها والوصية بها فلا تدل على أنها سنة راتبة لكل أحد ولهذا خص بذلك أبا هريرة وأبا ذر ولم يوص بذلك أكابر الصحابة
والقول الثالث : أنها لا تستحب أصلا
والقول الرابع : يستحب فعلها تارة وتركها أخرى
والقول الخامس : تستحب صلاتها والمحافظة عليها في البيوت
والقول السادس : أنها بدعة . روي ذلك عن ابن عمر وإليه ذهب الهادي عليه السلام والقاسم وأبو طالب ولا يخفاك أن الأحاديث الواردة بإثباتها قد بلغت مبلغا لا يقصر البعض منه عن اقتضاء الاستحباب
وقد جمع الحاكم الأحاديث في إثباتها في جزء مفرد عن نحو عشرين نفسا من [ ص 76 ] الصحابة وكذلك السيوطي صنف جزءا في الأحاديث الواردة في إثباتها وروى فيه عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونها منهم أبو سعيد الخدري وقد روى ذلك عنه سعيد بن منصور وأحمد بن حنبل وعائشة . وقد روى ذلك عنها سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو ذر وقد روى ذلك عنه ابن أبي شيبة وعبد الله بن غالب وقد روى ذلك عنه أبو نعيم وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنه سئل هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلونها فقال : نعم كان منهم من يصلي ركعتين ومنهم من يصلي أربعا ومنهم من يمد إلى نصف النهار
وأخرج سعيد بن منصور أيضا في سننه عن ابن عباس أنه قال : طلبت صلاة الضحى في القرآن فوجدتها ههنا { يسبحن بالعشي والإشراق } . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في الإيمان من وجه آخر عن ابن عباس أنه قال : إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها إلا غواص في قوله تعالى { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال } وأخرج الأصبهاني في الترغيب عن عون العقيلي في قوله تعالى { أنه كان للأوابين غفورا } قال : الذين يصلون صلاة الضحى
( وأما احتجاج ) القائلين بأنها لا تشرع إلا لسبب بما سلف فالأحاديث التي ذكرها المصنف وذكرناها في هذا الباب ترده وكذلك ترد اعتذار من اعتذر عن أحاديث الوصية والترغيب بما تقدم من الاختصاص وترد أيضا قول ابن القيم أن عامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال وبعضها منقطع وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به فإن فيها الصحيح والحسن وما يقاربه كما عرفت
قوله في حديث الباب : ( وركعتي الضحى ) قد اختلفت أقواله صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله في مقدار صلاة الضحى فأكثر ما ثبت من فعله ثمان ركعات وأكثر ما ثبت من قوله اثنتا عشرة ركعة . وقد أخرج الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا : ( من صلى الضحى لم يكتب من الغافلين ومن صلى أربعا كتب من القانتين ومن صلى ستا كفي ذلك اليوم ومن صلى ثمانيا كتب من العابدين ومن صلى اثنتي عشرة بنى الله له بيتا في الجنة ) قال الحافظ : وفي إسناده ضعف وله شاهد من حديث أبي ذر رواه البزار وفي إسناده ضعف أيضا . وحديث أنس المتقدم فيه التصريح بأن الضحى اثنتا عشرة ركعة وقد ضعفه النووي قال الحافظ : لكن إذا ضم حديث أبي ذر وأبي الدرداء إلى حديث أنس قوي وصلح للاحتجاج وقال أيضا : إن حديث أنس ليس [ ص 77 ] في إسناده من أطلق عليه الضعف وبه يندفع تضعيف النووي له ولكنه تابعه الحافظ في التلخيص
وقد ذهب قوم منهم أبو جعفر الطبري وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية إلى أنه لا حد لأكثرها . قال العراقي في شرح الترمذي : لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين أنه حصرها في اثنتي عشرة ركعة وكذا قال السيوطي . وقد اختلف في الأفضل فقيل ثمان وقيل أربع

2 - وعن أبي ذر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

3 - وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة قالوا : فمن الذي يطيق ذلك يا رسول الله قال : النخاعة في المسجد يدفنها أو الشيء ينحيه عن الطريق فإن لم يقدر فركعتا الضحى تجزئ عنك )
- رواه أحمد وأبو داود

- الحديث الأول أخرجه أيضا النسائي والحديث الثاني أخرجه أبو داود عن أحمد بن محمد المروزي وهو ثقة عن علي بن الحسين بن واقد وهو من رجال مسلم عن أبيه وهو أيضا من رجال مسلم عن عبد الله بن بريدة فذكره . وقد أخرجه أيضا حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال ولم يعزه السيوطي في جزء الضحى إلا إليه
قوله : ( سلامى ) قال النووي : بضم السين وتخفيف اللام وأصله عظام الأصابع وسائر الكف ثم استعمل في عظام البدن ومفاصله ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : خلق الإنسان على ستين وثلاثمائة مفصل على كل مفصل صدقة ) وفي القاموس أنها عظام صغار طول إصبع وأقل في اليد والرجل انتهى . وقيل كل عظم مجوف من صغار العظام . وقيل ما بين كل مفصلين من عظام الأنامل وقيل العروق التي في الأصابع وهي ثلاثمائة وستون أو أكثر
قوله : ( ويجزئ من ذلك ركعتان ) الخ قال النووي : ضبطنا يجزي بفتح أوله وضمه فالضم من الإجزاء والفتح من جزى يجزي أي كفى
( والحديثان ) يدلان على عظم فضل الضحى وأكبر موقعها وتأكد مشروعيتها وأن ركعتيها تجزيان عن ثلاثمائة وستين صدقة وما كان كذلك فهو حقيق بالمواظبة والمداومة . ويدلان أيضا على مشروعية الاستكثار من [ ص 78 ] التسبيح والتحميد والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفن النخامة وتنحية ما يؤذي المار عن الطريق وسائر أنواع الطاعات ليسقط بفعل ذلك ما على الإنسان من الصدقات اللازمة في كل يوم

4 - وعن نعيم بن همار : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال ربكم عز و جل يا ابن آدم صل لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره )
- رواه أحمد وأبو داود وهو للترمذي من حديث أبي ذر وأبي الدرداء
الحديث في إسناده اختلاف كثير قال المنذري : وقد جمعت طرقه في جزء مفرد . وقد اختلف أيضا في اسم همار المذكور فقيل هبار بالباء الموحدة . وقيل هدار بالدال المهملة . وقيل همام بالميمين وقيل خمار بالخاء المفتوحة المعجمة وقيل حمار بالحاء المهملة المكسورة والراء مهملة في همار وهبار وخمار وحمار وهدار
قوله : ( وهو للترمذي من حديث أبي ذر وأبي الدرداء ) هكذا في النسخ الصحيحة بدون إثبات الألف التي للتخيير بين أبي ذر وأبي الدرداء والصواب إثباتها لأن الترمذي إنما روى حديثا واحدا وتردد هل هو من رواية أبي ذر أو من رواية أبي الدرداء ولم يرو لكل منهما حديثا ولا روى الحديث عنهما جميعا ولفظ الحديث في الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تبارك وتعالى { إن الله تعالى قال : ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب انتهى
وفي إسناده إسماعيل بن عياش وقد صحح جماعة من الأئمة حديثه إذا كان عن الشاميين وهو هنا كذلك لأن بحير بن سعيد شامي وإسماعيل رواه عنه وهذا الحديث قد روي عن جماعة من الصحابة قد قدمنا الإشارة إليهم في أول الباب
واستدل على مشروعية صلاة الضحى لكنه لا يتم إلا على تسليم أنه أريد بالأربع المذكورة صلاة الضحى
وقد قيل يحتمل أن يراد بها فرض الصبح وركعتا الفجر لأنها هي التي في أول النهار حقيقة ويكون معناه كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من صلى الصبح فهو في ذمة الله ) قال العراقي : وهذا ينبني على أن النهار هل هو من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس والمشهور الذي يدل عليه كلام جمهور أهل اللغة وعلماء الشريعة أنه من طلوع الفجر وقال : على تقدير أن يكون النهار من طلوع الفجر فلا مانع من أن يراد بهذه الأربع الركعات بعد طلوع الشمس لأن ذلك الوقت ما خرج عن كونه أول النهار وهذا هو الظاهر من الحديث وعمل الناس فيكون المراد بهذه الأربع ركعات صلاة الضحى انتهى
وقد اختلف في [ ص 79 ] وقت دخول الضحى فروى النووي في الروضة عن أصحاب الشافعي أن وقت الضحى يدخل بطلوع الشمس ولكن يستحب تأخيرها إلى ارتفاع الشمس . وذهب البعض منهم إلى أن وقتها يدخل من الارتفاع وبه جزم الرافعي وابن الرفعة وسيأتي ما يبين وقتها في حديث زيد بن أرقم وحديث علي عليه السلام

5 - وعن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه

- الحديث يدل على مشروعية صلاة الضحى وقد اختلفت الأحاديث عن عائشة فروي عنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلاها من غير تقييد كما في حديث الباب . وروي عنها أنها سئلت هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى قالت : لا إلا أن يجيء من مغيبه أخرجه مسلم . وروي عنها أنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي سبحة الضحى قط وإني لأسبحها . متفق عليه
وقد جمع بين هذه الروايات بأن قولها كان يصلي الضحى أربعا لا يدل على المداومة بل على مجرد الوقوع على ما صرح به أهل التحقيق من أن ذلك مدلول كان كما تقدم وإن خالف في ذلك بعض أهل الأصول ولا يستلزم هذا الإثبات أنها رأته يصلي لجواز أن تكون روت ذلك من طريق غيرها
وقولها إلا أن يجيء من مغيبه يفيد تقييد ذلك المطلق بوقت المجيء من السفر . وقولها ما رأيته يصلي سبحة الضحى نفي للرؤية ولا يستلزم أن لا يثبت لها ذلك بالرواية أو نفي لما عدا الفعل المقيد بوقت القدوم من السفر وغاية الأمر أنها أخبرت عما بلغ إليه علمها وغيرها من أكابر الصحابة أخبر بما يدل على المداومة وتأكد المشروعية ومن علم حجة على من لا يعلم لا سيما وذلك الوقت الذي تفعل فيه ليس من الأوقات التي تعتاد فيها الخلوة بالنساء وقد تقدم تحقيق ما هو الحق

6 - وعن أم هانئ : ( أنه لما كان عام الفتح أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بأعلى مكة فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة ثم أخذ ثوبه فالتحف به ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى )
- متفق عليه . ولأبي داود عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى يوم الفتح سبحة الضحى ثمان ركعات يسلم بين كل ركعتين )

- قوله ( وهو بأعلى مكة ) في رواية للبخاري ومسلم أنها قالت : ( أن النبي صلى الله عليه [ ص 80 ] وآله وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان ركعات ) ويجمع بينهما بأن ذلك تكرر منه ويؤيده ما رواه ابن خزيمة عنها أن أبا ذر ستره لما اغتسل ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة وكانت في بيت آخر بمكة فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان ذكر معنى ذلك الحافظ
قوله : ( فسترت عليه فاطمة ) فيه جواز الاغتسال بحضرة امرأة من محارم الرجل إذا كان مستور العورة عنها وجواز تستيرها إياه بثوب أو نحوه
قوله : ( ثماني ركعات ) زاد ابن خزيمة من طريق كريب عن أم هانئ ( يسلم من كل ركعتين ) وزادها أيضا أبو داود كما ذكر المصنف وفي ذلك رد على من قال إن صلاة الضحى موصولة سواء كانت ثمان ركعات أو أقل أو أكثر
( والحديث ) يدل على استحباب صلاة الضحى وقد تقدم قول من قال إن هذه صلاة الفتح لا صلاة الضحى وتقدم الجواب عليه

7 - وعن زيد بن أرقم قال : ( خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال : صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى )
- رواه أحمد ومسلم

- الحديث أخرجه أيضا الترمذي ولفظ مسلم : إن زيد بن أرقم رأى قوما يصلون من الضحى فقال : أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ) وفي رواية له : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهل قباء وهم يصلون فقال : ( صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال ) . زاد ابن أبي شيبة في المصنف : ( وهم يصلون الضحى فقال : صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى ) . وفي رواية لابن مردويه في تفسيره : ( وهم يصلون بعد ما ارتفعت الشمس ) . وفي رواية له أنه وجدهم قد بكروا بصلاة الظهر فقال ذلك . وفي رواية للطبراني أنه مر بهم وهم يصلون الضحى حين أشرقت الشمس
قوله : ( الأوابين ) جمع أواب وهو الراجع إلى الله تعالى من آب إذا رجع
قوله : ( إذا رمضت ) بفتح الراء وكسر الميم وفتح الضاد المعجمة أي احترقت من حر الرمضاء وهي شدة الحر . والمراد إذا وجد الفصيل حر الشمس ولا يكون ذلك إلا عند ارتفاعها
( والحديث ) يدل على أن المستحب فعل الضحى في ذلك الوقت . وقد توهم أن قول زيد بن أرقم أن الصلاة في غير هذه [ ص 81 ] الساعة أفضل كما في رواية مسلم يدل على نفي الضحى وليس الأمر كذلك بل مراده أن تأخير الضحى إلى ذلك الوقت أفضل

8 - وعن عاصم بن ضمرة قال : ( سألنا عليا عن تطوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنهار فقال : كان إذا صلى الفجر أمهل حتى إذا كانت الشمس من ههنا يعني من المشرق مقدارها من صلاة العصر من ههنا قبل المغرب قام فصلى ركعتين ثم يمهل حتى إذا كانت الشمس من ههنا يعني من قبل المشرق مقدارها من صلاة الظهر من ههنا يعني من قبل المغرب قام فصلى أربعا وأربعا قبل الظهر إذا زالت الشمس ركعتين بعدها وأربعا قبل العصر يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن يتبعهم من المسلمين والمؤمنين )
- رواه الخمسة إلا أبا داود

- الحديث حسنه الترمذي وأسانيده ثقات وعاصم بن ضمرة فيه مقال ولكن قد وثقه ابن معين وعلي بن المديني
قوله : ( إذا كانت الشمس من ههنا ) يعني من المشرق مقدارها من صلاة العصر من ههنا قبل المغرب المراد من هذا أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى ركعتي الضحى ومقدار ارتفاع الشمس من جهة المشرق كمقدار ارتفاعها من جهة المغرب عند صلاة العصر وفيه تبيين وقتها
قوله : ( حتى إذا كانت الشمس ) إلى قوله ( قام فصلى أربعا ) المراد إذا كان مقدار بعد الشمس من مشرقها كمقدار بعدها من مغربها عند صلاة الظهر قام فصلى ذلك المقدار
قوله : ( إذا زالت الشمس ) هذا تبيين لما قبله ( وفيه دليل ) على استحباب أربع ركعات إذا زالت الشمس . قال العراقي : وهي غير الأربع التي هي سنة الظهر قبلها . وممن نص على استحباب صلاة الزوال الغزالي في الإحياء في كتاب الأوراد
ويدل على ذلك ما رواه أبو الوليد بن مغيث الصفار عن عبد الملك بن حبيب قال : بلغني عن ابن مسعود : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من عبد مسلم يصلي أربع ركعات حين تزول الشمس قبل الظهر يحسن فيها الركوع والسجود والخشوع يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب ) وذكر حديثا طويلا . ورواه الطبراني موقوفا على ابن مسعود
وما أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استوى النهار خرج إلى بعض حيطان المدينة ) وفيه : ( قام فصلى أربع ركعات لم يتشهد بينهن ويسلم في آخر الأربع )
وقد بوب الترمذي للصلاة عند الزوال وذكر [ ص 82 ] حديث عبد الله بن السائب : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي أربعا حين تزول الشمس )
وأشار إلى حديث علي هذا وإلى حديث أبي أيوب وهو عند ابن ماجه وأبي داود بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء )
قوله : ( وركعتين بعدها وأربعا قبل العصر ) الخ قد تقدم الكلام على ذلك

باب تحية المسجد

1 - عن أبي قتادة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )
- رواه الجماعة والأثرم في سننه . ولفظه : ( أعطوا المساجد حقها قالوا : وما حقها قال : أن تصلوا ركعتين قبل أن تجلسوا )

- حديث أبي قتادة أورده البخاري بلفظ النهي كما ذكره المصنف وبلفظ الأمر فروي من طريق عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس )
وأخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر سليكا الغطفاني لما أتى يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقعد قبل أن يصلي الركعتين أن يصليهما )
وأخرج مسلم عن جابر أيضا : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أتى المسجد لثمن جمله الذي اشتراه منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي الركعتين ) والأمر يفيد بحقيقته وجوب فعل التحية والنهي يفيد بحقيقته أيضا تحريم تركها وقد ذهب إلى القول بالوجوب الظاهرية كما حكى ذلك عنهم ابن بطال . قال الحافظ في الفتح : والذي صرح به ابن حزم عدمه
وذهب الجمهور إلى أنها سنة وقال النووي : إنه إجماع المسلمين قال : وحكى القاضي عياض عن داود وأصحابه وجوبها . قال الحافظ في الفتح : واتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب قال : ومن أدلة عدم الوجوب قوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي رآه يتخطى : ( اجلس فقد آذيت ) ولم يأمره بصلاة كذا استدل به الطحاوي وغيره وفيه نظر انتهى
( ومن جملة ) أدلة الجمهور على عدم الوجوب ما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال : كان أصحاب رسول الله صلى [ ص 83 ] الله عليه وآله وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون
( ومن أدلتهم ) أيضا حديث ضمام بن ثعلبة عند البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي لما سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما فرض الله عليه من الصلاة فقال : ( الصلوات الخمس فقال : هل علي غيرها قال : لا إلا أن تطوع ) وفي رواية للبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود قال : ( الصلوات الخمس إلا أن تطوع )
ويجاب على عدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم للذي رآه يتخطى بالتحية بأنه لا مانع له أن يكون قد فعلها في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه أو أنه كان ذلك قبل الأمر بها والنهي عن تركها ولعل هذا وجه النظر الذي ذكره الحافظ ويجاب عن الاستدلال بأن الصحابة كانوا يدخلون ويخرجون ولا يصلون بأن التحية إنما تشرع لمن أراد الجلوس لما تقدم وليس في الرواية أن الصحابة كانوا يدخلون ويجلسون ويخرجون بغير صلاة تحية وليس فيها إلا مجرد الدخول والخروج فلا يتم الاستدلال إلا بعد تبيين أنهم كانوا يجلسون على أنه لا حجة في أفعالهم أما عند من لا يقول بحجية الإجماع فظاهر
وأما عند القائل بذلك فلا يكون حجة إلا فعل جميعهم بعد عصره صلى الله عليه و سلم لا في حياته كما تقرر في الأصول وتلك الرواية محتملة وأيضا يمكن أن يكون صدور ذلك منهم قبل شرعيتها ويجاب عن حديث ضمام بن ثعلبة أولا بأن التعاليم الواقعة في مبادئ الشريعة لا تصلح لصرف وجوب ما تجدد من الأوامر وإلا لزم قصر واجبات الشريعة على الصلاة والصوم والحج والزكاة والشهادتين واللازم باطل فكذا الملزوم
أما الملازمة فلأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اقتصر في تعليم ضمام بن ثعلبة في هذا الحديث السابق نفسه على الخمس المذكورة كما في الأمهات وفي بعضها على أربع ثم لما سمعه يقول بعد أن ذكر به ذلك : ( والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه قال : أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق ) وتعليق الفلاح ودخول الجنة بصدقه في ذلك القسم الذي صرح فيه بترك الزيادة على الأمور المذكورة مشعر بأن لا واجب عليه سواها إذ لو فرض بأن عليه شيئا من الواجبات غيرها لما قرره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ومدحه به وأثبت له الفلاح ودخول الجنة فلو صلح قوله ( لا إلا أن تطوع ) لصرف الأوامر الواردة بغير الخمس الصلوات لصلح قوله ( أفلح إن صدق ) و ( دخل الجنة إن صدق ) لصرف الأدلة القاضية بوجوب ما عدا الأمور المذكورة
( وأما بطلان اللازم ) فقد ثبت بالأدلة المتواترة وإجماع الأمة أن واجبات [ ص 84 ] الشريعة قد بلغت أضعاف أضعاف تلك الأمور فكان اللازم باطلا بالضرورة الدينية وإجماع الأمة ويجاب ثانيا بأن قوله إلا أن تطوع ينفي وجوب الواجبات ابتداء لا الواجبات بأسباب يختار المكلف فعلها كدخول المسجد مثلا لأن الداخل ألزم نفسه الصلاة بالدخول فكأنه أوجبها على نفسه فلا يصح شمول ذلك الصارف لمثلها
ويجاب ثالثا بأن جماعة من المتمسكين بحديث ضمام بن ثعلبة في صرف الأمر بتحية المسجد إلى الندب قد قالوا بوجوب صلوات خارجة عن الخمس كالجنازة وركعتي الطواف والعيدين والجمعة فما هو جوابهم في إيجاب هذه الصلوات فهو جواب الموجبين لتحية المسجد
( لا يقال ) الجمعة داخلة في الخمس لأنها بدل عن الظهر لأنا نقول لو كانت كذلك لم يقع النزاع في وجوبها على الأعيان ولا احتيج إلى الاستدلال لذلك إذا عرفت هذا لاح لك أن الظاهر ما قاله أهل الظاهر من الوجوب
( والحديث ) يدل على مشروعية التحية في جميع الأوقات وإلى ذلك ذهب جماعة من العلماء منهم الشافعية وكرهها أبو حنيفة والأوزاعي والليث في وقت النهي وأجاب الأولون بأن النهي إنما هو عما لا سبب له واستدلوا بأنه صلى الله عليه و سلم صلى بعد العصر ركعتي الظهر وصلى ذات السبب ولم يترك التحية في حال من الأحوال بل أمر الذي دخل المسجد وهو يخطب فجلس قبل أن يركع أن يقوم فيركع ركعتين مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع خطبته وأمره أن يصلي التحية فلولا شدة الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات لما اهتم هذا الاهتمام ذكر معنى ذلك النووي في شرح مسلم
والتحقيق أنه قد تعارض في المقام عمومات النهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة من غير تفصيل والأمر للداخل بصلاة التحية من غير تفصيل فتخصيص أحد العمومين بالآخر تحكم وكذلك ترجيح أحدهما على الآخر مع كون كل واحد منهما في الصحيحين بطرق متعددة ومع اشتمال كل واحد منهما على النهي أو النفي الذي في معناه ولكنه إذا ورد ما يقضي بتخصيص أحد العمومين عمل عليه وصلاته صلى الله عليه وآله وسلم سنة الظهر بعد العصر مختص به لما ثبت عند أحمد وغيره ممن قدمنا ذكرهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قالت له أم سلمة : ( أفنقضيهما إذا فاتتا قال : لا ) ولو سلم عدم الاختصاص لما كان في ذلك إلا جواز قضاء سنة الظهر لا جواز جميع ذوات الأسباب نعم حديث يزيد بن الأسود الذي سيأتي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للرجلين : ما منعكما أن تصليا معنا فقالا : قد صلينا في رحالنا فقال : إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ) وكانت تلك الصلاة صلاة الصبح كما سيأتي يصلح لأن يكون من جملة المخصصات لعموم الأحاديث القاضية بالكراهة وكذلك ركعتا الطواف وسيأتي تحقيق هذا في باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وباب الرخصة في إعادة الجماعة وركعتي الطواف
وبهذا التقرير يعلم أن فعل تحية المسجد في الأوقات المكروهة وتركها لا يخلو عند القائل بوجوبها من إشكال والمقام عندي من المضايق والأولى للمتورع ترك دخول المساجد في أوقات الكراهة
قوله في حديث الباب : ( فلا يجلس ) قال الحافظ : صرح جماعة بأنه إذا خالف وجلس لا يشرع له التدارك قال : وفيه نظر لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر أنه دخل المسجد فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أركعت ركعتين قال : لا قال : قم فاركعهما ) ومثله قصة سليك المتقدم ذكرها وسيأتي ذكرها في أبواب الجمعة
وقال الطبري : يحتمل أن يقال وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز أو يقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء
قال الحافظ : ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل وظاهر التعليق بالجلوس أنه ينتفي النهي بانتفائه فلا يلزم التحية من دخل المسجد ولم يجلس ذكر معنى ذلك ابن دقيق العيد وتعقب بأن الجلوس نفسه ليس هو المقصود بالتعليق عليه بل المقصود الحصول في بقعته واستدل على ذلك بما عند أبي داود بلفظ : ( ثم ليقعد بعد إن شاء أو ليذهب لحاجته إن شاء ) والظاهر ما ذكره ابن دقيق العيد
قوله : ( حتى يصلي ركعتين ) قال الحافظ في الفتح : هذا العدد لا مفهوم لأكثره باتفاق واختلف في أقله والصحيح اعتباره فلا تتأدى هذه السنة بأقل من ركعتين انتهى
وظاهر الحديث أن التحية مشروعة وإن تكرر الدخول إلى المسجد ولا وجه لما قاله البعض من عدم التكرر قياسا على المترددين إلى مكة في سقوط الإحرام عليهم
( فائدة ) ذكر ابن القيم أن تحية المسجد الحرام الطواف لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ فيه بالطواف وتعقب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجلس إذ التحية إنما تشرع لمن جلس كما تقدم والداخل إلى المسجد الحرام يبدأ بالطواف ثم يصلي صلاة المقام فلا يجلس إلا وقد صلى فأما لو دخل المسجد الحرام وأراد القعود قبل الطواف فإنه يشرع له أن يصلي التحية
ومن جملة ما استثني من عموم التحية دخول المسجد لصلاة العيد لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها وتعقب بأنه صلى الله عليه [ ص 86 ] وآله وسلم لم يجلس حتى يتحقق في حقه ترك التحية . وأيضا الجبانة ليست بمسجد فلا تحية لها فلا يلحق بذلك من دخل لصلاة العيد في مسجد وأراد الجلوس قبل الصلاة ولكنه سيأتي في أبواب صلاة العيد حديث مرفوع يدل على منع التحية قبل صلاة العيد وبعدها
ومن جملة ما استثني من عموم التحية من دخل المسجد وقد أقيمت الفريضة فإنها لا تشرع لحديث أبي هريرة عند مسلم وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان مرفوعا بلفظ : ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )

باب الصلاة عقيب الطهور

1 - عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لبلال عند صلاة الصبح : يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة قال : ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي )
- متفق عليه

- قوله ( لبلال ) هو ابن رباح المؤذن
قوله : ( عند صلاة الصبح ) فيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام لأن عادته صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يعبر ما رآه ويعبر ما رآه أصحابه بعد صلاة الفجر كما وردت بذلك الأحاديث ويدل على ذلك أن الجنة لا يدخلها أحد إلا بعد الموت
قوله : ( بأرجى عمل ) بلفظ أفعل التفضيل وإضافة الرجاء إلى العمل لأنه سبب الداعي إليه
قوله : ( في الإسلام ) زاد مسلم في روايته منفعة عندك
قوله : ( فإني سمعت ) زاد مسلم : ( الليلة ) وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام كما تقدم
قوله : ( دف نعليك ) بفتح المهملة وتثقيل الفاء وضبطه المحب الطبري بالذال المعجمة قال الخليل : دف الطائر إذا حرك جناحيه وهو قائم على رجليه . وقال الحميدي : الدف الحركة الخفيفة . ووقع في رواية مسلم ( خشف نعليك ) بفتح الخاء وسكون الشين المعجمتين وتخفيف الفاء قال أبو عبيد وغيره : الخشف الحركة الخفيفة ووقع في رواية عند أحمد والترمذي وغيرهما خشخشة بمعجمتين مكررتين وهو بمعنى الحركة أيضا
قوله : ( إني لم أتطهر ) بفتح الهمزة ومن مقدرة قبله صلة لأفعل التفضيل وهي ثابتة في رواية مسلم
قوله : ( ما كتب لي ) أي قدر وهو أعم من الفريضة والنافلة . قال ابن التين : إنما اعتقد بلال ذلك لأنه علم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن [ ص 87 ] الصلاة أفضل الأعمال وأن عمل السر أفضل من عمل الجهر وبهذا التقدير يندفع إيراد من أورد عليه غير ما ذكر من الأعمال الصالحة ( 1 )
( وللحديث ) فوائد منها جواز الاجتهاد في توقيت العبادة والحث على الصلاة عقيب الوضوء وسؤال الشيخ عن عمل تلميذه فيحضه عليه
واستدل به على جواز الصلاة في الأوقات المكروهة لعموم قوله ( في ساعة من ليل أو نهار ) وتعقب بأن الأخذ بعمومه ليس بأولى من الأخذ بعموم النهي
_________
( 1 ) قال الحافظ في الفتح بعد ما أورد كلام ابن التين هذا : والذي يظهر أن المراد بالأعمال التي سأله عن أرجاها الأعمال المتطوع بها وإلا فالمفروضة أفضل قطعا

باب صلاة الاستخارة

1 - عن جابر بن عبد الله قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول : إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال : ويسمي حاجته )
- رواه الجماعة إلا مسلما

- الحديث مع كونه في صحيح البخاري ومع تصحيح الترمذي وأبي حاتم له قد ضعفه أحمد بن حنبل وقال : إن حديث عبد الرحمن بن أبي الموالي يعني الذي أخرجه هؤلاء الجماعة من طريقه منكر في الاستخارة
وقال ابن عدي في الكامل في ترجمة عبد الرحمن المذكور أنه أنكر عليه حديث الاستخارة قال : وقد رواه غير واحد من الصحابة انتهى
وقد وثق عبد الرحمن بن أبي الموالي جمهور أهل العلم كما قال العراقي وقال أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم : لا بأس به
( وفي الباب ) عن ابن مسعود عند الطبراني قال : ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاستخارة قال : إذا أراد أحدكم أمرا فليقل )
فذكر نحو حديث الباب وفي إسناده صالح بن موسى بن إسحاق بن طلحة [ ص 88 ] التيمي وهو متروك كما ذكر في التقريب وعن أبي أيوب عند الطبراني في الكبير وابن حبان في صحيحه وفيه : ( ثم قل اللهم إنك تقدر ولا أقدر ) وذكر الحديث
وعن أبي بكر الصديق عند الترمذي في الدعوات : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أراد أمرا قال اللهم خر لي واختر لي ) وفي إسناده ضعف
وعن أبي سعيد عند أبي يعلى الموصل بلفظ : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا أراد أحدكم أمرا فليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك ) الحديث . وزاد في آخره : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) قال العراقي : وإسناده جيد
وعن سعد بن أبي وقاص عند أحمد وأبي يعلى والبزار في مسانيدهم قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سعادة ابن آدم استخارته الله عز و جل ) قال البزار : ولا نعلمه بهذا اللفظ إلا عن سعد ولا رواه عنه إلا ابنه محمد قال العراقي : قد رواه البزار أيضا من رواية عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه نحوه وكلاهما لا يصح إسناده وأصل الحديث عند الترمذي في الرضا والسخط
وعن ابن عباس وابن عمر عند الطبراني في الكبير قالا : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن اللهم إني أستخيرك ) الحديث إلى قوله ( علام الغيوب ) وفي إسناده عبد الله بن هانئ بن عبد الرحمن بن أبي عبلة وهو متهم بالكذب . وعن ابن عمر حديث آخر عند الطبراني في الأوسط بنحو حديثه الأول
قوله : ( في الأمور كلها ) دليل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه فرب أمر يستخف بأمره فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه ولذلك قال صلى الله عليه و سلم : ( ليسأل أحدكم ربه حتى في شسع نعله )
قوله : ( كما يعلمنا السورة من القرآن ) فيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة وأنه متأكد مرغب فيه قال العراقي : ولم أجد من قال بوجوب الاستخارة مستدلا بتشبيه ذلك بتعليم السورة من القرآن كما استدل بعضهم على وجوب التشهد في الصلاة بقول ابن مسعود كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن
( فإن قال قائل ) إنما دل على وجوب التشهد الأمر في قوله ( فليقل التحيات لله ) الحديث . قلنا وهذا أيضا فيه الأمر بقوله ( فليركع ركعتين ثم ليقل ) فإن قال الأمر في هذا تعلق بالشرط وهو قوله ( إذا هم أحدكم بالأمر ) قلنا إنما يؤمر به عند إرادة ذلك لا مطلقا كما قال في التشهد ( إذا صلى أحدكم فليقل التحيات ) قال : ومما يدل على عدم وجوب الاستخارة الأحاديث الصحيحة الدالة على انحصار فرض الصلاة في الخمس من قوله ( هل على غيرها قال لا إلا أن تطوع ) وغير ذلك انتهى . وفيه ما قدمنا لك في باب تحية المسجد
قوله : ( فليركع ركعتين ) فيه [ ص 89 ] أن السنة في الاستخارة كونها ركعتين فلا تجزئ الركعة الواحدة وهل يجزئ في ذلك أن يصلي أربعا أو أكثر بتسليمة يحتمل أن يقال يجزئ ذلك لقوله في حديث أبي أيوب : ( ثم صل ما كتب الله لك ) فهو دال على أنها لا تضر الزيادة على الركعتين ومفهوم العدد في قوله : ( فليركع ركعتين ) ليس بحجة على قول الجمهور
قوله : ( من غير الفريضة ) فيه أنه لا يحصل التسنن بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة والسنن الراتبة وتحية المسجد وغير ذلك من النوافل
وقال النووي في الأذكار : إنه يحصل التسنن بذلك وتعقب بأنه صلى الله عليه و سلم إنما أمر بذلك بعد حصول الهم بالأمر فإذا صلى راتبة أو فريضة ثم هم بأمر بعد الصلاة أو في أثناء الصلاة لم يحصل بذلك الإتيان بالصلاة المسنونة عند الاستخارة . قال العراقي : إن كان همه بالأمر قبل وقوع الشروع في الراتبة ونحوها ثم صلى من غير نية الاستخارة وبدا له بعد الصلاة الإتيان بدعاء الاستخارة فالظاهر حصول ذلك
قوله : ( ثم ليقل ) فيه أنه لا يضر تأخر دعاء الاستخارة عن الصلاة ما لم يطل الفصل وأنه لا يضر الفصل بكلام آخر يسير خصوصا إن كان من آداب الدعاء لأنه أتى بثم المقتضية للتراخي
قوله : ( أستخيرك ) أي أطلب منك الخير أو الخيرة قال صاحب المحكم : استخار الله طلب منه الخير . وقال صاحب النهاية : خار الله لك أي أعطاك الله ما هو خير لك قال : والخيرة بسكون الياء الاسم منه قال : فأما بالفتح فهي الاسم من قوله اختاره الله
قوله : ( بعلمك ) الباء للتعليل أي بأنك أعلم وكذا قوله بقدرتك
قوله : ( ومعاشي ) المعاش والعيشة واحد يستعملان مصدرا واسما قال صاحب المحكم : العيش الحياة قال : والمعيش والمعاش والمعيشة ما يؤنس به انتهى
قوله : ( أو قال عاجل أمري ) هو شك من الراوي
قوله ( فاصرفه عني واصرفني عنه هو طلب الأكمل من وجوه انصراف ما ليس فيه خيرة عنه ولم يكتف بسؤال صرف أحد الأمرين لأنه قد يصرف الله المستخير عن ذلك الأمر بأن ينقطع طلبه له وذلك الأمر الذي ليس فيه خيرة بطلبه فربما أدركه وقد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر ولا يصرف قلب العبد عندئذ بل يبقى متطلعا متشوقا إلى حصوله فلا يطيب له خاطر إلا بحصوله فلا يطمئن خاطره فإذا صرف كل منهما عن الآخر كان ذلك أكمل ولذلك قال : واقد لي الخير حيث كان ثم أرضني به لأنه إذا قدر له الخير ولم يرض به كان منكد العيش آثما بعدم رضاه بما قدره الله له مع كونه خيرا له
قوله : ( ويسمي حاجته ) أي في أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله إن كان هذا الأمر
( والحديث ) يدل على مشروعية [ ص 90 ] صلاة الاستخارة والدعاء عقبيها ولا أعلم في ذلك خلافا وهل يستحب تكرار الصلاة والدعاء قال العراقي : الظاهر الاستحباب وقد ورد في حديث تكرار الاستخارة سبعا رواه ابن السني من حديث أنس مرفوعا بلفظ : ( إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإن الخير فيه )
قال النووي في الأذكار : إسناده غريب فيه من لا أعرفهم . قال العراقي : كلهم معروفون ولكن بعضهم معروف بالضعف الشديد وهو إبراهيم بن البراء بن النضر بن أنس بن مالك وقد ذكره في الضعفاء العقيلي وابن حبان وابن عدي والأزدي
قال العقيلي : يحدث عن الثقات بالبواطيل وكذا قال ابن عدي . وقال ابن حبان : شيخ كان يدور بالشام يحدث عن الثقات بالموضوعات لا يجوز ذكره إلا على سبيل القدح فيه وقد رواه الحسن بن سعيد الموصلي فقال حدثنا إبراهيم بن حبان بن النجار حدثنا أبي عن أبيه النجار عن أنس فكأنه دلسه وسماه النجار لكونه من بني النجار
قال العراقي : فالحديث على هذا ساقط لا حجة فيه نعم قد يستدل للتكرار بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثا الحديث الصحيح وهذا وإن كان المراد به تكرار الدعاء في الوقت الواحد فالدعاء الذي تسن الصلاة له تكرر الصلاة له كالاستسقاء . قال النووي : ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسا وإلا فلا يكون مستخيرا لله بل يكون مستخيرا لهواه وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبرئ من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه

باب ما جاء في طول القيام وكثرة الركوع والسجود

1 - عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

- قوله : ( من ربه ) أي من رحمة ربه وفضله
قوله : ( وهو ساجد ) الواو للحال أي أقرب حالاته من الرحمة حال كونه ساجدا وإنما كان في السجود أقرب من سائر أحوال الصلاة وغيرها لأن العبد بقدر ما يبعد عن نفسه يقرب من ربه والسجود [ ص 91 ] غاية التواضع وترك التكبر وكسر النفس لأنها لا تأمر الرجل بالمذلة ولا ترضى بها ولا بالتواضع بل بخلاف ذلك فإذا سجد فقد خالف نفسه وبعد عنها فإذا بعد عنها قرب من ربه
قوله : ( فأكثروا الدعاء ) أي في السجود لأنه حالة قرب كما تقدم وحالة القرب مقبول دعاؤها لأن السيد يحب عبده الذي يطيعه ويتواضع له ويقبل منه ما يقوله وما يسأله
( والحديث ) يدل على مشروعية الاستكثار من السجود ومن الدعاء فيه . وفيه دليل لمن قال السجود أفضل من القيام وسيأتي ذكر الخلاف في ذلك

2 - وعن ثوبان قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط بها عنك خطيئة )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

- الحديث لفظه في صحيح مسلم قال يعني معدان بن أبي طلحة اليعمري : ( لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة أو قال بأحب الأعمال إلى الله فسكت ثم سألته فسكت ثم سألته الثالثة فقال : سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) فذكر الحديث وهو يدل على أن كثرة السجود مرغب فيها والمراد به السجود في الصلاة وسبب الحث عليه ما تقدم في الحديث الذي قبل هذا أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وهو موافق لقوله تعالى { واسجد واقترب } كذا قال النووي . وفيه دليل لمن يقول أن السجود أفضل من القيام وسائر أركان الصلاة
( وفي هذه المسألة ) مذاهب : أحدها : أن تطويل السجود وتكثير الركوع والسجود أفضل حكاه الترمذي والبغوي عن جماعة وممن قال بذلك ابن عمر
والمذهب الثاني : أن تطويل القيام أفضل لحديث جابر الآتي وإلى ذلك ذهب الشافعي وجماعة وهو الحق كما سيأتي
والمذهب الثالث : أنهما سواء وتوقف أحمد بن حنبل في المسألة ولم يقض فيها بشيء
وقال إسحاق بن راهويه : أما في النهار فتكثير الركوع والسجود أفضل وأما في الليل فتطويل القيام إلا أن يكون للرجل جزء بالليل يأتي عليه فتكثير الركوع والسجود أفضل لأنه يقرأ جزأه ويربح كثرة الركوع والسجود
قال ابن عدي : إنما قال إسحاق هذا لأنهم وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه و سلم بالليل بطول القيام ولم يوصف من تطويله بالنهار ما وصف من تطويله بالليل [ ص 92 ]

3 - عن ربيعة بن كعب قال : ( كنت أبيت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتيه بوضوئه وحاجته فقال : سلني فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة فقال : أو غير ذلك فقلت : هو ذاك فقال : أعني على نفسك بكثرة السجود )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود

- قوله : ( سلني ) فيه جواز قول الرجل لأتباعه ومن يتولى خدمته سلوني حوائجكم
قوله : ( مرافقتك ) فيه دليل على أن من الناس من يكون مع الأنبياء في الجنة . وفيه أيضا جواز سؤال الرتب الرفيعة التي تكبر عن السائل
قوله : ( أعني على نفسك بكثرة السجود ) فيه أن السجود من أعظم القرب التي يكون بسببها ارتفاع الدرجات عند الله إلى حد لا يناله إلا المقربون وبه أيضا استدل من قال أن السجود أفضل من القيام كما تقدم

4 - وعن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أفضل الصلاة طول القنوت )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصححه

- وفي الباب عن عبد الله بن حبشي عند أبي داود والنسائي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل : أي الأعمال أفضل قال : إيمان لا شك فيه ) الحديث . وفيه : ( فأي الصلاة أفضل قال : طول القنوت ) وعن أبي ذر عند أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل . قال فيه : ( فأي الصلاة أفضل قال : طول القنوت )
قوله : ( طول القنوت ) هو يطلق بإزاء معان قد قدمنا ذكرها والمراد هنا طول القيام قال النووي : باتفاق العلماء ويدل على ذلك تصريح أبي داود في حديث عبد الله بن حبشي : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل أي الأعمال أفضل قال : طول القيام )
( والحديث ) يدل على أن القيام أفضل من السجود والركوع وغيرهما وإلى ذلك ذهب جماعة منهم الشافعي كما تقدم وهو الظاهر ولا يعارض حديث الباب وما في معناه الأحاديث المتقدمة في فضل السجود لأن صيغة أفعل الدالة على التفضيل إنما وردت في فضل طول القيام ولا يلزم من فضل الركوع والسجود أفضليتهما على طول القيام
وأما حديث ما تقرب العبد إلى الله بأفضل من سجود خفي فإنه لا يصح لإرساله كما قال العراقي ولأن في إسناده أبا بكر ابن أبي مريم وهو ضعيف وكذلك أيضا لا يلزم من كون العبد أقرب إلى ربه حال سجوده بأفضليته على القيام لأن ذلك إنما هو باعتبار إجابة الدعاء
قال العراقي : الظاهر أن أحاديث أفضلية طول القيام محمولة على صلاة النفل [ ص 93 ] التي لا تشرع فيها الجماعة وعلى صلاة المنفرد فأما الإمام في الفرائض والنوافل فهو مأمور بالتخفيف المشروع إلا إذا علم من حال المأمومين المحصورين إيثار التطويل ولم يحدث ما يقتضي التخفيف من بكاء صبي ونحوه فلا بأس بالتطويل وعليه يحمل صلاته في المغرب بالأعراف كما تقدم

5 - وعن المغيرة بن شعبة قال : ( إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقوم ويصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول أفلا أكون عبدا شكورا )
- رواه الجماعة إلا أبا داود

- في الباب عن أنس عند البزار وأبي يعلى والطبراني في الأوسط مثل حديث المغيرة قال العراقي : ورجاله رجال الصحيح
وعن ابن مسعود عند الطبراني في الأوسط بنحوه
وعن النعمان بن بشير عند الطبراني في الأوسط أيضا بنحوه وفي إسناده سليمان بن الحكم وهو ضعيف
وعن أبي جحيفة عند الطبراني في الكبير بنحوه وفي إسناده أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني ضعفه البخاري والجمهور ووثقه ابن معين في رواية وأحمد وقال ربما أخطأ
وعن عائشة عند البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم حتى تنفطر قدماه ) الحديث . وعنها حديث آخر عند أبي داود : ( أن أول سورة المزمل نزلت فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتفخت أقدامهم )
وعن سفينة عند البزار : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم تعبد قبل أن يموت واعتزل النساء حتى صار كأنه شن )
قوله : ( حتى ترم قدماه ) الورم الانتفاخ
قوله : ( أفلا أكون عبدا شكورا ) فيه أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان ومنه قوله تعالى { اعملوا آل داود شكرا }
( والحديث ) يدل على مشروعية اجتهاد النفس في العبادة من الصلاة وغيرها ما لم يؤده ذلك إلى الملال وكانت حاله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الأحوال فكان لا يمل من عبادة ربه بل كان في الصلاة قرة عينه وراحته كما قال في الحديث الذي رواه النسائي عن أنس ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) وكما قال في الحديث الذي رواه أبو داود : ( أرحنا بها يا بلال ) [ ص 94 ]

باب إخفاء التطوع وجوازه جماعة

1 - عن زيد بن ثابت : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه لكن له معناه من رواية عبد الله بن سعد

- حديث عبد الله بن سعد الذي أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى أخرجه أيضا الترمذي في الشمائل ولفظه قال : ( سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أيما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد قال : ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة )
وفي الباب عن عمر بن الخطاب عند ابن ماجه قال : ( سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أما صلاة الرجل في بيته فنور فنوروا بيوتكم ) وفيه انقطاع
وعن جابر عند مسلم في أفراده قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله عز و جل جاعل في بيته من صلاته خيرا )
وعن أبي سعيد عند ابن ماجه مثل حديث جابر قال العراقي : وإسناده صحيح
وعن أبي هريرة عند مسلم والنسائي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة )
وعن ابن عمر عند الشيخين وأبي داود : ( عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ) وفي لفظ متفق عليه : ( صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا )
وعن عائشة عند أحمد : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها عليكم قبورا )
وعن زيد بن خالد عند أحمد والبزار والطبراني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ) قال العراقي : وإسناده صحيح
وعن الحسن بن علي عند أبي يعلى بنحو حديث زيد بن خالد وفي إسناده عبد الله بن نافع وهو ضعيف
وعن صهيب بن النعمان عند الطبراني في الكبير قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل المكتوبة على النافلة ) وفي إسناده محمد بن مصعب وثقه أحمد بن حنبل وضعفه ابن معين وغيره
( الحديث ) يدل على استحباب فعل صلاة التطوع في البيوت وأن فعلها فيها أفضل من فعلها في المساجد ولو كانت المساجد فاضلة كالمسجد الحرام ومسجده صلى الله عليه وآله وسلم ومسجد بيت المقدس . وقد ورد التصريح [ ص 95 ] بذلك في إحدى روايتي أبي داود لحديث زيد بن ثابت فقال فيها : ( صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة ) قال العراقي : وإسناده صحيح فعلى هذا لو صلى نافلة في مسجد المدينة كانت بألف صلاة على القول بدخول النوافل في عموم الحديث وإذا صلاها في بيته كانت أفضل من ألف صلاة وهكذا حكم المسجد الحرام وبيت المقدس
وقد استثنى أصحاب الشافعي من عموم أحاديث الباب عدة من النوافل فقالوا فعلها في غير البيت أفضل وهي ما تشرع فيها الجماعة كالعيدين والكسوف والاستسقاء وتحية المسجد وركعتي الطواف وركعتي الإحرام
قوله : ( إلا المكتوبة ) قال العراقي : هو في حق الرجال دون النساء فصلاتهن في البيوت أفضل وإن أذن لهن في حضور بعض الجماعات وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح : ( إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن وبيوتهن خير لهن ) والمراد بالمكتوبة هنا الواجبات بأصل الشرع وهي الصلوات الخمس دون المنذورة
قال النووي : إنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء وأصون من محبطات الأعمال وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة والملائكة وينفر منه الشيطان كما جاء في الحديث

2 - وعن عتبان بن مالك أنه قال : ( يا رسول الله إن السيول لتحول بيني وبين مسجد قومي فأحب أن تأتيني فتصلي في مكان من بيتي أتخذه مسجدا فقال : سنفعل فلما دخل قال : أين تريد فأشرت له إلى ناحية من البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصففنا خلفه فصلى بنا ركعتين )
- متفق عليه . وقد صح التنفل جماعة من رواية ابن عباس وأنس رضي الله عنهما

- حديث ابن عباس الذي أشار إليه المصنف له ألفاظ في البخاري وغيره أحدها أنه قال : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه )
وحديث أنس المشار إليه أيضا له ألفاظ كثيرة في البخاري وغيره وأحدها أنه قال : ( صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه و سلم وأمي وأم سليم خلفنا )
الأحاديث ساقها المصنف ههنا للاستدلال بها على صلاة النوافل جماعة وهي كما ذكر وليس للمانع من ذلك متمسك يعارض به هذه الأدلة
( وفي حديث ) عتبان فوائد منها جواز التخلف عن الجماعة في المطر والظلمة ونحو ذلك . ومنها جواز اتخاذ موضع معين للصلاة وأما النهي عن إيطان موضع معين [ ص 96 ] من المسجد ففيه حديث رواه أبو داود وهو محمول على ما إذا استلزم رياء ونحوه . وفيه تسوية الصفوف وأن عموم النهي عن إمامة الزائر من زاره مخصوص بما إذا كان الزائر هو الإمام الأعظم فلا يكره وكذا من أذن له صاحب المنزل . وفيه أنه يشرع لمن دعي من الصالحين للتبرك به الإجابة وإجابة الفاضل دعوة المفضول وغير ذلك من الفوائد
وفي حديث ابن عباس فوائد كثيرة أيضا ذكر بعضهم منها عشرين فائدة وهي تزيد على ذلك . وكذلك حديث أنس له فوائد وهما يدلان على أن الصبي يسد الجناح وفي ذلك خلاف معروف

باب أن أفضل التطوع مثنى مثنى

- فيه عن ابن عمر وعائشة وأم هانئ وقد سبق

1 - وعن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى )
- رواه الخمسة وليس هذا بمناقض لحديثه الذي خص فيه الليل بذلك لأنه وقع جوابا عن سؤال سائل عينه في سؤاله

- حديث ابن عمر الذي أشار إليه المصنف قد تقدم في باب الوتر بركعة . وحديث عائشة المشار إليه تقدم في باب الوتر بركعة أيضا . وحديث أم هانئ تقدم في باب الضحى . وحديث ابن عمر المذكور في الباب قد تقدم الكلام عليه أيضا في شرح حديثه المتقدم في باب الوتر بركعة
( وفي الباب ) عن عمرو بن عبسة عند أحمد بدون ذكر النهار
وعن ابن عباس عند الطبراني وابن عدي بنحو حديث عمرو بن عبسة
وعن عمار عند الطبراني في الكبير بنحوه وفي إسناده الربيع بن بدر وهو ضعيف
( والحديث ) يدل على أن المستحب في صلاة تطوع الليل والنهار أن يكون مثنى مثنى إلا ما خص من ذلك أما في جانب الزيادة كحديث عائشة ( صلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم صلى أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ) وأما في جانب النقصان كأحاديث الإيتار بركعة
وقد أشار المصنف رحمه الله إلى الجمع بين حديث ابن عمر هذا وحديثه الذي تقدم الاقتصار فيه على صلاة الليل بأن حديثه المتقدم وقع جوابا لسؤال سائل وأيضا حديثه هذا مشتمل على زيادة وقعت غير منافية فيتحتم العمل بها كما تقدم [ ص 97 ]

2 - وعن أبي أيوب : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا قام يصلي من الليل صلى أربع ركعات لا يتكلم ولا يأمر بشيء ويسلم بين كل ركعتين )

3 - وعن عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقد فإذا استيقظ تسوك ثم توضأ ثم صلى ثمان ركعات يجلس في كل ركعتين ويسلم ثم يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الخامسة )

4 - وعن المطلب ابن ربيعة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الصلاة مثنى مثنى وتشهد وتسلم في كل ركعتين وتبأس وتمسكن وتقنع يديك وتقول اللهم فمن لم يفعل ذلك فهي خداج )
- رواهن ثلاثتهن أحمد

- أما حديث أبي أيوب فأخرجه أيضا الطبراني في الكبير وفي إسناده واصل بن السائب وهو ضعيف وزاد أحمد في رواية : ( يستاك من الليل مرتين أو ثلاثا )
وأما حديث عائشة فيشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحيي الليل بثماني ركعات ركوعهن كقراءتهن وسجودهن كقراءتهن ويسلم بين كل ركعتين ) وفي إسناده جنادة بن مروان اتهمه أبو حاتم . وأما الإيتار بخمس متصلة فهو ثابت عند مسلم والترمذي والنسائي من حديثها وقد تقدم
وأما حديث المطلب بن ربيعة فأخرجه أيضا أبو داود قال حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ حدثنا شعبة حدثني عبد ربه بن سعيد عن أنس ابن أبي أنس عن عبد الله بن نافع عن عبد الله بن الحارث عن المطلب فذكره
وقال المنذري : أخرجه البخاري وابن ماجه . وفي حديث ابن ماجه المطلب بن أبي وداعة وهو وهم . وقيل هو عبد المطلب بن ربيعة وقيل الصحيح فيه ربيعة بن الحارث عن الفضل بن عباس وأخطأ فيه شعبة في مواضع . وقال البخاري في التاريخ : إنه لا يصح اه . ويشهد لصحته الأحاديث المذكورة في أول الباب
قوله : ( وتبأس ) قال ابن رسلان : بفتح المثناة الفوقانية وسكون الباء الموحدة وفتح الهمزة والمعنى أن تظهر الخضوع وفي بعض النسخ تبايس بفتح الباء والتاء وبعد الألف ياء تحتانية مفتوحة ومعناهما واحد . قال في القاموس : التباؤس التفاقر . ويطلق أيضا على التخشع والتضرع
قوله : ( وتمسكن ) قال في القاموس : تمسكن صار مسكينا والمسكين من لا شيء له والذليل والضعيف
قوله : ( وتقنع يديك ) بقاف فنون فعين مهملة أي ترفعهما . قال ابن رسلان : هو بضم التاء وكسر النون قال : والإقناع رفع اليدين في الدعاء والمسألة . والخداج قد تقدم تفسيره
والحديث الأول والثاني مقيدان بصلاة الليل . والحديث الثالث [ ص 98 ] مطلق وجميعها يدل على مشروعية أن تكون صلاة التطوع مثنى مثنى إلا ما خص كما تقدم وفي هذه الأحاديث فوائد . منها مشروعية التسوك عند القيام من النوم وقد تقدم الكلام عليه . ومنها مشروعية التمسكن والتفاقر لأن ذلك من الأسباب للإجابة . ومنها مشروعية رفع اليدين عند الدعاء وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرفع يديه في دعاء قط إلا في أمور مخصوصة . قال النووي في شرح مسلم أنه وجد منها في الصحيحين ثلاثين موضعا هذا معنى كلامه

5 - وعن أبي سعيد : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : في كل ركعتين تسليمة )
- رواه ابن ماجه

6 - وعن علي عليه السلام قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي حين تزيغ الشمس ركعتين وقبل نصف النهار أربع ركعات يجعل التسليم في آخره )
- رواه النسائي

- الحديث الأول في إسناده أبو سفيان السعدي طريف بن شهاب وقد ضعفه ابن معين ولكن له شواهد قد تقدم ذكرها
والحديث الثاني أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه بألفاظ مختلفة في بعضها كما ذكر المصنف وفي بعضها أربعا قبل الظهر وبعدها ركعتين وفي بعضها غير ذلك
وحديث أبي سعيد يدل على ما دلت عليه أحاديث صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وقد تقدمت وحديث علي يدل على جواز صلاة أربع ركعات متصلة في النهار فيكون من جملة المخصصات لأحاديث صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وفيه جواز الصلاة عند الزوال وقد تقدم الكلام في ذلك

باب جواز التنفل جالسا والجمع بين القيام والجلوس في الركعة الواحدة

1 - عن عائشة قالت : ( لما بدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثقل كان أكثر صلاته جالسا )
- متفق عليه

- قوله : ( لما بدن ) قال أبو عبيدة : بدن بفتح الدال المشددة تبدينا إذا أسن قال : ومن رواه بضم الدال المخففة فليس له معنى هنا لأن معناه كثرة اللحم وهو خلاف صفته صلى الله عليه وآله وسلم
قال القاضي عياض : روايتنا في مسلم عن جمهورهم بدن بالضم وعن العذري بالتشديد وأراه إصلاحا قال : ولا ينكر اللفظان في حقه صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 99 ] وقد قالت عائشة : ( فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع ) كما في صحيح مسلم . وفي لفظ : ( ولحم ) وفي آخر : ( أسن وكثر لحمه )
( والحديث ) يدل على جواز التنفل قاعدا مع القدرة على القيام قال النووي : وهو إجماع العلماء

2 - وعن حفصة قالت : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى في سبحته قاعدا حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلي في سبحته قاعدا وكان يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه

- قوله : ( سبحته ) بضم السين المهملة وسكون الباء الموحدة أي نافلته
( والحديث ) يدل على جواز صلاة التطوع من قعود وهو مجمع عليه كما تقدم . وفيه استحباب ترتيل القراءة والمراد بقولها حتى تكون أطول من أطول منها أن مدة قراءته لها أطول من قراءة سورة أخرى أطول منها إذا قرئت غير مرتلة وإلا فلا يمكن أن تكون السورة نفسها أطول من أطول منها من غير تقييد بالترتيل والإسراع والتقييد بقبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم بعام لا ينافي قول عائشة في الحديث الأول فلما بدن وثقل كان أكثر صلاته جالسا لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم بدن وثقل قبل موته بمقدار عام
وكذلك لا ينافي حديثها الآتي أنه صلى قاعدا حين أسن ولو فرض أنه صلى جالسا قبل وفاته بأكثر من عام فلا تنافي أيضا لأن حفصة إنما نفت رؤيتها لا وقوع ذلك

3 - وعن عمران بن حصين أنه : ( سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الرجل قاعدا قال : إن صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد )
- ورواه الجماعة إلا مسلما

- وفي الباب عن عبد الله بن السائب عند الطبراني في الكبير قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلاة الجالس على النصف من صلاة القائم ) وفي إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف
وعن عبد الله بن عباس عند ابن عدي في الكامل مثل حديث عبد الله بن السائب وفي إسناده حماد بن يحيى . وقد اختلف فيه
وعن ابن عمر عند البزار في مسنده والطبراني وابن أبي شيبة بنحوه . وعن المطلب بن أبي وداعة بنحوه . وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف . وعن عائشة عند النسائي بنحوه
( والحديث ) يدل على جواز التنفل من قعود واضطجاع وهو المراد بقوله : [ ص 100 ] ( ومن صلى نائما ) قال الخطابي في معالم السنن : لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما كما رخصوا فيها قاعدا فإن صحت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تكن من بعض الرواة مدرجة في الحديث قياسا على صلاة القاعد أو اعتبارا بصلاة المريض نائما إذا لم يقدر على القعود دلت على جواز تطوع القادر على القعود مضطجعا قال : ولا أعلم أني سمعت نائما إلا في هذا الحديث
وقال ابن بطال : وأما قوله ( من صلى نائما فله نصف أجر القاعد ) فلا يصح معناه عند العلماء لأنهم مجمعون أن النافلة لا يصليها القادر على القيام إيماء قال : وإنما دخل الوهم على ناقل الحديث وتعقب ذلك العراقي فقال : أما نفي الخطابي وابن بطال للخلاف في صحة التطوع مضطجعا للقادر فمردود فإن في مذهب الشافعية وجهين الأصح منهما الصحة
وعند المالكية ثلاثة أوجه حكاها القاضي عياض في الإكمال . أحدها الجواز مطلقا في الاضطرار والاختيار للصحيح والمريض . وقد روى الترمذي بإسناده عن الحسن البصري جوازه فكيف يدعي مع هذا الخلاف القديم والحديث الاتفاق انتهى
وقد اختلف شراح الحديث في الحديث هل هو محمول على التطوع أو على الفرض في حق غير القادر فحمله الخطابي على الثاني وهو محمل ضعيف لأن المريض المفترض الذي أتى بما يجب عليه من القعود والاضطجاع يكتب له جميع الأجر لا نصفه
قال ابن بطال : لا خلاف بين العلماء أنه لا يقال لمن لا يقدر على الشيء لك نصف أجر القادر عليه بل الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من منعه الله وحبسه عن عمله بمرض أو غيره يكتب له أجر عمله وهو صحيح اه . وحمله سفيان الثوري وابن الماجشون على التطوع وحكاه النووي عن الجمهور وقال : إنه يتعين حمل الحديث عليه وحكى الترمذي عن سفيان الثوري أنه قال : إن تنصيف الأجر إنما هو للصحيح فأما من كان له عذر من مرض أو غيره فصلى جالسا فإنه مثل أجر القائم

4 - وعن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي ليلا طويلا قائما وليلا طويلا قاعدا وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد )
- رواه الجماعة إلا البخاري

5 - وعن عائشة أيضا : ( أنها لم تر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن وكان يقرأ قاعدا [ ص 101 ] حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع )
- رواه الجماعة . وزادوا إلا ابن ماجه : ( ثم يفعل في الركعة الثانية كذلك )

- الحديث الأول يدل على أن المشروع لمن قرأ قائما أن يركع ويسجد من قيام ومن قرأ قاعدا أن يركع ويسجد من قعود
والحديث الثاني يدل على جواز الركوع من قيام لمن قرأ قاعدا ويجمع بين الحديثين بحمل قولها : ( وكان إذا قرأ وهو قائم وإذا قرأ قاعدا ) في الحديث الأول على أن المراد جميع القراءة بمعنى أنه لا يفرغ من القراءة قاعدا فيقوم للركوع والسجود ولا يفرغ منها قائما فيقعد للركوع والسجود فأما إذا افتتح الصلاة قائما ثم قرأ بعض القراءة جاز له أن يقعد لتمامها ويركع ويسجد من قعود وكذا إذا افتتح الصلاة قاعدا ثم قرأ بعض القراءة جاز له أن يقوم لتمامها ويركع ويسجد من قيام كما في الحديث الثاني
ويشكل على هذا الجمع ما ثبت في بعض طرق الحديث الأول عند مسلم من حديث عائشة بلفظ : ( فإذا افتتح الصلاة قائما ركع قائما وإذا افتتح الصلاة قاعدا ركع قاعدا ) قال العراقي : فيحمل على أنه كان يفعل مرة كذا ومرة كذا فكان مرة يفتتح قاعدا ويتم قراءته قاعدا ويركع قاعدا وكان مرة يفتتح قاعدا ويقرأ بعض قراءته قاعدا وبعضها قائما ويركع قائما فإن لفظ كان لا يقتضي المداومة . وقد جاء في رواية علقمة عن عائشة عند مسلم ما يقتضي أنه يفتتح قاعدا ويقرأ قاعدا ثم يقوم فيركع ولكن الظاهر أن هذا في الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس
وقد جاء التصريح به عند مسلم في حديث أخر من رواية أبي سلمة عنها وفيه : ( ثم يوتر ثم يصلي ركعتين وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع )
( والحديثان ) يدلان على جواز صلاة التطوع من قعود
والحديث الثاني يدل على أنه يجوز فعل بعض الصلاة من قعود وبعضها من قيام وبعض الركعة من قعود وبعضها من قيام
قال العراقي : وهو كذلك سواء قام ثم قعد أو قعد ثم قام وهو قول جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وحكاه النووي عن عامة العلماء . وحكى عن بعض السلف منعه قال : وهو غلط . وحكى القاضي عياض عن أبي يوسف ومحمد في آخرين كراهة القعود بعد القيام ومنع أشهب من المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام وجوزه ابن القاسم والجمهور

6 - وعن عائشة قالت : ( رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي متربعا )
- رواه الدارقطني [ ص 102 ]

- الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم قال النسائي : ما أعلم أحدا رواه غير أبي داود الجعفري ولا أحسبه إلا خطأ . قال الحافظ : قد رواه ابن خزيمة والبيهقي من طريق محمد بن سعيد بن الأصبهاني بمتابعة أبي داود فظهر أنه لا خطأ فيه . وروى البيهقي من طريق ابن عيينة عن ابن عجلان عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو هكذا ووضع يديه على ركبتيه وهو متربع جالس ) ورواه البيهقي عن حميد : ( رأيت أنسا يصلي متربعا على فراشه ) وعلقه البخاري
( والحديث ) يدل على أن المستحب لمن صلى قاعدا أن يتربع وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد وهو أحد القولين للشافعي وذهب الشافعي في أحد قوليه أنه يجلس مفترشا كالجلوس بين السجدتين وحكى صاحب النهاية عن بعض المصنفين أنه يجلس متوركا
وقال القاضي حسين : من الشافعية أنه يجلس على فخذه اليسرى وينصب ركبته اليمنى كجلسة القارئ بين يدي المقرئ وهذا الخلاف إنما هو في الأفضل وقد وقع الاتفاق على أنه يجوز له أن يقعد على أي صفة شاء من القعود لما في حديثي عائشة المتقدمين من الإطلاق وما في حديث عمران بن حصين المتقدم من العموم

باب النهي عن التطوع بعد الإقامة

1 - عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )
- رواه الجماعة إلا البخاري . وفي رواية لأحمد : ( إلا التي أقيمت )

- وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني في الأفراد مثل حديث أبي هريرة قال العراقي : وإسناده حسن . وعن جابر عند ابن عدي في الكامل مثله وفي إسناده عبد الله ابن ميمون القداح قال البخاري : ذاهب الحديث
( والحديث ) يدل على أنه لا يجوز الشروع في النافلة عند إقامة الصلاة من غير فرق بين ركعتي الفجر وغيرهما وقد اختلف الصحابة والتابعون ومن بعدهم في ذلك على تسعة أقوال :
أحدها : الكراهة وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر على خلاف عنه في ذلك وأبو هريرة ومن التابعين عروة بن الزبير ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي [ ص 103 ] وعطاء بن أبي رباح وطاوس ومسلم بن عقيل وسعيد بن جبير . ومن الأئمة سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ومحمد بن جرير هكذا أطلق الترمذي الرواية عن الثوري وروى عنه ابن عبد البر والنووي تفصيلا وهو أنه إذا خشي فوت ركعة من صلاة الفجر دخل معهم وترك سنة الفجر وإلا صلاها وسيأتي
القول الثاني : أنه لا يجوز صلاة شيء من النوافل إذا كانت المكتوبة قد قامت من غير فرق بين ركعتي الفجر وغيرهما . قاله ابن عبد البر في التمهيد
القول الثالث : أنه لا بأس بصلاة سنة الصبح والإمام في الفريضة حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود ومسروق والحسن البصري ومجاهد ومكحول وحماد بن أبي سليمان وهو قول الحسن بن حي ففرق هؤلاء بين سنة الفجر وغيره واستدلوا بما رواه البيهقي من حديث أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الصبح )
وأجيب عن ذلك بأن البيهقي قال : هذه الزيادة لا أصل لها وفي إسنادها حجاج بن نصر وعباد بن كثير وهما ضعيفان على أنه قد روى البيهقي عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة قيل : يا رسول الله ولا ركعتي الفجر قال : ولا ركعتي الفجر ) وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وهو متكلم فيه وقد وثقه ابن حبان واحتج به في صحيحه
القول الرابع : التفرقة بين أن يكون في المسجد أو خارجه وبين أن يخاف فوت الركعة الأولى مع الإمام أو لا . وهو قول مالك فقال : إذا كان قد دخل المسجد فليدخل مع الإمام ولا يركعهما يعني ركعتي الفجر وإن لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام ركعة فليركع خارج المسجد وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى مع الإمام فليدخل وليصل معه
القول الخامس : أنه إن خشي فوت الركعتين معا وأنه لا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه وإلا فيركعهما يعني ركعتي الفجر خارج المسجد ثم يدخل مع الإمام وهو قول أبي حنيفة وأصحابه كما حكاه ابن عبد البر وحكى عنه أيضا نحو قول مالك وهو الذي حكاه الخطابي وهو موافق لما حكاه عنه أصحابه . وحكى النووي عنه مثل قول الأوزاعي الآتي ذكره
القول السادس : أنه يركعهما في المسجد إلا أنه يخاف فوت الركعة الأخيرة فأما الركعة الأولى فليركع وإن فاتته وهو قول الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وحكاه النووي عن أبي حنيفة وأصحابه
القول السابع : يركعهما في المسجد وغيره إلا إذا خاف فوت الركعة الأولى وهو قول سفيان الثوري حكى ذلك عنه [ ص 104 ] ابن عبد البر وهو مخالف لما رواه الترمذي عنه
القول الثامن : أنه يصليهما وإن فاتته صلاة الإمام إذا كان الوقت واسعا قاله ابن الجلاب من المالكية
القول التاسع : أنه إذا سمع الإقامة لم يحل له الدخول في ركعتي الفجر ولا في غيرهما من النوافل سواء كان في المسجد أو خارجه فإن فعل فقد عصى وهو قول أهل الظاهر ونقله ابن حزم عن الشافعي وعن جمهور السلف وكذا قال الخطابي وحكى الكراهة عن الشافعي وأحمد
وحكى القرطبي في المفهم عن أبي هريرة وأهل الظاهر أنها لا تنعقد صلاة تطوع في وقت إقامة الفريضة وهذا القول هو الظاهر إن كان المراد بإقامة الصلاة الإقامة التي يقولها المؤذن عند إرادة الصلاة وهو المعنى المتعارف . قال العراقي : وهو المتبادر إلى الأذهان من هذا الحديث
( والأحاديث ) المذكورة في شرح الحديث الذي بعد هذا تدل على ذلك لا إذا كان المراد بإقامة الصلاة فعلها كما هو المعنى الحقيقي . ومنه قوله تعالى { الذين يقيمون الصلاة } فإنه لا كراهة في فعل النافلة عند إقامة المؤذن قبل الشروع في الصلاة وإذا كان المراد المعنى الأول فهل المراد به الفراغ من الإقامة لأنه حينئذ يشرع في فعل الصلاة أو المراد شروع المؤذن في الإقامة . قال العراقي : يحتمل أن يراد كل من الأمرين والظاهر أن المراد شروعه في الإقامة ليتهيأ المأمومون لإدراك التحريم مع الإمام . ومما يدل على ذلك قوله في حديث أبي موسى عند الطبراني : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا صلى ركعتي الفجر حين أخذ المؤذن يقيم ) قال العراقي : وإسناده جيد ومثله حديث ابن عباس الآتي قوله ( فلا صلاة ) يحتمل أن يتوجه النفي إلى الصحة أو إلى الكمال والظاهر توجهه إلى الصحة لأنها أقرب المجازين إلى الحقيقة وقد قدمنا الكلام في ذلك فلا تنعقد صلاة التطوع بعد إقامة الصلاة المكتوبة كما تقدم عن أبي هريرة وأهل الظاهر
قال العراقي : إن قوله ( فلا صلاة ) يحتمل أن يراد فلا يشرع حينئذ في صلاة عند إقامة الصلاة ويحتمل أن يراد فلا يشتغل بصلاة وإن كان قد شرع فيها قبل الإقامة بل يقطعها المصلي لإدراك فضيلة التحريم أو أنها تبطل بنفسها وإن لم يقطعها المصلي يحتمل كلا من الأمرين وقد بالغ أهل الظاهر فقالوا : إذا دخل في ركعتي الفجر أو غيرهما من النوافل فأقيمت صلاة الفريضة بطلت الركعتان ولا فائدة له في أن يسلم منهما ولو لم يبق عليه منهما غير السلام بل يدخل كما هو بابتداء التكبير في صلاة الفريضة فإذا أتم الفريضة فإن شاء ركعهما وإن شاء لم يركعهما قال : وهذا غلو منهم في صورة ما إذا لم يبق عليه غير السلام فليت شعري أيهما أطول زمنا [ ص 105 ] مدة السلام أو مدة إقامة الصلاة بل يمكنه أن يتهيأ بعد السلام لتحصيل أكمل الأحوال في الإقتداء قبل تمام الإقامة نعم قال الشيخ أبو حامد من الشافعية : أن الأفضل خروجه من النافلة إذا أداه إتمامها إلى فوات فضيلة التحريم وهذا واضح انتهى
قوله : ( إلا المكتوبة ) الألف واللام ليست لعموم المكتوبات وإنما هي راجعة إلى الصلاة التي أقيمت وقد ورد التصريح بذلك في رواية لأحمد بلفظ : ( فلا صلاة إلا المكتوبة التي أقيمت ) وكذلك في رواية لأبي هريرة ذكرها ابن عبد البر في التمهيد وكما ذكره المصنف في حديث الباب

2 - وعن عبد الله بن مالك بن بحينة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاث به الناس فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصبح أربعا الصبح أربعا )
- متفق عليه

- وفي الباب عن عبد الله بن سرجس عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه قال : ( جاء رجل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الصبح فصلى ركعتين قبل أن يدخل في الصلاة فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : يا فلان بأي صلاتيك اعتددت بالتي صليت وحدك أو بالتي صليت معنا )
وعن ابن عباس عند أبي داود الطيالسي قال : ( كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة فجذبني نبي الله صلى الله عليه و سلم وقال : أتصلي الصبح أربعا )
ورواه أيضا البيهقي والبزار وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال إنه على شرط الشيخين والطبراني
وعن أنس عند البزار أنه قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أقيمت الصلاة فرأى ناسا يصلون ركعتي الفجر فقال : صلاتان معا ونهى أن تصليا إذا أقيمت الصلاة ) . وأخرجه مالك في الموطأ
وعن زيد بن ثابت عند الطبراني في الأوسط قال : ( رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا يصلي ركعتي الفجر وبلال يقيم الصلاة فقال : أصلاتان معا ) وفي إسناده عبد المنعم بن بشير الأنصاري وقد ضعفه ابن معين وابن حبان
وعن أبي موسى عند الطبراني في الكبير : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يصلي ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يقيم فغمز النبي صلى الله عليه و سلم منكبه وقال : ألا كان هذا قبل هذا ) قال العراقي : وإسناده جيد
وعن عائشة عند ابن البر في التمهيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله [ ص 106 ] وسلم خرج حين أقيمت صلاة الصبح فرأى ناسا يصلون فقال : أصلاتان معا ) وفي إسناده شريك بن عبد الله وقد اختلف عليه في وصله وإرساله
قوله : ( لاث به الناس ) أي اختلطوا به والتفوا عليه . قال في القاموس : والالتياث الاختلاط والالتفاف
( والحديث ) يدل على كراهة صلاة سنة الفجر عند إقامة الصلاة المكتوبة وقد تقدم بسط الخلاف في ذلك في شرح الحديث الذي قبله
( فإن قيل ) قد روى ابن ماجه من حديث علي عليه السلام أنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي الركعتين عند الإقامة ) فكيف الجمع بينه وبين أحاديث الباب فقيل إن ذلك خاص بالإمام وقيل بالنبي صلى الله عليه و سلم والأولى أن يقال إن في إسناد الحديث الحارث الأعور وهو ضعيف كما علم بل قد رمي بالكذب فلا حاجة إلى تكلف الجمع

باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

1 - عن أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس )
- متفق عليه . وفي لفظ : ( لا صلاة بعد صلاتين بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب ) رواه أحمد والبخاري

2 - وعن عمر بن الخطاب : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس )
- ورواه أبو هريرة مثل ذلك متفق عليهما . وفي لفظ عن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ) رواه البخاري . ورواه أحمد وأبو داود وقالا فيه : ( بعد صلاة العصر )

- في الباب عن جماعة من الصحابة . منهم عمرو بن عبسة وابن عمر وسيذكر ذلك المصنف
وعن ابن مسعود عند الطحاوي بلفظ : ( كنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ونصف النهار )
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني في الأوسط قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تصلوا بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس )
وعن معاذ بن عفراء أشار إليه الترمذي وذكره ابن سيد الناس في شرحه بنحو حديث أبي سعيد
وعن زيد بن ثابت عند الطبراني : ( أن رسول [ ص 107 ] الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر )
وعن كعب بن مرة عند الطبراني أيضا بنحو حديث عمرو بن عبسة الآتي
وعن سلمة بن الأكوع أشار إليه الترمذي
وعن علي عند أبي داود قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر )
وفي الباب عن جماعة ذكرهم الترمذي والحافظ في التلخيص
قوله : ( لا صلاة ) قال ابن دقيق العيد : صيغة النفي إذا دخلت في ألفاظ الشارع على فعل كان الأولى حملها على نفي الفعل الشرعي لا الحسي لأنا لو حملناه على نفي الحسي لاحتجنا في تصحيحه إلى إضمار والأصل عدمه وإذا حملناه على الشرعي لم نحتج إلى إضمار فهذا وجه الأولوية وعلى هذا فهو نفي بمعنى النهي . والتقدير لا تصلوا كما تقدم التصريح بذلك في حديث أبي هريرة وابن عمرو بن العاص وسيأتي حديث علي
وحكى أبو الفتح اليعمري عن جماعة من السلف أنهم قالوا : إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر إنما هو إعلام بأنه لا يتطوع بعدهما ولم يقصد الوقت بالنهي كما قصد به وقت الطلوع ووقت الغروب
ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن كما قال الحافظ عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( لا تصلوا بعد الصبح ولا بعد العصر إلا أن تكون الشمس نقية ) وفي رواية : ( مرتفعة ) فدل على أن المراد بالبعدية ليس على عمومه وإنما المراد وقت الطلوع ووقت الغروب وما قاربهما كذا في الفتح
قوله : ( بعد صلاة العصر وبعد صلاة الفجر ) هذا تصريح بأن الكراهة متعلقة بفعل الصلاة لا بدخول وقت الفجر والعصر . وكذا قوله في الرواية الأخرى : ( لا صلاة بعد الصلاتين ) وكذا قوله في رواية ابن عمر : ( لا صلاة بعد صلاة الصبح ) وكذا قوله في حديث عمرو بن عبسة الآتي : ( صل صلاة الصبح ثم اقصر ) وقوله : ( حتى تصلي العصر ثم اقصر ) فتحمل الأحاديث المطلقة على الأحاديث المقيدة بهذه الزيادة
( وقد اختلف ) أهل العلم في الصلاة بعد العصر وبعد الفجر فذهب الجمهور إلى أنها مكروهة وادعى النووي الاتفاق على ذلك وتعقبه الحافظ بأنه قد حكى عن طائفة من السلف الإباحة مطلقا وأن أحاديث النهي منسوخة قال : وبه قال داود وغيره من أهل الظاهر وبذلك جزم ابن حزم وهو أيضا مذهب الهادي والقاسم عليهما السلام وقد اختلف القائلون بالكراهة فذهب الشافعي والمؤيد بالله إلى أنه يجوز من الصلاة في هذين الوقتين ما له سبب واستدلا بصلاته صلى الله عليه وآله وسلم سنة الظهر بعد [ ص 108 ] العصر وقد تقدم الجواب عن هذا الاستدلال في باب تحية المسجد وذهب أبو حنيفة إلى كراهة التطوعات في هذين الوقتين مطلقا وحكى عن جماعة منهم أبو بكرة وكعب بن عجرة المنع من صلاة الفرض في هذه الأوقات
( واستدل ) القائلون بالإباحة مطلقا بأدلة : منها دعوى النسخ لأحاديث الباب صرح بذلك ابن حزم وغيره وجعلوا الناسخ حديث : ( من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس ) وقد تقدم ولكنه خاص بصلاة الفرض فلا يصلح لنسخ أحاديث الباب على فرض تأخره وغاية ما فيه تخصيص صلاة الفريضة من عموم النهي
( واستدلوا ) أيضا بحديث صلاته صلى الله عليه وآله وسلم لركعتي الظهر بعد العصر وقد تقدم الجواب عنه . واستدلوا أيضا بحديث علي المتقدم لتقييد النهي فيه بقوله : ( إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية ) وقد تقدم أن الحافظ قال في الفتح : إن إسناده حسن وقال في موضع آخر منه : إن إسناده صحيح . وهذا وإن كان صالحا لتقييد الأحاديث المذكورة في الباب القاضية بمنع الصلاة بعد صلاة العصر على الإطلاق بما عدا الوقت الذي تكون الشمس فيه بيضاء نقية لكنه أخص من دعوى مدعي الإباحة للصلاة بعد العصر وبعد الفجر مطلقا
( واستدلوا ) أيضا بما رواه مسلم عن عائشة أنها قالت : وهم عمر إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها . وبما رواه البخاري عن ابن عمر أنه قال : أصلي كما رأيت أصحابي يصلون ولا أنهى أحدا يصلي بليل أو نهار ما شاء غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها
ويجاب عن الاستدلال بقول عائشة بأن الذي رواه عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثابت من طريق جماعة من الصحابة كما تقدم فلا اختصاص له بالوهم وهم مثبتون وناقلون للزيادة فروايتهم مقدمة وعدم علم عائشة لا يستلزم العدم فقد علم غيرها بما لا تعلم
ويجاب عن الاستدلال بقول ابن عمر بأنه قول صحابي لا حجة فيه ولا يعارض المرفوع على أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلاف ما رآه كما سيأتي
( واستدلوا ) أيضا بما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها )
قالوا : فتحمل الأحاديث المذكورة في الباب على هذا حمل المطلق على المقيد أو تبنى عليه بناء العام على الخاص ويجاب بأن هذا من التنصيص على أحد أفراد العام وهو لا يصلح للتخصيص كما تقرر في الأصول [ ص 109 ]
واعلم أن الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة العصر والفجر عامة فما كان أخص منها مطلقا كحديث يزيد بن الأسود وابن عباس الآتيين في الباب الذي بعد هذا وحديث علي المتقدم وقضاء سنة الظهر بعد العصر وسنة الفجر بعده للأحاديث المتقدمة في ذلك فلا شك أنها مخصصة لهذا العموم وما كان بينه وبين أحاديث الباب عموم وخصوص من وجه كأحاديث تحية المسجد وأحاديث قضاء الفوائت وقد تقدمت والصلاة على الجنازة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( يا علي ثلاث لا تؤخرها الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت ) الحديث . أخرجه الترمذي
وصلاة الكسوف لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة ) والركعتين عقب التطهر لحديث أبي هريرة المتقدم . وصلاة الاستخارة للأحاديث المتقدمة وغير ذلك فلا شك أنها أعم من أحاديث الباب من وجه وأخص منها من وجه وليس أحد العمومين أولى من الآخر بجعله خاصا لما في ذلك من التحكم والوقف هو المتعين حتى يقع الترجيح بأمر خارج

3 - وعن عمرو بن عبسة قال : ( قلت يا نبي الله أخبرني عن الصلاة قال : صل صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم اقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار )
- رواه أحمد ومسلم . ولأبي داود نحوه وأوله عنده : ( قلت يا رسول الله أي الليل أسمع قال : جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح )

- قوله : ( وترتفع ) فيه أن النهي عن الصلاة بعد الصبح لا يزول بنفس طلوع الشمس بل لا بد من الارتفاع . وقد وقع عند البخاري من حديث عمر المتقدم بلفظ : ( حتى تشرق الشمس ) والإشراق الإضاءة . وفي حديث عقبة الآتي : ( حتى تطلع الشمس بازغة ) وذلك يبين أن المراد بالطلوع المذكور في حديث الباب وغيره الارتفاع والإضاءة لا مجرد الظهور ذكر معنى ذلك القاضي عياض
قال النووي : وهو متعين لا عدول عنه للجمع بين الروايات وقد ورد مفسرا في بعض الروايات بارتفاعها قدر رمح
قوله : ( فإنها تطلع بين قرني [ ص 110 ] شيطان ) قال النووي : قيل المراد بقرني الشيطان حزبه وأتباعه . وقيل غلبة أتباعه وانتشار فساده . وقيل القرنان ناحيتا الرأس وأنه هو على ظاهره قال : وهذا الأقوى ومعناه أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة وحينئذ يكون له ولشيعته تسلط ظاهر وتمكن من أن يلبسوا على المصلين صلاتهم فكرهت الصلاة حينئذ صيانة لها كما كرهت في الأماكن التي هي مأوى الشيطان وفي رواية لأبي داود والنسائي : ( فإنها تطلع بين قرني شيطان فيصلي لها الكفار )
قوله : ( مشهودة محضورة ) أي تشهدها الملائكة ويحضرونها وذلك أقرب إلى القبول وحصول الرحمة
قوله : ( حتى يستقل الظل بالرمح ) قال النووي : معناه أنه يقوم مقابله في الشمال ليس مائلا إلى المشرق ولا إلى المغرب وهذا حالة الاستواء انتهى
والمراد أنه يكون الظل في جانب الرمح ولم يبق على الأرض من ظله شيء وهذا يكون في بعض أيام السنة ويقدر في سائر الأيام عليه
قوله : ( تسجر جهنم ) بالسين المهملة والجيم والراء أي يوقد عليها إيقادا بليغا
قوله : ( فإذا أقبل الفيء ) أي ظهر إلى جهة المشرق والفيء مختص بما بعد الزوال وأما الظل فيقع على ما قبل الزوال وبعده
قوله : ( حتى تصلي العصر ) فيه دليل على أن وقت النهي لا يدخل بدخول وقت العصر ولا بصلاة غير المصلي وإنما يكره لكل إنسان بعد صلاته نفسه حتى لو أخرها عن أول الوقت لم يكره التنفل قبلها وقد تقدم الكلام في ذلك . وكذا قوله : ( حتى تصلي الصبح ) قال المصنف رحمه الله : وهذه النصوص الصحيحة تدل على أن النهي في الفجر لا يتعلق بطلوعه بل بالفعل كالعصر انتهى
( والحديث ) يدل على كراهة التطوعات بعد صلاة العصر والفجر وقد تقدم ذلك وعلى كراهتها أيضا عند طلوع الشمس وعند قائمة الظهيرة وعند غروبها وسيأتي الكلام على هذه الأوقات

4 - وعن يسار مولى ابن عمر قال : ( رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد ما طلع الفجر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الساعة فقال : ليبلغ شاهدكم غائبكم أن لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتين )
- رواه أحمد وأبو داود

- وأخرجه أيضا الدارقطني والترمذي وقال : غريب لا يعرف إلا من حديث قدامة ابن موسى . قال الحافظ : وقد اختلف في اسم شيخه فقيل أيوب بن حصين . وقيل محمد بن حصين وهو مجهول . وأخرجه أبو يعلى والطبراني من وجهين آخرين عن ابن عمر نحوه . ورواه ابن عدي من طريق محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر ورواه [ ص 111 ] أيضا الدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفي إسناده الإفريقي . ورواه أيضا الطبراني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفي سنده رواد بن الجراح . ورواه أيضا البيهقي من حديث سعيد بن المسيب مرسلا وقال : روي موصولا عن أبي هريرة ولا يصح . ورواه موصولا الطبراني وابن عدي وسنده ضعيف والمرسل أصح
( والحديث ) يدل على كراهة التطوع بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر قال الترمذي : وهو مما أجمع عليه أهل العلم كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر . قال الحافظ في التلخيص : دعوى الترمذي الإجماع على الكراهة لذلك عجيب فإن الخلاف فيه مشهور حكاه ابن المنذر وغيره وقال الحسن البصري : لا بأس به وكان مالك يرى أن يفعله من فاتته صلاة بالليل . وقد أطنب في ذلك محمد بن نصر في قيام الليل انتهى
وطرق حديث الباب يقوي بعضها بعضا فتنتهض للاحتجاج بها على الكراهة . وقد أفرط ابن حزم فقال : الروايات في أنه لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتا الفجر ساقطة مطروحة مكذوبة

5 - وعن عقبة بن عامر قال : ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة وحين تضيف للغروب حتى تغرب )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- قوله : ( أن نقبر ) هو بضم الباء الموحدة وكسرها لغتان . قال النووي : قال بعضهم المراد بالقبر صلاة الجنازة وهذا ضعيف لأن صلاة الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالإجماع فلا يجوز تفسير الحديث بما يخالف الإجماع بل الصواب أن معناه تعمد تأخير الدفن إلى هذه الأوقات كما يكره تعمد تأخير العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر وهي صلاة المنافقين قال : فأما إذا وقع الدفن بلا تعمد في هذه الأوقات فلا يكره انتهى
وظاهر الحديث أن الدفن في هذه الأوقات محرم من غير فرق بين العامد وغيره إلا أن يخص غير العامد بالأدلة القاضية برفع الجناح عنه
قوله : ( بازغة ) أي ظاهرة
قوله : ( تضيف ) ضبطه النووي في شرح مسلم بفتح التاء والضاد المعجمة وتشديد الياء . والمراد به الميل
( والحديث ) يدل على تحريم الصلاة في هذه الأوقات وكذا الدفن وقد حكى النووي الإجماع على الكراهة قال : واتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها واختلفوا في النوافل التي لها سبب كصلاة التحية وسجود التلاوة والشكر وصلاة العيد والكسوف وصلاة الجنازة وقضاء الفوائت ومذهب الشافعي وطائفة جواز ذلك كله بلا كراهة ومذهب أبي حنيفة [ ص 112 ] وآخرين أنه داخل في النهي لعموم الأحاديث انتهى
وجعله لصلاة الجنازة ههنا من جملة ما وقع فيه الخلاف ينافي دعواه الإجماع على عدم كراهتها كما تقدم عنه
ومن القائلين بكراهة قضاء الفرائض في هذه الأوقات زيد بن علي والمؤيد بالله والداعي والإمام يحيى قالوا لشمول النهي للقضاء لأن دليل المنع لم يفصل
( واحتج القائلون ) بجواز قضاء الفرائض في هذه الأوقات وهم الهادي والقاسم والشافعي ومالك بقوله صلى الله عليه و سلم : ( من نام عن صلاته أو سها عنها فوقتها حين يذكرها ) الحديث المتقدم فجعلوه مخصصا لأحاديث الكراهة وهو تحكم لأنه أعم منها من وجه وأخص من وجه وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر وكذلك الكلام في فعل الصلاة المفروضة في هذه الأوقات أداء إلا أن حديث : ( من أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس ) أخص من أحاديث النهي مطلقا فيقدم عليها وقد استثنى الشافعي وأصحابه وأبو يوسف الصلاة عند قائمة الظهيرة يوم الجمعة خاصة وهي رواية عن الأوزاعي وأهل الشام واستدلوا بما رواه الشافعي عن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة ) وفي إسناده إبراهيم بن أبي يحيى وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهما ضعيفان . ورواه البيهقي من طريق أبي خالد الأحمر عن عبد الله شيخ من أهل المدينة عن سعيد عن أبي هريرة ورواه الأثرم بسند فيه الواقدي وهو متروك . ورواه البيهقي أيضا بسند آخر فيه عطاء بن عجلان وهو متروك أيضا وقد روى الشافعي عن ثعلبة ابن أبي مالك عن عامة الصحابة أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة
( وفي الباب ) عن واثلة عند الطبراني قال الحافظ : بسند واه . وعن أبي قتادة عند أبي داود والأثرم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة وقال : ( إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة ) وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف وهو أيضا منقطع لأنه من رواية أبي الخليل عن أبي قتادة ولم يسمع منه

6 - وعن ذكوان مولى عائشة أنها حدثته : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ويواصل وينهى عن الوصال )
- رواه أبو داود

- الحديث في إسناده محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء وفيه مقال إذا لم يصرح بالتحديث وهو هنا قد عنعن فينظر في عنعنته كما قال الحافظ وقد قدمنا في باب قضاء سنة الظهر ما يدل على اختصاص ذلك به صلى الله عليه وآله وسلم [ ص 113 ]

باب الرخصة في إعادة الجماعة وركعتي الطواف في كل وقت

1 - عن يزيد بن الأسود قال : ( شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف فلما قضى صلاته انحرف فإذا هو برجلين في أخرى القوم ولم يصليا فقال : علي بهما . فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال : ما منعكما أن تصليا معنا فقالا : يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا قال : فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه . وفي لفظ لأبي داود : ( إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة )

- الحديث أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان والحاكم وصححه ابن السكن وقال الترمذي : حسن صحيح . وقد أخرجوه كلهم من طريق يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد ابن الأسود عن أبيه قال الشافعي في القديم : إسناده مجهول . قال البيهقي : لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه ولا لابنه جابر راو غير يعلى
قال الحافظ : يعلى من رجال مسلم وجابر وثقه النسائي وغيره وقد وجدنا لجابر بن يزيد راويا غير يعلى أخرجه ابن منده في المعرفة من طريق شيبة عن إبراهيم بن أبي أمامة عن عبد الملك بن عمير عن جابر
( وفي الباب ) عن أبي ذر عند مسلم في حديث أوله : ( كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ) وفيه : ( فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة )
وعن ابن مسعود عند مسلم بنحوه وعن شداد بن أوس عند البزار . وعن محجن الديلي عند مالك في الموطأ والنسائي وابن حبان والحاكم . وعن أبي أيوب عند أبي داود : ( أنه سأله رجل من بني أسد بن خزيمة فقال : يصلي أحدنا في منزله الصلاة ثم يأتي المسجد وتقام الصلاة فأصلي معهم فأجد في نفسي من ذلك شيئا فقال أبو أيوب : سألنا عن ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( فذلك له سهم جمع ) وفي إسناده رجل مجهول
قوله : ( ترعد ) بضم أوله وفتح ثالثه أي تتحرك كذا قال ابن رسلان
قوله : ( فرائصهما ) جمع فريصة بالصاد المهملة وهي اللحمة من الجنب والكتف التي لا تزال ترعد أي تتحرك من الدابة واستعير للإنسان لأن له فريصة وهي ترجف عند الخوف
وقال الأصمعي : الفريصة لحمة بين الكتف والجنب . وسبب ارتعاد فرائصهما ما اجتمع في رسول الله صلى الله عليه و سلم من الهيبة [ ص 114 ] العظيمة والحرمة الجسيمة لكل من رآه مع كثرة تواضعه
قوله : ( ثم أتيتما مسجد جماعة ) لفظ أبي داود : ( إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه ) وفي لفظ ابن حبان : ( إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الصلاة فصليا )
قوله : ( فإنها لكما نافلة ) فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى جماعة أو فرادى لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال
قال ابن عبد البر : قال جمهور الفقهاء إنما يعيد الصلاة مع الإمام في جماعة من صلى وحده في بيته أو في غير بيته . وأما من صلى في جماعة وإن قلت فلا يعيد في أخرى قلت أو كثرت ولو أعاد في جماعة أخرى لأعاد في ثالثة ورابعة إلى ما لا نهاية له وهذا لا يخفى فساده قال : وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم . ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا تصلي صلاة في يوم مرتين ) انتهى
وذهب الأوزاعي والهادي وبعض أصحاب الشافعي وهو قول الشافعي القديم إلى أن الفريضة هي الثانية إذا كانت الأولى فرادى واستدلوا بما أخرجه أبو داود عن يزيد بن عامر قال : ( جئت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة فانصرف علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرآه جالسا فقال : ألم تسلم يا يزيد قال : بلى يا رسول الله قد أسلمت قال : فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم قال : إني كنت قد صليت في منزلي وأنا أحسب أن قد صليتم فقال : إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة )
ولكنه قد ضعفه النووي وقال البيهقي : إن حديث يزيد بن الأسود أثبت منه وأولى . ورواه الدارقطني بلفظ : ( وليجعل التي صلى في بيته نافلة ) وقال : هي رواية ضعيفة شاذة انتهى
وعلى فرض صلاحية حديث يزيد بن عامر للاحتجاج به فالجمع بينه وبين حديث الباب ممكن بحمل حديث الباب على من صلى الصلاة الأولى في جماعة وحمل هذا على من صلى منفردا كما هو الظاهر من سياق الحديثين ويكونان مخصصين لحديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان بلفظ : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا تصلوا صلاة في يوم مرتين ) على فرض شموله لإعادة الفريضة من غير فرق بين أن تكون الإعادة بنية الافتراض أو التطوع . وأما إذا كان النهي مختصا بإعادة الفريضة بنية الافتراض فقط فلا يحتاج إلى الجمع بينه وبين حديث الباب
ومن جملة المخصصات لحديث ابن [ ص 115 ] عمر المذكور حديث أبي سعيد قال : ( صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل رجل فقام يصلي الظهر فقال : ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ) أخرجه الترمذي وحسنه ابن حبان والحاكم والبيهقي
( وحديث ) الباب يدل على مشروعية الدخول مع الجماعة بنية التطوع لمن كان قد صلى تلك الصلاة وإن كان الوقت وقت كراهة للتصريح بأن ذلك كان في صلاة الصبح وإلى ذلك ذهب الشافعي فيكون هذا مخصصا لعموم الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة الصبح ومن جوز التخصيص بالقياس ألحق به ما ساواه من أوقات الكراهة
وظاهر التقييد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ثم أتيتما مسجد جماعة ) أن ذلك مختص بالجماعات التي تقام في المساجد لا التي تقام في غيرها فيحمل المطلق من ألفاظ حديث الباب كلفظ أبي داود وابن حبان المتقدمين على المقيد بمسجد الجماعة ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي عن سليمان بن يسار مولى ميمونة قال : ( رأيت ابن عمر جالسا على البلاط وهو موضع مفروش بالبلاط بين المسجد والسوق بالمدينة وهم يصلون فقلت : ألا تصلي معهم فقال : قد صليت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا تصلوا صلاة في يوم مرتين )

2 - وعن جبير بن مطعم : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار )
- رواه الجماعة إلا البخاري

3 - وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا بني عبد المطلب أو يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا يطوف بالبيت ويصلي فإنه لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا عند هذا البيت يطوفون ويصلون )
- رواه الدارقطني

- الحديث الأول أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وصححه الترمذي ورواه الدارقطني من وجهين آخرين عن جابر
قال الحافظ : وهو معلول فإن المحفوظ عن جبير لا عن جابر وقد عزا المصنف رحمه الله حديث الباب إلى مسلم لأنه لم يستثن من الجماعة إلا البخاري وهو خطأ . قال الحافظ في التلخيص : عزا المجد ابن تيمية حديث جبير لمسلم فإنه قال رواه الجماعة إلا البخاري وهذا وهم منه تبعه عليه المحب الطبري فقال : رواه السبعة إلا البخاري . وابن الرفعة وقال : رواه مسلم وكأنه والله أعلم لما رأى ابن تيمية عزاه إلى الجماعة دون البخاري اقتطع مسلما من بينهم واكتفى به عنهم ثم ساقه باللفظ الذي أورده ابن تيمية فأخطأ مكررا انتهى
والحديث الثاني أخرجه أيضا الطبراني [ ص 116 ] وأبو نعيم في تاريخ أصبهان والخطيب في تلخيصه . قال ابن حجر في التلخيص : وهو معلول . وروى ابن عدي عن أبي هريرة حديث : ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ) وزاد في آخره : ( من طاف فليصل ) أي حين طاف وقال : لا يتابع عليه وكذا قال البخاري
وقد استدل بحديثي الباب على جواز الطواف والصلاة عقيبه في أوقات الكراهة وإلى ذلك ذهب الشافعي والمنصور بالله وذهب الجمهور إلى العمل بالأحاديث القاضية بالكراهة على العموم ترجيحا لجانب ما اشتمل على الكراهة وأنت خبير بأن حديث جبير بن مطعم لا يصلح لتخصيص أحاديث النهي المتقدمة لأنه أعم منها من وجه وأخص من وجه وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر لما عرفت غير مرة
وأما حديث ابن عباس فهو صالح لتخصيص النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر لكن بعد صلاحيته للاحتجاج وهو معلول كما تقدم . ويؤيده حديث أبي ذر عند الشافعي بلفظ : ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة ) وكرر الاستثناء ثلاثا
ورواه أيضا أحمد وابن عدي وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف . وذكر ابن عدي هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه . وقال البيهقي : تفرد به عبد الله ولكن تابعه إبراهيم بن طهمان وهو أيضا من رواية مجاهد عن أبي ذر وقد قال أبو حاتم وابن عبد البر والبيهقي والمنذري وغير واحد : أنه لم يسمع منه . وقد رواه أيضا ابن خزيمة في صحيحه وقال : أنا أشك في سماع مجاهد من أبي ذر وهذا الحديث إن صح كان دالا على جواز الصلاة في مكة بعد العصر وبعد الفجر من غير فرق بين ركعتي الطواف وغيرهما من التطوعات التي لا سبب لها والتي لها سبب

أبواب سجود التلاوة والشكر

باب مواضع السجود في الحج وص والمفصل

1 - عن عمرو بن العاص : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان )
- رواه أبو داود وابن ماجه [ ص 117 ]

- الحديث أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم وحسنه المنذري والنووي وضعفه عبد الحق وابن القطان وفي إسناده عبد الله بن منين الكلابي وهو مجهول والراوي عنه الحارث بن سعيد العتقي المصري وهو لا يعرف أيضا كذا قال الحافظ . وقال ابن ماكولا : ليس له غير هذا الحديث
قوله : ( خمس عشرة سجدة ) فيه دليل على أن مواضع السجود خمسة عشر موضعا وإلى ذلك ذهب أحمد والليث وإسحاق وابن وهب وابن حبيب من المالكية وابن المنذر وابن سريج من الشافعية وطائفة من أهل العلم فأثبتوا في الحج سجدتين وفي ص
وذهب أبو حنيفة وداود والهادوية إلى أنها أربع عشرة سجدة ) إلا أن أبا حنيفة لم يعد في سورة الحج إلا سجدة وعد سجدة ص . والهادوية عدوا في الحج سجدتين ولم يعدوا سجدة ص . وذهب الشافعية في القديم والمالكية إلى أنها إحدى عشرة وأخرج سجدات المفصل وهي ثلاث كما يأتي وذهب في قوله الجديد إلى أنها أربع عشرة سجدة وعد منها سجدات المفصل ولم يعد سجدة ص
( واعلم ) أن أول مواضع السجود خاتمة الأعراف . وثانيها عند قوله في الرعد { بالغدو والآصال } وثالثها عند قوله في النحل { ويفعلون ما يؤمرون } ورابعها عند قوله في بني إسرائيل { ويزيدهم خشوعا } وخامسها عند قوله في مريم { خروا سجدا وبكيا } وسادسها عند قوله في الحج { إن الله يفعل ما يشاء } وسابعها عند قوله في الفرقان { وزادهم نفورا } وثامنها عند قوله في النمل { رب العرش العظيم } وتاسعها عند قوله في الم تنزيل { وهم لا يستكبرون } وعاشرها عند قوله في ص { وخر راكعا وأناب } والحادي عشر عند قوله في حم السجدة { إن كنتم إياه تعبدون } وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور عند قوله { وهم لا يسأمون } والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر سجدات المفصل وستأتي . والخامس عشر السجدة الثانية في الحج
قوله : ( ثلاث في المفصل ) هي سجدة النجم وإذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك . وفي ذلك حجة لمن قال بإثباتها ويدل على ذلك أيضا حديث ابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وأبي رافع وستأتي جميعا
( واحتج من نفى سجدات المفصل ) بحديث ابن عباس عند أبي داود وابن السكن في صحيحه بلفظ : ( لم يسجد صلى الله عليه وآله وسلم في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة ) وفي إسناده أبو قدامة الحارث بن عبيد ومطر الوراق وهما ضعيفان وإن كانا من رجال مسلم
قال النووي : حديث ابن عباس ضعيف الإسناد لا يصح الاحتجاج به انتهى . وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج [ ص 118 ] فالأحاديث المتقدمة مثبتة وهي مقدمة على النفي ولا سيما مع إجماع العلماء على أن إسلام أبي هريرة كان سنة سبع من الهجرة وهو يقول في حديثه الآتي سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في { إذا السماء انشقت } و { اقرأ باسم ربك }
وأما الاحتجاج على عدم مشروعية السجود في المفصل بحديث زيد بن ثابت الآتي فسيأتي الجواب عنه
قوله : ( وفي الحج سجدتان ) فيه حجة لمن أثبت في سورة الحج سجدتين ويؤيد ذلك حديث عقبة ابن عامر عند أحمد وأبي داود والترمذي وقال إسناده ليس بالقوي والدارقطني والبيهقي والحاكم بلفظ : ( قلت يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين قال : نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ) وفي إسناده ابن لهيعة ومشرح بن عاهان وهما ضعيفان
وقد ذكر الحاكم أنه تفرد به وأكده بأن الرواية صحت فيه من قول عمر وابنه وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى وعمار ثم ساقها موقوفة عنهم وأكده البيهقي بما رواه في المعرفة من طريق خالد بن معدان مرسلا
( وحديث الباب ) يدل على مشروعية سجود التلاوة . قال النووي في شرح مسلم : قد أجمع العلماء على إثبات سجود التلاوة وهو عند الجمهور سنة وعند أبي حنيفة واجب ليس بفرض وسيأتي ذكر ما احتج به الجمهور وما احتج به أبو حنيفة

2 - وعن ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال : يكفيني هذا قال عبد الله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا )
- متفق عليه

- قوله : ( غير أن شيخا من قريش ) صرح البخاري في التفسير من صحيحه أنه أمية بن خلف . ووقع في سيرة ابن إسحاق أنه الوليد بن المغيرة قال الحافظ : وفيه نظر لأنه لم يقتل . وفي تفسير سنيد الوليد بن المغيرة أو عقبة بن ربيعة بالشك وفيه نظر لما أخرجه الطبراني من حديث مخرمة بن نوفل قال : لما أظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام أسلم أهل مكة حتى أن كان ليقرأ السجدة فيسجدون فلا يقدر بعضهم أن يسجد من الزحام حتى قدم رؤساء قريش الوليد بن المغيرة وأبو جهل وغيرهما وكانوا بالطائف فرجعوا وقالوا : تدعون دين آبائكم ولكن في هذا نظر لقول أبي سفيان في حديثه الطويل الثابت في الصحيح أنه لم يرتد أحد ممن أسلم
قال في الفتح : ويمكن الجمع بأن النفي مقيد بمن ارتد سخطا لدينه لا لسبب مراعاة خاطر رؤسائه
وروى [ ص 119 ] الطبراني عن سعيد بن جبير أن الذي رفع التراب فسجد عليه سعيد بن العاص بن أمية . وذكر أبو حيان في تفسير أنه أبو لهب . وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي هريرة : ( أنهم سجدوا في النجم إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشهرة )
وللنسائي من حديث المطلب بن أبي وداعة قال : ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النجم فسجد وسجد من معه فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن المطلب يومئذ أسلم )
وإذا ثبت ذلك فلعل ابن مسعود لم يره أو خصه وحده بذكره لاختصاصه بأخذ الكف من التراب دون غيره
( والحديث ) فيه مشروعية السجود لمن حضر عند القارئ للآية التي فيها السجدة
قال القاضي عياض : وكأن سبب سجودهم فيما قال ابن مسعود أنها أول سجدة نزلت وأما ما يرويه الأخباريون والمفسرون أن سبب ذلك ما جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم فباطل لا يصح فيه شيء لا من جهة العقل ولا من جهة النفل لأن مدح إله غير الله كفر ولا يصح نسبة ذلك إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أن يقوله الشيطان على لسانه ولا يصح تسلط الشيطان على ذلك كذا في شرح مسلم للنووي

3 - وعن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس )
- رواه البخاري والترمذي وصححه

4 - وعن أبي هريرة قال : ( سجدنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- قوله : ( سجد بالنجم ) زاد الطبراني في الأوسط من هذا الوجه بمكة . قال الحافظ : فأفاد اتحاد قصة ابن عباس وابن مسعود
قوله : ( والجن ) كأن مستند ابن عباس في ذلك إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إما مشافهة له وإما بواسطة لأنه لم يحضر القصة لصغره وأيضا فهو من الأمور التي لا يطلع عليها إلا بتوقيف . وتجويز أنه كشف له عن ذلك بعيد لأنه لم يحضرها قطعا قاله الحافظ
قوله : ( في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك ) فيه دليل على إثبات السجود في المفصل وقد تقدم الخلاف في ذلك
( والحديثان ) يدلان على مشروعية سجود التلاوة وقد تقدم أنه مجمع عليه

5 - وعن عكرمة عن ابن عباس قال : ( ليست ص من عزائم السجود ولقد رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يسجد فيها )
- رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه

6 - وعن [ ص 120 ] ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم سجد في ص وقال : سجدها داود عليه السلام توبة ونسجدها شكرا )
- رواه النسائي

7 - وعن أبي سعيد قال : ( قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل سجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود فنزل فسجد وسجدوا )
- رواه أبو داود

- الحديث الأول أخرجه أيضا النسائي والحديث الثاني أخرجه أيضا الشافعي في الأم عن ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة وأخرجه أيضا عن سفيان عن عمر بن ذر عن أبيه قال البيهقي : وروي من وجه آخر عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موصولا وليس بالقوي
قال الحافظ : وقد رواه النسائي من حديث حجاج بن محمد عن عمر بن ذر موصولا . ورواه الدارقطني من حديث عبد الله بن بزيغ عن عمر بن ذر ونحوه . وأعله ابن الجوزي به يعني بعبد الله بن بزيغ وقد توبع وصححه ابن السكن
والحديث الثالث سكت عليه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح وأخرجه أيضا الحاكم وذكر البيهقي عن جماعة من الصحابة أنهم سجدوا في ص
قوله : ( ليست من عزائم السجود ) المراد بالعزائم ما وردت العزيمة في فعله كصيغة الأمر مثلا بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لا يقول بالوجوب وقد روى ابن المنذر وغيره عن علي عليه السلام أن العزائم حم والنجم واقرأ والم تنزيل
قال الحافظ في الفتح : وإسناده حسن قال وكذا أثبت عن ابن عباس في الثلاثة الأخر وقيل الأعراف وسبحان وحم والم أخرجه ابن أبي شيبة
قوله : ( ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجد فيها ) في البخاري في تفسير ص من طريق مجاهد عن ابن عباس وكذا لابن خزيمة أنه سأل ابن عباس من أين أخذت السجود في ص . فقال : من قوله تعالى { ومن ذريته داود وسليمان } إلى قوله { فبهداهم اقتده } ففي هذا أنه استنبط مشروعية السجود فيها من الآية والذي في الباب يدل على أنه أخذه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا تعارض بينهما لاحتمال أنه استفاده من الطريقين وإنما لم تكن السجدة في ص من العزائم لأنها وردت بلفظ الركوع فلولا التوقيف ما ظهر أن فيها سجدة
قوله : ( سجدها داود توبة ونسجدها شكرا ) استدل به الشافعي على أنه [ ص 121 ] لا يشرع السجود فيها في الصلاة لأن سجود الشكر غير مشروع فيها وكذلك استدل من قال بأن السجود فيها غير مؤكد بحديث أبي سعيد المذكور في الباب لأن الظاهر من سياقه أنها ليست من مواطن السجود لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنما هي توبة نبي ) ثم تصريحه بأن سبب سجوده تشزنهم للسجود
قوله : ( تشزن الناس ) بالشين المعجمة والزاي والنون . قال الخطابي في المعالم : هو من الشزن وهو القلق يقال بات علي شزن إذا بات قلقا يتقلب من جنب إلى جنب . استشزنوا إذا تهيئوا للسجود

باب قراءة السجدة في صلاة الجهر والسر

1 - عن أبي رافع الصائغ قال : ( صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إذا السماء انشقت فسجد فيها فقلت : ما هذه فقال : سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه و سلم فما أزال أسجد فيها حتى ألقاه )
- متفق عليه

- قوله : ( فسجد فيها ) في رواية للبخاري : ( فسجد بها ) والباء ظرفية
قوله : ( فقلت ما هذه ) قيل هو استفهام إنكار وكذا وقع في البخاري عن أبي سلمة أنه قال لأبي هريرة : ( ألم أرك تسجد ) وحمل ذلك منه على استفهام الإنكار وبذلك تمسك من رأى ترك السجود للتلاوة في الصلاة ومن رأى تركه في المفصل ويجاب عن ذلك بأن أبا رافع وأبا سلمة لم ينكرا على أبي هريرة بعد أن أعلمهما بالسنة في هذه المسألة ولا احتجا عليه بالعمل على خلاف ذلك
قال ابن عبد البر : وأي عمل يدعى مع مخالفة النبي صلى الله عليه و سلم والخلفاء الراشدين بعده
( والحديث ) يدل على مشروعية سجود التلاوة في الصلاة لأن ظاهر السياق أن سجوده صلى الله عليه وآله وسلم كان في الصلاة . وفي الفتح أن في رواية أبي الأشعث عن معمر التصريح بأن سجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها كان داخل الصلاة وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء ولم يفرقوا بين صلاة الفريضة والنافلة
وذهب الهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله إلى أنه لا يسجد في الفرض فإن فعل فسدت واستدلوا على ذلك بما أخرجه أبو داود عن ابن عمر أنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ علينا السورة ) زاد ابن نمير : ( في غير الصلاة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته )
وفي مسلم عنه أنه [ ص 122 ] قال : ( ربما قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم القرآن فيمر بالسجدة فيسجد بنا حتى ازدحمنا عنده حتى ما يجد أحدنا مكانا يسجد فيه في غير صلاة ) والحديث في البخاري بدون قوله في غير صلاة كما سيأتي
وهذا تمسك بمفهوم قوله في غير الصلاة وهو لا يصلح للاحتجاج به لأن القائل بذلك ذكر صفة الواقعة التي وقع فيها السجود المذكور وذلك لا ينافي ما ثبت من سجوده صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة كما في حديث الباب وحديث ابن عمر نفسه الآتي
وبهذا الدليل يرد على من قال بكراهة قراءة ما فيه سجدة في الصلاة السرية والجهرية كما روي عن مالك أو السرية فقط كما روي عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل

2 - وعن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم سجد في الركعة الأولى من صلاة الظهر فرأى أصحابه أنه قرأ تنزيل السجدة )
- رواه أحمد وأبو داود ولفظه : ( سجد في صلاة الظهر ثم قام فركع فرأينا أنه قرأ الم تنزيل السجدة )

- الحديث أخرجه أيضا الطحاوي والحاكم وفي إسناده أمية شيخ لسليمان التيمي رواه له عن أبي مجلز وهو لا يعرف قاله أبو داود في رواية الرملي عنه وفي رواية الطحاوي عن سليمان عن أبي مجلز قال : ولم يسمعه منه ولكنه عند الحاكم بإسقاطه
قال الحافظ : ودلت رواية الطحاوي على أنه مدلس
( والحديث ) يدل على مشروعية سجود التلاوة في الصلاة السرية وقد تقدم الخلاف في ذلك

باب سجود المستمع إذا سجد التالي وأنه إذا لم يسجد لم يسجد

1 - عن ابن عمر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ علينا السورة فيقرأ السجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته )
- متفق عليه . ولمسلم في رواية : ( في غير صلاة )

- قوله ( يقرأ علينا السورة ) زاد البخاري في رواية : ( ونحن عنده )
قوله : ( لموضع جبهته ) يعني من شدة الزحام وقد اختلف فيمن لم يجد مكانا يسجد عليه فقال ابن عمر : يسجد على ظهر أخيه وبه قال الكوفيون وأحمد وإسحاق وقال عطاء والزهري : يؤخر حتى يرفعوا وبه قال مالك والجمهور وهذا الخلاف في سجود الفريضة . قال في الفتح : وإذا كان هذا في سجود الفريضة فيجري مثله في سجود التلاوة ولم يذكر ابن عمر في هذا الحديث ما كانوا [ ص 123 ] يصنعون حينئذ ولذلك وقع الخلاف المذكور . ووقع في الطبراني من طريق مصعب بن ثابت عن نافع في هذا الحديث : ( إن ذلك كان بمكة لما قرأ النبي صلى الله عليه و سلم النجم ) وزاد فيه : ( حتى سجد الرجل على ظهر الرجل )
قال الحافظ : الذي يظهر أن هذا الكلام وقع من ابن عمر على سبيل المبالغة في أنه لم يبق أحد إلا سجد قال : وسياق حديث الباب مشعر بأن ذلك وقع مرارا ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني من رواية المسور بن مخرمة عن أبيه قال : ( أظهر أهل مكة الإسلام - يعني في أول البعثة - حتى أن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقرأ السجدة فيسجد وما يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام حتى قدم رؤساء مكة وكانوا في الطائف فرجعوهم عن الإسلام )
قوله : ( في غير صلاة ) قد تقدم أنه تمسك بهذه الرواية من قال إنه لا سجود للتلاوة في صلاة الفرض وتقدم الجواب عليه
( والحديث ) يدل على مشروعية السجود لمن سمع الآية التي يشرع فيها السجود إذا سجد القارئ لها

2 - وعن عطاء بن يسار : ( أن رجلا قرأ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجدة فسجد فسجد النبي صلى الله عليه و سلم ثم قرأ آخر عنده السجدة فلم يسجد فلم يسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله قرأ فلان عندك السجدة فسجدت وقرأت فلم تسجد فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كنت إمامنا فلو سجدت سجدت )
- رواه الشافعي في مسنده هكذا مرسلا . قال البخاري : وقال ابن مسعود لتميم ابن حذلم وهو غلام فقرأ عليه سجدة فقال اسجد فإنك إمامنا فيها

- الحديث أخرجه أبو داود في المراسيل . وقال البيهقي : رواه قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقرة ضعيف وأخرج ابن أبي شيبة من رواية ابن عجلان عن زيد بن أسلم قال : ( إن غلاما قرأ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجدة فانتظر الغلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما لم يسجد قال : يا رسول الله ليس في هذه السجدة سجود قال صلى الله عليه وآله وسلم : بلى ولكنك كنت إمامنا فيها ولو سجدت لسجدنا )
قال الحافظ في الفتح : رجاله ثقات إلا أنه مرسل
قوله : ( قال البخاري ) هذا الأثر ذكره البخاري تعليقا ووصله سعيد بن منصور من رواية مغيرة عن إبراهيم
قوله : ( ابن حذلم ) بفتح المهملة واللام بينهما معجمة ساكنة
( والحديث ) يدل على أن سجود التلاوة لا يشرع للسامع إلا إذا سجد القارئ قال ابن بطال : أجمعوا على [ ص 124 ] أن القارئ إذا سجد لزم المستمع أن يسجد
وقد اختلف العلماء في اشتراط السماع لآية السجدة وإلى اشتراط ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه لكن الشافعي شرط قصد الاستماع والباقون لم يشترطوا ذلك . وقال الشافعي في البويطي : لا أؤكد على السامع كما أؤكد على المستمع . وقد روى البخاري عن عثمان بن عفان وعمران بن حصين وسلمان الفارسي أن السجود إنما شرع لمن استمع وكذلك روى البيهقي وابن أبي شيبة عن ابن عباس

3 - وعن زيد بن ثابت قال : ( قرأت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنجم فلم يسجد فيها )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه . ورواه الدارقطني وقال : ( فلم يسجد منا أحد )

- الحديث احتج به من قال إن المفصل لا يشرع فيه سجود التلاوة وهم المالكية والشافعي في أحد قوليه كما تقدم واحتج به أيضا من خص سورة النجم بعدم السجود وهو أبو ثور وأجيب عن ذلك بأن تركه صلى الله عليه وآله وسلم للسجود في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقا لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك إما لكونه كان بلا وضوء أو لكون الوقت كان وقت كراهة أو لكون القارئ لم يسجد أو كان الترك لبيان الجواز قال في الفتح : وهذا أرجح الاحتمالات وبه حزم الشافعي وقد تقدم حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس )
وروى البزار والدارقطني عن أبي هريرة أنه قال : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد في سورة النجم وسجدنا معه ) قال في الفتح : ورجاله ثقات وروى ابن مردويه بإسناد حسنه الحافظ عن أبي هريرة أنه سجد في خاتمة النجم فسئل عن ذلك فقال أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد فيها . وقد تقدم أن أبا هريرة إنما أسلم سنة سبع من الهجرة
واستدل المصنف رحمه الله بحديث الباب على عدم وجوب السجود فقال ما لفظه : وهو حجة في أن السجود لا يجب اه
واستدل من قال بالوجوب بالأوامر الواردة به في القرآن كما في ثانية الحج وخاتمة النجم وسورة اقرأ ولا يخفى أن هذا الدليل أخص من الدعوى وأيضا القائل بالوجوب وهو أن أبو حنيفة لا يقول بوجوب السجود في ثانية الحج كما تقدم ومقتضى دليله هذا أن يكون أوجبه [ ص 125 ]

باب السجود على الدابة وبيان أنه لا يجب بحال

1 - عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ عام الفتح سجدة فسجد الناس كلهم منهم الراكب والساجد في الأرض حتى أن الراكب ليسجد على يده )
- رواه أبو داود

- الحديث في إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وقد ضعفه غير واحد من الأئمة
قوله : ( والساجد في الأرض ) أي ومنهم الساجد في الأرض
قوله : ( ليسجد على يده ) فيه جواز سجود الراكب على يده في سجود التلاوة وهو يدل على جواز السجود في التلاوة لمن كان راكبا من دون نزول لأن التطوعات على الراحلة جائزة كما تقدم وهذا منها

2 - وعن عمر : ( أنه قرأ على المنبر يوم الجمعة سورة النحل حتى جاء السجدة فنزل وسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال أيها الناس إنا لم نؤمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم سجد فلا إثم عليه )
- رواه البخاري . وفي لفظ : ( إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء )

- الأثر أخرجه أيضا مالك في الموطأ والبيهقي وأبو نعيم في مستخرجه وابن أبي شيبة . وقد استدل به القائلون بعدم الوجوب وأجابت الحنفية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب . قال في الفتح : وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث وما كان الصحابة يفرقون بينهما ويغني عن هذا قوله : ( ومن لم يسجد فلا إثم عليه ) وتعقب أيضا بقوله إلا أن نشاء فإنه يدل على أن المرء مخير في السجود فلا يكون واجبا وأجاب من أوجبه بأن المعنى إلا أن نشاء قراءتها فتجب
قال الحافظ : ولا يخفى بعده ويرده أيضا قوله : ( فلا إثم عليه ) فإن انتفاء الإثم عمن ترك الفعل مختارا يدل على عدم وجوبه . واستدل بهذا الاستثناء على وجوب إتمام السجود على من شرع فيه لأن الظاهر أنه استثناء من قوله : ( لم يفرض ) . وأجيب بأنه استثناء منقطع ومعناه لكن ذلك موكول إلى مشيئة المرء بدليل قوله : ( ومن لم يسجد فلا إثم عليه )
( لا يقال ) الاستدلال بقول عمر على عدم الوجوب لا يكون مثبتا للمطلوب لأنه قول صحابي [ ص 126 ] ولا حجة فيه لأنه يقال أولا إن القائل بالوجوب وهم الحنفية يقولون بحجية أقوال الصحابة وثانيا إن تصريحه بعدم الفرضية وبعدم الإثم على التارك في مثل هذا الجمع من دون صدور إنكار يدل على إجماع الصحابة على ذلك والأثر أيضا يدل على جواز قراءة القرآن في الخطبة وجواز نزول الخطيب عن المنبر وسجوده إذا لم يتمكن من السجود فوق المنبر . وعن مالك أنه يقرأ في خطبته ولا يسجد وهذا الأثر وارد عليه

باب التكبير للسجود وما يقول فيه

1 - عن ابن عمر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا )
- رواه أبو داود

- الحديث في إسناده العمري عبد الله المكبر وهو ضعيف . وأخرجه الحاكم من رواية العمري أيضا لكن وقع عنده مصغرا والمصغر ثقة ولهذا قال على شرط الشيخين
قال الحافظ : وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر بلفظ آخر قال عبد الرزاق : كان الثوري يعجبه هذا الحديث وقد أخرج مسلم لعبد الله العمري المذكور في صحيحه لكن مقرونا بأخيه عبيد الله
( والحديث ) يدل على أنه يشرع التكبير لسجود التلاوة وإلى ذلك ذهبت الهادوية وبعض أصحاب الشافعي قال أبو طالب : ويكبر بعد تكبيرة الافتتاح تكبيرة أخرى للنفل وحكى في البحر عن العترة أنه لا تشهد في سجود التلاوة ولا تسليم
وقال بعض أصحاب الشافعي : بل يتشهد ويسلم كالصلاة وقال بعض أصحاب الشافعي : يسلم قياسا للتحليل على التحريم ولا يتشهد إذ لا دليل
ولهم في السائر وجهان يومئ للعذر ويسجد إذ الإيماء ليس بسجود وفي الاستغناء عنه بالركوع قولان : الهادوية والشافعي لا يغني إذ لم يؤثر وقال أبو حنيفة يغني إذا القصد الخضوع

2 - وعن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في سجود القرآن بالليل : سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي

3 - وعن ابن عباس قال : ( كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه رجل فقال : إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني أصلي إلى أصل شجرة فقرأت السجدة فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول : اللهم احطط عني [ ص 127 ] بها وزرا واكتب لي بها أجرا واجعلها لي عندك ذخرا . قال ابن عباس : فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ السجدة فسجد فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة )
- رواه ابن ماجه والترمذي وزاد فيه : ( وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام )

- الحديث الأول أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن السكن وقال في آخره ( ثلاثا ) وزاد الحاكم : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) وزاد البيهقي : ( وصوره ) بعد قوله : ( خلقه ) ولمسلم نحوه من حديث علي في سجود الصلاة وقد تقدم . وللنسائي أيضا نحوه من حديث جابر في سجود الصلاة أيضا
والحديث الثاني أخرجه أيضا الحاكم وابن حبان وفي إسناده الحسن بن محمد بن عبيد الله ابن أبي يزيد . قال العقيلي : فيه جهالة
( وفي الباب ) عن أبي سعيد الخدري عند البيهقي . واختلف في وصله وإرساله وصوب الدارقطني في العلل رواية حماد عن حميد عن بكر أن أبا سعيد رأى فيما يرى النائم وذكر الحديث
( والحديثان ) يدلان على مشروعية الذكر في سجود التلاوة بما اشتملا عليه
( فائدة ) ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد متوضئا وقد كان يسجد معه صلى الله عليه وآله وسلم من حضر تلاوته ولم ينقل أنه أمر أحدا منهم بالوضوء ويبعد أن يكونوا جميعا متوضئين وأيضا قد كان يسجد معه المشركون كما تقدم وهم أنجاس لا يصح وضوءهم وقد روى البخاري عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير وضوء
وكذلك روى عنه ابن أبي شيبة وأما ما رواه البيهقي عنه بإسناد قال في الفتح : صحيح أنه قال لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر فيجمع بينهما بما قال الحافظ من حمله على الطهارة الكبرى أو على حالة الاختيار والأول على الضرورة وهكذا ليس في الأحاديث ما يدل على اعتبار طهارة الثياب والمكان وأما ستر العورة والاستقبال مع الإمكان فقيل إنه معتبر اتفاقا قال في الفتح : لم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بلا وضوء إلا الشعبي أخرجه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح
وأخرج أيضا عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ السجدة ثم يسجد وهو على غير وضوء إلى غير القبلة وهو يمشي يومئ إيماء ومن الموافقين لابن عمر من أهل البيت أبو طالب والمنصور بالله
( فائدة أخرى ) روي عن بعض [ ص 128 ] الصحابة أنه يكره سجود التلاوة في الأوقات المكروهة والظاهر عدم الكراهة لأن السجود المذكور ليس بصلاة والأحاديث الواردة بالنهي مختصة بالصلاة

باب سجدة الشكر

1 - عن أبي بكرة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أتاه أمر يسره أو بشر به خر ساجدا شكرا لله تعالى )
- رواه الخمسة إلا النسائي . ولفظ أحمد : ( أنه شهد النبي صلى الله عليه و سلم أتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة فقام فخر ساجدا فأطال السجود ثم رفع رأسه فتوجه نحو صدفته فدخل فاستقبل القبلة )

2 - وعن عبد الرحمن بن عوف قال : ( خرج النبي صلى الله عليه و سلم فتوجه نحو صدفته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجدا فأطال السجود ثم رفع رأسه وقال : إن جبريل أتاني فبشرني فقال : إن الله عز و جل يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله شكرا )
- رواه أحمد

- حديث أبي بكرة قال الترمذي : هو حسن غريب وفي إسناده بكار بن عبد العزيز ابن أبي بكرة عن أبيه عن جده وهو ضعيف عند العقيلي وغيره . وقال ابن معين : إنه صالح الحديث وحديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه أيضا البزار وابن أبي عاصم في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعقيلي في الضعفاء والحاكم
( وفي الباب ) عن أنس عند ابن ماجه بنحو حديث أبي بكرة وفي سنده ضعف واضطراب . وعن جابر عند ابن حبان في الضعفاء : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا نغاشيا فخر ساجدا ثم قال : أسأل الله العافية ) والنغاش بضم النون وبالغين والشين المعجمتين القصير الضعيف الحركة الناقص الخلق قاله ابن الأثير
وذكر حديث جابر الشافعي في المختصر ولم يذكر له إسنادا وكذا صنع الحاكم في المستدرك واستشهد به على حديث أبي بكرة وأسنده الدارقطني والبيهقي من حديث جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي مرسلا وزاد أن اسم الرجل زنيم وكذا هو في مصنف ابن أبي شيبة من هذا الوجه
( وفي الباب ) عن سعد بن أبي وقاص وسيأتي قال البيهقي : في الباب عن جابر وابن عمر وأنس وجرير وأبي جحيفة اه
قال المنذري : وقد جاء حديث سجدة الشكر من حديث البراء بإسناد صحيح ومن حديث كعب بن مالك وغير ذلك اه
قوله : ( صدفته ) [ ص 129 ] بفتح الصاد والدال المهملتين والفاء . والصدفة من أسماء البناء المرتفع . وفي النهاية ما لفظه : كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي قال : الصدف بفتحتين وضمتين كل بناء عظيم مرتفع تشبيها بصدف الجبل وهو ما قابلك من جانبه واسم لحيوان في البحر اه
وهذه الأحاديث تدل على مشروعية سجود الشكر وإلى ذلك ذهبت العترة وأحمد والشافعي وقال مالك : وهو مروي عن أبي حنيفة أنه يكره إذا لم يؤثر عنه صلى الله عليه و سلم مع تواتر النعم عليه صلى الله عليه وآله وسلم
وفي رواية عن أبي حنيفة أنه مباح لأنه لم يؤثر . وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مثل هذين الإمامين مع وروده عنه صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الطرق التي ذكرها المصنف وذكرناها من الغرائب
ومما يؤيد ثبوت سجود الشكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتقدم في سجدة ص : ( هي لنا شكر ولداود توبة ) وليس في أحاديث الباب ما يدل على اشتراط الوضوء وطهارة الثياب والمكان وإلى ذلك ذهب الإمام يحيى وأبو طالب
وذهب أبو العباس والمؤيد بالله والنخعي وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه يشترط في سجود الشكر شروط الصلاة
وليس في أحاديث الباب أيضا ما يدل على التكبير في سجود الشكر وفي البحر أنه يكبر قال الإمام يحيى : ولا يسجد للشكر في الصلاة قولا واحدا إذ ليس من توابعها قال أبو طالب : ومستقبل القبلة

3 - وعن سعد بن أبي وقاص قال : ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة نريد المدينة فلما كنا قريبا من عزوراء نزل ثم رفع يديه فدعا الله ساعة ثم خر ساجدا فمكث طويلا ثم قام فرفع يديه ساعة ثم خر ساجدا فعله ثلاثا وقال : إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدا شكرا لربي ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدا شكرا لربي ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني الثلث الآخر فخررت ساجدا لربي )
- رواه أبو داود . وسجد أبو بكر حين جاء قتل مسيلمة رواه سعيد بن منصور . وسجد علي حين وجد ذا الثدية في الخوارج رواه أحمد في مسنده . وسجد كعب بن مالك في عهد النبي صلى الله عليه و سلم لما بشر بتوبة الله عليه . وقصته متفق عليها )

- الحديث قال المنذري : في إسناده موسى بن يعقوب الزمعي وفيه مقال اه
وأخرج أبو داود عن أبي موسى الأشعري قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمتي [ ص 130 ] هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل ) وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود تكلم فيه غير واحد . وقال العقيلي : تغير في آخر عمره في حديثه اضطراب . وقال ابن حبان البستي : اختلط حديثه فلم يتميز فاستحق الترك . وقد استشهد بعبد الرحمن المذكور البخاري
قوله : ( من عزوراء ) بفتح العين المهملة وسكون الزاي وفتح الواو بالمد ثنية الجحفة عليها الطريق من المدينة ويقال فيها عزور . قال في القاموس : وعزور ثانية الجحفة عليها الطريق
قوله : ( قتل مسيلمة ) هو الكذاب وقصته معروفة
قوله : ( ذا الثدية ) هو رجل من الخوارج الذين قتلهم علي عليه السلام يوم النهروان . ويقال له المخدج وكان في يده مثل ثدي المرأة على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي عليه شعرات مثل سبالة السنور وقصته مشهورة ذكرها مسلم في صحيحه وأبو داود وغيرهما
قوله : ( وقصته متفق عليها ) وهي مطولة في الصحيحين وغيرهما . وحاصلها أنه تخلف عن غزوة تبوك بلا عذر واعترف بذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعتذر بالأعذار الكاذبة كما فعل ذلك المتخلفون من المنافقين فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس عن تكليمه وأمر بمفارقة زوجته حتى ضاقت عليه وعلى صاحبيه اللذين اعترفا كما اعترف الأرض بما رحبت كما وصف الله ذلك في كتابه ثم بعد خمسين ليلة تاب الله عليهم فلما بشر بذلك سجد شكرا لله تعالى
( والحديث ) يدل على مشروعية سجود الشكر وكذلك الآثار المذكورة وقد تقدم الخلاف في ذلك

أبواب سجود السهو

باب ما جاء فيمن سلم من نقصان

1 - عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إحدى صلاتي العشي فصلى ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا : [ ص 131 ] قصرت الصلاة وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه وفي القوم رجل يقال له ذو اليدين فقال : يا رسول الله أنسيت أم قصرت فقال : لم أنس ولم تقصر فقال : أكما يقول ذو اليدين فقالوا : نعم فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر فربما سألوه ثم سلم فيقول : أنبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم )
- متفق عليه . وليس لمسلم فيه وضع اليد على اليد ولا التشبيك . وفي رواية قال : ( بينما أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم صلاة الظهر سلم من ركعتين فقام رجل من بني سليم فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ) وساق الحديث رواه أحمد ومسلم . وهذا يدل على أن القصة كانت بحضرته وبعد إسلامه . وفي رواية متفق عليها لما قال : ( لم أنس ولم تقصر قال : بلى قد نسيت ) وهذا يدل على أن ذا اليدين تكلم بعد ما علم عدم النسخ كلاما ليس بجواب سؤال )

- قال الحافظ في التلخيص : لهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ وقد جمع جميع طرقه الحافظ صلاح الدين العلائي وتكلم عليه كلاما شافيا انتهى
( وفي الباب ) عن ابن عمر عند أبي داود وابن ماجه . وعن ذي اليدين عند عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والبيهقي . وعن ابن عباس عند البزار في مسنده والطبراني . وعن عبد الله بن مسعدة عند الطبراني في الأوسط . وعن معاوية بن خديج عند أبي داود والنسائي . وعن أبي العريان عند الطبراني في الكبير
قال ابن عبد البر في التمهيد : وقد قيل أن أبا العريان المذكور هو أبو هريرة وقال النووي في الخلاصة : أن ذا اليدين يكنى أبا العريان قال العراقي : كلا القولين غير صحيح وأبو العريان صحابي آخر لا يعرف اسمه ذكره الطبراني فيهم في الكنى وكذلك أورده أبو موسى المديني في ذيله على ابن منده في الصحابة
قوله : ( صلى بنا ) ظاهره أن أبا هريرة حضر القصة وحمله الطحاوي على المجاز قال : إن المراد به صلى بالمسلمين وسبب ذلك قول الزبيري أن صاحب القصة استشهد ببدر لأنه يقتضي أن القصة وقعت قبل بدر وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين لكن اتفق أئمة الحديث كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم في ذلك وسببه أنه جعل القصة لذي الشمالين وذو الشمالين هو الذي قتل ببدر وهو خزاعي واسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة . وأما ذو اليدين فتأخر بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم بمدة وحدث بهذا الحديث بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أخرج ذلك الطبراني واسمه الخرباق كما [ ص 132 ] سيأتي وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما وهو قصة ذي الشمالين وشاهد الآخر وهو قصة ذي اليدين
قال في الفتح : وهذا محتمل في طريق الجمع وقيل يحمل على أن ذا الشمالين كما يقال له أيضا ذو اليدين وبالعكس فكان سبب الاشتباه ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي الرواية الأخرى التي ذكرها المصنف بلفظ : ( بينما أنا أصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم ) . قال الحافظ في الفتح : وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين ونص على ذلك الشافعي في اختلاف الحديث
قوله : ( إحدى صلاتي العشي ) قال النووي : هو بفتح العين المهملة وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء قال : قال الأزهري : العشي عند العرب ما بين زوال الشمس وغروبها ويبين ذلك ما وقع عند البخاري من حديث أبي هريرة قال : ( صلى بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر ) وفي رواية له قال محمد يعني ابن سيرين : ( وأكثر ظني أنها العصر ) وفي مسلم العصر من غير شك . وفي رواية له الظهر كذلك كما ذكر المصنف
وفي رواية له أيضا إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر . قال في الفتح : والظاهر أن الاختلاف فيه من الرواة وأبعد من قال يحمل على أن القصة وقعت مرتين بل روى النسائي من طريق ابن عوف عن ابن سيرين أن الشك فيه من أبي هريرة ولفظه : ( صلى صلى الله عليه وآله وسلم إحدى صلاتي العشي قال أبو هريرة ولكني نسيت ) فالظاهر أن أبا هريرة رواه كثيرا على الشك وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها وتارة غلب على ظنه أنها العصر فجزم بها وطرأ الشك أيضا في تعيينها على ابن سيرين وكأن سبب ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام الشرعية
قوله : ( فقام إلى خشبة في المسجد ) في رواية للبخاري : ( في مقدم المسجد ) ولمسلم : ( في قبلة المسجد )
قوله : ( السرعان ) بفتح المهملات ومنهم من يسكن الراء وحكى عياض أن الأصيلي ضبطه بضم ثم إسكان كأنه جمع سريع والمراد بهم أول الناس خروجا من المسجد وهم أهل الحاجات غالبا
قوله : ( فهابا ) في رواية للبخاري : ( فهاباه ) بزيادة الضمير والمعنى أنه غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه وأما ذو اليدين فغلب عليه حرصه على تعلم العلم
قوله : ( يقال له ذو اليدين ) قال القرطبي : هو كناية عن طولهما وعن بعض شراح التنبيه أنه كان قصير اليدين وجزم ابن قتيبة أنه كان يعمل بيديه جميعا
وذهب الأكثر [ ص 133 ] إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق بكسر المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة وآخره قاف اعتمادا على ما وقع في حديث عمران بن حصين الآتي
قال في الفتح : وهذا موضع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران وهو الراجح في نظري وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين ففي حديث أبي هريرة أن السلام وقع من اثنتين وأنه صلى الله عليه و سلم قام إلى خشبة في المسجد
وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة فأما الأول فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة واستبعده ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة لأنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك واستفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة عن صحة قوله
وأما الثاني فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لكون الخشبة كانت في جهة منزله فإن كان كذلك وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة ولموافقة ذي اليدين كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله ابن أحمد في زيادات المسند وأبو بكر ابن أبي خيثمة وغيرهم انتهى
قوله : ( لم أنس ولم تقصر ) هو تصريح بنفي النسيان ونفي القصر وهو مفسر لما عند مسلم بلفظ : ( وكل ذلك لم يكن ) وتأييد لما قاله علماء المعاني أن لفظ كل إذا تقدم وعقبه نفي كان نفيا لكل فرد لا للمجموع بخلاف ما إذا تأخر ولهذا أجاب ذو اليدين بقوله وقد كان بعض ذلك كما في صحيح مسلم . وفي البخاري ومسلم أنه قال : ( بلى قد نسيت ) كما ذكر المصنف
( وفيه دليل ) على جواز دخول السهو عليه صلى الله عليه وآله وسلم في الأحكام الشرعية وقد نقل عياض والنووي الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية وخصا الخلاف بالأفعال وقد تعقبا قال الحافظ : نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه بل يقع له بيان ذلك إما متصلا بالفعل أو بعده كما وقع في هذا الحديث . وفائدة جواز السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره
وأما من منع السهو مطلقا منه صلى الله عليه و سلم فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة . منها أن قوله صلى الله عليه و سلم ( لم أنس ) على ظاهره وحقيقته وأنه كان متعمدا لذلك ليقع منه التشريع بالفعل لكونه أبلغ من القول ويكفي في رد هذا تقريره [ ص 134 ] صلى الله عليه و سلم لذي اليدين على قوله ( بلى قد نسيت ) وأصرح من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ) وهو متفق عليه من حديث ابن مسعود كما سيأتي
ومن أجوبتهم أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( أني لا أنسى ولكني أنسى لا سن ) يدل على عدم صدور النسيان منه وتعقب بما قاله الحافظ في الفتح أن هذا الحديث لا أصل له فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد . وأيضا هو أحد الأحاديث الأربعة التي تكلم عليها في الموطأ
( ومن أجوبتهم ) أيضا حديث إنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على من قال نسيت آية كذا وكذا وقال : ( بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا ) وتعقب بأنه لا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شيء فإن الفرق بينهما واضح جدا
( ومن أجوبتهم ) أن قوله ( لم أنس ) راجع إلى السلام أي سلمت قصدا بانيا على ما في اعتقادي أني صليت أربعا
قال الحافظ : وهذا جيد وكأن ذا اليدين فهم العموم فقال بلى نسيت والكلام في ذلك محله علم الكلام والأصول
وقد تكلم عياض في الشفاء بما يشفي فمن أراد البسط فليرجع إليه وهذا كله مبني على أن معنى السهو والنسيان واحد وأما من فرق بينهما فله أن يقول هذه الأدلة وإن دلت على أنه وقع النسيان منه صلى الله عليه وآله وسلم فهي لا تستلزم وقوع السهو
قوله : ( فصلى ما ترك ) فيه جواز البناء على الصلاة التي خرج منها المصلي قبل تمامها ناسيا وإلى ذلك ذهب الجمهور كما قال العراقي من غير فرق بين من سلم من ركعتين أو أكثر أو أقل . وقال سحنون : إنما يبني من سلم من ركعتين كما في قصة ذي اليدين لأن ذلك وقع على غير القياس فيقتصر على مورد النص وحديث عمران بن حصين الآتي يبطل ما زعمه من قصر الجواز على ركعتين على أنه يلزمه أن يقصر الجواز على إحدى صلاتي العشي ولا قائل به
وذهبت الهادوية إلى أنه لا يجوز البناء على الصلاة التي خرج منها بتسليمتين من غير فرق بين العمد والسهو وأجابوا عن حديث الباب بأن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام اعتمادا منهم على ما سلف عن الزهري وقد قدمنا أنه وهم على أنه قد روى البناء عمران بن حصين كما سيأتي وإسلامه متأخر
ورواه أيضا معاوية بن خديج كما تقدمت الإشارة إلى ذلك وإسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه و سلم بشهرين ومع هذا فتحريم الكلام كان بمكة وقد حققنا ذلك في باب تحريم الكلام
( وفي حديث الباب ) دليل على أن كلام الساهي لا يبطل الصلاة وكذا [ ص 135 ] كلام من ظن التمام وقد تقدم الكلام على ذلك في باب تحريم الكلام أيضا وفيه أيضا دليل على أن الأفعال الكثيرة التي ليست من جنس الصلاة إذا وقعت سهوا أو مع ظن التمام لا تفسد الصلاة وقد تقدم البحث في ذلك
قوله : ( ثم سلم ثم كبر وسجد ) فيه دليل لمن قال إن سجود السهو بعد السلام وقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثمانية أقوال كما ذكر ذلك العراقي في شرح الترمذي
الأول : أن سجود السهو كله محله بعد السلام وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة وهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعمران بن حصين وأنس بن مالك والمغيرة بن شعبة وأبو هريرة . وروى الترمذي عنه خلاف ذلك كما سيأتي وروي أيضا عن ابن عباس ومعاوية وعبد الله بن الزبير على خلاف في ذلك عنهم . ومن التابعين أبو سلمة بن عبد الرحمن والحسن البصري والنخعي وعمر بن عبد العزيز وعبد الرحمن بن أبي ليلى والسائب القاري
وروى الترمذي عنه خلاف ذلك وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه . وحكى عن الشافعي قولا له . ورواه الترمذي عن أهل الكوفة وذهب إليه من أهل البيت الهادي والقاسم وزيد بن علي والمؤيد بالله واستدلوا بحديث الباب وبسائر الأحاديث التي ذكر فيها السجود بعد السلام
القول الثاني : أن سجود السهو كله قبل السلام وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة أبو سعيد الخدري وروي أيضا عن ابن عباس ومعاوية وعبد الله بن الزبير على خلاف في ذلك وبه قال الزهري ومكحول وابن أبي ذئب والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي في الجديد وأصحابه ورواه الترمذي عن أكثر فقهاء المدينة وعن أبي هريرة
( واستدلوا ) على ذلك بالأحاديث التي ذكر فيها السجود قبل السلام وسيأتي بعضها
القول الثالث : التفرقة بين الزيادة والنقص فيسجد للزيادة بعد السلام وللنقص قبله وإلى ذلك ذهب مالك وأصحابه والمزني وأبو ثور وهو قول الشافعي وإليه ذهب الصادق والناصر من أهل البيت . قال ابن عبد البر : وبه يصح استعمال الخبرين جميعا قال : واستعمال الأخبار على وجهها أولى من ادعاء النسخ ومن جهة النظر الفرق بين الزيادة والنقصان بين في ذلك لأن السجود في النقصان إصلاح وجبر ومحال أن يكون الإصلاح والجبر بعد الخروج من الصلاة وأما السجود في الزيادة فإنما هو ترغيم للشيطان وذلك ينبغي أن يكون بعد الفراغ
قال ابن العربي : مالك أسعد قيلا وأهدى سبيلا انتهى
ويدل على هذه التفرقة ما رواه الطبراني من حديث [ ص 136 ] عائشة في آخر حديث لها وفيه قال : ( من سها قبل التمام فليسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم وإذا سها بعد التمام سجد سجدتي السهو بعد أن يسلم ) ولكن في إسناده عيسى بن ميمون المدني المعروف بالواسطي وهو وإن وثقه حماد بن سلمة وقال فيه ابن معين مرة : لا بأس به فقد قال فيه مرة : ليس بشيء وضعفه الجمهور
القول الرابع : أنه يستعمل كل حديث كما ورد وما لم يرد فيه شيء سجد قبل السلام وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل كما حكاه الترمذي عنه وبه قال سليمان بن داود الهاشمي من أصحاب الشافعي وأبو خيثمة . قال ابن دقيق العيد : هذا المذهب مع مذهب مالك متفقان في طلب الجمع وعدم سلوك طريق الترجيح لكنهما اختلفا في وجه الجمع
القول الخامس : أنه يستعمل كل حديث كما ورد وما لم يرد فيه شيء فما كان نقصا سجد له قبل السلام وما كان زيادة فبعد السلام وإلى ذلك ذهب إسحاق بن راهويه كما حكاه عنه الترمذي
القول السادس : أن الباني على الأقل في صلاته عند شكه يسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد الآتي والمتحري في الصلاة عند شكه يسجد بعد السلام على حديث ابن مسعود الآتي أيضا وإلى ذلك ذهب أبو حاتم بن حبان قال : وقد يتوهم من لم يحكم صناعة الأخبار ولا تفقه في صحيح الآثار أن التحري في الصلاة والبناء على اليقين واحد وليس كذلك لأن التحري هو أن يشك المرء في صلاته فلا يدري ما صلى فإذا كان كذلك فعليه أن يتحرى الصواب وليبن على الأغلب عنده ويسجد سجدتي السهو بعد السلام على خبر ابن مسعود . والبناء على اليقين هو أن يشك في الثنتين والثلاث أو الثلاث والأربع فإذا كان كذلك فعليه أن يبني على اليقين وهو الأقل وليتم صلاته ثم يسجد سجدتي السهو قبل السلام على خبر عبد الرحمن بن عوف وأبي سعيد وما اختاره من التفرقة بين التحري والبناء على اليقين قاله أحمد بن حنبل فيما ذكره ابن عبد البر في التمهيد
وقال الشافعي وداود وابن حزم : أن التحري هو البناء على اليقين وحكاه النووي عن الجمهور
القول السابع : أنه يتخير الساهي بين السجود قبل السلام وبعده سواء كان لزيادة أو نقص حكاه ابن أبي شيبة في المصنف عن علي عليه السلام وحكاه الرافعي قولا للشافعي ورواه المهدي في البحر عن الطبري ودليلهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صح عنه السجود قبل السلام وبعده فكان الكل سنة
القول الثامن : أن محله كان بعد السلام إلا في موضعين فإن الساهي فيهما مخير . أحدهما من قام من ركعتين ولم يجلس ولم يتشهد . والثاني أن لا يدري أصلى ركعة أم ثلاثا أم أربعا فيبني على الأقل [ ص 137 ] ويخير في السجود وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر . وبه قال ابن حزم وروى النووي في شرح مسلم عن داود أنه قال : تستعمل الأحاديث في مواضعها كما جاءت
قال القاضي عياض وجماعة من أصحاب الشافعي : ولا خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء أنه لو سجد قبل السلام أو بعده للزيادة أو للنقص أنه يجزئه ولا تفسد صلاته وإنما اختلافهم في الأفضل
قال النووي : وأقوى المذاهب هنا مذهب مالك ثم الشافعي . وقال ابن حزم في مذهب مالك : إنه رأي لا برهان على صحته قال : وهو أيضا مخالف للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمره بسجود السهو قبل السلام من شك فلم يدر كم صلى وهو سهو زيادة ثم قال : ليت شعري من أين لهم أن جبر الشيء لا يكون إلا فيه لا بائنا عنه وهم مجمعون على أن الهدى والصيام يكونان جبرا لما نقص من الحج وهما بعد الخروج عنه وأن عتق الرقبة أو الصدقة أو صيام الشهرين جبرا لنقص وطء التعمد في نهار رمضان وفعل ذلك لا يجوز إلا بعد تمامه اه
وأحسن ما يقال في المقام أنه يعمل على ما تقتضيه أقواله وأفعاله صلى الله عليه و سلم من السجود قبل السلام وبعده فما كان من أسباب السجود مقيدا بقبل السلام سجد له قبله وما كان مقيدا ببعد السلام سجد له بعده وما لم يرد تقييده بأحدهما كان مخيرا بين السجود قبل السلام وبعده من غير فرق بين الزيادة والنقص لما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين ) وجميع أسباب السجود لا تكون إلا زيادة أو نقصا أو مجموعهما وهذا ينبغي أن يعد مذهبا تاسعا لأن مذهب داود وإن كان فيه أنه يعمل بمقتضى النصوص الواردة كما حكاه النووي فقد جزم بأن الخارج عنها يكون قبل السلام وإسحاق بن راهويه وإن قال : إنها تستعمل الأحاديث كما وردت فقد جزم أنه يسجد لما خرج عنها إن كان زيادة بعد السلام وإن كان نقصا فقبله كما سبق
والقائلون بالتخيير لم يستعملوا النصوص كما وردت ولا شك أنه أفضل . ومحل الخلاف في الأفضل كما عرفت وإن كانت الهادوية تقول بفساد صلاة من سجد لسهوه قبل التسليم مطلقا لكن قولهم مع كونه مخالفا لما صرحت به الأدلة مخالف للإجماع الذي حكاه عياض وغيره
قوله : ( فربما سألوه ثم سلم ) يعني سألوا محمد بن سيرين هل سلم النبي صلى الله عليه و سلم بعد سجدتي السهو فروي عن عمران بن حصين أنه أخبر أن النبي صلى الله عليه و سلم سلم بعدهما . ولفظ أبي داود : ( فقيل لمحمد سلم في السجود فقال : لم أحفظه من أبي هريرة ولكن نبئت أن عمران [ ص 138 ] بن حصين قال : ثم سلم ) وفيه دليل على مشروعية التسليم في سجود السهو وقد نقل بعض المتأخرين عن النووي أن الشافعية لا يثبتون التسليم وهو خلاف المشهور عن الشافعية والمعروف في كتبهم وخلاف ما صرح به النووي في شرح مسلم فإنه قال : والصحيح في مذهبنا أنه يسلم ولا يتشهد

2 - وعن عمران بن حصين : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ثم دخل منزله ) وفي لفظ : ( فدخل الحجرة فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول فقال : يا رسول الله فذكر له صنيعه فخرج غضبان يجر ردائه حتى انتهى إلى الناس فقال : أصدق هذا قالوا : نعم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي )

- الكلام على فقه الحديث قد تقدم وتقدم أيضا الاختلاف بين أهل العلم هل حديث عمران هذا وحديث أبي هريرة المتقدم حكاية لقصة واحدة أو لقصتين مختلفتين والظاهر ما قاله ابن خزيمة ومن تبعه من التعدد لأن دعوى الاتحاد تحتاج إلى تأويلات متعسفة كما سلف . وتقدم أيضا ضبط الخرباق وأنه اسم ذي اليدين
( وفي الباب ) عن ابن عباس عند البزار والطبراني في الكبير : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى بهم العصر ثلاثا فدخل على بعض نسائه فدخل عليه رجل من أصحابه يقال له ذو الشمالين ) الحديث

3 - وعن عطاء : ( أن ابن الزبير صلى المغرب فسلم في ركعتين فنهض ليستلم الحجر فسبح القوم فقال : ما شأنكم قال : فصلى ما بقي وسجد سجدتين قال : فذكر ذلك لابن عباس فقال : ما أماط عن سنة نبيه صلى الله عليه و سلم )
- رواه أحمد

- الحديث أيضا أخرجه البزار والطبراني في الأوسط والكبير قال في مجمع الزوائد : ورجال أحمد رجال الصحيح
قوله : ( ما أماط ) أوله همزة مفتوحة وآخره مهملة . قال في القاموس : ماط يميط ميطا جار وزجر وعنى ميطانا وميطا تنحى وبعد ونحى وأبعد كأماط فيهما اه
والمراد هنا أن ابن الزبير ما بعد ولا تنحى عن السنة أو ما أبعد ولا نحى غيره عنها بما فعله لما تقدم من ثبوت ذلك عنه صلى الله عليه و سلم والخلاف في جواز البناء قد مر [ ص 139 ]

باب من شك في صلاته

1 - عن عبد الرحمن بن عوف قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين فليجعلها واحدة وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثا فليجعلها ثنتين وإذا لم يدر ثلاثا صلى أم أربعا فليجعلها ثلاثا ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين )
- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه . وفي رواية : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من صلى صلاة يشك في النقصان فليصل حتى يشك في الزيادة ) رواه أحمد

- الحديث معلول لأنه من رواية ابن إسحاق عن مكحول عن كريب عن ابن عباس عن عبد الرحمن . وقد رواه أحمد في المسند عن ابن علية عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلا
قال ابن إسحاق : فلقيت حسين بن عبد الله فقال لي : أسنده لك قلت : لا فقال : لكنه حدثني أن كريبا حدثه به وحسين ضعيف جدا . ورواه إسحاق بن راهويه والهيثم بن كليب في مسنديهما من طريق الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس مختصرا وفي إسنادهما إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف وتابعه بحر بن كثير السقاء فيما ذكره الدارقطني في العلل
وقد رواه أيضا أحمد بن حنبل عن محمد بن يزيد عن إسماعيل ابن مسلم عن الزهري وإسماعيل بن مسلم ضعيف كما مر
والزيادة التي رواها المصنف رحمه الله عن أحمد أخرج نحوها ابن ماجه ولفظه : ( ثم ليتم ما بقي من صلاته حتى يكون الوهم في الزيادة ) وفي الباب غير ما ذكره المصنف عن عثمان عند أحمد وفيه : ( من صلى فلم يدر أشفع أم أوتر فليسجد سجدتين فإنهما إتمام صلاته ) قال العراقي : رجاله ثقات إلا أن يزيد بن أبي كبشة لم يسمع من عثمان
وقد رواه أحمد أيضا عن يزيد بن أبي كبشة عن مروان عن عثمان . وعن عائشة عند الطبراني في الأوسط وفيه : ( إذا صليت فرأيت أنك أتممت صلاتك وأنت في بيتك ) الحديث
وعن أنس عند البيهقي قال : ( قال صلى الله عليه و سلم : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أثنتين صلى أو ثلاثا فليلق الشك وليبن على اليقين ) ورجال إسناده ثقات
وعن عبد الله بن جعفر عند أبي داود بلفظ : ( من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم ) وفي إسناده مصعب بن عمير قال النسائي : منكر الحديث وفي إسناده أيضا عتبة بن محمد بن الحارث [ ص 140 ] قال العراقي : ليس بالمعروف وقال البيهقي : لا بأس بإسناد هذا الحديث
( وحديث الباب ) قد استدل به وبما ذكر معه من قال إن من شك في ركعة بنى على الأقل مطلقا قال النووي : وإليه ذهب الشافعي والجمهور
وحكاه المهدي في البحر عن علي عليه السلام وأبي بكر وعمر وابن مسعود وربيعة والشافعي ومالك واستدلوا أيضا بحديث أبي سعيد الآتي
وذهب عطاء والأوزاعي والشعبي وأبو حنيفة وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وعبد الله ابن عمرو بن العاص من الصحابة إلى أن من شك في ركعة وهو مبتدأ بالشك لا مبتلي به أعاد هكذا في البحر وقال : والمبتلي الذي يمكنه التحري يعمل بتحريه وحكاه عن ابن عمر وأبي هريرة وجابر بن زيد والنخعي وأبي طالب وأبي حنيفة والذي حكاه النووي في شرح مسلم عن أبي حنيفة وموافقيه من أهل الكوفة وغيرهم من أهل الرأي أن من شك في صلاته في عدد ركعاته تحرى وبنى على غالب ظنه ولا يلزم الاقتصار والإتيان بالزيادة قال : واختلف هؤلاء فقال أبو حنيفة ومالك في طائفة : هذا لمن اعتراه الشك مرة بعد أخرى وأما غيره فيبني على اليقين وقال آخرون : هو على عمومه اه
وحكى العراقي في شرح الترمذي عن عبد الله بن عمر وسعيد بن جبير وشريح القاضي ومحمد بن الحنفية وميمون بن مهران وعبد الكريم الجزري والشعبي والأوزاعي أنهم يقولون بوجوب الإعادة مرة بعد أخرى حتى يستيقن ولم يرو عنهم الفرق بين المبتدأ والمبتلي
وروى عن عطاء ومالك أنهما قالا : يعيد مرة وعن طاوس كذلك وعن بعضهم يعيد ثلاث مرات
( واحتج القائلون ) بالاستئناف بما أخرجه الطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن رجل سها في صلاته فلم يدر كم صلى فقال : ليعد صلاته وليسجد سجدتين قاعدا )
وهو من رواية إسحاق بن يحيى بن عبادة بن الصامت . قال العراقي : لم يسمع إسحاق من جده عبادة انتهى
فلا ينتهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة المصرحة بوجوب البناء على الأقل ومع هذا فظاهره عدم الفرق بين المبتدأ والمبتلي والمدعي على اختصاص الإعادة بالمبتدأ
( واحتجوا ) أيضا بما أخرجه الطبراني عن ميمونة بنت سعد أنها قالت : ( أفتنا يا رسول الله في رجل سها في صلاته فلا يدري كم صلى قال : ينصرف ثم يقوم في صلاته حتى يعلم كم صلى فإنما ذلك الوسواس يعرض فيسهيه عن صلاته )
وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي الجزري مختلف فيه وهو كبقية في الشاميين يروي عن المجاهيل وفي إسناده أيضا [ ص 141 ] عبد الحميد بن يزيد وهو مجهول كما قال العراقي
( واحتج القائلون ) بوجوب العمل بالظن والتحري إما مطلقا أو لمن كان مبتلى بالشك بحديث ابن مسعود الآتي لما فيه من الأمر لمن شك بأن يتحرى الصواب وأجاب عنهم القائلون بوجوب البناء على الأقل بأن التحري هو القصد . ومنه قوله تعالى { فأولئك تحروا رشدا } فمعنى الحديث فليقصد الصواب فيعمل به وقصد الصواب هو ما بينه في حديث أبي سعيد وغيره وقد قدمنا طرفا من الخلاف في كون التحري والبناء على اليقين شيئا واحدا أم لا . وفي القاموس أن التحري التعمد وطلب ما هو أحرى بالاستعمال قال النووي فإن قالت الحنفية حديث أبي سعيد لا يخالف ما قلنا لأنه ورد في الشك وهو ما استوى طرفاه ومن شك ولم يترجح له أحد الطريقين يبني على الأقل بالإجماع بخلاف من غلب على ظنه أنه صلى أربعا مثلا فالجواب أن تفسير الشك بمستوى الطرفين إنما هو اصطلاح طارئ للأصوليين وأما في اللغة فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يسمى شكا سواء المستوى والراجح والمرجوح والحديث يحمل على اللغة ما لم يكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية ولا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح انتهى
والذي يلوح لي أنه لا معارضة بين أحاديث البناء على الأقل والبناء على اليقين وتحري الصواب وذلك لأن التحري في اللغة كما عرفت هو طلب ما أحرى إلى الصواب وقد أمر به صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بالبناء على اليقين والبناء على الأقل عند عروض الشك فإن أمكن الخروج بالتحري عن دائرة الشك لغة ولا يكون إلا بالاستيقان بأنه فعل من الصلاة كذا ركعات فلا شك أنه مقدم على البناء على الأقل لأن الشارع قد شرط في جواز البناء على الأقل عدم الدراية كما في حديث عبد الرحمن بن عوف وهذا المتحري قد حصلت له الدراية وأمر الشاك بالبناء على ما استيقن كما في حديث أبي سعيد ومن بلغ به تحريه إلى اليقين قد بني على ما استيقن وبهذا تعلم أنه لا معارضة بين الأحاديث المذكورة وأن التحري المذكور مقدم على البناء على الأقل وقد أوقع الناس ظن التعارض بين هذه الأحاديث في مضايق ليس عليها أثارة من علم كالفرق بين المبتدأ والمبتلي والركن والركعة
قوله في حديث الباب : ( قبل أن يسلم ) استدل به القائلون بمشروعية سجود السهو قبل السلام [ ص 142 ] وقد تقدم الخلاف في ذلك وبيان ما هو الحق
قوله : ( فليصل حتى يشك في الزيادة ) فيه أن جعل الشك في جانب الزيادة أولى من جعله في جانب النقصان

2 - وعن أبي سعيد الخدري قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان )
- رواه أحمد ومسلم

- الحديث أخرجه أيضا أبو داود بلفظ : ( فليلق الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة والسجدتان نافلة وإن كانت صلاته ناقصة كانت الركعة تماما والسجدتان ترغيما للشيطان ) وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي
واختلف فيه على عطاء بن يسار فروي مرسلا وروي بذكر أبي سعيد فيه وروي عنه عن ابن عباس قال الحافظ : وهو وهم . وقال ابن المنذر : حديث أبي سعيد أصح حديث في الباب
( والحديث ) استدل به القائلون بوجوب إطراح الشك والبناء على اليقين وهم الجمهور كما قال النووي والعراقي . وقد تقدم ما أجاب به القائلون بالبناء على الظن وما أجيب به عليهم وما هو الحق
قوله : ( قبل أن يسلم ) هو من أدلة القائلين بالسجود للسهو قبل السلام وقد تقدم البحث عن ذلك أيضا
قوله : ( فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته ) يعني أن السجدتين بمنزلة الركعة لأنهما ركناها فكأنه بفعلهما قد فعل ركعة سادسة فصارت الصلاة شفعا
قوله : ( كانت ترغيما للشيطان ) لأنه لما قصد التلبيس على المصلي وإبطال صلاته كان السجدتان لما فيهما من الثواب ترغيما له فعاد عليه بسببهما قصده بالنقض . وفي جعل العلة ترغيم الشيطان رد على من أوجب السجود للأسباب المتعمدة وهو أبو طالب والإمام يحيى والشافعي كما في البحر لأن إرغام الشيطان إنما يكون بما حدث بسببه والعمد ليس من الشيطان بل من المصلي
وأما استدلالهم على ذلك بالقياس للعمد على السهو لأنه إنما شرع في السهو للنقص فالعمد مثله فمردود بأن العلة ليست النقص بل إرغام الشيطان كما في الحديث . وظاهر الحديث أن مجرد حصول الشك موجب للسجود ولو زال وحصلت معرفة الصواب وتحقق أنه لم يزد شيئا وإلى ذلك ذهب الشيخ أبو علي والمؤيد بالله وذهب المنصور بالله وإمام الحرمين أنه لا يسجد لزوال التردد ويدل للمذهب الأول ما أخرجه أبو داود عن زيد بن أسلم قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله [ ص 143 ] وسلم : إذا شك أحدكم في صلاته فإن استيقن أنه صلى ثلاثا فليقم وليتم ركعة بسجودها ثم يجلس فيتشهد فإذا فرغ فلم يبق إلا أن يسلم فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم ) وسيأتي في حديث ابن مسعود ما يدل على مثل ما دل عليه هذا الحديث

3 - وعن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قال إبراهيم : زاد أو نقص فلما سلم قيل له : يا رسول الله حدث في الصلاة شيء قال : لا وما ذاك قالوا : صليت كذا وكذا فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم ثم أقبل علينا بوجهه فقال : إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين )
- رواه الجماعة إلا الترمذي . وفي لفظ ابن ماجه ومسلم في رواية : ( فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب )

- قوله : ( وعن إبراهيم ) هو النخعي
قوله : ( زاد أو نقص ) في رواية للجماعة من طريق إبراهيم عن علقمة أنه صلى خمسا على الجزم وستأتي في باب من صلى الرباعية خمسا وفي قوله : ( زاد أو نقص ) دليل على مشروعية سجود السهو لمن تردد بين الزيادة والنقصان إلا أن تجعل رواية الجزم مفسرة لرواية التردد
قوله : ( فثنى رجليه ) في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان بالإفراد وهذه الرواية هي اللائقة بالمقام . ومعنى ثنى الرجل صرفها عن حالتها التي كانت عليها
قوله : ( لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ) فيه أن الأصل في الأحكام بقاؤها على ما قررت عليه وإن جوز غير ذلك وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
قوله : ( إنما أنا بشر مثلكم ) هذا حصر له في البشرية باعتبار من أنكر ثبوت ذلك ونازع فيه عنادا وجحودا وأما باعتبار غير ذلك مما هو فيه فلا ينحصر في وصف البشرية إذ له صفات أخر ككونه جسما حيا متحركا نبيا رسولا بشيرا نذيرا سراجا منيرا وغير ذلك . وتحقيق هذا المبحث ونظائره محله علم المعاني
قوله : ( أنسى كما تنسون ) زاد النسائي : ( وأذكر كما تذكرون ) وفيه دليل على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وآله وسلم فيما طريقه البلاغ وقد تقدم الكلام على هذا في شرح حديث ذي اليدين
قوله : ( فإذا نسيت فذكروني ) فيه أمر التابع بتذكير [ ص 144 ] المتبوع . وظاهر الحديث يدل على الوجوب على الفور
قوله : ( فليتحر الصواب ) فيه دليل لمن قال بالعمل على غالب الظن وتقديمه على البناء على الأقل وقد قدمنا الجواب عليه من جهة القائلين بوجوب البناء على الأقل
قوله : ( فليتم عليه ) بضم التحتانية وكسر الفوقانية
قوله : ( ثم ليسجد سجدتين ) فيه دليل لمن قال إن السجود قبل التسليم وقد مر تحقيقه وفيه أيضا أن مجرد النظر والتفكير من أسباب السجود لأنه قد لحق الصلاة بسبب الوسوسة نقص وقد تقدم الكلام على ذلك

4 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الشيطان يدخل بين ابن آدم وبين نفسه فلا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم )
- رواه أبو داود وابن ماجه . وهو لبقية الجماعة إلا قوله : ( قبل أن يسلم )

5 - وعن عبد الله بن جعفر : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي

- حديث عبد الله بن جعفر في إسناده مصعب بن شيبة قال النسائي : منكر الحديث وعنه ليس بمعروف وقد وثقه ابن معين واحتج به مسلم في صحيحه . وقال أحمد بن حنبل : إنه روى أحاديث مناكير وقال أبو حاتم الرازي : لا يحمدونه وليس بالقوي وقال الدارقطني : ليس بالقوي ولا بالحافظ
قوله : ( إن الشيطان يدخل بين ابن آدم وبين نفسه ) في لفظ للبخاري وأبي داود : ( إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه ) وفي لفظ للبخاري أيضا : ( أقبل يعني الشيطان حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل أن يدري كم صلى )
قوله : ( فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ) فيه دليل لمن قال سجود السهو قبل التسليم وقد تقدم الكلام على ذلك
قوله : ( بعد ما يسلم ) احتج به القائلون بأن سجود السهو بعد السلام وقد تقدم ذكرهم . والأحاديث الصحيحة الواردة في سجود السهو لأجل الشك كحديث عبد الرحمن بن عوف وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرها قاضية بأن سجود السهو لهذا السبب يكون قبل السلام وحديث عبد الله بن جعفر لا ينتهض لمعارضتها لا سيما مع ما فيه من المقال الذي تقدم ذكره ولكنه يؤيده حديث ابن مسعود المذكور قريبا فيكون الكل جائزا وقد استدل بظاهر هذين الحديثين من قال إن المصلي إذا شك فلم يدر زاد أو نقص فليس عليه إلا سجدتان عملا بظاهر الحديثين المذكورين . وإلى ذلك ذهب الحسن البصري [ ص 145 ] وطائفة من السلف وروي ذلك عن أنس وأبي هريرة وخالف في ذلك الجمهور والعترة والأئمة الأربعة وغيرهم فمنهم من قال يبني على الأقل . ومنهم من قال يعمل على غالب ظنه . ومنهم من قال يعيد . وقد تقدم تفصيل ذلك وليس في حديثي الباب أكثر من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بسجدتين عند السهو في الصلاة وليس فيهما بيان ما يصنعه من وقع له ذلك والأحاديث الآخرة قد اشتملت على زيادة وهي بيان ما هو الواجب عليه عند ذلك من غير السجود فالمصير إليها واجب
وظاهر قوله : ( من شك في صلاته ) وقوله : ( فإذا وجد أحدكم ذلك ) وقوله في حديث أبي سعيد المتقدم : ( إذا شك أحدكم في صلاته ) وقوله في حديث ابن مسعود المتقدم أيضا : ( وإذا شك أحدكم فليتحر الصواب ) وقوله في حديث عبد الرحمن بن عوف : ( إذا شك أحدكم في صلاته ) أن سجود السهو مشروع في صلاة النافلة كما هو مشروع في صلاة الفريضة وإلى ذلك ذهب الجمهور من العلماء قديما وحديثا لأن الجبران وإرغام الشيطان يحتاج إليه في النفل كما يحتاج إليه في الفرض
وذهب ابن سيرين وقتادة وروي عن عطاء ونقله جماعة من أصحاب الشافعي عن قوله القديم إلى أن التطوع لا يسجد فيه وهذا ينبني على الخلاف في اسم الصلاة الذي هو حقيقة شرعية في الأفعال المخصوصة هل هو متواطئ فيكون مشتركا معنويا فيدخل تحته كل صلاة أو هو مشترك لفظي بين صلاتي الفرض والنفل فذهب الرازي إلى الثاني لما بين صلاتي الفرض والنفل من التباين في بعض الشروط كالقيام واستقبال القبلة وعدم اعتبار العدد المنوي وغير ذلك
قال العلائي : والذي يظهر أنه مشترك معنوي لوجود القدر الجامع بين كل ما يسمى صلاة وهو التحريم والتحليل مع ما يشمل الكل من الشروط التي لا تنفك
قال في الفتح : وإلى كونه مشتركا معنويا ذهب جمهور أهل الأصول . قال ابن رسلان : وهو أولى لأن الاشتراك اللفظي على خلاف الأصل والتواطؤ خير منه اه
فمن قال أن لفظ الصلاة مشترك معنوي قال بمشروعية سجود السهو في صلاة التطوع ومن قال بأنه مشترك لفظي فلا عموم له حينئذ إلا على قول الشافعي أن المشترك يعم جميع مسمياته وقد ترجم البخاري على باب السهو في الفرض والتطوع وذكر عن ابن عباس أنه يسجد بعد وتره وذكر حديث أبي هريرة المتقدم [ ص 146 ]

باب من نسي التشهد الأول حتى انتصب قائما لم يرجع

1 - عن ابن بحينة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى فقام في الركعتين فسبحوا به فمضى فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ثم سلم )
- رواه النسائي

2 - وعن زياد بن علاقة قال : ( صلى بنا المغيرة بن شعبة فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح به من خلفه فأشار إليهم أن قوموا بنا فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم ثم قال : هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
- رواه أحمد والترمذي وصححه

3 - وعن المغيرة بن شعبة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائما فليجلس وإن استتم قائما فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه

- الحديث الأول أخرجه بقية الأئمة الستة بنحو لفظ النسائي الذي ذكره المصنف والحديث الثاني أخرجه أيضا أبو داود وفي إسناده المسعودي وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود استشهد به البخاري وتكلم فيه غير واحد . وأخرجه الترمذي أيضا من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الشعبي عن المغيرة . قال أحمد : لا يحتج بحديث ابن أبي ليلى وقد تكلم فيه غيره
والحديث الثالث أخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي ومداره علي جابر الجعفي وهو ضعيف جدا وقد قال أبو داود : ولم أخرج عنه في كتابي غير هذا
قوله : ( فقام في الركعتين ) يعني أنه قام إلى الركعة الثالثة ولم يتشهد عقب الركعتين
قوله : ( فلما فرغ من صلاته ) استدل به من قال إن السلام ليس من الصلاة وقد تقدم البحث عن ذلك وتعقب بأن السلام لما كان للتحلل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته . ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجه من طريق جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد عن الأعرج : ( حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم ) فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه والزيادة من الحافظ مقبولة
قوله : ( ثم سلم ) استدل بذلك من قال إن السجود قبل التسليم وقد قدمنا الخلاف فيه وما هو الحق . وزاد الترمذي في الحديث : ( وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس ) وفي هذه الزيادة فائدتان ( إحداهما ) أن المؤتم يسجد مع إمامه لسهو الإمام ولقوله في الحديث الصحيح ( لا تختلفوا ) [ ص 147 ] وقد أخرج البيهقي والبزار عن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الإمام يكفي من وراءه فإن سها الإمام فعليه سجدتا السهو وعلى من وراءه أن يسجدوا معه وإن سها أحد ممن خلفه فليس عليه أن يسجد والإمام يكفيه ) وفي إسناده خارجة بن مصعب وهو ضعيف وأبو الحسين المدائني وهو مجهول . والحكم بن عبيد الله وهو أيضا ضعيف
( وفي الباب ) عن ابن عباس عند ابن عدي وفي إسناده عمر بن عمرو العسقلاني وهو متروك وقد ذهب إلى أن المؤتم يسجد لسهو الإمام ولا يسجد لسهو نفسه الحنفية والشافعية
ومن أهل البيت زيد بن علي والناصر والمؤيد بالله والإمام يحيى وروي عن مكحول والهادي أنه يسجد لسهوه لعموم الأدلة وهو الظاهر لعدم انتهاض هذا الحديث لتخصيصها وإن وقع السهو من الإمام والمؤتم فالظاهر أنه يكفي سجود واحد من المؤتم أما مع الإمام أو منفردا وإليه ذهب الفريقان والناصر والمؤيد بالله . وذهب الهادي إلى أنه يجب عليه سجودان لسهو الإمام ثم لسهو نفسه والظاهر ما ذهب إليه الأولون
( والفائدة الثانية ) أن قوله : ( مكان ما نسي من الجلوس ) يدل على أن السجود إنما هو لأجل ترك الجلوس لا لترك التشهد حتى لو أنه جلس مقدار التشهد ولم يتشهد لا يسجد وجزم أصحاب الشافعي وغيرهم أنه يسجد لترك التشهد وإن أتى بالجلوس
قوله : ( فليجلس ) زاد في رواية ولا سهو عليه وبها تمسك من قال إن السجود إنما هو لفوات التشهد لا لفعل القيام وإلى ذلك ذهب النخعي وعلقمة والأسود والشافعي في أحد قوليه وذهبت العترة وأحمد بن حنبل إلى أنه يجب السجود لفعل القيام لما روي عن أنس أنه صلى الله عليه وآله وسلم تحرك للقيام في الركعتين الآخرتين من العصر على جهة السهو فسبحوا له فقعد ثم سجد للسهو أخرجه البيهقي والدارقطني موقوفا عليه
وفي بعض طرقه أنه قال : هذه السنة . قال الحافظ : ورجاله ثقات وأخرج الدارقطني والحاكم والبيهقي عن ابن عمر من حديثه بلفظ : ( لا سهو إلا في قيام عن جلوس أو جلوس عن قيام ) وهو ضعيف
( واستدل ) بأحاديث الباب أن التشهد الأول ليس من فروض الصلاة إذ لو كان فرضا لما جبر بالسجود ولم يكن بد من الإتيان به كسائر الفروض وبذلك قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور وذهب أحمد وأهل الظاهر إلى وجوبه وقد تقدم الكلام على هذا الاستدلال والجواب عنه في شرح أحاديث التشهد
قوله : ( وإن استتم قائما فلا يجلس ) فيه أنه لا يجوز العود إلى القعود والتشهد بعد الانتصاب الكامل لأنه قد تلبس بالفرض فلا [ ص 148 ] يقطعه ويرجع إلى السنة . وقيل يجوز له العود ما لم يشرع في القراءة فإن عاد عالما بالتحريم بطلت لظاهر النهي ولأنه زاد قعودا وهذا إذا تعمد العود فإن عاد ناسيا لم تبطل صلاته وأما إذا لم يستتم القيام فإنه يجب عليه العود لقوله في الحديث : ( إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائما فليجلس )

باب من صلى الرباعية خمسا

1 - عن ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمسا فقيل له : أزيد في الصلاة فقال : وما ذلك فقالوا : صليت خمسا فسجد سجدتين بعد ما سلم )
- رواه الجماعة

- قوله : ( صلى الظهر خمسا ) في هذه الرواية الجزم وقد تقدم عن إبراهيم النخعي التردد والكل من طريقه عن علقمة عن ابن مسعود
قوله : ( فقال وما ذلك ) كذا في بعض النسخ وفي بعضها فقيل وما ذاك وفي بعضها فقال لا وما ذاك بزيادة لا وهي ثابتة في مسلم وأبي داود وبها يتبين أن أخبارهم كان بعد استفساره صلى الله عليه وآله وسلم لهم
( والحديث ) يدل على أن من صلى خمسا ساهيا ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد . وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري : أنها تفسد إن لم يجلس في الرابعة قال أبو حنيفة : فإن جلس في الرابعة ثم صلى خمسا فإنه يضيف إليها ركعة أخرى وتكون الركعتان له نافلة والحديث يرد ما قالاه وإلى العمل بمضمونه ذهب الجمهور وقد فرق مالك بين الزيادة القليلة والكثيرة من الساهي
قال القاضي عياض : إن مذهب مالك أنه إن زاد دون نصف الصلاة لم تبطل صلاته بل هي صحيحة ويسجد للسهو وإن زاد النصف وأكثر فذهب ابن القاسم ومطرف إلى بطلانها . وقال عبد الرحمن بن حبيب وغيره : إن زاد ركعتين بطلت صلاته وإن زاد ركعة فلا وحكى عن مالك أنها لا تبطل مطلقا
وقد استدل بالحديث على أن سجدتي السهو محلهما بعد التسليم مطلقا وليس فيه حجة على ذلك لأنه لم يعلم صلى الله عليه وآله وسلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه أزيد في الصلاة وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على فعل ذلك بعد السلام لتعذره قبله [ ص 149 ]

باب التشهد لسجود السهو بعد السلام

1 - عن عمران بن حصين : ( أن النبي صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم )
- رواه أبو داود والترمذي

- الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وحسنه الترمذي . وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين وصححه ابن حبان وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما قالوا : والمحفوظ في حديث عمران أنه ليس فيه ذكر التشهد وإنما تفرد به أشعث عن ابن سيرين وقد خالف فيه غيره من الحفاظ عن ابن سيرين . وقد أخرج النسائي الحديث بدون ذكر التشهد
( وفي الباب ) عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث وأربع وأكثر ظنك على أربع تشهدت ثم سجدت سجدتين وأنت جالس قبل أن تسلم ثم تشهدت أيضا ثم تسلم )
قال البيهقي : هذا حديث مختلف في رفعه ومتنه غير قوي وهو من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال البيهقي : مرسل . وقد ضعف الحافظ في الفتح إسناد هذا الحديث
وعن المغيرة بن شعبة عند البيهقي : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم تشهد بعد أن رفع رأسه من سجدتي السهو ) قال البيهقي : تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الشعبي ولا يفرح بما تفرد به . وقال في المعرفة : لا حجة فيما تفرد به لسوء حفظه وكثرة خطئه في الروايات انتهى
وقد أخرج حديث المغيرة الترمذي من رواية هشام عن ابن أبي ليلى المذكور ولم يذكر فيه التشهد بعد سجدتي السهو . وعن عائشة عند الطبراني . وفيه : ( وتشهدي وانصرفي ثم اسجدي سجدتين وأنت قاعدة ثم تشهدي ) الحديث . وفي إسناده موسى بن مطير عن أبيه وهو ضعيف وقد نسب إلى وضع الحديث
وقد استدل بحديث عمران وما ذكر معه من الأحاديث على مشروعية التشهد في سجدتي السهو فإذا كان بعد السلام كما في حديث عمران فقد حكى الترمذي عن أحمد وإسحاق أنه يتشهد وهو قول بعض المالكية والشافعية ونقله أبو حامد الاسفرايني عن القديم من قولي الشافعي وفي مختصر المزني سمعت الشافعي يقول : إذا سجد بعد السلام تشهد أو قبل السلام أجزأه التشهد الأول وإذا كان قبل السلام فالجمهور على أنه لا يعيد التشهد
وحكى ابن عبد البر عن الليث أنه يعيده . وعن البويطي والشافعي [ ص 150 ] مثله وخطؤه في هذا النقل فإنه لا يعرف . وعن عطاء يتخير . واختلف فيه عند المالكية
( وحديث ) ابن مسعود يدل على مشروعية التشهد في سجود السهو قبل السلام وفيه المقال الذي تقدم . قال الحافظ في الفتح : قد يقال إن الأحاديث الثلاثة يعني حديث عمران وابن مسعود والمغيرة باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن
قال العلائي : وليس ذلك ببعيد وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله أخرجه ابن أبي شيبة
( واعلم ) أن المراد بالتشهد المذكور في سجود السهو هو التشهد المعهود في الصلاة لا كما قاله الإمام المهدي في البحر أنه الشهادتان في الأصح لعدم وجدان ما يدل على الاقتصار على البعض من التشهد الذي ينصرف إليه مطلق التشهد

أبواب صلاة الجماعة

باب وجوبها والحث عليها

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار )
- متفق عليه . ولأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار )

- الحديث الثاني في إسناده أبو معشر وهو ضعيف
قوله : ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ) فيه أن الصلاة كلها ثقيلة على المنافقين . ومنه قوله تعالى { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } وإنما كان العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما لقوة الداعي إلى تركهم لهما لأن العشاء وقت السكون والراحة والصبح وقت لذة النوم ( 1 )
قوله : [ ص 151 ] ( ولو يعلمون ما فيهما ) أي من مزيد الفضل
قوله : ( لأتوهما ) أي لأتوا المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد
قوله : ( ولو حبوا ) أي زحفا إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء ( ولو حبوا على المرافق والركب )
قوله : ( ولقد هممت ) اللام جواب القسم ( 2 ) وفي البخاري وغيره : ( والذي نفسي بيده لقد هممت ) والهم العزم وقيل دونه
قوله : ( فأحرق ) بالتشديد يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه وفيه جواز العقوبة بإتلاف المال
( والحديث ) استدل به القائلون بوجوب صلاة الجماعة لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه . ويمكن أن يقال إن التهديد بالتحريق المذكور يقع في حق تاركي فرض الكفاية لمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية . قال الحافظ : وفيه نظر لأن التحريق الذي يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة ولأن المقاتلة إنما يشرع فيها إذا تمالأ الجميع على الترك
وقد اختلفت أقوال العلماء في صلاة الجماعة فذهب عطاء والأوزاعي وإسحاق وأحمد وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان وأهل الظاهر وجماعة ومن أهل البيت أبو العباس إلى أنها فرض عين واختلفوا فبعضهم قال هي شرط روي ذلك عن داود ( 3 ) ومن تبعه وروي مثل ذلك عن أحمد وقال الباقون : إنها فرض عين غير شرط . وذهب الشافعي في أحد قوليه قال الحافظ : هو ظاهر نصه وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه وبه قال كثير من المالكية والحنفية إلى أنها فرض كفاية وذهب الباقون إلى أنها سنة وهو قول زيد بن علي والهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة :
الأول : إنها لو كانت شرطا أو فرضا لبين ذلك عند التوعد كذا قال ابن بطال . ورد بأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان
والثاني : أن الحديث يدل على خلاف المدعى وهو عدم الوجوب لكونه صلى الله عليه وآله وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين ولو كانت الجماعة فرضا لما تركها وفيه أن تركه لها حال التحريق لا يستلزم [ ص 152 ] الترك مطلقا لإمكان أن يفعلها في جماعة آخرين قبل التحريق أو بعده
الثالث : قال الباجي وغيره : أن الخبر ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة وإنما المراد المبالغة ويرشد إلى ذلك وعيدهم بعقوبة لا يعاقبها إلا الكفار وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك وأجيب بأن ذلك وقع قبل تحريم التعذيب بالنار وكان قبل ذلك جائزا على أنه لو فرض هذا التوعد وقع بعد التحريم لكان مخصصا له فيجوز التحريق في عقوبة تارك الصلاة
الرابع : تركه صلى الله عليه وآله وسلم لتحريقهم بعد التهديد ولو كان واجبا لما عفا عنهم . قال عياض ومن تبعه : ليس في الحديث حجة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم هم ولم يفعل زاد النووي ولو كانت فرض عين لما تركهم وتعقبه ابن دقيق العيد بأنه لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله والترك لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك على أن رواية أحمد التي ذكرها المصنف فيها بيان سبب الترك
الخامس أن التهديد لقوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة وهو ضعيف لأن قوله : ( لا يشهدون الصلاة ) بمعنى لا يحضرون . وفي رواية لأحمد عن أبي هريرة : ( العشاء في الجمع ) أي في الجماعة . وعند ابن ماجه من حديث أسامة : ( لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم )
السادس : أن الحديث ورد في الحث على مخالفة أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم لا لخصوص ترك الجماعة ذكر ذلك ابن المنير
السابع : أن الحديث ورد في حق المنافقين فلا يتم الدليل وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم وبأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان معرضا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وتعقب هذا التعقب ابن دقيق العيد بأنه لا يتم إلا أن ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبا عليه ولا دليل على ذلك وليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم
قال في الفتح : والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في صدر الحديث : ( أثقل الصلاة على المنافقين ) ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لو يعلمون ) الخ لأن هذا الوصف يليق بهم لا بالمؤمنين لكن المراد نفاق المعصية لا نفاق الكفر يدل على ذلك قوله في رواية : ( لا يشهدون العشاء في الجمع ) وقوله في حديث أسامة : ( لا يشهدون الجماعات ) وأصرح من ذلك ما في رواية أبي داود عن أبي هريرة : ( ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة ) فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد [ ص 153 ] رياء وسمعة فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله تعالى من الكفر والاستهزاء
قال الطيبي : خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين ويدل على ذلك قول ابن مسعود الآتي : لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق . وأخرج ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عمير بن أنس قال : حدثني عمومتي من الأنصار قالوا : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما شهدهما منافق . " يعني العشاء والفجر "
الثامن : أن فريضة الجماعة كانت في أول الأمر ثم نسخت . حكى ذلك القاضي عياض قال الحافظ : ويمكن أن يتقوى لثبوت النسخ بالوعيد المذكور في حقهم وهو التحريق بالنار قال : ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ كما سيأتي لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل ومن لازم ذلك الجواز
التاسع : أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات وتعقب بأن الأحاديث مصرحة بالعشاء والفجر كما في حديث الباب وغيره ولا ينافي ذلك ما وقع عند مسلم من حديث ابن مسعود أنها الجمعة لاحتمال تعدد الواقعة كما أشار إليه النووي والمحب الطبري
( وللحديث ) فوائد ليس هذا محل بسطها وسيأتي التصريح بما هو الحق في صلاة الجماعة
_________
( 1 ) وليس لهم داعي ديني ولا تصديق بأجرهما حتى يبعثهم على إتيانهما ويخف عليهم الإتيان بهما ولأنهما في ظلمة الليل وداعي الرياء الذي لأجله يصلون منتف لعدم مشاهدة من يراؤنه من الناس إلا القليل فانتفى الباعث الديني منهما كما انتفى في غيرهما ثم انتفى الباعث الدنيوي الذي في غيرهما ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم ناظرا إلى انتفاء الباعث الديني عندهم ( ولو يعلمون ما فيهما ) الخ والله أعلم
( 2 ) والقسم منه صلى الله عليه و سلم لبيان عظم شأن ما يذكره زجرا عن ترك الجماعة
( 3 ) أي إنها شرط في صحة الصلاة بناء على ما يختاره من أن كل واجب في الصلاة فهو شرط فيها ولم يسلم له هذا لأن الشرطية لا بد لها من دليل

2 - وعن أبي هريرة : ( أن رجلا أعمى قال : يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما دعاه فقال : هل تسمع النداء قال : نعم قال : فأجب )
- رواه مسلم والنسائي

3 - وعن عمرو بن أم مكتوم قال : ( قلت يا رسول الله أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلاؤمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي قال : أتسمع النداء قال : نعم قال : ما أجد لك رخصة )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه

- الحديث الثاني أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني زاد ابن حبان وأحمد في رواية : ( فأتها ولو حبوا )
قوله : ( أن رجلا أعمى ) هو ابن أم مكتوم كما في الحديث الثاني
قوله : ( ليس لي قائد ) في الحديث الآخر : ( ولي قائد لا يلاؤمني ) ظاهره التنافي إذا كان الأعمى المذكور في حديث أبي هريرة هو ابن أم مكتوم ويجمع بينهما إما بتعداد الواقعة أو بأن المراد بالمنفي في الرواية الأولى القائد الملائم وبالمثبت في الثانية القائد الذي ليس بملائم
قوله : ( فرخص له ) إلى قوله : ( قال فأجب ) قيل إن الترخيص [ ص 154 ] في أول الأمر اجتهاد منه صلى الله عليه و سلم والأمر بالإجابة بوحي من الله تعالى . وقيل الترخيص مطلق مقيد بعدم سماع النداء وقيل إن الترخيص باعتبار العذر والأمر للندب فكأنه قال الأفضل لك والأعظم لأجرك أن تجيب وتحضر فأجب
قوله : ( ولي قائد لا يلاؤمني ) قال الخطابي : يروى في الحديث يلاومني بالواو والصواب يلاؤمني أي يوافقني وهو بالهمزة المرسومة بالواو والهمزة فيه أصلية وأما الملاومة بالواو فهي من اللوم وليس هذا موضعه
قوله : ( رخصة ) بوزن غرفة وقد تضم الخاء المعجمة بالإتباع وهي التسهيل في الأمر والتيسير
( والحديثان ) استدل بهما القائلون بأن الجماعة فرض عين وقد تقدم ذكرهم وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه سأل هل له رخصة في أن يصلي في بيته وتحصل له فضيلة الجماعة لسبب عذره فقيل لا
ويؤيد هذا أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين ومن جملة العذر العمى إذا لم يجد قائدا كما في حديث عتبان ابن مالك وهو في الصحيح وسيأتي ويدل على ذلك حديث ابن عباس عند ابن ماجه والدارقطني وابن حبان والحاكم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر )
قال الحافظ : وإسناده على شرط مسلم لكن رجح بعضهم وقفه وأجاب البعض عن حديث الأعمى بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم منه أنه يمشي بلا قائد لحذقه وذكائه كما هو مشاهد في بعض العميان يمشي بلا قائد لا سيما إذا كان يعرف المكان قبل العمى أو بتكرر المشي إليه استغنى عن القائد ولا بد من التأويل لقوله تعالى { ليس على الأعمى حرج } وفي أمر الأعمى بحضور الجماعة مع عدم القائد ومع شكايته من كثرة السباع والهوام في طريقه كما في مسلم غاية الحرج ولا يقال الآية في الجهاد لأنا نقول هو من القصر على السبب وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
( واعلم ) أن الاستدلال بحديثي الأعمى وحديث أبي هريرة الذي في أول الباب على وجوب مطلق الجماعة فيه نظر لأن الدليل أخص من الدعوى إذ غاية ما في ذلك وجوب حضور جماعة النبي صلى الله عليه و سلم في مسجده لسامع النداء ولو كان الواجب مطلق الجماعة لقال في المتخلفين أنهم لا يحضرون جماعته ولا يجمعون في منازلهم ولقال لعتبان بن مالك انظر من يصلي معك ولجاز الترخيص للأعمى بشرط أن يصلي في منزله جماعة

4 - وعن عبد الله بن مسعود قال : ( لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق [ ص 155 ] معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف )
- رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي
هذا طرف من أثر طويل ذكره مسلم مطولا وذكره غيره مختصرا ومطولا
قوله : ( ولقد رأيتنا ) هذا فيه الجمع بين ضميري المتكلم فالتاء له خاصة والنون له مع غيره . قوله : ( وما يتخلف عنها ) يعني الصلوات الخمس المذكورة في أول الأثر . ولفظ مسلم : ( من سره أن يلقى الله غدا سالما فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن )
ولفظ أبي داود : ( حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن )
ثم ذكر مسلم اللفظ الذي ذكره المصنف وذكره غيره نحوه
قوله : ( يؤتى به يهادى بين الرجلين ) أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما
قوله : ( حتى يقام في الصف ) قال النووي : في هذا كله تأكيد أمر الجماعة وتحمل المشقة في حضورها وإذا أمكن المريض ونحوه التوصل إليها استحب له حضورها انتهى
والأثر استدل به على وجوب صلاة الجماعة وفيه أنه قول صحابي ليس فيه إلا حكاية المواظبة على الجماعة وعدم التخلف عنها ولا يستدل بمثل ذلك على الوجوب وفيه حجة لمن خص التوعد بالتحريق بالنار المتقدم في حديث أبي هريرة بالمنافقين

5 - وعن ابن عمر قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )

6 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة )
- متفق عليهما

- وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد بلفظ : ( خمسا وعشرين درجة كلها مثل صلاته ) وعن أبي بن كعب عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله عز و جل )
وعن معاذ أشار إليه الترمذي وذكر لفظه ابن سيد الناس في شرحه فقال : ( فضل صلاة الجمع على صلاة الرجل وحده خمسا وعشرين ) وعن أبي سعيد عند البخاري بلفظ : ( صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ) وعنه أيضا عند أبي داود وسيأتي
وعن أنس عند الدارقطني بنحو حديث أبي هريرة المذكور في الباب
وعن عائشة عند أبي العباس السراج بلفظ : ( صلاة الرجل في الجمع [ ص 156 ] تفضل على صلاته وحده خمسا وعشرين درجة )
وعن صهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت عند الطبراني بطرق كلها ضعيفة واتفقوا على خمس وعشرين
قال الترمذي : وعامة من روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما قالوا خمسة وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال بسبع وعشرين
قال الحافظ في الفتح : لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد الله العمري عن نافع قال خمسا وعشرين لكن العمري ضعيف وكذلك وقع عند أبي عوانة في مستخرجه ولكنها شاذة مخالفة لرواية الحفاظ وروي بلفظ : ( سبع وعشرين ) عن أبي هريرة عند أحمد وفي إسناده شريك القاضي وفي حفظه ضعف . وقد اختلف هل الراجح رواية السبع والعشرين أو الخمس والعشرين فقيل رواية الخمس لكثرة رواتها وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ وقد جمع بينهما بوجوه : منها أن ذكر القليل لا ينفي الكثير وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد . وقيل إنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بالخمس ثم أخبره الله بزيادة الفضل فأخبر بالسبع وتعقب بأنه محتاج إلى التاريخ وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه . وقيل الفرق باعتبار قرب المسجد وبعده . وقيل الفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم وأخشع . وقيل الفرق بإيقاعها في المسجد أو غيره . وقيل الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره . وقيل الفرق بإدراكها كلها أو بعضها . وقيل الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم . وقيل السبع مختصة بالفجر والعشاء . وقيل بالفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك وقيل السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية ورجحه الحافظ في الفتح . والراجح عندي أولها لدخول مفهوم الخمس تحت مفهوم السبع
( واعلم ) أن التخصيص بهذا العدد من أسرار النبوة التي تقصر العقول عن إدراكها وقد تعرض جماعة للكلام على وجه الحكمة وذكروا مناسبات وقد طول الكلام في ذلك صاحب الفتح فمن أحب الوقوف على ذلك رجع إليه
قوله : ( درجة ) هو مميز العدد المذكور وفي الروايات كلها التعبير بقوله درجة أو حذف المميز إلا طرق أبي هريرة ففي بعضها ضعفا وفي بعضها جزءا وفي بعضها درجة وفي بعضها صلاة ووجد هذا الأخير في بعض طرق أنس والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة ويحتمل أن يكون ذلك من التفنن في العبارة والمراد أنه يحصل له من صلاة الجماعة مثل أجر صلاة المنفرد سبعا وعشرين مرة
قوله : ( على صلاته في بيته وصلاته في سوقه ) مقتضاه أن الصلاة [ ص 157 ] في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت والسوق جماعة وفرادى ولكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا
قال ابن دقيق العيد : وهو الذي يظهر لي . وقال الحافظ : وهو الراجح في نظري قال : ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسوية بين صلاة البيت والسوق إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية أن لا تكون إحداهما أفضل من الأخرى وكذا لا يلزم منه التسوية بين صلاة البيت أو السوق لا فضل فيها على الصلاة منفردا بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد والصلاة في البيت مطلقا أولى منها في السوق لما ورد من كون الأسواق موضع الشياطين والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد انتهى
وقد استدل بالحديثين وما ذكرنا معهما القائلون بأن صلاة الجماعة غير واجبة وقد تقدم ذكرهم لأن صيغة أفضل كما في بعض ألفاظ حديث ابن عمر تدل على الاشتراك في أصل الفضل كما تقدم وكذلك قوله في حديث أبي بن كعب ( أزكى ) والمشترك ههنا لا بد أن يكون هو الإجزاء والصحة وإلا فلا صلاة فضلا عن الفضل والزكاة
( ومن أدلتهم ) على عدم الوجوب حديث : ( إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ) وقد تقدم في باب الرخصة في إعادة الجماعة
( ومن أدلتهم ) ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام )
وفي رواية أبي كريب عند مسلم أيضا : ( حتى يصليها مع الإمام في جماعة ) ومن أدلتهم أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر جماعة من الوافدين عليه بالصلاة ولم يأمرهم بفعلها في جماعة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
وهذه الأدلة توجب تأويل الأدلة القاضية بالوجوب بما أسلفنا ذكره وكذلك تأويل حديث ابن عباس المتقدم بلفظ : ( من سمع النداء فلم يأت الصلاة فلا صلاة له إلا من عذر ) بأن المراد لا صلاة له كاملة على أن في إسناده يحيى بن أبي حية الكلبي المعروف بأبي جناب بالجيم المكسورة وهو كما قال الحافظ ضعيف ومدلس وقد عنعن وقد أخرجه بقي بن مخلد وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم من طريق أخرى بإسناد قال الحافظ صحيح بلفظ : ( من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر ) ولكن قال الحاكم وقفه أكثر أصحاب شعبة ثم أخرج له شاهدا عن أبي موسى الأشعري بلفظ : ( من سمع النداء فارغا صحيحا فلم يجب فلا صلاة له ) وقد [ ص 158 ] رواه البزار موقوفا قال البيهقي : الموقوف أصح ورواه العقيلي في الضعفاء من حديث جابر . ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة وضعفه . وقد تقرر أن الجمع بين الأحاديث ما أمكن هو الواجب وتبقية الأحاديث المشعرة بالوجوب على ظاهرها من دون تأويل والتمسك بما يقضي به الظاهر فيه إهدار للأدلة القاضية بعدم الوجوب وهو لا يجوز فأعدل الأقوال وأقربها إلى الصواب أن الجماعة من السنن المؤكدة التي لا يخل بملازمتها ما أمكن إلا محروم مشئوم وأما أنها فرض عين أو كفاية أو شرط لصحة الصلاة فلا
ولهذا قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق حديث أبي هريرة ما لفظه : وهذا الحديث يرد على من أبطل صلاة المنفرد لغير عذر وجعل الجماعة شرطا لأن المفاضلة بينهما تستدعي صحتهما وحمل النص على المنفرد لعذر لا يصح لأن الأحاديث قد دلت على أن أجره لا ينقص عما يفعله لولا العذر فروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا ) رواه أحمد والبخاري وأبو داود
وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من توضأ فأحسن الوضوء ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله عز و جل مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي انتهى
استدل المصنف رحمه الله بهذين الحديثين على ما ذكره من عدم صحة حمل النص على المنفرد لعذر لأن أجره كأجر المجمع
والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده محمد بن طحلاء قال أبو حاتم : ليس به بأس وليس له عند أبي داود إلا هذا الحديث وأخرج أبو داود عن سعيد بن المسيب قال : ( حضر رجلا من الأنصار الموت فقال : إني محدثكم حديثا ما أحدثكموه إلا احتسابا سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ) وفيه : ( فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له وإن أتى المسجد وقد صلوا بعضا وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم كان كذلك )

7 - وعن أبي سعيد قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصلاة في جماعة تعدل خمسا وعشرين صلاة فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة )
- رواه أبو داود

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه قال أبو داود : قال عبد الواحد بن زياد : في هذا الحديث [ ص 159 ] صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة وساق الحديث
قال المنذري : في إسناده هلال بن ميمون الجهني الرملي كنيته أبو المغيرة قال يحيى بن معين : ثقة وقال أبو حاتم الرازي : ليس بقوي يكتب حديثه وقد وثقه أيضا غير ابن معين كما قال ابن رسلان
قوله : ( فإذا صلاها في فلاة ) هو أعم من أن يصليها منفردا أو في جماعة قال ابن رسلان : لكن حمله على الجماعة أولى وهو الذي يظهر من السياق انتهى
والأولى حمله على الانفراد لأن مرجع الضمير في حديث الباب من قوله : ( صلاها ) إلى مطلق الصلاة لا إلى المقيد بكونها في جماعة
ويدل على ذلك الرواية التي ذكرها أبو داود عن عبد الواحد بن زياد لأنه جعل فيها صلاة الرجل في الفلاة مقابلة لصلاته في الجماعة والمراد بالفلاة الأرض المتسعة التي لا ماء فيها والجمع فلى مثل حصاة وحصى
( والحديث ) يدل على أفضلية الصلاة في الفلاة مع تمام الركوع والسجود وأنها تعدل خمسين صلاة في جماعة كما في رواية عبد الواحد وعلى هذا الصلاة في الفلاة تعدل ألف صلاة ومائتين وخمسين صلاة في غير جماعة وهذا إن كانت صلاة الجماعة تتضاعف إلى خمسة وعشرين ضعفا فقط فإن كانت تتضاعف إلى سبعة وعشرين كما تقدم فالصلاة في الفلاة تعدل ألفا وثلاثمائة وخمسين صلاة وهذا على فرض أن المصلي في الفلاة صلى منفردا فإن صلى في جماعة تضاعف العدد المذكور بحسب تضاعف صلاة الجماعة على الانفراد وفضل الله واسع
( والحكمة ) في اختصاص صلاة الفلاة بهذه المزية أن المصلي فيها يكون في الغالب مسافرا والسفر مظنة المشقة فإذا صلاها المسافر مع حصول المشقة تضاعفت إلى ذلك المقدار . وأيضا الفلاة في الغالب من مواطن الخوف والفزع لما جبلت عليه الطباع البشرية من التوحش عند مفارقة النوع الإنساني فالإقبال مع ذلك على الصلاة أمر لا يناله إلا من بلغ في التقوى إلى حد يقصر عنه كثير من أهل الإقبال والقبول
وأيضا في مثل هذا الموطن تنقطع الوساوس التي تقود إلى الرياء فإيقاع الصلاة فيها شأن أهل الإخلاص . ومن ههنا كانت صلاة الرجل في البيت المظلم الذي لا يراه فيه أحد إلا الله عز و جل أفضل الصلوات على الإطلاق وليس ذلك إلا لانقطاع حبائل الرياء الشيطانية التي يقتنص بها كثيرا من المتعبدين فكيف لا تكون صلاة الفلاة مع انقطاع تلك الحبائل وانضمام ما سلف إلى ذلك بهذه المنزلة
( والحديث ) أيضا من حجج القائلين بأن الجماعة غير واجبة وقد قدمنا الكلام على ذلك [ ص 160 ]

باب حضور النساء المساجد وفضل صلاتهن في بيوتهن

1 - عن ابن عمر : ( عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه . وفي لفظ : ( لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد وبيوتهن خير لهن ) . رواه أحمد وأبو داود

2 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات )
- رواه أحمد وأبو داود

- حديث ابن عمر هو بنحو اللفظ الآخر في الصحيحين أيضا بدون قوله : ( وبيوتهن خير لهن ) وهذه الزيادة أخرجها ابن خزيمة في صحيحه وللطبراني بإسناد حسن نحوها ولها شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا ابن خزيمة من حديثه وابن حبان من حديث زيد بن خالد . وأخرج مسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود : ( إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا ) وأول حديث أبي هريرة متفق عليه من حديث ابن عمر كما عرفت
قوله : ( إذا استأذنكم نساؤكم بالليل ) لم يذكر أكثر الرواة بالليل كذا أخرجه مسلم وغيره . وخص الليل بالذكر لما فيه من الستر بالظلمة . قال النووي : واستدل به على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن وتعقبه ابن دقيق العيد بأن ذلك إن كان أخذا بالمفهوم فهو مفهوم لقب ضعيف لكن يتقوى بأن يقال إن منع الرجال نساءهم أمر متقرر وإنما علق الحكم بالمسجد لبيان محل الجواز فبقي ما عداه على المنع وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب لأنه لو كان واجبا لا يبقى معنى للاستئذان لأن ذلك إنما هو متحقق إذا كان المستأذن مجيزا في الإجابة والرد أو يقال إذا كان الإذن لهن فيما ليس بواجب حقا على الأزواج فالأذن لهن فيما هو واجب من باب الأولى
قوله : ( لا تمنعوا النساء ) مقتضى هذا النهي أن منع النساء من الخروج إلى المساجد إما مطلقا في الأزمان كما في هذه الرواية وكما في حديث أبي هريرة أو مقيدا بالليل كما تقدم أو مقيدا بالغلس كما في بعض الأحاديث يكون محرما على الأزواج . وقال النووي : إن النهي محمول على التنزيه وسيأتي الخلاف في ذلك
قوله : ( وبيوتهن خير [ ص 161 ] لهن ) أي صلاتهن في بيوتهن خير لهن من صلاتهن في المساجد لو علمن ذلك لكنهن لم يعلمن فيسألن الخروج إلى الجماعة يعتقدن أن أجرهن في المساجد أكثر . ووجه كون صلاتهن في البيوت أفضل الأمن من الفتنة ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة ومن ثم قالت عائشة ما قالت
قوله : ( إماء الله ) بكسر الهمزة والمد جمع أمة
قوله : ( وليخرجن تفلات ) بفتح التاء المثناة وكسر الفاء أي غير متطيبات يقال امرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح كذا قال ابن عبد البر وغيره وإنما أمرن بذلك ونهين عن التطيب كما في رواية مسلم المتقدمة عن زينب امرأة ابن مسعود لئلا يحركن الرجال بطيبهن . ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات لداعي الشهوة كحسن الملبس والتحلي الذي يظهر أثره والزينة الفاخرة . وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر لأنها إذا عرت مما ذكر وكانت متسترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان ذلك بالليل

3 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة )
- رواه مسلم وأبو داود والنسائي

4 - وعن أم سلمة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : خير مساجد النساء قعر بيوتهن )
- رواه أحمد

5 - وعن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت : ( لو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى من النساء ما رأينا لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها قلت لعمرة ومنعت بنو إسرائيل نساءها قالت نعم )
- متفق عليه

- حديث أم سلمة أخرجه أبو يعلى أيضا والطبراني في الكبير وفي إسناده ابن لهيعة وقد تقدم ما يشهد له
وأخرج أحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : ( يا رسول الله إني أحب الصلاة معك فقال صلى الله عليه و سلم : قد علمت وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجد الجماعة ) قال الحافظ : وإسناده حسن
وأخرج أبو داود من حديث ابن مسعود قال : ( قال صلى الله عليه و سلم : صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها )
قوله : ( أصابت بخورا ) فيه دليل على أن الخروج من النساء [ ص 162 ] إلى المساجد إنما يجوز إذا لم يصحب ذلك ما فيه فتنة كما تقدم وما هو في تحريك الشهوة فوق البخور داخل بالأولى
قوله : ( فلا تشهدن ) في بعض النسخ هكذا بزيادة نون التوكيد وفي بعضها بحذفها وظاهر النهي التحريم
قوله : ( رأى من النساء ما رأينا لمنعهن ) يعني من حسن الملابس والطيب والزينة والتبرج وإنما كان النساء يخرجن في المروط والأكسية والشملات الغلاظ . وقد تمسك بعضهم في منع النساء من المساجد مطلقا بقول عائشة وفيه نظر إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنها علقته على شرط لم يوجد في زمانه صلى الله عليه و سلم بل قالت ذلك بناء على ظن ظنته فقالت لو رأى لمنع فيقال عليه لم ير ولم يمنع وظنها ليس بحجة
قوله : ( كما منعت بنو إسرائيل نساءها ) هذا وإن كان موقوفا فحكمه الرفع لأنه لا يقال بالرأي وقد روى نحوه عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح
قوله : ( قالت نعم ) يحتمل أنها تلقته عن عائشة ويحتمل أن يكون عن غيرها وقد ثبت ذلك من حديث عروة عن عائشة موقوفا أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ولفظه : ( قالت : كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلا من خشب يتشرفن للرجال في المساجد فحرم الله تعالى عليهن المساجد وسلطت عليهن الحيضة ) وقد حصل من الأحاديث المذكورة في هذا الباب أن الأذن للنساء من الرجال إلى المساجد إذا لم يكن في خروجهن ما يدعوا إلى الفتنة من طيب أو حلي أو أي زينة واجب على الرجال وأنه لا يجب مع ما يدعو إلى ذلك ولا يجوز ويحرم عليهن الخروج لقوله ( فلا تشهدن ) وصلاتهن على كل حال في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المساجد

باب فضل المسجد الأبعد والكثير الجمع

1 - عن أبي موسى قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أعظم الناس في الصلاة أجرا أبعدهم إليها ممشى )
- رواه مسلم

2 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا )
- رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه

- الحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده عبد الرحمن بن مهران مولى بني هاشم . قال في التقريب : مجهول . وقال في الخلاصة : وثقه ابن حبان انتهى . وبقية [ ص 163 ] رجاله رجال الصحيح
قوله : ( إن أعظم الناس في الصلاة أجرا أبعدهم إليها ممشى ) فيه التصريح بأن أجر من كان مسكنه بعيدا من المسجد أعظم ممن كان قريبا منه وكذلك قوله ( الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا ) وذلك لما ثبت عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسا وعشرين درجة وذلك بأن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد ) الحديث
ولما أخرجه أبو داود عن سعيد بن المسيب عن رجل من الصحابة مرفوعا وفيه : ( إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له عز و جل حسنة ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة فليقرب أحدكم أو ليبعد ) الحديث
ولما أخرجه مسلم عن جابر قال : ( خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم : إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال : يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم )

3 - وعن أبي بن كعب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي

- الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن حبان وصححه ابن السكن والعقيلي والحاكم وأشار ابن المديني إلى صحته وفي إسناده عبد الله بن أبي نصير قيل لا يعرف لأنه ما روى عنه غير أبي إسحاق السبيعي لكن أخرجه الحاكم من رواية العيزار بن حريث عنه فارتفعت جهالة عينه وأورد له الحاكم شاهدا من حديث قياس بن أشيم وفي إسناده نظر . وأخرجه البزار والطبراني . وعبد الله المذكور وثقه ابن حبان
قوله : ( أزكى من صلاته وحده ) أي أكثر أجرا وأبلغ في تطهير المصلي وتكفير ذنوبه لما في الاجتماع من نزول الرحمة والسكينة دون الانفراد
قوله : ( وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى ) فيه أن ما كثر جمعه فهو أفضل مما قل جمعه وأن الجماعات تتفاوت في الفضل وأن كونها تعدل سبعا وعشرين صلاة يحصل لمطلق الجماعة والرجل مع الرجل [ ص 164 ] جماعة كما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنه قال : الرجل مع الرجل جماعة لهما التضعيف خمسا وعشرين انتهى . وقد أخرج ابن ماجه عن أبي موسى والبغوي في معجم الصحابة عن الحكم بن عمير الثمالي : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : اثنان فما فوقهما جماعة ) وأحاديث التضاعف إلى هذا المقدار التي تقدم ذكرها لا ينافي الزيادة في الفضل لما كان أكثر لا سيما مع وجود النص المصرح بذلك كما في حديث الباب

باب السعي إلى المسجد بالسكينة

1 - عن أبي قتادة قال : ( بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال : ما شأنكم قالوا : استعجلنا إلى الصلاة قال : فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )
- متفق عليه

2 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )
- رواه الجماعة إلا الترمذي . ولفظ النسائي وأحمد في رواية : ( فاقضوا ) وفي رواية لمسلم : ( إذا ثوب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار فصل ما أدركت واقض ما سبقك )

- قوله ( جلبة ) بجيم ولام وموحدة مفتوحات أي أصواتهم حال حركتهم
قوله : ( فعليكم السكينة ) ضبطه القرطبي بنصب السكينة على الإغراء وضبطه النووي بالرفع على أنها جملة في موضع الحال وفي رواية للبخاري : ( وعليكم بالسكينة ) وقد استشكل بعضهم دخول الباء لأنه متعد بنفسه كقوله تعالى { عليكم أنفسكم } قال الحافظ : وفيه نظر لثبوت زيادة الباء في الأحاديث الصحيحة كحديث ( عليكم برخصة الله ) ( فعليه بالصوم ) ( وعليك بالمرأة ) ( 1 )
قوله : ( فما أدركتم ) قال الكرماني : الفاء جواب شرط محذوف [ ص 165 ] أي إذا ثبت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا
قال في الفتح : أو التقدير إذا فعلتم فما أدركتم فصلوا أي فعلتم الذي آمركم به من السكينة وترك الإسراع
قوله : ( وما فاتكم فأتموا ) أي أكملوا وقد اختلف في هذه اللفظة في حديث أبي قتادة فرواية الجمهور ( فأتموا ) ورواية معاوية بن هشام عن شيبان ( فاقضوا ) كذا ذكره ابن أبي شيبة عنه . ومثله روى أبو داود وكذلك وقع الخلاف في حديث أبي هريرة كما ذكر المصنف
قال الحافظ : والحاصل أن أكثر الروايات ورد بلفظ ( فأتموا ) وأقلها بلفظ ( فاقضوا ) وإنما يظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين التمام والقضاء مغايرة لكن إذا كان مخرج الحديث واحدا واختلف في لفظه منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى وهذا كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائتة غالبا لكنه يطلق على الأداء أيضا ويرد بمعنى الفراغ كقوله تعالى { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا } ويرد لمعان آخر فيحمل قوله هنا فاقضوا على معنى الأداء والفراغ فلا يغاير قوله ( فأتموا ) فلا حجة لمن تمسك برواية فاقضوا على أن ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته حتى يستحب له الجهر في الركعتين الآخرتين وقراءة السورة وترك القنوت بل هو أولها وإن كان آخر صلاة إمامه لآن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه
وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرا له لما احتاج إلى إعادة التشهد وقول ابن بطال أنه ما تشهد إلا لأجل السلام لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد ليس بالجواب الناهض على دفع الإيراد المذكور
واستدل ابن المنذر لذلك أيضا أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح لا تكون إلا في الركعة الأولى وقد عمل بمقتضى اللفظين الجمهور فإنهم قالوا إن ما أدرك مع الإمام هو أول صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القرآن في الرباعية لكن لم يستحبوا له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين وكان الحجة فيه قول علي عليه السلام : " ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك واقض ما سبقك به من القرآن " أخرجه البيهقي . وعن إسحاق والمزني أنه لا يقرأ إلا أم القرآن فقط قال الحافظ : وهو القياس
قوله : ( إذا سمعتم الإقامة ) هو أخص من قوله في حديث أبي قتادة ( إذا أتيتم الصلاة ) لكن الظاهر أنه في مفهوم الموافقة وأيضا سامع الإقامة لا يحتاج إلى الإسراع لأنه يتحقق إدراك الصلاة كلها فينتهي عن الإسراع من باب الأولى . وقد لحظ بعضهم [ ص 166 ] معنى غير هذا فقال : الحكمة في التقييد بالإقامة أن المسرع إذا أقيمت الصلاة يصل إليها فيقرأ في تلك الحال فلا يحصل تمام الخشوع في الترتيل وغيره بخلاف من جاء قبل ذلك فإن الصلاة قد لا تقام حتى يستريح وفيه أنه لا يكره الإسراع لمن جاء قبل الإقامة وهو مخالف لصريح قوله ( إذا أتيتم الصلاة ) لأنه يتناول ما قبل الإقامة وإنما قيد الحديث الثاني بالإقامة لأن ذلك هو الحامل في الغالب على الإسراع
قوله : ( والوقار ) قال عياض والقرطبي : هو بمعنى السكينة وذكر على سبيل التأكيد . وقال النووي : الظاهر أن بينهما فرقا وإن السكينة التأني في الحركات واجتناب العبث والوقار في الهيئة بغض البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات
قوله : ( ولا تسرعوا ) فيه زيادة تأكيد فيستفاد منه الرد على من أول قوله في حديث أبي قتادة فلا تفعلوا بالاستعجال المفضي إلى عدم الوقار وأما الإسراع الذي لا ينافي الوقار لمن خاف فوت التكبيرة فلا كذا روي عن إسحاق بن راهويه
( والحديثان ) يدلان على مشروعية المشي إلى الصلاة على سكينة ووقار وكراهية الإسراع والسعي . والحكمة في ذلك ما نبه عليه صلى الله عليه وآله وسلم كما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ : ( فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة ) أي أنه في حكم المصلي فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه
وقد استدل بحديثي الباب أيضا على أن من أدرك الإمام راكعا لم تحسب له تلك الركعة للأمر بإتمام ما فاته لأنه فاته القيام والقراءة فيه
قال في الفتح : وهو قول أبي هريرة وجماعة بل حكاه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام عن كل من ذهب إلى وجوب القراءة خلف الإمام واختاره ابن خزيمة والضبعي وغيرهما من الشافعية وقواه الشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين وقد قدمنا البحث عن هذا في باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته إذا سمع إمامه
قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديثين ما لفظه : وفيه حجة لمن قال إن ما أدركه المسبوق آخر صلاته واحتج من قال بخلافه بلفظة الإتمام انتهى . وقد عرفت الجمع بين الروايتين
_________
( 1 ) في اختصاره كلام الحافظ إيهام أن ما ذكره الحافظ هو حديث واحد وليس كذلك بل ما ذكره الحافظ نص على أنه ثلاثة أحاديث وهاك نص عبارته : قال وفيه نظر لثبوت زيادة الباء في الأحاديث الصحيحة كحديث ( عليكم برخصة الله ) وحديث ( فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) وحديث ( فعليك بالمرأة ) الخ ما ذكره . والله أعلم

باب ما يؤمر به الإمام من التخفيف

1 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا صلى أحدكم [ ص 167 ] للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه لكنه له من حديث عثمان ابن أبي العاص

2 - وعن أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤخر الصلاة ويكملها ) . وفي رواية : ( ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه و سلم )
- متفق عليهما

3 - وعن أنس : ( عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه )
- رواه الجماعة إلا أبا داود والنسائي لكنه لهما من حديث أبي قتادة

- قوله : ( فليخفف ) قال ابن دقيق العيد : التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية فقد يكون الشيء خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم طويلا بالنسبة إلى عادة آخرين قال : وقول الفقهاء لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات لا يخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يزيد على ذلك لأن رغبة الصحابة في الخير لا تقتضي أن يكون ذلك تطويلا
قوله : ( فإن فيهم ) في رواية في البخاري للكشميهني ( فإن منهم ) وفي رواية ( فإن خلفه ) وهو تعليل للأمر بالتخفيف ومقتضاه أنه متى لم يكن فيهم من يتصف بإحدى الصفات المذكورات لم يضر التطويل ويرد عليه أنه يمكن أن يجيء من يتصف بأحدها بعد الدخول في الصلاة . وقال اليعمري : الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة فينبغي للأئمة التخفيف مطلقا قال : وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر وهي مع ذلك تشرع ولو لم تشق عملا بالغالب لأنه لا يدري ما يطرأ عليه وهنا كذلك
قوله : ( فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير ) المراد بالضعيف هنا ضعيف الخلقة وبالسقيم من به مرض . وفي رواية للبخاري : ( فإن منهم المريض والضعيف ) والمراد بالضعيف في هذه الرواية ضعيف الخلقة بلا شك
وفي رواية للبخاري أيضا عن ابن مسعود : ( فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ) وكذلك في رواية أخرى له من حديثه والمراد بالضعيف في هاتين الروايتين المريض ويصح أن يراد من فيه ضعف وهو أعم من الحاصل بالمرض أو بنقصان الخلقة . وزاد مسلم من وجه آخر في حديث أبي هريرة والصغير وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص والحامل والمرضع . وله من حديث عدي ابن حاتم والعابر السبيل
قوله : ( فليطول ما شاء ) ولمسلم : [ ص 168 ] ( فليصل كيف شاء ) أي مخففا أو مطولا . واستدل بذلك على جواز إطالة القراءة ولو خرج الوقت وهو المصحح عند بعض الشافعية
قال الحافظ : وفيه نظر لأنه يعارضه عموم قوله في حديث أبي قتادة : ( إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ) أخرجه مسلم . وإذا تعارضت مصلحة المبالغة في الكمال بالتطويل ومفسدة إيقاع الصلاة في غير وقتها كان مراعاة تلك المفسدة أولى . واستدل بعمومه أيضا على جواز تطويل الاعتدال من الركوع وبين السجدتين
قوله : ( لكنه له من حديث عثمان ابن أبي العاص ) في إسناده محمد بن عبد الله القاضي ضعفه الجمهور ووثقه ابن معين وابن سعد وقد أخرج حديث عثمان المذكور مسلم في صحيحه
قوله : ( يؤخر الصلاة ويكملها ) فيه أن مشروعية التخفيف لا تستلزم أن تبلغ إلى حد يكون بسببه عدم تمام أركان الصلاة وقراءتها وأن من سلك طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإيجاز والإتمام لا يشتكي منه تطويل . وروى ابن أبي شيبة أن الصحابة كانوا يتمون ويوجزون ويبادرون الوسوسة فبين العلة في تخفيفهم
قوله : ( إني أدخل في الصلاة ) في رواية للبخاري : ( إني لأقوم في الصلاة )
قوله : ( وأنا أريد إطالتها ) فيه أن من قصد في الصلاة الإتيان بشيء مستحب لا يجب عليه الوفاء به خلافا لأشهب
قوله : ( أسمع بكاء الصبي ) فيه جواز إدخال الصبيان المساجد وإن كان الأولى تنزيه المساجد عمن لا يؤمن حدثه فيها لحديث ( جنبوا مساجدكم ) وقد تقدم
قوله : ( فأتجوز ) فيه دليل على مشروعية الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع ومراعاة مصالحهم ودفع ما يشق عليهم وإن كانت المشقة يسيرة وإيثار تخفيف الصلاة للأمر يحدث
قوله : ( لكنه لهما من حديث أبي قتادة ) هو في البخاري ولفظه : ( إني لأدخل في الصلاة فأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه )
( وأحاديث ) الباب تدل على مشروعية التخفيف للأئمة وترك التطويل للعلل المذكورة من الضعف والسقم والكبر والحاجة واشتغال خاطر أم الصبي ببكائه ويلحق بها ما كان فيه معناها
قال أبو عمر ابن عبد البر : التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال . وأما الحذف والنقصان فلا لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن نقر الغراب ورأى رجلا يصلي فلم يتم ركوعه فقال له : ارجع فصل فإنك لم تصل وقال : لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده ثم قال : لا أعلم خلافا بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكل من أم قوما على ما شرطنا [ ص 169 ] من الإتمام
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا تبغضوا الله إلى عباده يطول أحدكم في صلاته حتى يشق على من خلفه انتهى
وقد ورد في مشروعية التخفيف أحاديث غير ما ذكره المصنف منها عن عدي بن حاتم عند ابن أبي شيبة . وعن سمرة عند الطبراني . وعن مالك بن عبد الله الخزاعي عند الطبراني أيضا . وعن أبي واقد الليثي عند الطبراني أيضا . وعن ابن مسعود عند البخاري ومسلم . وعن جابر بن عبد الله عند البخاري ومسلم أيضا . وعن ابن عباس عند ابن أبي شيبة . وعن حزم بن أبي بن كعب الأنصاري عند أبي داود . وعن رجل من بني سلمة يقال له سليم من الصحابة عند أحمد . وعن بريدة عند أحمد أيضا . وعن ابن عمر عند النسائي

باب إطالة الإمام الركعة الأولى وانتظار من أحس به داخلا ليدرك الركعة

- فيه عن أبي قتادة وقد سبق

1 - وعن أبي سعيد : ( لقد كانت الصلاة تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الركعة الأولى مما يطولها )
- رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي

2 - وعن محمد بن جحادة عن رجل عن عبد الله بن أبي أوفى : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم )
- رواه أحمد وأبو داود

- حديث أبي قتادة تقدم مع شرحه في باب السورة بعد الفاتحة في الأوليين من أبواب صفة الصلاة وفيه بعد ذكر أنه كان يطول في الأولى قال : فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى
وحديث عبد الله بن أبي أوفى أخرجه أيضا البزار وسياقه أتم وفي إسناده رجل مجهول لا يعرف وسماه بعضهم طرفة الحضرمي وهو مجهول كما قال الأزدي وفيه وفي حديث أبي قتادة وأبي سعيد مشروعية التطويل في الركعة الأولى من صلاة الظهر وغيرها وقد قدمنا الكلام على ذلك في أبواب صفة الصلاة
( وقد استدل ) القائلون بمشروعية تطويل الركعة الأولى لانتظار الداخل ليدرك فضيلة الجماعة بتلك الرواية التي ذكرناها من حديث أبي قتادة أعني قوله فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى
واستدلوا أيضا بحديث ابن أبي أوفى [ ص 170 ] المذكور في الباب وقد حكى استحباب ذلك ابن المنذر عن الشعبي والنخعي وأبي مجلز وابن أبي ليلى من التابعين . وقد نقل الاستحباب أبو الطيب الطبري عن الشافعي في الجديد وفي التجريد للمحاملي نسبة ذلك إلى القديم وإن الجديد كراهته
وذهب أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وأبو يوسف وداود والهادوية إلى كراهة الانتظار واستحسنه ابن المنذر وشدد في ذلك بعضهم وقال : أخاف أن يكون شركا وهو قول محمد بن الحسن وبالغ بعض أصحاب الشافعي فقال : إنه مبطل للصلاة
وقال أحمد وإسحاق فيما حكاه عنهما ابن بطال إن كان الانتظار لا يضر بالمأمومين جاز وإن كان مما يضر ففيه الخلاف
وقيل إن كان الداخل ممن يلازم الجماعة انتظره الإمام وإلا فلا روى ذلك النووي في شرح المهذب عن جماعة من السلف
( وقد استدل ) الخطابي في المعالم على الانتظار المذكور بحديث أنس المتقدم في الباب الأول في التخفيف عند سماع بكاء الصبي فقال : فيه دليل على أن الإمام وهو راكع إذا أحس بداخل يريد الصلاة معه كان له أن ينتظره راكعا ليدرك فضيلة الركعة في الجماعة لأنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة إنسان في بعض أمور الدنيا كان له أن يزيد فيها لعبادة الله تعالى بل هو أحق بذلك وأولى وكذلك قال ابن بطال : وتعقبهما ابن المنير والقرطبي بأن التخفيف ينافي التطويل فكيف يقاس عليه
قال ابن المنير : وفيه مغايرة للمطلوب لأن فيه إدخال مشقة على جماعة لأجل واحد وهذا لا يرد على أحمد وإسحاق لتقييدهما الجواز بعدم الضر للمؤتمين كما تقدم وما قالاه هو أعدل المذاهب في المسألة وبمثله قال أبو ثور

باب وجوب متابعة الإمام والنهي عن مسابقته

1 - عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون )
- متفق عليه . وفي لفظ : ( إنما الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا ولا تكبروا حتى يكبر وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد ) . رواه أحمد وأبو داود [ ص 171 ]

- في الباب غير ما ذكر المصنف عن عائشة عند الشيخين وأبي داود وابن ماجه . وعن جابر عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه . وعن ابن عمر عند أحمد والطبراني . وعن معاوية عند الطبراني في الكبير . قال العراقي : ورجاله رجال الصحيح . وعن أسيد بن حضير عند أبي داود وعبد الرزاق . وعن قيس بن فهد عند عبد الرزاق أيضا . وعن أبي أمامة عند ابن حبان في صحيحه
قوله : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ) لفظ إنما من صيغ الحصر عند جماعة من أئمة الأصول والبيان . ومعنى الحصر فيها إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه واختار الآمدي أنها لا تفيد الحصر وإنما تفيد تأكيد الإثبات فقط ونقله أبو حيان عن البصريين . وفي كلام الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ما يقتضي نقل الاتفاق على إفادتها للحصر ( 1 ) والمراد بالحصر هنا حصر الفائدة في الإقتداء بالإمام والإتباع له ومن شأن التابع أن لا يتقدم على المتبوع ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال التي فصلها الحديث ولا في غيرها قياسا عليها ولكن ذلك مخصوص بالأفعال الظاهرة لا الباطنة وهي ما لا يطلع عليه المأموم كالنية فلا يضر الاختلاف فيها فلا يصح الاستدلال به على من جوز ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر ومن يصلي الأداء بمن يصلي القضاء ومن يصلي الفرض بمن يصلي النفل وعكس ذلك وعامة الفقهاء على ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام وترك مخالفته له في نية أو غيرها لأن ذلك من الاختلاف وقد نهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : ( فلا تختلفوا ) . وأجيب بأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد بين وجوه الاختلاف فقال : ( فإذا كبر فكبروا ) الخ ويتعقب بإلحاق غيرها بها قياسا كما تقدم
وقد استدل بالحديث أيضا القائلون بأن صحة صلاة المأموم لا تتوقف على صحة صلاة الإمام إذا بان جنبا أو محدثا أو عليه نجاسة خفية وبذلك صرح أصحاب الشافعي بناء على اختصاص النهي عن الاختلاف بالأمور المذكورة في الحديث أو بالأمور التي يمكن المؤتم الإطلاع عليها
قوله : ( فإذا كبر كبروا ) فيه أن المأموم لا يشرع في التكبير إلا بعد فراغ الإمام منه وكذلك الركوع والرفع منه والسجود
ويدل على ذلك أيضا قوله في الرواية الثانية ولا تكبروا ولا تركعوا ولا تسجدوا وكذلك سائر الروايات المشتملة [ ص 172 ] على النهي وسيأتي
وقد اختلف في ذلك هل هو على سبيل الوجوب أو الندب والظاهر الوجوب من غير فرق بين تكبيرة الإحرام وغيرها
قوله : ( وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد ) فيه دليل لمن قال أنه يقتصر المؤتم في ذكر الرفع من الركوع على قوله ربنا لك الحمد وقد قدمنا بسط ذلك في باب ما يقول في رفعه من الركوع من أبواب صفة الصلاة وقدمنا أيضا الكلام على اختلاف الروايات في زيادة الواو وحذفها
قوله : ( وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا ) فيه دليل لمن قال أن المأموم يتابع الإمام في الصلاة قاعدا وإن لم يكن المأموم معذورا وإليه ذهب أحمد وإسحاق والأوزاعي وأبو بكر ابن المنذر وداود وبقية أهل الظاهر وسيأتي الكلام على ذلك في باب إقتداء القادر على القيام بالجالس
قوله : ( أجمعون ) كذا في أكثر الروايات بالرفع على التأكيد لضمير الفاعل في قوله ( صلوا ) وفي بعضها بالنصب على الحال
_________
( 1 ) ونص عبارته في شرح العمدة هكذا : إنما للحصر على ما تقرر في الأصول كما فهم ابن عباس من قوله ( إنما الربا في النسيئة ) وعورض بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل ولم يعارض في فهمه للحصر وفي ذلك اتفاق على أنها للحصر اه
والدليل الذي عارض فهمه هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى ) رواه مسلم في صحيحه وغيره . وقد تعرضت لذلك في تعليقي على باب الربا منه والله أعلم

2 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول الله صورته صورة حمار )
- رواه الجماعة

3 - وعن أنس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف )
- رواه أحمد ومسلم

4 - وعنه : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تركعوا حتى يركع ولا ترفعوا حتى يرفع )
- رواه البخاري

- قوله : ( أما يخشى أحدكم ) أما مخففة حرف استفتاح مثل ألا وأصلها ما النافية دخلت عليها همزة الاستفهام وهي هنا استفهام توبيخ
قوله : ( إذا رفع رأسه قبل الإمام ) زاد ابن خزيمة في صلاته والمراد الرفع من السجود ويدل على ذلك ما وقع في رواية حفص ابن عمر ( الذي يرفع رأسه والإمام ساجد ) وفيه تعقب على من قال أن الحديث نص في المنع من تقدم المأموم في الرفع من الركوع والسجود معا وليس كذلك بل هو نص في السجود ويلتحق به الركوع لكونه في معناه ويمكن الفرق بينهما بأن السجود له مزيد مزية لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه وأما التقدم على الإمام في الخفض للركوع والسجود فقيل يلتحق به من باب الأولى لأن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل والركوع والسجود من المقاصد وإذا دل الدليل على وجوب الموافقة فيما هو وسيلة فأولى أن يجب فيما هو مقصد
قال الحافظ : ويمكن أن يقال ليس هذا بواضح لأن الرفع من الركوع والسجود يستلزم قطعه عن غاية كماله قال : وقد ورد الزجر عن الرفع [ ص 173 ] والخفض قبل الإمام من حديث أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعا : ( الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان )
وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفا وهو المحفوظ
قوله : ( أو يحول الله صورته ) الخ الشك من شعبة وقد رواه الطيالسي عن حماد بن سلمة وابن خزيمة عن حماد بن زيد ومسلم عن يونس بن عبيد والربيع بن مسلم كلهم عن محمد بن زياد بغير تردد فأما الحمادان فقالا رأس . وأما الربيع فقال وجه وأما يونس فقال صورة والظاهر أنه من تصرف الرواة . قال عياض : هذه الروايات متفقة لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه
قال الحافظ : لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضا وأما الرأس فرواتها أكثر وهي أشمل فهي المعتمد وخص وقوع الوعيد عليها لأن بها وقعت الجناية
وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات وبذلك جزم النووي في شرح المهذب ومع القول بالتحريم فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئه صلاته . وعن ابن عمر يبطل وبه قال أحمد في رواية وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد والوعيد بالمسخ في معناه . وقد ورد التصريح بالنهي في رواية أنس المذكورة في الباب عن السبق بالركوع والسجود والقيام والقعود وقد اختلف في معنى الوعيد المذكور فقيل يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي فإن الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام ويرجح هذا المجاز أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين ولكن ليس في الحديث ما يدل على أن ذلك يقع ولا بد وإنما يدل على كون فاعله متعرضا لذلك ولا يلزم من التعرض للشيء وقوعه وقيل هو على ظاهره إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على جواز وقوع المسخ في هذه الأمة وأما ما ورد من الأدلة القاضية برفع المسخ عنها فهو المسخ العام ومما يبعد المجاز المذكور ما عند ابن حبان بلفظ : ( أن يحول الله رأسه رأس كلب ) لانتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار
ومما يبعده أيضا إيراد الوعيد بالأمر المستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة ولو كان المراد التشبيه بالحمار لأجل البلادة لقال مثلا فرأسه رأس حمار ولم يحسن أن يقال له إذا فعلت ذلك صرت بليدا مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة
( واستدل ) بالأحاديث المذكورة على جواز المقارنة ورد بأنها دلت بمنطوقها على منع المسابقة وبمفهومها على طلب المتابعة وأما المقارنة فمسكوت عنها
قوله : ( ولا بالانصراف ) قال النووي : المراد بالانصراف السلام انتهى . ويحتمل أن يكون المراد النهي عن الانصراف من مكان الصلاة قبل الإمام لفائدة أن يدرك المؤتم الدعاء أو لاحتمال أن يكون الإمام قد حصل له في صلاته سهو فيذكر وهو في المسجد ويعود له كما في قصة ذي [ ص 174 ] اليدين
وقد أخرج أبو داود عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضهم على الصلاة ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة )
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات أنه قال : ( إذا سلم الإمام وللرجل حاجة فلا ينتظره إذا سلم أن يستقبله بوجهه وإن فصل الصلاة التسليم ) وروى عنه أنه كان إذا سلم لم يلبث أن يقوم أو يتحول من مكانه

باب انعقاد الجماعة باثنين أحدهما صبي أو امرأة

1 - عن ابن عباس قال : ( بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل فقمت أصلي معه فقمت عن يساره فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه )
- رواه الجماعة . وفي لفظ : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا يومئذ ابن عشر وقمت إلى جنبه عن يساره فأقامني عن يمينه قال وأنا يومئذ ابن عشر سنين ) رواه أحمد

- قوله : ( بت ) في رواية ( نمت )
قوله : ( يصلي من الليل ) قد تقدم الكلام في صلاة الليل
قوله : ( وأقامني عن يمينه ) يحتمل المساواة ويحتمل التقدم والتأخر قليلا . وفي رواية ( فقمت إلى جنبه ) وهو ظاهر في المساواة
وعن بعض أصحاب الشافعي يستحب أن يقف المأموم دونه قليلا وليس عليه فيما أعلم دليل . وفي الموطأ عن عبد الله بن مسعود قال : دخلت على عمر بن الخطاب الهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه
( والحديث ) له فوائد كثيرة منه ما بوب له المصنف من انعقاد الجماعة باثنين أحدهما صبي وليس على قول من منع من انعقاد إمامة من معه صبي فقط دليل ولم يستدل لهم في البحر إلا بحديث رفع القلم ورفع القلم لا يدل على عدم صحة صلاته وانعقاد الجماعة به ولو سلم لكان مخصصا بحديث ابن عباس ونحوه وقد ذهب إلى أن الجماعة لا تنعقد بصبي الهادي والناصر والمؤيد بالله وأبو حنيفة وأصحابه وذهب أصحاب الشافعي والإمام يحيى إلى الصحة من غير فرق بين الفرض والنفل
وذهب مالك وأبو حنيفة في رواية عنه إلى الصحة في النافلة . ومنها صحة صلاة النوافل جماعة وقد تقدم بعض الكلام على ذلك وسيأتي بقيته . ومنها أن موقف المؤتم عن يمين الإمام . وقال سعيد بن المسيب : إن موقف المؤتم الواحد عن يسار الإمام ولم يتابع [ ص 175 ] على ذلك لمخالفته للأدلة وقد اختلف في صحة صلاة من وقف عن اليسار فقيل لا تبطل بل هي صحيحة وهو قول الجمهور وتمسكوا بعدم بطلان صلاة ابن عباس لوقوفه عن اليسار لتقريره صلى الله عليه وآله وسلم له على أول صلاته وقيل تبطل وإليه ذهب أحمد والهادوية قالوا وتقريره صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس لا يدل على صحة صلاة من وقف من أول الصلاة إلى آخرها عن اليسار عالما وغاية ما فيه تقرير من جهل الموقف والجهل عذر وسيأتي الكلام على الموقف للمؤتم الواحد والاثنين والجماعة في أبواب مواقف الإمام والمأموم
ومنها جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة وقد بوب البخاري لذلك وفي المسألة خلاف والأصح عند الشافعية أنه لا يشترط لصحة الإقتداء أن ينوي الإمام الإمامة واستدل بذلك ابن المنذر بحديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى في رمضان قال : فجئت فقمت إلى جنبه وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطا فلما أحس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنا تجوز في صلاته ) الحديث . وسيأتي وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء وائتموا هم به ابتداء وأقرهم وهو حديث صحيح أخرجه مسلم وعلقه البخاري وذهب أحمد إلى الفرق بين النافلة والفريضة فشرط أن ينوي في الفريضة دون النافلة وفيه نظر لحديث أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي وحده فقال : ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ) أخرجه أبو داود وقد حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم

2 - وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من استيقظ من الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات )
- رواه أبو داود

- الحديث ذكر أبو داود أن بعضهم لم يرفعه ولا ذكر أبا هريرة وجعله كلام أبي سعيد وبعضهم رواه موقوفا وقد أخرجه النسائي وابن ماجه مسندا . وفيه مشروعية إيقاظ الرجل أهله بالليل للصلاة وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء ) وفي إسناده محمد بن عجلان وقد وثقه أحمد ويحيى وأبو حاتم واستشهد به البخاري وأخرج له مسلم في المتابعة وتكلم [ ص 176 ] فيه بعضهم
وحديث الباب استدل به على صحة الإمامة وانعقادها برجل وامرأة وإلى ذلك ذهب الفقهاء ولكنه لا يخفى أن قوله ( فصليا ركعتين جميعا ) محتمل لأنه يصدق عليهما إذا صلى كل واحد منهما ركعتين منفردا أنهما صليا جميعا ركعتين أي كل واحد منهما فعل الركعتين ولم يفعلهما أحدهما فقط ولكن الأصل صحة الجماعة وانعقادها بالمرأة مع الرجل كما تنعقد بالرجل مع الرجل ومن منع من ذلك فعليه الدليل ويؤيد ذلك ما أخرجه الإسماعيلي في مستخرجه عن عائشة أنها قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رجع من المسجد صلى بنا ) وقال : إنه حديث غريب
وقد روى الشافعي وابن أبي شيبة والبخاري تعليقا عن عائشة أنها كانت تأتم بغلامها وحكى المهدي في البحر عن العترة أنه لا يؤم الرجل امرأة واستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أخروهن حيث أخرهن الله ) وقوله : ( شر صفوف النساء أولها ) وليس في ذلك ما يدل على المطلوب
واستدل أيضا بأن عليا عليه السلام منع من ذلك قال : وهو توقيف . وجعله من التوقيف دعوى مجردة لأن المسألة من مسائل الاجتهاد وليس المنع مذهبا لجميع العترة فقد صرح الهادي أنه يجوز للرجل أن يؤم بالمحارم في النوافل وجوز ذلك المنصور بالله مطلقا

باب انفراد المأموم لعذر

- ثبت أن الطائفة الأولى في صلاة الخوف تفارق الإمام وتتم وهي مفارقة لعذر

1 - وعن أنس بن مالك قال : ( كان معاذ بن جبل يؤم قومه فدخل حرام وهو يريد أن يسقي نخله فدخل المسجد مع القوم فلما رأى معاذا طول تجوز في صلاته ولحق بنخله يسقيه فلما قضى معاذ الصلاة قيل له ذلك قال : إنه لمنافق أيعجل عن الصلاة من أجل سقي نخله قال : فجاء حرام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعاذ عنده فقال : يا نبي الله إني أردت أن أسقي نخلا لي فدخلت المسجد لأصلي مع القوم فلما طول تجوزت في صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه فزعم أني منافق فأقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على معاذ فقال : أفتان أنت أفتان أنت لا تطول بهم اقرأ باسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحوهما )

2 - وعن بريدة الأسلمي : ( أن معاذ بن جبل صلى بأصحابه العشاء فقرأ فيها اقتربت الساعة فقام رجل من قبل أن يفرغ فصلى وذهب فقال له معاذ قولا شديدا [ ص 177 ] فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فاعتذر إليه وقال : إني كنت أعمل في نخل وخفت على الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني لمعاذ : صل بالشمس وضحاها ونحوها من السور )
- رواهما أحمد بإسناد صحيح . فإن قيل ففي الصحيحين من حديث جابر أن ذلك الرجل الذي فارق معاذا سلم ثم صلى وحده وهذا يدل على أنه ما بنى بل استأنف . قيل في حديث جابر إن معاذا استفتح سورة البقرة فعلم بذلك أنهما قصتان وقعتا في وقتين مختلفين إما لرجل أو لرجلين )

- هذه القصة قد رويت على أوجه مختلفة ففي بعضها لم يذكر تعيين السورة التي قرأها معاذ ولا تعيين الصلاة التي وقع ذلك فيها كما في رواية أنس المذكورة . وفي بعضها أن السورة التي قرأها اقتربت الساعة والصلاة العشاء كما في حديث بريدة المذكور
وفي بعضها أن السورة التي قرأها البقرة والصلاة العشاء كما في حديث جابر الذي أشار إليه المصنف . وفي بعضها أن الصلاة المغرب كما في رواية أبي داود والنسائي وابن حبان . ووقع الاختلاف أيضا في اسم الرجل فقيل حرام بن ملحان وقيل حزم بن أبي كعب وقيل حازم وقيل سليم وقيل سليمان وقيل غير ذلك . وقد جمع بين الروايات بتعدد القصة وممن جمع بينها بذلك ابن حبان في صحيحه
قوله : ( ثبت أن الطائفة الأولى ) الخ سيأتي بيان ذلك في كتاب صلاة الخوف
قوله : ( فدخل حرام ) بالحاء والراء المهملتين ضد حلال بن ملحان بكسر الميم وسكون اللام بعدها حاء مهملة
قوله : ( فلما طول ) يعني معاذا وكذلك قوله فزعم
قوله : ( إني منافق ) في رواية للبخاري ( فكأن معاذا نال منه ) وللمستملي ( تناول منه ) وفي رواية ابن عيينة : ( فقال له : أنافقت يا فلان فقال : لا والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) وكأن معاذا قال ذلك أولا ثم قاله أصحابه للرجل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بلغه الرجل كما في حديث الباب وغيره . وعند النسائي : ( قال معاذ : لئن أصبحت لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له فأرسل إليه فقال : ما حملك على الذي صنعت فقال : يا رسول الله عملت على ناضح لي ) الحديث . ويجمع بين الروايتين بأن معاذا سبقه بالشكوى فلما أرسل له جاء فاشتكى من معاذ
قوله : ( أفتان أنت ) في رواية مرتين . وفي رواية ثلاثا . وفي رواية أفاتن . وفي رواية أتريد أن تكون فاتنا . وفي رواية ( يا معاذ لا تكن فاتنا ) ومعنى الفتنة هنا أن التطويل يكون سببا لخروجهم من الصلاة ولترك الصلاة في الجماعة
[ ص 178 ] قوله : ( لا تطول بهم ) فيه أن التطويل منهي عنه فيكون حراما ولكنه أمر نسبي كما تقدم فنهيه لمعاذ عن التطويل لأنه كان يقرأ بهم سورة البقرة واقتربت الساعة
قوله : ( اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ) الأمر بقراءة هاتين السورتين متفق عليه من حديث جابر كما تقدم في أبواب القراءة . وفي رواية للبخاري من حديثه وأمره بسورتين من أوسط المفصل . وفي رواية لمسلم بزيادة والليل إذا يغشى . وفي رواية له بزيادة اقرأ باسم ربك الذي خلق . وفي رواية لعبد الرزاق بزيادة الضحى . وفي رواية للحميدي بزيادة والسماء ذات البروج وفيه أن الصلاة بمثل هذه السور تخفيف وقد يعد ذلك من لا رغبة له في الطاعة تطويلا
قوله : ( العشاء ) كذا في معظم روايات البخاري وغيره . وفي رواية المغرب كما تقدم فيجمع بما سلف من التعدد أو بأن المراد بالمغرب العشاء مجازا وإلا فما في الصحيح أصح وأرجح
قوله : ( اقتربت الساعة ) في الصحيحين وغيرهما أنه قرأ بسورة البقرة كما أشار إلى ذلك المصنف . وفي رواية لمسلم : ( قرأ بسورة البقرة أو النساء ) على الشك . وفي رواية للسراج قرأ بالبقرة والنساء بلا شك . وقد قوى الحافظ في الفتح إسناد حديث بريدة ولكنه قال : هي رواية شاذة وطريق الجمع الحمل على تعدد الواقعة كما تقدم أو ترجيح ما في الصحيحين مع عدم الإمكان كما قال بعضهم أن الجمع بتعدد الواقعة مشكل لأنه لا يظن بمعاذ أن يأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالتخفيف ثم يعود
وأجيب عن ذلك باحتمال أن يكون معاذ قرأ أولا بالبقرة فلما نهاه قرأ اقتربت وهي طويلة بالنسبة إلى السور التي أمره بقراءتها ويحتمل أن يكون النهي وقع أولا لما يخشى من تنفير بعض من يدخل في الإسلام ثم لما اطمأنت نفوسهم ظن أن المانع قد زال فقرأ باقتربت لأنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في المغرب بالطور فصادف صاحب الشغل كذا قال الحافظ
وجمع النووي باحتمال أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة فانصرف رجل ثم قرأ اقتربت في الثانية فانصرف آخر وقد استدل المصنف بحديث أنس وبريدة المذكورين على جواز صلاة من قطع الائتمام بعد الدخول فيه لعذر وأتم لنفسه وجمع بينه وبين ما في الصحيحين من أنه سلم ثم استأنف بتعدد الواقعة ويمكن الجمع بأن قول الرجل تجوزت في صلاتي كما في حديث أنس . وكذلك قوله فصلى وذهب كما في حديث بريدة لا ينافي الخروج من صلاة الجماعة [ ص 179 ] بالتسليم واستئنافها فرادى والتجوز فيها لأن جميع الصلاة توصف بالتجوز كما توصف به بقيتها ويؤيد ذلك ما رواه النسائي بلفظ : ( فانصرف الرجل فصلى في ناحية المسجد ) وفي رواية لمسلم : ( فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده ) وغاية الأمر أن يكون ما في حديثي الباب محتملا وما في الصحيحين وغيرهما مبينا لذلك

باب انتقال المنفرد إماما في النوافل

1 - عن أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت خلفه وقام رجل فقام إلى جنبي ثم جاء آخر حتى كنا رهطا فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أننا خلفه تجوز في صلاته ثم قام فدخل منزله فصلى صلاة لم يصلها عندنا فلما أصبحنا قلنا : يا رسول الله أفطنت بنا الليلة قال : نعم فذلك الذي حملني على ما صنعت )
- رواه أحمد ومسلم

2 - وعن يسر بن سعيد عن زيد بن ثابت : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ حجرة قال : حسبت أنه قال من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم فقال : قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة
- رواه البخاري

3 - وعن عائشة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي في حجرته وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام ناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الليلة الثانية فقام ناس يصلون بصلاته )
- رواه البخاري

- قوله : ( فقمت خلفه ) فيه جواز قيام الرجل الواحد خلف الإمام وسيأتي في أبواب موقف الإمام والمأموم ما يدل على خلاف ذلك
قوله : ( كنا رهطا ) قال في القاموس : الرهط قوم الرجل وقبيلته ومن ثلاثة أو سبعة إلى عشرة أو ما دون العشرة وما فيهم امرأة ولا واحد له من لفظه الجمع أرهط وأرهاط وأراهيط
قوله : ( فلما أحس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أننا خلفه تجوز في صلاته ) لعله فعل ذلك مخافة أن يكتب عليهم كما في سائر الأحاديث وليس في تجوزه صلى الله عليه وآله وسلم ودخوله منزله ما يدل على عدم جواز ما فعلوه لأنه لو كان غير جائز لما قررهم على ذلك بعد علمه به [ ص 180 ] وإعلامهم له
قوله : ( اتخذ حجرة ) أكثر الروايات بالراء . وللكشميهني بالزاي
قوله : ( جعل يقعد ) أي يصلي من قعود لئلا يراه الناس فيأتموا به
قوله : ( من صنيعكم ) بفتح الصاد وإثبات الياء وللأكثر بضم الصاد وسكون النون وليس المراد صلاتهم فقط بل كونهم رفعوا أصواتهم وصاحوا به ليخرج إليهم وحصب بعضهم الباب لظنهم أنه نام كما ذكر ذلك البخاري في الاعتصام من صحيحه وزاد فيه : ( حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به )
قوله : ( فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته ) المراد بالصلاة الجنس الشامل لكل صلاة فلا يخرج عن ذلك إلا المكتوبة لاستثنائها وما يتعلق بالمسجد كتحيته وهل يدخل في ذلك ما وجب لعارض كالمنذورة فيه خلاف
والمراد بالمرء جنس الرجال فلا يدخل في ذلك النساء لما تقدم من أن صلاتهن في بيوتهن المكتوبة وغيرها أفضل من صلاتهن في المساجد . قال النووي : إنما حث على النافلة في البيت لكونه أبعد من الرياء وأخفى وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة وعلى هذا يمكن أن يخرج بقوله في بيته غيره ولو أمن فيه من الرياء
قوله : ( إلا المكتوبة ) المراد بها الصلوات الخمس قيل ويدخل في ذلك ما وجب بعارض كالمنذورة
قوله : ( في حجرته ) ظاهره أن المراد حجرة بيته ويدل عليه ذكر جدار الحجرة . وأوضح منه رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عند أبي نعيم بلفظ : ( كان يصلي في حجرة من حجر أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم ) ويحتمل أن تكون الحجرة التي احتجرها في المسجد بالحصير كما في بعض الروايات وكما تقدم في حديث زيد بن ثابت
ولأبي داود ومحمد بن نصر من وجهين آخرين عن أبي سلمة عن عائشة أنها هي التي نصبت له الحصير على باب بيتها . قال في الفتح : فإما أن يحمل على التعدد أو على المجاز في الجدار وفي نسبة الحجرة إليها
( والأحاديث ) المذكورة تدل على ما بوب له المصنف رحمه الله من جواز انتقال المنفرد إماما في النوافل وكذلك في غيرها لعدم الفارق . وقد قدمنا الخلاف في ذلك في باب انعقاد الجماعة باثنين . وقد استدل البخاري في صحيحه بحديث عائشة المذكور على جواز أن يكون بين الإمام وبين القوم المؤتمين به حائط أو سترة [ ص 181 ]

باب الإمام ينتقل مأموما إذا استخلف فحضر مستخلفه

1 - عن سهل بن سعد : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال : أتصلي بالناس فأقيم قال : نعم قال : فصلى أبو بكر فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن امكث مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي صلى الله عليه و سلم فصلى ثم انصرف فقال : يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك فقال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء )
- متفق عليه . وفي رواية لأحمد وأبي داود والنسائي قال : ( كان قتال بين بني عمرو بن عوف فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم وقال : يا بلال إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس قال : فلما حضرت العصر أقام بلال الصلاة ثم أمر أبا بكر فتقدم ) وذكر الحديث

- قوله : ( ذهب إلى بني عمرو بن عوف ) أي ابن مالك بن الأوس والأوس أحد قبيلتي الأنصار وهما الأوس والخزرج وبنو عمرو بن عوف بطن كبير من الأوس وسبب ذهابه صلى الله عليه و سلم إليهم كما في الرواية التي ذكرها المصنف وقد ذكر نحوها البخاري في الصلح من طريق محمد بن جعفر عن أبي حازم أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال : اذهبوا نصلح بينهم
وله فيه من رواية غسان عن أبي حازم فخرج في ناس من أصحابه وله أيضا في الأحكام من صحيحه من طريق حماد بن زيد أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر . وللطبراني أن الخبر جاء بذلك وقد أذن بلال لصلاة الظهر
قوله : ( فحانت الصلاة ) أي صلاة العصر كما صرح به البخاري [ ص 182 ] في الأحكام من صحيحه
قوله : ( فقال أتصلي بالناس ) في الرواية الأخرى التي ذكرها المصنف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمر بلالا أن يأمر أبا بكر بذلك وقد أخرج نحوها ابن حبان والطبراني ولا مخالفة بين الروايتين لأنه يحمل على أنه استفهمه هل تبادر أول الوقت أو ننتظر مجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرجح أبو بكر المبادرة لأنها فضيلة محققة فلا تترك لفضيلة متوهمة
قوله : ( فأقيم ) بالنصب لأنها بعد الاستفهام ويجوز الرفع على الاستئناف
قوله : ( قال نعم ) في رواية للبخاري ( إن شئت ) وإنما فوص ذلك إليه لاحتمال أن يكون عنده زيادة علم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك
قوله : ( فصلى أبو بكر ) أي دخل في الصلاة وفي لفظ للبخاري : ( فتقدم أبو بكر فكبر ) وفي رواية : ( فاستفتح أبو بكر ) وبهذا يجاب عن سبب استمراره في الصلاة في مرض موته صلى الله عليه وآله وسلم وامتناعه من الاستمرار في هذا المقام لأنه هناك قد مضى معظم الصلاة فحسن الاستمرار وهنا لم يمض إلا اليسير فلم يحسن
قوله : ( فتخلص ) في رواية للبخاري : ( فجاء يمشي حتى قام عند الصف ) ولمسلم : ( فخرق الصفوف )
قوله : ( فصفق الناس ) في رواية للبخاري : ( فأخذ الناس في التصفيح قال سهل أتدرون ما التصفيح هو التصفيق ) وفيه أنهما مترادفان وقد تقدم التنبيه على ذلك
قوله : ( وكان أبو بكر لا يلتفت ) قيل كان ذلك لعلمه بالنهي وقد تقدم الكلام عليه
قوله : ( فرفع أبو بكر يديه فحمد الله ) الخ ظاهره أنه تلفظ بالحمد وادعى ابن الجوزي أنه أشار بالحمد والشكر بيده ولم يتكلم
قوله : ( أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ) تقرير النبي صلى الله عليه و سلم له على ذلك على ما قاله البعض من أن سلوك طريقة الأدب خير من الامتثال ويؤيد ذلك عدم إنكاره صلى الله عليه و سلم على علي عليه السلام لما امتنع من محو اسمه في قصة الحديبية
وقد قدمنا الإشارة إلى هذا المعنى في أبواب صفة الصلاة
قوله : ( أكثرتم التصفيق ) ظاهره أن الإنكار إنما حصل لكثرته لا لمطلقه ولكن قوله ( إنما التصفيق للنساء ) يدل على منع الرجال منه مطلقا
قوله : ( التفت إليه ) بضم المثناة على البناء للمجهول . وفي رواية للبخاري : ( فإنه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت )
( والحديث ) يدل على ما بوب له المصنف من جواز انتقال الإمام مأموما إذا استخلف فحضر مستخلفه وادعى ابن عبد البر أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه و سلم وادعى الإجماع على عدم جواز ذلك لغيره ونوقض أن الخلاف ثابت وأن الصحيح المشهور عند الشافعية الجواز وروي عن ابن القاسم الجواز أيضا
وللحديث فوائد ذكر المصنف رحمه الله تعالى بعضها فقال : [ ص 183 ] فيه من العلم أن المشي من صف إلى صف يليه لا يبطل وأن حمد الله لأمر يحدث والتنبيه بالتسبيح جائزان وأن الاستخلاف في الصلاة لعذر جائز من طريق الأولى لأن قصاراه وقوعها بإمامين اه
ومن فوائد الحديث جواز كون المرء في بعض صلاته إماما وفي بعضها مأموما . وجواز رفع اليدين في الصلاة عند الدعاء والثناء . وجواز الالتفات للحاجة وجواز مخاطبة المصلي بالإشارة وجواز الحمد والشكر على الوجاهة في الدين . وجواز إمامة المفضول للفاضل . وجواز العمل القليل في الصلاة وغير ذلك من الفوائد

2 - وعن عائشة قالت : ( مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : مروا أبا بكر يصلي بالناس فخرج أبو بكر يصلي فوجد النبي صلى الله عليه و سلم في نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه و سلم أن مكانك ثم أتيا به حتى جلس إلى جنبه عن يسار أبي بكر وكان أبو بكر يصلي قائما وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي قاعدا يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس بصلاة أبي بكر )
- متفق عليه . وللبخاري في رواية : ( فخرج يهادى بين رجلين في صلاة الظهر ) ولمسلم : ( وكان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير )

- قوله : ( مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم ) هو مرض موته صلى الله عليه و سلم
قوله : ( مروا أبا بكر ) استدل بهذا على أن الأمر بالأمر بالشيء يكون أمرا به كما ذهب إلى ذلك جماعة من أهل الأصول وأجاب المانعون بأن المعنى بلغوا أبا بكر أني أمرته والمبحث مستوفى في الأصول
قوله : ( فخرج أبو بكر ) فيه حذف دل عليه سياق الكلام والتقدير فأمروه فخرج . وقد ورد مبينا في بعض روايات البخاري بلفظ : ( فأتاه الرسول فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر وكان رقيقا : يا عمر صل بالناس فقال له عمر : أنت أحق بذلك )
قوله : ( فوجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه خفة ) يحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم وجد الخفة في تلك الصلاة بعينها ويحتمل ما هو أعم من ذلك
قوله : ( يهادى ) بضم أوله وفتح الدال أي يعتمد على الرجلين متمايلا في مشيه من شدة الضعف والتهادي التمايل في المشي البطيء
قوله : ( بين رجلين ) في البخاري أنهما العباس بن المطلب وعلي بن أبي طالب سلام الله عليهما . وفي رواية له : ( أنه خرج بين بريرة وثوبية ) قال النووي : ويجمع بين الروايتين بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين هاتين ومن ثم إلى مقام المصلي بين العباس وعلي . أو يحمل على [ ص 184 ] التعدد ويدل على ذلك ما في رواية الدارقطني أنه صلى الله عليه و سلم خرج بين أسامة بن زيد والفضل بن العباس
قال الحافظ : وأما ما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه و سلم خرج بين الفضل بن العباس . وعلي فذلك في حال مجيئه صلى الله عليه و سلم إلى بيت عائشة
قوله : ( ثم أتيا به ) في رواية للبخاري : ( ثم أتى به ) وفي رواية له أن ذلك كان بأمره ولفظها : ( فقال أجلساني إلى جنبه فأجلساه )
قوله : ( عن يسار أبي بكر ) فيه رد على القرطبي حيث قال : لم يقع في الصحيح بيان جلوسه صلى الله عليه و سلم هل كان عن يمين أبي بكر أو عن يساره
قوله : ( يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه و سلم ) فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إماما وأبو بكر مؤتما به وقد اختلف في ذلك اختلافا شديدا كما قال الحافظ ففي رواية لأبي داود : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان المقدم بين يدي أبي بكر ) وفي رواية لابن خزيمة في صحيحه عن عائشة : ( أنها قالت من الناس من يقول كان أبو بكر المقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ومنهم من يقول كان النبي صلى الله عليه و سلم المقدم ) وأخرج ابن المنذر من رواية مسلم بن إبراهيم عن شعبة بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى خلف أبي بكر )
وأخرج ابن حبان بلفظ : ( كان أبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه و سلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر ) وأخرج الترمذي والنسائي وابن خزيمة عنها بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى خلف أبي بكر ) قال في الفتح : تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان هو الإمام في تلك الصلاة ثم قال بعد أن ذكر الاختلاف فمن العلماء من سلك الترجيح فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموما للجزم بها في رواية أبي معاوية وهو أحفظ في حديث الأعمش من غيره . ومنهم من عكس ذلك فقدم الرواية التي فيها أنه كان إماما . ومنهم من سلك الجمع فحمل القصة على التعدد والظاهر من رواية حديث الباب المتفق عليها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إماما وأبو بكر مؤتما لأن الإقتداء المذكور المراد به الائتمام ويؤيد ذلك رواية مسلم التي ذكرها المصنف بلفظ : ( وكان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير ) وقد استدل بحديث الباب القائلون بجواز ائتمام القائم بالقاعد وسيأتي بسط الكلام في ذلك في باب إقتداء القادر على القيام بالجالس
قوله : ( وأبو بكر يسمعهم [ ص 185 ] التكبير ) فيه دلالة على جواز رفع الصوت بالتكبير لإسماع المؤتمين وقد قيل إن جواز ذلك مجمع عليه ونقل القاضي عياض عن بعض المالكية أنه يقول ببطلان صلاة المسمع

باب من صلى في المسجد جماعة بعد إتمام الحي

1 - عن أبي سعيد : ( أن رجلا دخل المسجد وقد صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من يتصدق على ذا فيصلي معه فقام رجل من القوم فصلى معه )
- رواه أحمد وأبو داود والترمذي بمعناه . وفي رواية لأحمد : ( صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأصحابه الظهر فدخل رجل ) وذكره

- الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن حبان وحسنه الترمذي قال : وفي الباب عن أبي أمامة وأبي موسى والحكم بن عمير انتهى . وأحاديثهم بلفظ : ( الاثنان فما فوقهما جماعة )
قوله : ( أن رجلا دخل المسجد ) لفظ أبي داود : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أبصر رجلا يصلي وحده )
قوله : ( من يتصدق ) لفظ أبي داود : ( ألا رجل يتصدق ) ولفظ الترمذي : ( أيكم يتجر على هذا )
قوله : ( فقام رجل من القوم فصلى معه ) هو أبو بكر الصديق كما بين ذلك ابن أبي شيبة
( والحديث ) يدل على مشروعية الدخول مع من دخل في الصلاة منفردا وإن كان الداخل معه قد صلى في جماعة . قال ابن الرفعة : وقد اتفق الكل على أن من رأى شخصا يصلي منفردا لم يلحق الجماعة فيستحب له أن يصلي معه وإن كان قد صلى في جماعة وقد استدل الترمذي بهذا الحديث على جواز أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه قال : وبه يقول أحمد وإسحاق وقال آخرون من أهل العلم : يصلون فرادى وبه يقول سفيان ومالك وابن المبارك والشافعي انتهى
قال البيهقي : وقد حكى ابن المنذر كراهية ذلك عن سالم بن عبد الله وأبي قلابة وابن عون وأيوب والبتي والليث بن سعد والأوزاعي وأصحاب الرأي وقد استدل بهذا الحديث أيضا على أن من صلى جماعة ثم رأى جماعة يصلون يستحب له أن يصليها معهم وقد تقدم البحث عن ذلك
واستدل به أيضا على أن أقل الجماعة اثنان وعلى أنها غير واجبة لعدم إنكاره على الرجل المتأخر عنها لما دخل وحده وقد قدمنا الكلام على ذلك والحديث من مخصصات حديث : ( لا تعاد صلاة في يوم مرتين ) كما تقدم [ ص 186 ]

باب المسبوق يدخل مع الإمام على أي حال كان ولا يعتد بركعة لا يدرك ركوعها

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة )
- رواه أبو داود

2 - وعن أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة )
- أخرجاه

3 - وعن علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل قالا : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام )
- رواه الترمذي

- الحديث الأول أخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في المستدرك وقال صحيح
والحديث الثاني عزاه المصنف إلى الشيخين وقد طول الحافظ الكلام عليه في التلخيص فليراجع
والحديث الثالث قال في التلخيص : فيه ضعف وانقطاع
قوله : ( فاسجدوا ) فيه مشروعية السجود مع الإمام لمن أدركه ساجدا
قوله : ( ولا تعدوها شيئا ) بضم العين وتشديد الدال أي وافقوه في السجود ولا تجعلوا ذلك ركعة
قوله : ( ومن أدرك الركعة ) قيل المراد بها هنا الركوع وكذلك قوله في حديث أبي هريرة : ( من أدرك ركعة من الصلاة ) فيكون مدرك الإمام راكعا مدركا لتلك الركعة وإلى ذلك ذهب الجمهور وقد بسطنا الكلام في ذلك في باب ما جاء في قراءة المأموم وإنصاته وبينا ما نظنه الصواب
قوله : ( فقد أدرك الصلاة ) قال ابن رسلان : المراد بالصلاة هنا الركعة أي صحت له تلك الركعة وحصل له فضيلتها انتهى
قوله : ( فليصنع كما يصنع الإمام ) فيه مشروعية دخول اللاحق مع الإمام في أي جزء من أجزاء الصلاة أدركه من غير فرق بين الركوع والسجود والقعود لظاهر قوله : ( والإمام على حال ) والحديث وإن كان فيه ضعف كما قال الحافظ لكنه يشهد له ما عند أحمد وأبي داود من حديث ابن أبي ليلى عن معاذ : ( قال أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ) فذكر الحديث وفيه : ( فجاء معاذ فقال : لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني قال : فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه و سلم صلاته قام يقضي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قد سن لكم معاذ [ ص 187 ] فهكذا فاصنعوا )
وابن أبي ليلى وإن لم يسمع من معاذ فقد رواه أبو داود من وجه آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحابنا ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ) فذكر الحديث . وفيه : ( فقال معاذ : لا أراه على حال إلا كنت عليها ) الحديث
ويشهد له أيضا ما رواه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعا : ( من وجدني راكعا أو قائما أو ساجدا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها )
وما أخرجه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة مثل لفظ ابن أبي شيبة والظاهر أنه يدخل معه في الحال التي أدركه عليها مكبرا معتدا بذلك التكبير وإن لم يعتد بما أدركه من الركعة كمن يدرك الإمام في حال سجوده أو قعوده
وقالت الهادوية : إنه يقعد ويسجد مع الإمام ولا يحرم بالصلاة ومتى قام الإمام أحرم واستدلوا بقوله في حديث أبي هريرة : ( ولا تعدوها شيئا ) وأجيب عن ذلك بأن عدم الاعتداد المذكور لا ينافي الدخول بالتكبير والاكتفاء به

باب المسبوق يقضي ما فاته إذا سلم إمامه من غير زيادة

1 - عن المغيرة بن شعبة قال : ( تخلفت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فتبرز وذكر وضوءه ثم عمد الناس وعبد الرحمن يصلي بهم فصلى مع الناس الركعة الأخيرة فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله صلى الله عليه و سلم يتم صلاته فلما قضاها أقبل عليهم فقال : قد أحسنتم وأصبتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها )
- متفق عليه . ورواه أبو داود قال فيه : ( فلما سلم قام النبي صلى الله عليه و سلم فصلى الركعة التي سبق بها لم يزد عليها شيئا ) قال أبو داود : أبو سعيد الخدري وابن الزبير وابن عمر يقولون : ( من أدرك الفرد من الصلاة عليه سجدتا السهو )

- قوله : ( في غزوة تبوك ) هي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وذلك في سنة تسع من الهجرة
قوله : ( وذكر وضوءه ) قد تقدم في باب المعاونة في الوضوء وفي باب اشتراط الطهارة قبل اللبس
قوله : ( ثم عمد الناس ) بفتح العين المهملة والميم بعدها دال مهملة أي قصد والناس مفعول به
قوله : ( وعبد الرحمن يصلي بهم ) جملة حالية وفيه دليل على أنه إذا خيف فوت وقت الصلاة أو فوت الوقت المختار منها لم ينتظر الإمام وإن كان فاضلا . وفيه أيضا أن فضيلة أول الوقت لا يعادلها فضيلة الصلاة مع الإمام الفاضل في غيره
قوله : ( يصلي بهم ) يعني صلاة الفجر كما وقع مبينا في سنن [ ص 188 ] أبي داود
قوله : ( صلى مع الناس الركعة الأخيرة ) فيه فضيلة لعبد الرحمن بن عوف إذ قدمه الصحابة لأنفسهم في صلاتهم بدلا من نبيهم وفيه فضيلة أخرى له وهي إقتداؤه صلى الله عليه وآله وسلم به . وفيه جواز إئتمام الإمام أو الوالي برجل من رعيته وفيه أيضا تخصيص لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يؤمن أحد في سلطانه إلا بإذنه ) يعني أو إلا أن يخاف خروج أول الوقت
قوله : ( يتم صلاته ) فيه متمسك لمن قال أن ما أدركه المؤتم مع الإمام أول صلاته وقد تقدم الكلام على ذلك
قوله : ( قد أصبتم وأحسنتم ) فيه جواز الثناء على من بادر إلى أداء فرضه وسارع إلى عمل ما يجب عليه عمله
قوله : ( يغبطهم ) فيه أن الغبطة جائزة وأنها مغايرة للحسد المذموم
قوله : ( لم يزد عليها شيئا ) أي لم يسجد سجدتي السهو فيه دليل لمن قال ليس على المسبوق ببعض الصلاة سجود قال ابن رسلان : وبه قال أكثر أهل العلم ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه و سلم : ( وما فاتكم فأتموا ) وفي رواية ( فاقضوا ) ولم يأمر بسجود سهو
وذهب جماعة من أهل العلم منهم من ذكر المصنف راويا عن أبي داود ومنهم عطاء وطاوس ومجاهدا وإسحاق إلى أن كل من أدرك وترا من صلاة إمامه فعليه أن يسجد للسهو لأنه يجلس للتشهد مع الإمام في غير موضع الجلوس ويجاب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس خلف عبد الرحمن ولم يسجد ولا أمر به المغيرة وأيضا ليس السجود إلا للسهو ولا سهو هنا وأيضا متابعة الإمام واجبة فلا يسجد لفعلها كسائر الواجبات

باب من صلى ثم أدرك جماعة فليصلها معهم نافلة

- فيه عن أبي ذر وعبادة ويزيد بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد سبق

1 - وعن محجن بن الأدرع قال : ( أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو في المسجد فحضرت الصلاة فصلى يعني ولم أصل فقال لي : ألا صليت قلت : يا رسول الله إني قد صليت في الرحل ثم أتيتك قال : فإذا جئت فصل معهم واجعلها نافلة )
- رواه أحمد

2 - وعن سليمان مولى ميمونة قال : ( أتيت على ابن عمر وهو بالبلاط والقوم يصلون في المسجد فقلت : ما يمنعك أن تصلي مع الناس قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تصلوا صلاة في يوم مرتين )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي [ ص 189 ]

- حديث أبي ذر وحديث عبادة اللذين أشار إليهما المصنف تقدما في باب بيان أن من أدرك بعض الصلاة في الوقت فإنه يتمها من أبواب الأوقات
وحديث يزيد بن الأسود تقدم في باب الرخصة في إعادة الجماعة . وحديث محجن أخرجه أيضا مالك في الموطأ والنسائي وابن حبان والحاكم . وحديث ابن عمر أخرجه أيضا مالك في الموطأ وابن خزيمة وابن حبان
( وفي الباب ) أحاديث قدمنا ذكرها في باب الرخصة في إعادة الجماعة
( وحديث ) محجن وما قبله من الأحاديث التي أشار إليها المصنف تدل على مشروعية الدخول في صلاة الجماعة لمن كان قد صلى تلك الصلاة ولكن ذلك مقيد بالجماعات التي تقام في المساجد لما في حديث يزيد بن الأسود المتقدم بلفظ : ( ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا ) وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل الصلاة المفعولة مع الجماعة هي الفريضة أم الأولى وقد قدمنا بسط الكلام في ذلك في باب الرخصة في إعادة الجماعة وقدمنا أيضا أن أحاديث مشروعية الدخول في الجماعة مخصصة لعموم أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر لما تقدم في حديث يزيد بن الأسود أن ذلك كان في صلاة الصبح وقدمنا أيضا أن أحاديث الدخول مع الجماعة مخصصة لحديث ابن عمر المذكور في الباب
قوله : ( وهو بالبلاط ) هو موضع مفروش بالبلاط بين المسجد والسوق بالمدينة كما تقدم
قوله : ( لا تصلوا صلاة في يوم مرتين ) لفظ النسائي : ( لا تعاد الصلاة في يوم مرتين ) وقد تمسك بهذا الحديث القائلون أن من صلى في جماعة ثم أدرك جماعة لا يصلي معهم كيف كانت لأن الإعادة لتحصيل فضيلة الجماعة وقد حصلت له وهو مروي عن الصيدلاني والغزالي وصاحب المرشد . قال في الاستذكار : اتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى قوله صلى الله عليه و سلم : ( لا تصلوا صلاة في يوم مرتين ) أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضا وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة إقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم في أمره بذلك فليس ذلك من إعادة الصلاة في يوم مرتين لأن الأولى فريضة والثانية نافلة فلا إعادة حينئذ

باب الأعذار في ترك الجماعة

1 - عن ابن عمر : ( عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يأمر المنادي فينادي [ ص 190 ] بالصلاة ينادي صلوا في رحالكم في الليلة الباردة وفي الليلة المطيرة في السفر )
- متفق عليه

2 - وعن جابر قال : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فمطرنا فقال : ليصل من شاء منكم في رحله )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه

3 - وعن ابن عباس : ( أنه قال لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل صلوا في بيوتكم قال : فكأن الناس استنكروا ذلك فقال : أتعجبون من ذا فقد فعل ذا من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه و سلم أن الجمعة عزمة وأني كرهت أن أحرجكم فتمشوا في الطين والدحض )
- متفق عليه . ولمسلم : ( أن ابن عباس أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير ) بنحوه

- وفي الباب عن سمرة عند أحمد . وعن أسامة عند أبي داود والنسائي . وعن عبد الرحمن بن سمرة أشار إليه الترمذي . وعن عتبان بن مالك عند الشيخين والنسائي وابن ماجه . وعن نعيم النحام عند أحمد . وعن أبي هريرة عند ابن عدي في الكامل . وعن صحابي لم يسم عند النسائي
قوله : ( يأمر المنادي ) في رواية للبخاري ومسلم : ( يأمر المؤذن ) وفي رواية للبخاري : ( يأمر مؤذنا )
قوله : ( ينادي صلوا في رحالكم ) في رواية للبخاري : ( ثم يقول على أثره ) يعني أثر الآذان ألا صلوا في الرحال وهو صريح في أن القول المذكور كان بعد فراغ الآذان
وفي رواية لمسلم بلفظ : ( في آخر ندائه ) قال القرطبي : يحتمل أن يكون المراد في آخره قبل الفراغ منه جمعا بينه وبين حديث ابن عباس المذكور في الباب وحمل ابن خزيمة حديث ابن عباس على ظاهره وقال : إنه يقال ذلك بدلا من الحيعلة نظرا إلى المعنى لأن معنى حي على الصلاة هلموا إليها ومعنى الصلاة في الرحال تأخروا عن المجيء فلا يناسب إيراد اللفظين معا لأن أحدهما نقيض الآخر
قال الحافظ : ويمكن الجمع بينهما ولا يلزم منه ما ذكر بأن يكون معنى الصلاة في الرحال رخصة لمن أراد أن يترخص ومعنى هلموا إلى الصلاة ندب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة ولو بحمل المشقة
ويؤيد ذلك حديث جابر عند مسلم قال : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمطرنا فقال : ليصل من شاء منكم في رحله )
قوله : ( في رحالكم ) قال أهل اللغة : الرحل المنزل وجمعه رحال سواء كان من حجر أو مدر أو خشب أو وبر أو صوف أو شعر أو غير ذلك
قوله : ( في الليلة الباردة وفي الليلة المطيرة ) في رواية للبخاري : ( في الليلة الباردة أو المطيرة ) [ ص 191 ] وفي أخرى له : ( إذا كانت ليلة ذات برد ومطر ) وفي صحيح أبي عوانة : ( ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح ) وفيه أن كلا من الثلاثة عذر في التأخر عن الجماعة ونقل ابن بطال فيه الإجماع لكن المعروف عند الشافعية أن الريح عذر في الليل فقط
وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل وفي السنن من طريق أبي إسحاق عن نافع في هذا الحديث في الليلة المطيرة والغداة القرة وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه أنهم مطروا يوما فرخص لهم . وكذلك في حديث ابن عباس المذكور في الباب في يوم مطير . قال الحافظ : ولم أر في شيء من الأحاديث الترخيص لعذر الريح في النهار صريحا
قوله : ( ليصل من شاء منكم في رحله ) فيه التصريح بأن الصلاة في الرحال لعذر المطر ونحوه رخصة وليست بعزيمة
قوله : ( في يوم مطير ) في رواية للبخاري : ( في يوم رزغ ) بفتح الراء وسكون الزاي بعدها غين معجمة . قال في المحكم : الرزغ الماء القليل وقيل إنه طين ووحل وفي رواية له ولابن السكن في يوم ردغ بالدال بدل الزاي
قوله : ( إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل صلوا في بيوتكم ) في رواية للبخاري : ( فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة فأمره أن ينادي الصلاة في الرحال ) وفيه دليل على أن المؤذن في يوم المطر ونحوه من الأعذار لا يقول حي على الصلاة بل يجعل مكانها صلوا في بيوتكم وبوب على حديث ابن عباس هذا ابن خزيمة وتبعه ابن حبان ثم المحب الطبري باب حذف حي على الصلاة
قوله : ( أن الجمعة عزمة ) بسكون الزاي ضد الرخصة
قوله : ( أن أحرجكم ) بالحاء المهملة ثم راء ثم جيم . وفي رواية : ( أن أخرجكم ) بالخاء المعجمة . وفي رواية في البخاري : ( أن أؤثمكم ) وهي ترجح رواية من روى بالحاء المهملة
قوله : ( فتمشوا ) في رواية ( فتجيؤن ) فتدوسون الطين إلى ركبكم )
( والأحاديث ) المذكورة تدل على الترخيص في الخروج إلى الجماعة والجمعة عند حصول المطر وشدة البرد والريح

4 - وعن ابن عمر قال : ( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة )
- رواه البخاري

5 - وعن عائشة قالت : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

6 - وعن أبي [ ص 192 ] الدرداء قال : ( من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ )
- ذكره البخاري في صحيحه

- وفي الباب عن أنس عند الشيخين والترمذي والنسائي . وعن سلمة بن الأكوع عند أحمد والطبراني في معجميه وفي إسناده أيوب بن عتبة قاضي اليمامة ضعفه الجمهور وعن أم سلمة عند أحمد وأبي يعلى والطبراني في الكبير وإسناده جيد . وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير أيضا وإسناده حسن . وعن أبي هريرة عند الطبراني في الصغير والأوسط وقد تقدم الكلام على الصلاة بحضرة الطعام وذكر من ذهب إلى وجوب تقديم الأكل على الصلاة ومن قال إنه مندوب فقط ومن قيد ذلك بالحاجة ومن لم يقيد وما هو الحق في باب تقديم العشاء إذا حضر على تعجيل صلاة المغرب من أبواب الأوقات فليرجع إلى هنالك

أبواب الإمامة وصفة الأئمة

باب من أحق بالإمامة

1 - عن أبي سعيد قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم )
- رواه أحمد ومسلم والنسائي

2 - وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه ) وفي لفظ : ( لا يؤمن الرجل الرجل في أهله ولا سلطانه ) وفي لفظ : ( سلما ) بدل ( سنا )
- روى الجميع أحمد ومسلم . ورواه سعيد بن منصور لكن قال فيه : ( لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه )

- قوله : ( إذا كانوا ثلاثة ) مفهوم العدد هنا غير معتبر لما سيأتي في حديث مالك بن الحويرث
قوله : ( وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ) وقوله في الحديث الآخر : ( يؤم القوم أقرؤهم ) فيه [ ص 193 ] حجة لمن قال يقدم في الإمامة الأقرأ على الأفقه وإليه ذهب الأحنف بن قيس وابن سيرين والثوري وأبو حنيفة وأحمد وبعض أصحابهما . وقال الشافعي ومالك وأصحابهما والهادوية : الأفقه مقدم على الأقرأ . قال النووي : لأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط وقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصواب فيه إلا كامل الفقه وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه
قال الشافعي : المخاطب بذلك الذين كانوا في عصره كان أقرؤهم أفقههم فإنهم كانوا يسلمون كبارا ويتفقهون قبل أن يقرؤوا فلا يوجد قارئ منهم إلا وهو فقيه وقد يوجد الفقيه وهو ليس بقارئ لكن قال النووي وابن سيد الناس : إن قوله في الحديث : ( فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ) دليل على تقديم الأقرأ مطلقا وبه يندفع هذا الجواب عن ظاهر الحديث لأن التفقه في أمور الصلاة لا يكون إلا من السنة وقد جعل القارئ مقدما على العالم بالسنة وأما ما قيل من أن الأكثر حفظا للقرآن من الصحابة أكثر فقها فهو وإن صح باعتبار مطلق الفقه لا يصح باعتبار الفقه في أحكام الصلاة لأنها بأسرها مأخوذة من السنة قولا وفعلا وتقريرا وليس في القرآن إلا الأمر بها على جهة الإجمال وهو مما يستوي في معرفته القارئ للقرآن وغيره
وقد اختلف في المراد من قوله ( يؤم القوم أقرؤهم ) فقيل المراد أحسنهم قراءة وإن كان أقلهم حفظا . وقيل أكثرهم حفظا للقرآن ويدل على ذلك ما رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح عن عمرو بن سلمة قال : ( انطلقت مع أبي إلى النبي صلى الله عليه و سلم بإسلام قومه فكان فيما أوصانا ليؤمكم أكثركم قرآنا فكنت أكثرهم قرآنا فقدموني ) وأخرجه أيضا البخاري وأبو داود والنسائي وسيأتي في باب ما جاء في إمامة الصبي
قوله : ( فإن كانوا في القراءة سواء ) أي استووا في القدر المعتبر منها إما في حسنها أو في كثرتها وقلتها على القولين ولفظ مسلم : ( فإن كانت القراءة واحدة )
قوله : ( فأعلمهم بالسنة ) فيه أن مزية العلم مقدمة على غيرها من المزايا الدينية
قوله : ( فأقدمهم هجرة ) الهجرة المقدم بها في الإمامة لا تختص بالهجرة في عصره صلى الله عليه و سلم بل هي التي لا تنقطع إلى يوم القيامة كما وردت بذلك الأحاديث وقال به الجمهور . وأما حديث : ( لا هجرة بعد الفتح ) فالمراد به الهجرة من مكة إلى المدينة أو لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل [ ص 194 ] الهجرة قبل الفتح وهذا لا بد منه للجمع بين الأحاديث . قال النووي : وأولاد من تقدمت هجرته من المهاجرين أولى من أولاد من تأخرت هجرته وليس في الحديث ما يدل على ذلك
قوله : ( فأقدمهم سنا ) أي يقدم في الإمامة من كبر سنه في الإسلام لأن ذلك فضيلة يرجح بها . والمراد بقوله ( سلما ) في الرواية التي ذكرها المصنف الإسلام فيكون من تقدم إسلامه أولى ممن تأخر إسلامه . وجعل البغوي أولاد من تقدم إسلامه أولى من أولاد من تأخر إسلامه والحديث لا يدل عليه
قوله : ( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ) قال النووي : معناه أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره
قال ابن رسلان : لأنه موضع سلطنته انتهى . والظاهر أن المراد به السلطان الذي إليه ولاية أمور الناس لا صاحب البيت ونحوه ويدل على ذلك ما في رواية أبي داود بلفظ : ( ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه ) وظاهره أن السلطان مقدم على غيره وإن كان أكثر منه قرآنا وفقها وورعا وفضلا فيكون كالمخصص لما قبله
قال أصحاب الشافعي : ويقدم السلطان أو نائبه على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما لأن ولايته وسلطنته عامة . قالوا : ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل منه
قوله : ( على تكرمته ) قال النووي وابن رسلان : بفتح التاء وكسر الراء الفراش ونحوه مما يبسط لصاحب المنزل ويختص به دون أهله . وقيل هي الوسادة وفي معناها السرير ونحوه

3 - وعن مالك بن الحويرث قال : ( أتيت النبي صلى الله عليه و سلم أنا وصاحب لي فلما أردنا الإقفال من عنده قال لنا : إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما )
- رواه الجماعة . ولأحمد ومسلم : ( وكانا متقاربين في القراءة ) ولأبي داود : ( وكنا يومئذ متقاربين في العلم )

- قوله : ( فلما أردنا الإقفال ) هو مصدر أقفل أي رجع . وفي رواية للبخاري أن مالك بن الحويرث قال : ( قدمنا على النبي صلى الله عليه و سلم ونحن شببة فلبثنا عنده نحوا من عشرين ليلة وكان النبي صلى الله عليه و سلم رحيما فقال : لو رجعتم إلى بلادكم فعلمتموهم )
قوله : ( وليؤمكما أكبركما ) فيه متمسك لمن قال بوجوب الجماعة وقد ذكرنا فيما تقدم ما يدل على صرفه إلى الندب وظاهره أن المراد كبر السن . ومنهم من جوز أن يكون مراده بالكبر ما هو أعم من السن والقدر وهو مقيد بالاستواء في القراءة [ ص 195 ] والفقه كما في الروايتين الأخريين . وقد زعم بعضهم أنه معارض لقوله ( يؤم القوم أقرؤهم ) ثم جمع بأن قصة مالك بن الحويرث واقعة عين غير قابلة للعموم بخلاف قوله صلى الله عليه و سلم : ( يؤم القوم أقرؤهم ) والتنصيص على تقاربهم في القراءة والعلم يرد عليه
قوله : ( وكنا يومئذ متقاربين في العلم ) قال في الفتح : أظن في هذه الرواية إدراجا فإن ابن خزيمة رواه من طريق إسماعيل بن علية عن خالد قال : قلت لأبي قلابة فأين القراءة قال : فإنهما كانا متقاربين ثم ذكر ما يدل على عدم الإدراج

4 - وعن مالك بن الحويرث قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه وأكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان لقوله صلى الله عليه و سلم في حديث أبي مسعود إلا بإذنه

5 - ويعضده عموم ما روى ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة عبد أدى حق الله وحق مواليه ورجل أم قوما وهم به راضون ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كل ليلة )
- رواه الترمذي

6 - وعن أبي هريرة : ( عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوما إلا بإذنهم ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم )
- رواه أبو داود

- أما حديث مالك بن الحويرث فحسنه الترمذي وفي إسناده أبو عطية قال أبو حاتم : لا يعرف ولا يسمى ويشهد له حديث ابن مسعود عند الطبراني بإسناد صحيح . والأثرم بلفظ : ( من السنة أن يتقدم صاحب البيت ) وأخرجه أحمد في مسنده
وحديث عبد الله ابن حنطب عند البزار والطبراني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الرجل أحق بصدر فراشه وأحق بصدر دابته وأحق أن يؤم في بيته ) وما تقدم من حديث أبي مسعود عند أبي داود بلفظ : ( ولا يؤم الرجل في بيته )
وأما حديث أبي مسعود الذي أشار إليه المصنف فقد تقدم في أول الباب
وأما حديث ابن عمر فقد حسنه الترمذي وفي إسناده أبو اليقظان عثمان بن عمير البجلي وهو ضعيف ضعفه أحمد وغيره وتركه ابن مهدي وقد أخرجه أيضا أحمد
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود من رواية ثور عن يزيد بن شريح الحضرمي عن أبي حي المؤذن وكلهم ثقات عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم . وأخرجه أيضا الترمذي بهذا الإسناد عن ثوبان ولكن [ ص 196 ] لفظه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( لا يحل لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتى يستأذن فإن نظر فقد دخل ولا يؤم قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم ولا يقوم إلى الصلاة وهو حقن ) وقال : حديث حسن ثم قال : وقد روي هذا الحديث عن يزيد بن شريح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وكان حديث يزيد بن شريح عن أبي حي المؤذن عن ثوبان في هذا أجود إسنادا وأشهر انتهى
وأخرجه أيضا أحمد عن أبي أمامة وفيه : ( ولا يؤمن قوما فيخص نفسه بالدعاء دونهم فإن فعل فقد خانهم ) ورواه الطبراني أيضا بلفظ : ( ومن صلى بقوم فخص نفسه بدعوة دونهم فقد خانهم ) وفي حديث أبي أمامة اختلاف ذكره الدارقطني
قوله : ( من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم ) فيه أن المزور أحق بالإمامة من الزائر وإن كان أعلم أو اقرأ من المزور . قال الترمذي : والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم قالوا صاحب المنزل أحق بالإمامة من الزائر
وقال بعض أهل العلم : إذا أذن له فلا بأس أن يصلي به . وقال إسحاق : لا يصلي أحد بصاحب المنزل وإن أذن له قال : وكذلك في المسجد إذ زارهم يقول ليصل بهم رجل منهم انتهى
وقد حكى المصنف عن أكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان واستدل بما ذكره وقد عرفت مما سلف أن أبا داود زاد في حديث أبي مسعود ( ولا يؤم الرجل في بيته ) فيصلح حينئذ قوله في آخر حديثه ( إلا بإذنه ) لتقييد جميع الجمل المذكورة فيه التي من جملتها قوله ( ولا يؤم الرجل في بيته ) على ما ذهب إليه جماعة من أئمة الأصول وقال به الشافعي وأحمد قالا ما لم يقم دليل على اختصاص القيد ببعض الجمل . ويعضد التقييد بالإذن عموم قوله في حديث ابن عمر وهم به راضون . وقوله في حديث أبي هريرة : ( إلا بإذنهم ) كما قال المصنف فإنه يقتضي جواز إمامة الزائر عند رضا المزور
قال العراقي : ويشترط أن يكون المزور أهلا للإمامة فإن لم يكن أهلا كالمرأة في صورة كون الزائر رجلا والأمي في صورة كون الزائر قارئا ونحوهما فلا حق له في الإمامة [ ص 197 ]

باب إمامة الأعمى والعبد والمولى

1 - عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى )
- رواه أحمد وأبو داود

2 - وعن محمود بن الربيع : ( أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال : يا رسول الله إنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى فجاءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أين تحب أن أصلي فأشار إلى مكان في البيت فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم )
- رواه بهذا اللفظ البخاري والنسائي

- حديث أنس أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه وأبو يعلى والطبراني عن عائشة وأخرجه أيضا الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس وأخرجه أيضا من حديث ابن بحينة وفي إسناده الواقدي
( وفي الباب ) عن عبد الله بن عمر الخطمي أنه كان يؤم قومه بني خطمة وهو أعمى على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وابن أبي خيثمة
قوله : ( يصلي بهم وهو أعمى ) فيه جواز إمامة الأعمى وقد صرح أبو إسحاق المروزي والغزالي بأن إمامة الأعمى أفضل من إمامة البصير لأنه أكثر خشوعا من البصير لما في البصير من شغل القلب بالمبصرات ورجح البعض أن إمامة البصير أولى لأنه أشد توقيا للنجاسة والذي فهمه الماوردي من نص الشافعي أن إمامة الأعمى والبصير سواء في عدم الكراهية لأن في كل منهما فضيلة غير أن إمامة البصير أفضل لأن أكثر من جعله النبي صلى الله عليه و سلم إماما البصراء وأما استنابته صلى الله عليه وآله وسلم لابن أم مكتوم في غزواته فلأنه كان لا يتخلف عن الغزو من المؤمنين إلا معذور فلعله لم يكن في البصراء المتخلفين من يقوم مقامه أو لم يتفرغ لذلك أو استخلفه لبيان الجواز
وأما إمامة عتبان بن مالك لقومه فلعله أيضا لم يكن في قومه من هو في مثل حاله من البصراء
قوله : ( كان يؤم قومه وهو أعمى ) في رواية للبخاري : ( أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم : يا رسول الله قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي ) وهو أصرح من اللفظ الذي ذكره المصنف في الدلالة على المطلوب لما فيه من ظهور التقرير بدون احتمال
قوله : ( وأنا رجل ضرير البصر ) في رواية للبخاري : ( جعل [ ص 198 ] بصري يكل ) وفي أخرى : ( قد أنكرت بصري ) ولمسلم : ( أصابني في بصري بعض الشيء ) واللفظ الذي ذكره المصنف أخرجه البخاري في باب الرخصة في المطر وهو يدل على أنه قد كان أعمى . وبقية الروايات تدل على أنه لم يكن قد بلغ إلى حد العمى . وفي رواية لمسلم بلفظ : ( أنه عمي فأرسل ) وقد جمع بين الروايات بأنه أطلق عليه العمى لقربه منه ومشاركته له في فوت بعض البصر المعهود في حال الصحة وأما قول محمود بن الربيع أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى فالمراد أنه لقيه حين سمع منه الحديث وهو أعمى
قوله : ( مكانا ) هو منصوب على الظرفية
( وفي حديث عتبان ) فوائد منها إمامة الأعمى وإخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة . والتخلف عن الجماعة في المطر والظلمة . واتخاذ موضع معين للصلاة . وإمامة الزائر إذا كان هو الإمام الأعظم . والتبرك بالمواضع التي صلى فيها صلى الله عليه و سلم . وإجابة الفاضل دعوة المفضول وغير ذلك

3 - وعن ابن عمر : ( لما قدم المهاجرون الأولون نزلوا العصبة موضعا بقباء قبل مقدم النبي صلى الله عليه و سلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا وكان فيهم عمر بن الخطاب وأبو سلمة بن عبد الأسد )
- رواه البخاري وأبو داود

4 - وعن ابن أبي مليكة : ( أنهم كانوا يأتون عائشة بأعلى الوادي هو وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير فيؤمهم أبو عمرو مولى عائشة وأبو عمرو غلامها حينئذ لم يعتق )
- رواه الشافعي في مسنده

- ذكر الحافظ في التلخيص رواية ابن أبي مليكة ونسبها إلى الشافعي كما نسبها المصنف وذكر في الفتح أنها رواها أيضا عبد الرزاق قال وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع عن هشام عن أبي بكر بن أبي مليكة أن عائشة أعتقت غلاما لها عن دبر فكان يؤمها في رمضان في المصحف . وعلقه البخاري
قوله : ( قدم المهاجرون الأولون ) أي من مكة إلى المدينة وبه صرح في رواية الطبراني
قوله : ( العصبة ) بالعين المهملة المفتوحة وقيل مضمومة وإسكان الصاد المهملة وبعدها موحدة اسم مكان بقباء
وفي النهاية عن بعضهم بفتح العين والصاد المهملتين قيل والمعروف المعصب بالتشديد
قوله : ( وكان يؤمها سالم مولى أبي حذيفة هو مولى امرأة من الأنصار فأعتقته وكانت إمامته بهم قبل أن يعتق وإنما قيل له مولى أبي حذيفة لأنه لازم أبا حذيفة بعد أن أعتق فتبناه فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه . واستشهد سالم باليمامة في خلافة أبي بكر
قوله : ( وكان [ ص 199 ] أكثرهم قرآنا ) إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه . وفي رواية للطبراني : لأنه كان أكثرهم قرآنا
قوله : ( وكان فيهم عمر بن الخطاب ) الخ زاد البخاري في الأحكام أبا بكر الصديق وزيد بن حارثة وعامر بن ربيعة . واستشكل ذكر أبي بكر فيهم إذ في الحديث أن ذلك كان قبل مقدم النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر كان رفيقه . ووجهه البيهقي باحتمال أن يكون سالم المذكور استقر على الصلاة بهم فيصح ذكر أبي بكر . قال الحافظ : ولا يخفى ما فيه
وقد استدل المصنف رحمه الله بإمامة سالم بهؤلاء الجماعة على جواز إمامة العبد . ووجه الدلالة عليه إجماع أكابر الصحابة القرشيين على تقديمه وكذلك استدل بإمامة مولى عائشة لأولئك لمثل ذلك

باب ما جاء في إمامة الفاسق

1 - عن جابر : ( عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تؤمن امرأة رجلا ولا أعرابي مهاجرا ولا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه )
- رواه ابن ماجه

2 - وعن ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم )
- رواه الدارقطني

3 - وعن مكحول عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر )
- رواه أبو داود والدارقطني بمعناه وقال : مكحول لم يلق أبا هريرة . وعن عبد الكريم البكاء قال : ( أدركت عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يصلي خلف أئمة الجور ) رواه البخاري في تاريخه

- حديث جابر في إسناده عبد الله بن محمد التميمي وهو تالف . قال البخاري : منكر الحديث . وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به . وقال وكيع : يضع الحديث وقد تابعه عبد الملك بن حبيب في الواضحة ولكنه متهم بسرقة الحديث وتخليط الأسانيد وقد صرح ابن عبد البر بأن عبد الملك المذكور أفسد إسناد هذا الحديث وقد ثبت في كتب جماعة من أئمة أهل البيت كأحمد بن عيسى والمؤيد بالله وأبي طالب وأحمد بن سليمان والأمير الحسين وغيرهم عن علي عليه السلام مرفوعا : ( لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه ) وفي إسناد حديث جابر أيضا علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف
وحديث [ ص 200 ] ابن عباس في إسناده سلام بن سليمان المدائني وهو ضعيف . وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا البيهقي وهو منقطع وأخرجه ابن حبان في الضعفاء وفي إسناده عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة وهو متروك . وأخرجه الدارقطني أيضا من حديث الحارث عن علي عليه السلام ومن حديث علقمة والأسود عن عبد الله ومن حديث مكحول أيضا عن واثلة ومن حديث أبي الدرداء من طرق كلها كما قال الحافظ واهية جدا . قال العقيلي : ليس في هذا المتن إسناد يثبت
ونقل ابن الجوزي عن أحمد أنه سئل عنه فقال ما سمعناه بهذا . وقال الدارقطني : ليس فيها شيء يثبت . قال الحافظ : وللبيهقي في هذا الباب أحاديث كلها ضعيفة غاية الضعف وأصح ما فيه حديث مكحول عن أبي هريرة على إرساله . وقال أبو أحمد الحاكم هذا حديث منكر وأما قول عبد الكريم البكاء أنه أدرك عشرة من أصحاب النبي الخ فهو ممن لا يحتج بروايته . وقد استوفي الكلام عليه في الميزان ولكنه قد ثبت إجماع أهل العصر الأول من هذه الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعا فعليا ولا يبعد أن يكون قوليا على الصلاة خلف الجائرين لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية وحالهم وحال أمرائهم لا يخفى
وقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف . وأخرج مسلم وأهل السنن أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة وإخراج منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنكار بعض الحاضرين . وأيضا قد ثبت تواترا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأنه يكون على الأمة أمراء يميتون الصلاة ميتة الأبدان ويصلونها لغير وقتها فقالوا : يا رسول الله بما تأمرنا فقال : ( صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة ) ولا شك أن من أمات الصلاة وفعلها في غير وقتها غير عدل وقد أذن النبي صلى الله عليه و سلم بالصلاة خلفه نافلة ولا فرق بينها وبين الفريضة في ذلك
ومما يؤيد عدم اشتراط عدالة إمام الصلاة حديث ( صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وصلوا على من قال لا إله إلا الله ) أخرجه الدارقطني وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن كذبه يحيى بن معين ورواه أيضا من وجه آخر عنه وفي إسناده خالد بن إسماعيل وهو متروك ورواه أيضا من وجه آخر عنه وفي إسناده أبو الوليد المخزومي وقد خفي حاله أيضا على الضياء المقدسي وتابعه أبو البختري وهب [ ص 201 ] ابن وهب وهو كذاب
ورواه أيضا والطبراني من طريق مجاهد عن ابن عمر وفيه محمد بن الفضل وهو متروك وله طريق أخرى عند ابن عمر وفيها عثمان بن عبد الله العثماني وقد رماه ابن عدي بالوضع . ومما يؤيد ذلك أيضا عموم أحاديث الأمر بالجماعة من غير فرق بين أن يكون الإمام برا أو فاجرا
( والحاصل ) أن الأصل عدم اشتراط العدالة وأن كل من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره وقد اعتضد هذا الأصل بما ذكر المصنف وذكرنا من الأدلة وبإجماع الصدر الأول عليه وتمسك الجمهور من بعدهم به فالقائل بأن العدالة شرط كما روي عن العترة ومالك بن جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب محتاج إلى دليل ينقل عن ذلك الأصل وقد أفردت هذا البحث برسالة مستقلة واستوفيت فيها الكلام على ما ظنه القائلون بالاشتراط دليلا من العمومات القرآنية وغيرها ولهم متمسك على اشتراط العدالة لم أقف على أحد استدل به ولا تعرض له وهو ما أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري عن السائب بن خلاد : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا أم قوما فبصق في القبلة ورسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر إليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين فرغ : لا يصلي لكم فأراد بعد ذلك أن يصلي بهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : نعم ) قال الراوي : حسبت أنه قال له إنك آذيت الله ورسوله
( واعلم ) أن محل النزاع إنما هو في صحة الجماعة خلف من لا عدالة له وأما أنها مكروهة فلا خلاف في ذلك كما في البحر . وقد أخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه صلى الله عليه و سلم : ( إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم ) ويؤيد ذلك حديث ابن عباس المذكور في الباب . وله : ( لا تؤمن امرأة رجلا ) وفيه أن المرأة لا تؤم الرجل وقد ذهب إلى ذلك العترة والحنفية والشافعية وغيرهم وأجاز المزني وأبو ثور والطبري إمامتها في التراويح إذا لم يحضر من يحفظ القرآن
ويستدل للجواز بحديث أم ورقة : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أمرها أن تؤم أهل دارها ) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وأخرجه أيضا الدارقطني والحاكم . وأصل الحديث : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما غزا بدرا قالت : يا رسول الله أتاذن لي في الغزو معك فأمرها أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذن يؤذن لها وكان لها غلام وجارية دبرتهما ) فالظاهر أنها كانت تصلي ويأتم بها مؤذنها وغلامها [ ص 202 ] وبقية أهل دارها . وقال الدارقطني : إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها
قوله : ( ولا أعرابي مهاجرا ) فيه أنه لا يؤم الأعرابي الذي لم يهاجر بمن كان مهاجرا وقد تقدم أن المهاجر أولى من المتأخر عنه في الهجرة وممن لم يهاجر أولى بالأولى

باب ما جاء في إمامة الصبي

1 - عن عمرو بن مسلمة قال : ( لما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبادر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال : جئتكم من عند النبي صلى الله عليه و سلم حقا فقال : صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي : ألا تغطون عنا إست قارئكم فاشتروا فقطعوا لي قميصا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص )
- رواه البخاري والنسائي بنحوه . قال فيه : ( كنت أؤمهم وأنا ابن ثمان سنين ) وأبو داود وقال فيه : ( وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين ) وأحمد ولم يذكر سنه . ولأحمد وأبي داود : ( فما شهدت مجمعا من جرم إلا كنت إمامهم إلى يومي هذا )

2 - وعن ابن مسعود قال : ( لا يؤم الغلام حتى تجب عليه الحدود )

3 - وعن ابن عباس قال : ( لا يؤم الغلام حتى يحتلم ) رواهما الأثرم في سننه . ( 1 )

- عمرو بن سلمة قد اختلف في صحبته قال في التهذيب : لم يثبت له سماع من النبي صلى الله عليه و سلم . وروى الدارقطني ما يدل على أنه وفد مع أبيه . وأثر ابن عباس رواه عبد الرزاق مرفوعا بإسناد ضعيف
قوله : ( وليؤمكم أكثركم ) فيه أن المراد بالأقرأ في الأحاديث المتقدمة الأكثر قرآنا لا الأحسن قراءة وقد تقدم
قوله : ( فقدموني ) فيه جواز إمامة الصبي . ووجه الدلالة ما في قوله صلى الله عليه و سلم : ( ليؤمكم أكثركم [ ص 203 ] قرآنا ) من العموم
قال أحمد بن حنبل : ليس في إطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وأجيب بأن إمامته بهم كانت حال نزول الوحي ولا يقع حالة التقرير لأحد من الصحابة على الخطأ ( 2 ) ولذا استدل بحديث أبي سعيد وجابر : ( كنا نعزل والقرآن ينزل ) وأيضا الذين قدموا عمرو بن سلمة كانوا كلهم صحابة . قال ابن حزم : ولا نعلم لهم مخالفا كذا في الفتح
وقد ذهب إلى جواز إمامة الصبي الحسن وإسحاق والشافعي والإمام يحيى ومنع من صحتها الهادي والناصر والمؤيد بالله من أهل البيت وكرهها الشعبي والأوزاعي والثوري ومالك . واختلفت الرواية عن أحمد وأبي حنيفة . قال في الفتح : والمشهور عنهما الإجزاء في النوافل دون الفرائض وقد قيل إن حديث عمرو المذكور كان في نافلة لا فريضة ورد بأن قوله ( صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا ) يدل على أن ذلك كان في فريضة
وأيضا قوله ( فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ) لا يحتمل غير الفريضة لأن النافلة لا يشرع لها الأذان . ومن جملة ما أجيب به عن حديث عمرو المذكور ما روي عن أحمد بن حنبل أنه كان يضعف أمر عمرو بن سلمة وروى عن ذلك عنه الخطابي في المعالم ورد بأن عمرو بن سلمة صحابي مشهور
قال في التقريب : صحابي صغير نزل بالبصرة وقد روى ما يدل على أنه وفد على النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم
وأما القدح في الحديث بأن فيه كشف العورة في الصلاة وهو لا يجوز كما في ضوء النهار فهو من الغرائب . وقد ثبت ( أن الرجال كانوا يصلون عاقدي أزرهم ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا ) زاد أبو داود : ( من ضيق الإزار )
قوله : ( وكانت علي بردة ) في رواية أبي داود : ( وعلي بردة لي صغيرة ) وفي أخرى : ( كنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق ) والبردة كساء صغير مربع ويقال كساء أسود صغير وبه كني أبو بردة
قوله : ( تقلصت عني ) في رواية لأبي داود : ( خرجت إستي ) وفي أخرى له : ( تكشفت )
قوله : ( إست قارئكم ) المراد هنا بالإست العجز ويراد به حلقة الدبر
قوله : ( فاشتروا فقطعوا لي قميصا ) لفظ أبي داود : ( فاشتروا لي قميصا )
قوله : ( من جرم ) بجيم مفتوحة وراء ساكنة وهم قومه . ومن جملة حجج [ ص 204 ] القائلين بأن إمامة الصبي لا تصح حديث : ( رفع القلم عن ثلاثة ) ورد بأن رفع القلم لا يستلزم عدم الصحة ومن جملتها أن صلاته غير صحيحة لأن الصحة معناها موافقة الأمر والصبي غير مأمور ورد بمنع أن ذلك معناها بل معناها استجماع الأركان وشروط الصحة ولا دليل على أن التكليف منها ومن جملتها أيضا أن العدالة شرط لما مر والصبي غير عدل ورد بأن العدالة نقيض الفسق وهو غير فاسق لأن الفسق فرع تعلق الطلب ولا تعلق وانتفاء كون صلاته واجبة عليه لا يستلزم عدم صحة إمامته لما سيأتي من صحة صلاة المفترض خلف المتنفل
_________
( 1 ) قوله في أول الحديث وبادر أبي قومي أي سبق أبي قومي بالإسلام وكذلك بدر كما في بعض روايات البخاري . وقوله فاشتروا مفعوله محذوف أي فاشتروا ثوبا . وفي رواية أبي داود كما سينبه عليه الشارح بعد : ( فاشتروا لي قميصا عمانيا ) وهو بفتح العين المهملة وتخفيف الميم نسبة إلى عمان من البحرين والله أعلم
( 2 ) عبارة الحافظ في الفتح . ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز اه وهي أظهر من عبارة الشارح هنا . والله أعلم

باب إقتداء المقيم بالمسافر

1 - عن عمران بن حصين قال : ( ما سافر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفرا إلا صلى ركعتين حتى يرجع وأنه أقام بمكة زمن الفتح ثمان عشرة ليلة يصلي بالناس ركعتين ركعتين إلا المغرب ثم يقول : يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين أخريين فإنا قوم سفر )
- رواه أحمد

2 - وعن عمر : ( أنه كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم قال : يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر )
- رواه مالك في الموطأ

- حديث عمران أخرجه أيضا الترمذي وحسنه البيهقي وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده كما قال الحافظ . وأثر عمر رجال إسناده أئمة ثقات
قوله : ( ما سافر رسول الله صلى الله عليه و سلم ) الخ سيأتي الكلام عليه في أبواب صلاة المسافر
قوله : ( ثمان عشرة ليلة ) وقد روي أقل من ذلك وقد روي أكثر وسيأتي بيان الاختلاف وكيفية الجمع بين الروايات في باب من أقام لقضاء حاجته
( والحديث ) يدل على جواز ائتمام المقيم بالمسافر وهو مجمع عليه كما في البحر
واختلف في العكس فذهب الهادي والقاسم وأبو طالب وأبو العباس وطاوس وداود والشعبي والإمامية إلى عدم الصحة لقوله صلى الله عليه و سلم ( لا تختلفوا على إمامكم ) وقد خالف في العدد والنية . وذهب زيد بن علي والمؤيد بالله والباقر وأحمد بن عيسى والشافعية والحنفية إلى الصحة إذ لم تفصل أدلة الجماعة وقد خصصت الهادوية عدم صحة صلاة المسافر خلف المقيم بالركعتين الأوليين من الرباعية وقالوا بصحتها في الآخرتين ويدل للجواز مطلقا ما أخرجه أحمد [ ص 205 ] ابن حنبل في مسنده عن ابن عباس : ( أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم تلك السنة ) وفي لفظ أنه قال له موسى بن سلمة : ( إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا وإذا رجعنا صلينا ركعتين فقال تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه و سلم )
وقد أورد الحافظ هذا الحديث في التلخيص ولم يتكلم عليه وقال : إن أصله في مسلم والنسائي بلفظ : ( قلت لابن عباس : كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام قال : ركعتين سنة أبي القاسم )

باب هل يقتدي المفترض بالمتنفل أم لا

1 - عن جابر : ( أن معاذ كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة )
- متفق عليه . ورواه الشافعي والدارقطني وزاد : ( هي له تطوع ولهم مكتوبة العشاء )

2 - وعن معاذ بن رفاعة عن سليم رجل من بني سلمة : ( أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام ونكون في أعمالنا في النهار فينادي بالصلاة فنخرج إليه فيطول علينا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا معاذ لا تكن فتانا إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك )
- رواه أحمد

- حديث معاذ بن رفاعة إسناده كلهم ثقات . وحديث معاذ قد روي بألفاظ مختلفة وقد قدمنا في باب انفراد المأموم لعذر بعضا من ذلك والزيادة التي رواها الشافعي والدارقطني رواها أيضا عبد الرزاق والطحاوي والبيهقي وغيرهم قال الشافعي : هذا حديث ثابت لا أعلم حديثا يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق واحد أثبت منه
قال في الفتح بعد أن ذكر هذه الزيادة : وهو حديث صحيح ورجاله رجال الصحيح وقد رد في الفتح على ابن الجوزي لما قال إنها لا تصح وعلى الطحاوي لما أعلها وزعم أنها مدرجة والرواية الثانية التي رواها أحمد رواها أيضا الطحاوي وأعلها ابن حزم بالانقطاع لأن معاذ بن رفاعة لم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أدرك هذا الذي شكا إليه لأن هذا الشاكي مات قبل يوم أحد
( واعلم ) أنه قد استدل بالرواية المتفق عليها وتلك الزيادة المصرحة بأن صلاته بقومه كانت له تطوعا على جواز إقتداء المفترض [ ص 206 ] بالمتنفل وأجيب عن ذلك بأجوبة :
منها : قوله صلى الله عليه و سلم : ( إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك ) فإنه ادعى الطحاوي أن معناه إما أن تصلي معي ولا تصلي مع قومك وإما أن تخفف بقومك ولا تصلي معي ويرد بأن غاية ما في هذا أنه أذن له بالصلاة معه والصلاة بقومه مع التخفيف والصلاة معه فقط مع عدمه وهو لا يدل على مطلوب المانع من ذلك نعم قال المصنف رحمه الله ما لفظه : وقد احتج به بعض من منع إقتداء المفترض بالمتنفل قال : لأنه يدل على أنه متى صلى معه امتنعت إمامته وبالإجماع لا تمتنع بصلاة النفل معه فعلم أنه أراد بهذا القول صلاة الفرض وأن الذي كان يصلي معه كان ينويه نفلا اه
وعلى تسليم أن هذا هو المراد من ذلك القول فتلك الزيادة أعني قوله : ( هي له تطوع ولهم مكتوبة ) أرجح سندا وأصرح معنى . وقول الطحاوي إنها ظن من جابر مردود لأن جابرا كان ممن يصلي مع معاذ فهو محمول على أنه سمع ذلك منه ولا يظن بجابر أنه أخبر عن شخص بأمر غير معلوم له إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه فإنه اتقى لله وأخشى
ومنها : أن فعل معاذ لم يكن بأمر النبي صلى الله عليه و سلم ولا تقريره كذا قال الطحاوي ورد بأن النبي صلى الله عليه و سلم علم بذلك وأمر معاذا به فقال : ( صل بهم صلاة أخفهم ) وقال له لما شكوا إليه تطويله : ( أفتان أنت يا معاذ ) وأيضا رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة والواقع ههنا كذلك فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة وفيهم كما قال الحافظ ثلاثون عقبيا وأربعون بدريا وكذا قال ابن حزم قال : ولا نحفظ من غيرهم من الصحابة امتناع ذلك بل قال معهم بالجواز عمر وابنه وأبو الدرداء وأنس وغيرهم
ومنها : أن ذلك كان في الوقت الذي يصلي فيه الفريضة مرتين فيكون منسوخا بقوله صلى الله عليه و سلم : ( لا تصلوا الصلاة في اليوم مرتين ) كذا قال الطحاوي . ورد بأن النهي عن فعل الصلاة مرتين محمول على أنها فريضة في كل مرة كما جزم بذلك البيهقي جمعا بين الحديثين . قال في الفتح : بل لو قال قائل إن هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيدا ولا يقال القصة قديمة وصاحبها استشهد بأحد لأنا نقول كانت أحد في أواخر الثالثة فلا مانع أن يكون النهي في الأولى والإذن في الثانية مثلا . وقد قال صلى الله عليه و سلم للرجلين اللذين لم يصليا معه : ( إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ) أخرجه أصحاب السنن من حديث يزيد ابن الأسود وصححه ابن خزيمة وغيره وقد تقدم وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر [ ص 207 ] حياة النبي صلى الله عليه و سلم ويدل على الجواز أمره صلى الله عليه و سلم لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها أن يصلوها في بيوتهم في الوقت ثم يجعلوها معهم نافلة
ومنها : أن صلاة المفترض خلف المتنفل من الاختلاف وقد قال صلى الله عليه و سلم : ( لا تختلفوا على إمامكم ) ورد بأن الاختلاف المنهي عنه مبين في الحديث بقوله : ( فإذا كبر فكبروا ) الخ ولو سلم أنه يعم كل اختلاف لكان حديث معاذ ونحوه مخصصا له ومن المؤيدات لصحة صلاة المفترض خلف المتنفل ما قاله أصحاب الشافعي أنه لا يظن بمعاذ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد المسجد الحرام
ومنها : ما قاله الخطابي أن العشاء في قوله : ( كان يصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم العشاء ) حقيقة في المفروضة فلا يقال كان ينوي بها التطوع
ومنها : ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الخوف أنه كان يصلي بكل طائفة ركعتين . وفي رواية أبي داود أنه صلى الله عليه وآله وسلم ( صلى بطائفة ركعتين وسلم ثم صلى بطائفة ركعتين ) وإحداهما نفل قطعا . ودعوى اختصاص ذلك بصلاة الخوف غير ظاهر
ومنها : ما رواه الإسماعيلي عن عائشة أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعود من المسجد فيؤم بأهله وقد تقدم

باب إقتداء الجالس بالقائم

1 - عن أنس قال : ( صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه خلف أبي بكر قاعد في ثوب متوشحا به )

2 - وعن عائشة قالت : ( صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعدا )
- رواهما الترمذي وصححهما

- حديث أنس أخرجه النسائي أيضا والبيهقي وحديث عائشة أخرجه أيضا النسائي
( والحديثان ) يدلان على أن الإمام في تلك الصلاة هو أبو بكر وقد اختلفت الروايات في ذلك عن عائشة وغيرها . وقد قدمنا طرفا من الاختلاف وأشرنا إلى الجمع بينهما في باب الإمام ينتقل مأموما . وفيهما دليل على جواز صلاة القاعد لعذر خلف القائم ولا أعلم فيه خلافا [ ص 208 ]

باب إقتداء القادر على القيام بالجالس وأنه يجلس معه

1 - عن عائشة أنها قالت : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع ركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا )

2 - وعن أنس قال : ( سقط النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن فرس فجحش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا فصلينا وراءه قعودا فلما قضى الصلاة قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا سجد فاسجدوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون )
- متفق عليهما . وللبخاري عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صرع عن فرسه فجحش شقه أو كتفه فأتاه أصحابه يعودونه فصلى بهم جالسا وهم قيام فلما سلم قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا ) ولأحمد في مسنده حدثنا يزيد بن هارون عن حميد عن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انفكت قدمه فقعد في مشربة له درجتها من جذوع فأتى أصحابه يعودونه فصلى بهم قاعدا وهم قيام فلما حضرت الصلاة الأخرى قال لهم : ائتموا بإمامكم فإذا صلى قائما فصلوا قياما وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا

3 - وعن جابر قال : ( ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانفكت قدمه فأتيناه نعوده فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالسا قال : فقمنا خلفه فسكت عنا ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا فقمنا خلفه فأشار إلينا فقعدنا فلما قضى الصلاة قال : إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها )
- رواه أبو داود

- حديث عائشة أخرجه أيضا أبو داود وابن ماجه . وحديث أنس أخرجه أيضا بقية الأئمة الستة . وحديث جابر أخرجه أيضا مسلم وابن ماجه والنسائي من رواية الليث عن أبي الزبير عن جابر بلفظ : ( اشتكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلينا [ ص 209 ] وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال : إن كنتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا )
ورواه أيضا مسلم من رواية عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي عن أبي الزبير عن جابر . ورواه أبو داود من رواية الأعمش عن أبي سفيان عن جابر
( وفي الباب ) أحاديث قد قدمنا الإشارة إليها في باب وجوب متابعة الإمام وقد قدمنا الكلام على أكثر ألفاظ أحاديث الباب هنالك
قوله : ( مشربة ) بفتح الميم وبالشين المعجمة وبضم الراء وفتحها وهي الغرفة . وقيل كالخزانة فيها الطعام والشراب ولهذا سميت مشربة فإن المشربة بفتح الراء فقط هي الموضع الذي يشرب منه الناس
قوله : ( على جذم ) بجيم مكسورة وذال معجمة ساكنة وهو أصل الشيء والمراد هنا أصل النخلة . وفي رواية ابن حبان ( على جذع نخلة ذهب أعلاها وبقي أصلها في الأرض ) وحكى الجوهري فتح الجيم وهي ضعيفة فإن الجذم بالفتح القطع
قوله : ( فانفكت ) الفك نوع من الوهن والخلع وانفك العظم انتقل من مفصله يقال فككت الشيء أبنت بعضه من بعض
وقد استدل بالأحاديث المذكورة في الباب القائلون إن المأموم يتابع الإمام في الصلاة قاعدا وإن لم يكن المأموم معذورا وممن قال بذلك أحمد وإسحاق والأوزاعي وابن المنذر وداود وبقية أهل الظاهر . قال ابن حزم : وبهذا نأخذ إلا فيمن يصلي إلى جنب الإمام يذكر الناس ويعلمهم تكبير الإمام فإنه يتخير بين أن يصلي قاعدا وبين أن يصلي قائما . قال ابن حزم : وبمثل قولنا يقول جمهور السلف ثم رواه عن جابر وأبي هريرة وأسيد بن حضير قال : ولا مخالف لهم يعرف في الصحابة ورواه عن عطاء وروي عن عبد الرزاق أنه قال : ما رأيت الناس إلا على أن الإمام إذا صلى قاعدا صلى من خلفه قعودا قال : وهي السنة عن غير واحد
وقد حكاه ابن حبان أيضا عن الصحابة الثلاثة المذكورين وعن قيس بن قهد أيضا من الصحابة وعن أبي الشعثاء وجابر بن زيد من التابعين وحكاه أيضا عن مالك بن أنس وأبي أيوب سليمان بن داود الهاشمي وأبي خثيمة وابن أبي شيبة ومحمد بن إسماعيل ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل محمد بن نصر ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ثم قال بعد ذلك : وهو عندي ضرب من الإجماع الذي أجمعوا على إجازته لأن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعة أفتوا به والإجماع [ ص 210 ] عندنا إجماع الصحابة ولم يرو عن أحد من الصحابة خلاف لهؤلاء الأربعة لا بإسناد متصل ولا منقطع فكأن الصحابة أجمعوا على أن الإمام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد وأبو الشعثاء ولم يرو عن أحد من التابعين أصلا خلافه لا بإسناد صحيح ولا واه فكأن التابعين أجمعوا على إجازته قال : وأول من أبطل في هذه الأمة صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة وتبعه عليه من بعده من أصحابه انتهى كلام ابن حبان . وحكى الخطابي في المعالم والقاضي عياض عن أكثر الفقهاء خلاف ذلك
وحكى النووي عن جمهور السلف خلاف ما حكى ابن حزم عنهم وحكاه ابن دقيق العيد عن أكثر الفقهاء المشهورين . وقال الحازمي في الاعتبار ما لفظه : وقال أكثر أهل العلم يصلون قياما ولا يتابعون الإمام في الجلوس ( 1 ) . وقد أجاب المخالفون لأحاديث الباب بأجوبة :
أحدها : دعوى النسخ قاله الشافعي والحميدي وغير واحد وجعلوا الناسخ ما تقدم من صلاته صلى الله عليه و سلم في مرض موته بالناس قاعدا وهم قائمون خلفه ولم يأمرهم بالقعود وأنكر أحمد نسخ الأمر بذلك وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين : إحداهما إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعدا لمرض يرجى برؤه فحينئذ يصلون خلفه قعودا
ثانيتهما إذا ابتدأ الإمام الراتب قائما لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياما سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا كما في الأحاديث التي في مرض موته صلى الله عليه و سلم فإن تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة قائما وصلوا معه قياما بخلاف الحالة الأولى فإنه صلى الله عليه و سلم ابتدأ الصلاة جالسا فلما صلوا خلفه قياما أنكر عليهم
ويقوي هذا الجمع أن الأصل عدم النسخ لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم النسخ مرتين لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدا وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدا فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع [ ص 211 ] النسخ مرتين وهو بعيد
والجواب الثاني من الأجوبة التي أجاب بها المخالفون لأحاديث الباب دعوى التخصيص بالنبي صلى الله عليه و سلم في كونه يؤم جالسا حكى ذلك القاضي عياض قال : ولا يصح لأحد أن يؤم جالسا بعده صلى الله عليه و سلم قال : وهو مشهور قول مالك وجماعة أصحابه قال : وهذا أولى الأقاويل لأنه صلى الله عليه و سلم لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا في غيرها ولا لعذر ولا لغيره ورد بصلاته صلى الله عليه و سلم خلف عبد الرحمن بن عوف وخلف أبي بكر وقد تقدم ذلك
وقد استدل على دعوى التخصيص بحديث الشعبي عن جابر مرفوعا ( لا يؤمن أحد بعدي جالسا ) وأجيب عن ذلك بأن الحديث لا يصح من وجه من الوجوه كما قال العراقي وهو أيضا عند الدارقطني من رواية جابر الجعفي عن الشعبي مرسلا وجابر متروك
وروي أيضا من رواية مجالد عن الشعبي ومجالد ضعفه الجمهور . ولما ذكر ابن العربي أن هذا الحديث لا يصح عقبه بقوله بيد أني سمعت بعض الأشياخ أن الحال أحد وجوه التخصيص وحال النبي صلى الله عليه و سلم والتبرك به وعدم العوض منه يقتضي الصلاة خلفه قاعدا وليس ذلك كله لغيره انتهى . قال ابن دقيق العيد : وقد عرف أن الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل انتهى
على أنه يقدح في التخصيص ما أخرجه أبو داود ( أن أسيد بن حضير كان يؤم قومه فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم يعوده فقيل له : يا رسول الله إن إمامنا مريض فقال : إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا ) قال أبو داود : وهذا الحديث ليس بمتصل . وما أخرجه عبد الرزاق عن قيس بن قهد الأنصاري ( أن إماما لهم اشتكى على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فكان يؤمنا جالسا ونحن جلوس ) قال العراقي : وإسناده صحيح
والجواب الثالث من الأجوبة التي أجاب بها المخالفون لأحاديث الباب أنه يجمع بين الأحاديث بما تقدم عن أحمد بن حنبل وأجيب عنه بأن الأحاديث ترده لما في بعض الطرق أنه أشار إليهم بعد الدخول في الصلاة
والجواب الرابع تأويل قوله ( وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أي وإذا تشهد قاعدا فتشهدوا قعودا أجمعين ) حكاه ابن حبان في صحيحه عن بعض العراقيين وهو كما قال ابن حبان تحريف للخبر عن عمومه بغير دليل ويرده ما ثبت في حديث عائشة أنه أشار إليهم أن اجلسوا وفيه تعليل ذلك بموافقة الأعاجم في القيام على ملوكهم
إذا عرفت الأجوبة التي أجاب بها المخالفون لأحاديث الباب فاعلم أنه قد أجاب المتمسكون بها على [ ص 212 ] الأحاديث المخالفة لها بأجوبة :
منها قول ابن خزيمة أن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعدا لم يختلف في صحتها ولا في سياقها وأما صلاته صلى الله عليه و سلم في مرض موته فاختلف فيها هل كان إماما أو مأموما
ومنها أن بعضهم جمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز
ومنها أنه استمر عمل الصحابة على القعود خلف الإمام القاعد في حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته كما تقدم عن أسيد بن حضير وقيس بن قهد
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر أنه اشتكى فحضرت الصلاة فصلى بهم جالسا وصلوا معه جلوسا . وعن أبي هريرة أيضا أنه أفتى بذلك وإسناده كما قال الحافظ صحيح
ومنها ما روي عن ابن شعبان أنه نازع في ثبوت كون الصحابة صلوا خلفه صلى الله عليه و سلم قياما غير أبي بكر لأن ذلك لم يرد صريحا
قال الحافظ : والذي ادعى نفيه قد أثبته الشافعي وقال : إنه في رواية إبراهيم عن الأسود عن عائشة . قال الحافظ : ثم وجدته مصرحا به في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عطاء فذكر الحديث ولفظه : ( فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعدا وجعل أبا بكر وراءه بينه وبين الناس وصلى الناس وراءه قياما ) قال : وهذا مرسل يعتضد بالرواية التي علقها الشافعي عن النخعي قال : وهذا الذي يقتضيه النظر لأنهم ابتدءوا الصلاة مع أبي بكر قياما فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان
_________
( 1 ) الحازمي عقد بابا في كتابه الاعتبار وأورد فيه الأحاديث الواردة في ثبوت إئتمام المأموم بإمامه إذا صلى جالسا وبين اختلاف العلماء في ذلك ومن رأى أن الأحاديث الواردة في ذلك محكمة ثم قال : وقال أكثر أهل العلم يصلون قياما ولا يتابعون الإمام في الجلوس ورأوا أن هذه الأحاديث منسوخة
وممن ذهب إلى ذلك من العلماء عبد الله بن المبارك والشافعي وأصحابه وقد حكينا نحو هذا عن الثوري . اه

باب إقتداء المتوضئ بالمتيمم

1 - فيه حديث عمرو بن العاص عن غزوة ذات السلاسل وقد سبق
وعن سعيد بن جبير قال : ( كان ابن عباس في سفر معه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم عمار بن ياسر فكانوا يقدمونه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بهم ذات يوم فضحك وأخبرهم أنه أصاب من جارية له رومية فصلى بهم وهو جنب متيمم )
- رواه الأثرم . واحتج به أحمد في روايته

- حديث عمرو بن العاص تقدم في باب الجنب يتيمم لخوف البرد من كتاب التيمم وفيه أنه : ( احتلم في ليلة ياردة فتيمم ثم صلى بأصحابه صلاة الصبح فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكروا ذلك له فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت [ ص 213 ] جنب فقال : ذكرت قول الله ولا تقتلوا أنفسكم فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يقل شيئا )
وبهذا التقرير احتج من قال بصحة صلاة المتوضئ خلف المتيمم ويؤيد ذلك ما أخرجه الدارقطني عن البراء : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا صلى الإمام بقوم وهو على غير وضوء أجزأتهم ويعيد ) وفي إسناده جويبر بن سعيد وهو متروك وفي إسناده أيضا انقطاع
وما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والبيهقي من حديث أبي بكرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم )
وفي رواية له قال في أوله : ( وكبر ) وقال في آخره : ( فلما قضى الصلاة قال : إنما أنا بشر مثلكم وإني كنت جنبا ) وسيأتي الحديث قريبا وهو في الصحيحين بلفظ : ( أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى قام النبي صلى الله عليه و سلم في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف وقال مكانكم ) الحديث
وعلى هذا فلا يكون الحديث مؤيدا ولكنه زعم ابن حبان أنهما قضيتان . إحداهما ذكر النبي صلى الله عليه و سلم أنه جنب قبل الإحرام بالصلاة والثانية بعد أن أحرم . ومن المؤيدات لجواز صلاة المتيمم بالمتوضئ ما ذكره المصنف من الأثر المروي عن ابن عباس
وذهبت العترة إلى أنه لا يصح إئتمام المتوضئ بالمتيمم واحتج لهم في البحر بقوله صلى الله عليه و سلم : ( لا يؤمن المتيمم المتوضئين ) وهذا الحديث لو صح لكان حجة قوية

باب من اقتدى بمن أخطأ بترك شرط أو فرض ولم يعلم

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطؤوا فلكم وعليهم )
- رواه أحمد والبخاري

2 - وعن سهل بن سعد قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الإمام ضامن فإذا أحسن فله ولهم وإن أساء فعليه ) يعني ولا عليهم
- رواه ابن ماجه . وقد صح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب ولم يعلم فأعاد ولم يعيدوا وكذلك عثمان . وروي عن علي من قوله رضي الله عنهم [ ص 214 ]

- حديث سهل بن سعد في إسناده عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف
قوله : ( يصلون بكم ) لفظ البخاري : ( يصلون لكم ) باللام التي للتعليل والمراد الأئمة
قوله : ( فإن أصابوا فلكم ) أي ثواب صلاتكم
قوله : ( ولهم ) هذه اللفظة ليست في البخاري وهي في مسند أحمد والمراد أن لهم ثواب صلاتهم
وزعم ابن بطال أن المراد بالإصابة هنا إصابة الوقت واستدل بحديث ابن مسعود مرفوعا : ( لعلكم تدركون أقواما يصلون الصلاة لغير وقتها فإذا أدركتموهم فصلوا في بيوتكم في الوقت ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة ) وهو حديث حسن أخرجه النسائي وغيره قال : فالتقدير على هذا فإن أصابوا الوقت وإن أخطؤوا الوقت فلكم يعني الصلاة التي في الوقت
وأجاب عنه الحافظ بأن زيادة لهم كما في رواية أحمد تدل على أن المراد صلاتهم معهم لا عند الانفراد . وكذلك أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما وكذلك أخرج هذه الزيادة ابن حبان من حديث أبي هريرة وأبو داود من حديث عقبة بن عامر مرفوعا بلفظ : ( من أم الناس فأصاب الوقت فله ولهم ) وفي رواية لأحمد في هذا الحديث : ( فإن صلوا الصلاة لوقتها وأتموا الركوع والسجود فهي لكم ولهم ) قال في الفتح : فهذا يبين أن المراد ما هو أعم من إصابة الوقت
قال ابن المنذر : هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الإمام إذا فسدت فسدت صلاة من خلفه
قوله : ( وإن أخطؤوا ) أي ارتكبوا الخطيئة ولم يرد الخطأ المقابل للعمد لأنه لا إثم فيه . قال المهلب : فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر واستدل به البغوي على أنه يصح صلاة المأمومين إذا كان إمامهم محدثا وعليه الإعادة
قال في الفتح : واستدل به غيره على أعم من ذلك وهو صحة الإئتمام بمن يخل بشيء من الصلاة ركنا كان أو غيره إذا أتم المأموم وهو وجه للشافعية بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه والأصح عندهم صحة الإقتداء إلا لمن علم أنه ترك واجبا . ومنهم من استدل به على الجواز مطلقا وهو الظاهر من الحديث ويؤيده ما رواه المصنف عن الثلاثة الخلفاء رضي الله عنهم
قوله : ( الإمام ضامن ) قد قدمنا الكلام على حديث أبي هريرة وعلى معنى الضمان في باب الأذان
قوله : ( وإن أساء فعليه ) فيه أن الإمام إذا كان مسيئا كأن يدخل في الصلاة مخلا بركن أو شرط عمدا فهو آثم ولا شيء على المؤتمين من إساءته [ ص 215 ]

باب حكم الإمام إذا ذكر أنه محدث أو خرج لحدث سبقه أو غير ذلك

1 - عن أبي بكرة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استفتح الصلاة فكبر ثم أومأ إليهم أن مكانكم ثم دخل ثم خرج ورأسه يقطر فصلى بهم فلما قضى الصلاة قال : إنما أنا بشر وإني كنت جنبا )
- رواه أحمد وأبو داود . وقال : رواه أيوب وابن عون وهشام عن محمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( فكبر ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا وذهب فاغتسل )

2 - وعن عمرو بن ميمون قال : ( إني لقائم بيني وبين عمر غداة أصيب إلا عبد الله بن عباس فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول : قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه وتناول عمر عبد الرحمن بن عوف فقدمه فصلى بهم صلاة خفيفة )
- مختصر من البخاري

3 - وعن ابن رزين قال : ( صلى علي رضي الله عنه ذات يوم فرعف فأخذ بيد رجل فقدمه ثم انصرف )
- رواه سعيد في سننه . وقال أحمد بن حنبل : إن استخلف الإمام فقد استخلف عمر وعلي وإن صلوا وحدانا فقد طعن معاوية وصلى الناس وحدانا من حيث طعن أتموا صلاتهم )

- حديث أبي بكرة قال الحافظ : اختلف في وصله وإرساله
( وفي الباب ) عن أنس عند الدارقطني واختلف في وصله وإرساله كما اختلف في وصل حديث أبي بكرة وإرساله . وعن علي عند أحمد والبزار والطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة . وعن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا عند أبي داود ومالك . وعن أبي هريرة عند ابن ماجه . قال الحافظ : وفي إسناده نظر . وعن محمد ابن سيرين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا عند أبي داود كما ذكر المصنف
والحديث في الصحيحين عن أبي هريرة بألفاظ ليس فيها ذكر أن ذلك كان بعد الدخول في الصلاة وفي بعضها التصريح بأن ذلك كان قبل التكبير كما تقدم
قال في الفتح : يمكن الجمع بين رواية الصحيحين وغيرهما بأن يحمل قوله فكبر في رواية أبي داود وغيره على أراد أن يكبر أو بأنهما واقعتان كما تقدم عن ابن حبان وذكره أيضا القاضي عياض والقرطبي . وقال النووي : إنه الأظهر فإن ثبت ذلك وإلا فما في الصحيحين أصح
قوله : ( ثم أومأ ) أي أشار ورواية البخاري : ( فقال لنا ) فتحمل رواية البخاري على إطلاق القول على [ ص 216 ] الفعل . ويمكن أن يكون جمع بين الكلام والإشارة
قوله : ( أن مكانكم ) منصوب بفعل محذوف هو وفاعله والتقدير الزموا مكانكم
قوله : ( ورأسه يقطر ) أي من ماء الغسل
قوله : ( فصلى بهم ) في رواية للبخاري : ( فصلينا معه ) وفيه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول في الصلاة
قوله : ( إنما أنا بشر ) قد تقدم الكلام على مثل هذا الحصر
قوله : ( وإني كنت جنبا ) فيه دليل على جواز اتصافه صلى الله عليه و سلم بالجنابة وعلى صدور النسيان منه
قوله : ( عن محمد ) هو ابن سيرين
قوله : ( أن اجلسوا ) هذا يدل على أنهم قد كانوا اصطفوا للصلاة قياما وقد صرح بذلك البخاري عن أبي هريرة ولفظه : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف )
قوله : ( وذهب ) في رواية لأبي داود : ( فذهب ) . وللنسائي : ( ثم رجع إلى بيته )
قوله : ( فقدمه فصلى بهم ) سيأتي حديث عمر مطولا في كتاب الوصايا ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى وفيه جواز الاستخلاف للإمام عند عروض عذر يقتضي ذلك لتقرير الصحابة لعمر على ذلك وعدم الإنكار من أحد منهم فكان إجماعا وكذلك فعل علي وتقريرهم له على ذلك وإلى ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك وفي قول للشافعي أنه لا يجوز واستدل له في البحر بتركه صلى الله عليه و سلم الاستخلاف لما ذكر أنه جنب . وأجاب عن ذلك بأنه فعل ذلك ليدل على جواز الترك أو ذكر قبل دخولهم في الصلاة قال : ولا قائل بهذا إلا الشافعي انتهى
وذهب أحمد بن حنبل إلى التخيير كما روى عنه المصنف رحمه الله تعالى

باب من أم قوما يكرهونه

1 - عن عبد الله بن عمرو : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة : من تقدم قوما وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دبارا والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته . ورجل اعتبد محرره )
- رواه أبو داود وابن ماجه وقال فيه : ( يعني بعد ما يفوته الوقت )

2 - وعن أبي أمامة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وإمام قوم وهم له كارهون )
- رواه الترمذي

- حديث عبد الله بن عمرو في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ضعفه [ ص 217 ] الجمهور وحديث أبي أمامة انفرد بإخراجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب . وقد ضعفه البيهقي . قال النووي في الخلاصة : والأرجح هنا قول الترمذي انتهى
وفي إسناده أبو غالب الراسبي البصري صحح الترمذي حديثه . وقال أبو حاتم : ليس بالقوي . وقال النسائي : ضعيف ووثقه الدارقطني
( وفي الباب ) عن أنس عند الترمذي بلفظ : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة رجلا أم قوما وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ورجلا سمع حي على الفلاح ثم لم يجب ) قال الترمذي : حديث أنس لا يصح لأنه قد روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا وفي إسناده أيضا محمد بن القاسم الأسدي . قال الترمذي : تكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه وليس بالحافظ وضعف حديث أنس هنا أيضا البيهقي وقال بعد ذكر رواية الحسن له عن أنس : ليس بشيء تفرد به محمد بن القاسم الأسدي عن الفضل بن دلهم عنه ثم قال : وروي عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن أنس بن مالك يرفعه
( وفي الباب ) أيضا عن ابن عباس عند ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا رجل أم قوما وهم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط وأخوان متصارمان ) قال العراقي : وإسناده حسن . وعن طلحة عند الطبراني في الكبير قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أيما رجل أم قوما وهم له كارهون لم تجز صلاته أذنيه ) وفي إسناده سليمان بن أيوب الطلحي قال : فيه أبو زرعة عامة أحاديثه لا يتابع عليها
وقال الذهبي في الميزان : صاحب مناكير وقد وثق . وعن أبي سعيد عند البيهقي بلفظ : ( ثلاثة لا تجاوز صلاتهم رؤوسهم رجل أم قوما وهم له كارهون ) الحديث . قال البيهقي بعد ذكره : وهذا إسناد ضعيف . وعن سلمان عند ابن أبي شيبة في المصنف بنحو حديث أبي أمامة وهو من رواية القاسم بن مخيمرة عن سلمان ولم يسمع منه
( وأحاديث الباب ) يقوي بعضها بعضا فينتهض للاستدلال بها على تحريم أن يكون الرجل إماما لقوم يكرهونه ويدل على التحريم نفي قبول الصلاة وأنها لا تجاوز آذان المصلين ولعن الفاعل لذلك . وقد ذهب إلى التحريم قوم وإلى الكراهة آخرون
وقد روى العراقي ذلك عن علي بن أبي طالب والأسود بن هلال وعبد الله بن الحارث البصري وقد قيد ذلك جماعة من أهل العلم بالكراهة الدينية لسبب شرعي فأما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها وقيدوه أيضا بأن يكون الكارهون [ ص 218 ] أكثر المأمومين ولا اعتبار بكراهة الواحد والاثنين والثلاثة إذا كان المؤتمون جمعا كثير إلا إذا كانوا اثنين أو ثلاثة فإن كراهتهم أو كراهة أكثرهم معتبرة . وحمل الشافعي الحديث على إمام غير الوالي لأن الغالب كراهة ولاة الأمر
وظاهر الحديث عدم الفرق والاعتبار بكراهة أهل الدين دون غيرهم حتى قال الغزالي في الإحياء : لو كان الأقل من أهل الدين يكرهونه فالنظر إليهم
قوله : ( ورجل اعتبد محرره ) أي اتخذ معتقه عبدا بعد اعتاقه وذلك بأن يعتقه ثم يكتمه ذلك ويستعمله يقال اعتبدته اتخذته عبدا
قوله : ( لا تجاوز صلاتهم آذانهم ) أي لا ترتفع إلى السماء وهو كناية عن عدم القبول كما هو مصرح به في حديث ابن عمرو وغيره
قوله : ( العبد الآبق ) فيه أن العبد الآبق لا تقبل له صلاة حتى يرجع من إباقه إلى سيده . وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من حديث جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة ) وروى القول بذلك عن أبي هريرة وقد أول المازري وتبعه القاضي عياض حديث جرير على العبد المستحل للإباق فيكفر ولا تقبل له صلاة ولا غيرها ونبه بالصلاة على غيرها وقد أنكر ابن الصلاح ذلك على المازري والقاضي وقال : إن ذلك جار في غير المستحل ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحة وقد قدمنا البحث عن هذا في مواضع
قوله : ( وامرأة ) الخ فيه أن إغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطا عليها من الكبائر وهذا إذا كان غضبه عليها بحق . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبانا عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح )
ولعل التأويل المذكور في عدم قبول صلاة العبد يجري في صلاة المرأة المذكورة

أبواب موقف الإمام والمأموم وأحكام الصفوف

باب وقوف الواحد عن يمين الإمام والاثنين فصاعدا خلفه

1 - عن جابر بن عبد الله قال : ( قام النبي صلى الله عليه و سلم يصلي المغرب فجئت فقمت عن يساره فنهاني فجعلني عن يمينه ثم جاء صاحب لي فصفنا خلفه فصلى بنا في ثوب واحد مخالفا بين طرفيه )
- رواه أحمد . وفي رواية : ( قام رسول الله صلى الله [ ص 219 ] عليه وآله وسلم ليصلي فجئت فقمت عن يساره فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه ثم جاء جبار بن صخر فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ بأيدينا جميعا فدفعنا حتى أقامنا خلفه ) رواه مسلم وأبو داود

2 - وعن سمرة بن جندب قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا )
- رواه الترمذي

- حديث جابر هو في صحيح مسلم وسنن أبي داود مطولا وهذا الذي ذكر المصنف بعض منه . وحديث سمرة بن جندب غربه الترمذي . وقال ابن عساكر في الأطراف : إنه قال فيه حسن غريب . وذكر ابن العربي أنه ضعفه وليس فيما وقفنا عليه من نسخ الترمذي إلا أنه قال : إنه حديث غريب ولعل المراد بقول ابن العربي أنه ضعفه أي أشار إلى تضعيفه بقوله وقد تكلم الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه بعد أن ساق الحديث من طريقه وإسماعيل بن مسلم هذا هو المكي وأصله بصري سكن مكة فنسب إليها لكثرة مجاورته بها وكان فقيها مفتيا . قال البخاري : تركه ابن المبارك وربما روى عنه . وقال يحيى بن سعيد : لم يزل مختلطا
وقال أحمد بن حنبل : ضعيف الحديث وقال السعدي : هو واه جدا . وقال عمرو بن علي كان ضعيفا في الحديث يهم فيه وكان صدوقا كثير الغلط يحدث عنه من لا ينظر في الرجال . وقال ابن عدي : أحاديثه غير محفوظة إلا أنه ممن يكتب حديثه
قوله : ( فجعلني عن يمينه ) فيه أن موقف الواحد عن يمين الإمام وقد ذهب الأكثر إلى أن ذلك واجب وروي عن ابن المسيب أن ذلك مندوب فقط . وروي عن النخعي أن الواحد يقف خلف الإمام بيانا للتبعية فإذا ركع الإمام قبل مجيء ثالث اتصل بيمينه وفيه جواز العمل في الصلاة وقد تقدم الكلام على ذلك
قوله : ( فصفنا خلفه ) وكذلك قوله : ( فدفعنا حتى أقامنا خلفه ) وقوله : ( أمرنا صلى الله عليه و سلم إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا ) في هذه الروايات دليل على أن موقف الرجلين مع الإمام في الصلاة خلفه وبه قال علي بن أبي طالب عليه السلام وعمر وابنه جابر بن زيد والحسن وعطاء وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماعة من فقهاء الكوفة
قال ابن سيد الناس : وليس ذلك شرطا عند أحد منهم ولكن الخلاف في الأولى والأحسن وإلى كون موقف الاثنين خلف الإمام ذهبت العترة
وروي عن ابن مسعود أن الاثنين يقفان عن يمين الإمام وعن شماله والزائد خلفه واستدل بما سيأتي وسيأتي الكلام على دليله
قوله : ( فصلى بنا في ثوب واحد ) فيه جواز الصلاة [ ص 220 ] في الثوب الواحد وقد تقدم الكلام على ذلك
قوله : ( ثم جاء جبار بن صخر ) هو الأنصاري السلمي شهد العقبة وبدرا وما بعدهما

3 - وعن ابن عباس قال : ( صليت إلى جنب النبي صلى الله عليه و سلم وعائشة معنا تصلي خلفنا وأنا إلى جنب النبي صلى الله عليه و سلم أصلي معه )
- رواه أحمد والنسائي

4 - وعن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى به وبأمه أو خالته قال : فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود

- حديث ابن عباس إسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم يعني ابن مقسم وقد وثقه النسائي قال : حدثنا حجاج يعني ابن محمد مولى سليمان خرج حديثه الجماعة قال : قال ابن جريج : أخبرني زياد أن قزعة مولى لعبد القيس أخبره أنه سمع عكرمة قال : قال ابن عباس فذكره . وزياد هو ابن سعد الخراساني أخرج له الجماعة وقزعة وثقه أبو زرعة فرجال هذا الإسناد ثقات
قوله : ( صلى به وبأمه أو خالته ) وفي بعض الروايات : ( أن جدته مليكة دعت النبي صلى الله عليه و سلم ) ثم ذكر الصلاة وسيأتي
( والحديثان ) يدلان على أنه إذا حضر مع إمام الجماعة رجل وامرأة كان موقف الرجل عن يمينه وموقف المرأة خلفهما وأنها لا تصف مع الرجال والعلة في ذلك ما يخشى من الافتتان فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور وعند الحنفية تفسد صلاة الرجل دون المرأة
قال في الفتح : وهو عجيب وفي توجيهه تعسف حيث قال قائلهم : قال ابن مسعود أخروهن من حيث أخرهن الله والأمر للوجوب فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة الرجل لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها قال : وحكاية هذا تغني عن جوابه
وذهبت الهادوية إلى فساد صلاتها إذا صفت مع الرجال وفساد صلاة من خلفها وفساد صلاة من في صفها إن علموا بكونها في صفهم
ومن الأدلة الدالة على أن المرأة تقف وحدها حديث أنس المتفق عليه بلفظ : ( صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه و سلم وأمي وأم سليم خلفنا ) وفي لفظ : ( فصففت أنا واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا )
وأخرج ابن عبد البر عن عائشة مرفوعا بلفظ : ( المرأة وحدها صف )
قال ابن عبد البر : هو موضوع وضعه إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التيمي عن المسعودي عن ابن أبي مليكة عن عائشة قال : وهذا لا يعرف إلا بإسماعيل

5 - وعن الأسود بن يزيد قال : ( دخلت أنا وعمي علقمة على ابن مسعود [ ص 221 ] بالهاجرة قال : فأقام الظهر ليصلي فقمنا خلفه فأخذ بيدي ويد عمي ثم جعل أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره فصفنا صفا واحدا قال : ثم قال هكذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصنع إذا كانوا ثلاثة )
- رواه أحمد . ولأبي داود والنسائي معناه

- الحديث في إسناده هارون بن عنترة وقد تكلم فيه بعضهم . قال أبو عمر : هذا الحديث لا يصح رفعه والصحيح فيه عندهم أنه موقوف على ابن مسعود انتهى
وقد أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي موقوفا على ابن مسعود وقد ذكر جماعة من أهل العلم منهم الشافعي أن حديث ابن مسعود هذا منسوخ لأنه إنما تعلم هذه الصلاة عن النبي صلى الله عليه و سلم وهو بمكة وفيها التطبيق وأحكام أخر هي الآن متروكة وهذا الحكم من جملتها فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة تركه وعلى فرض عدم علم التاريخ لا ينتهض هذا الحديث لمعارضة الأحاديث المتقدمة في أول الباب وقد وافق ابن مسعود على وقوف الاثنين عن يمين الإمام ويساره أبو حنيفة وبعض الكوفيين
ومن أدلتهم ما رواه أبو داود عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( وسطوا الإمام وسدوا الخلل ) وسيأتي وهو محتمل أن يكون المراد اجعلوه مقابلا لوسط الصف الذي تصفون خلفه ومحتمل أن يكون من قولهم فلان واسطة قومه أي خيارهم ومحتمل أن يكون المراد اجعلوه وسط الصف فيما بينكم غير متقدم ولا متأخر ومع الاحتمال لا ينتهض للاستدلال
وأيضا هو مهجور الظاهر بالإجماع لأن ابن مسعود ومن معه إنما قالوا بتوسط الإمام في الثلاثة لا فيما زاد عليهم فيقفون خلفه . وظاهر الحديث عدم الفرق بين الثلاثة وأكثر منهم

باب وقوف الإمام تلقاء وسط الصف وقرب أولى الأحلام والنهي منه

1 - عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : وسطوا الإمام وسدوا الخلل )
- رواه أبو داود

2 - وعن أبي مسعود الأنصاري قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )
- رواه أحمد ومسلم [ ص 222 ] والنسائي وابن ماجه

3 - وعن ابن مسعود : ( عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وإياكم وهيشات الأسواق )
- رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي

4 - وعن أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه )
- رواه أحمد وابن ماجه

- حديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود والمنذري وهو من طريق جعفر بن مسافر شيخ أبي داود قال النسائي : صالح وفي إسناده يحيى بن بشير بن خلاد عن أمه واسمها أمة الواحد . ويحيى مستور وأمه مجهولة . وحديث أبي مسعود أخرجه أيضا أبو داود . وحديث ابن مسعود قال الترمذي : حسن غريب وقال الدارقطني : تفرد به خالد بن مهران الحذاء عن أبي معشر زياد بن كليب . وقال ابن سيد الناس : إنه صحيح لثقة رواته وكثرة الشواهد له قال : ولذلك حكم مسلم بصحته . وأما غرابته فليست تنافي الصحة في بعض الأحيان . وأما حديث أنس فأخرجه أيضا الترمذي ولم يذكر له إسنادا والنسائي ورجال إسناده عند ابن ماجه رجال الصحيح
( وفي الباب ) عن أبي بن كعب عند أحمد من حديث قيس بن عباد قال : ( قدمت المدينة للقاء أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وما كان بينهم رجل ألقاه أحب إلي من أبي بن كعب فأقيمت الصلاة فخرج عمر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقمت في الصف الأول فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري فنحاني وقام مكاني فما عقلت صلاتي فلما صلى قال : يا بني لا يسؤوك الله إني لم آت الذي أتيت بجهالة ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنا : كونوا في الصف الذي يليني وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك ثم حدث فما رأيت الرجال متحت أعناقها إلى شيء متوجها إليه قال : فسمعته يقول هلك أهل العقدة ورب الكعبة ألا لا عليهم آسى ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين وإذا هو أبي يعني ابن كعب )
هذا لفظ أحمد وقد أخرج الحديث أيضا النسائي وابن خزيمة في صحيحه ومتحت بفتح الميم وتاءين مثناتين بينهما حاء مهملة أي مدت . وأهل العقدة بضم العين المهملة وسكون القاف يريد البيعة المعقودة للولاية
وعن سمرة عند الطبراني في الكبير : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليقم الأعراب خلف المهاجرين والأنصار ليقتدوا بهم في الصلاة ) وهو من رواية الحسن عن سمرة . وعن البراء أشار إليه الترمذي . وعن ابن عباس عند الدارقطني قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يتقدم في الصف [ ص 223 ] الأول أعرابي ولا عجمي ولا غلام لم يحتلم ) وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف
قوله : ( وسطوا الإمام ) فيه مشروعية جعل الإمام مقابلا لوسط الصف وهو أحد الاحتمالات التي يحتملها الحديث وقد تقدمت
قوله : ( وسدوا الخلل ) قال المنذري : هو بفتح الخاء المعجمة واللام وهو ما بين الاثنين من الاتساع وسيأتي ذكر ما هي الحكمة في ذلك في باب الحث على تسوية الصفوف
قوله : ( فتختلف قلوبكم ) لأن مخالفة الصفوف مخالفة الظواهر واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن
قوله : ( ليليني ) قال النووي : هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد واللام في أوله لام الأمر المكسورة أي ليقرب مني
قوله : ( أولو الأحلام والنهى ) قال ابن سيد الناس : الأحلام والنهى بمعنى واحد والنهى بضم النون جمع نهية بالضم أيضا وهي العقول لأنها تنهى عن القبح . قال أبو علي الفارسي : يجوز أن يكون النهى مصدرا كالهدي وأن يكون جمعا كالظلم . وقيل المراد بأولي الأحلام البالغون وبأولي النهى العقلاء فعلى الأول يكون العطف فيه من باب . فألفى قولها كذبا ومينا . وهو أن ينزل تغاير اللفظ منزلة تغاير المعنى وهو كثير في الكلام وعلى الثاني يكون لكل لفظ معنى مستقل
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى صبيا في الصف أخرجه . وعن زر بن حبيش وأبي وائل مثل ذلك وإنما خص النبي صلى الله عليه و سلم هذا النوع بالتقديم لأنه الذي يتأتى منه التبليغ ويستخلف إذا احتيج إلى استخلافه ويقوم بتنبيه الإمام إذا احتيج إليه
قوله : ( وإياكم وهيشات الأسواق ) بفتح الهاء وإسكان الياء المثناة من تحت وبالشين المعجمة أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها . والهوشة الفتنة والاختلاط . والمراد النهي عن أن يكون اجتماع الناس في الصلاة مثل اجتماعهم في الأسواق متدافعين متغايرين مختلفي القلوب والأفعال
قوله : ( يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ) فيه وفي حديث أبي بن كعب وسمرة مشروعية تقدم أهل العلم والفضل ليأخذوا عن الإمام ويأخذ عنهم غيرهم لأنهم أمس بضبط صفة الصلاة وحفظها ونقلها وتبليغها [ ص 224 ]

باب موقف الصبيان والنساء من الرجال

1 - عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري : ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يسوي بين الأربع ركعات في القراءة والقيام ويجعل الركعة الأولى هي أطولهن لكي يثوب الناس ويجعل الرجال قدام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان )
- رواه أحمد . ولأبي داود عنه قال : ( ألا أحدثكم بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فأقام الصلاة وصف خلفهم الغلمان ثم صلى بهم فذكر صلاته )

2 - وعن أنس : ( أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطعام صنعته فأكل ثم قال : قوموا فلأصلي لكم فقمت إلى حصير لنا قد سود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقمت أنا واليتيم وراءه وقامت العجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين ثم انصرف )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه

3 - وعن أنس قال : ( صليت أنا واليتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمي خلفنا أم سليم )
- رواه البخاري

4 - وعن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها )
- رواه الجماعة إلا البخاري

- حديث أبي مالك سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال
قوله : ( يسوي بين الأربع ركعات في القراءة والقيام ) قد قدمنا في أبواب القراءة الكلام في ذلك مبسوطا
قوله : ( لكي يثوب ) أي يرجع الناس إلى الصلاة ويقبلوا إليها
قوله : ( ويجعل الرجال قدام الغلمان ) الخ فيه تقديم صفوف الرجال على الغلمان والغلمان على النساء هذا إذا كان الغلمان اثنين فصاعدا فإن كان صبي واحد دخل مع الرجال ولا ينفرد خلف الصف قاله السبكي ويدل على ذلك حديث أنس المذكور في الباب فإن اليتيم لم يقف منفردا بل صف مع أنس
وقال أحمد بن حنبل : يكره أن يقوم الصبي مع الناس في المسجد خلف الإمام إلا من قد احتلم وأنبت وبلغ خمس عشرة سنة وقد تقدم عن عمر أنه كان إذا رأى صبيا في الصف أخرجه . وكذلك عن أبي وائل وزر بن حبيش . وقيل عند اجتماع الرجال والصبيان يقف بين كل رجلين صبي ليتعلموا منهم الصلاة وأفعالها
قوله : ( أن جدته مليكة ) قال ابن عبد البر : إن [ ص 225 ] الضمير عائد إلى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الراوي للحديث عن أنس فهي جدة إسحاق لا جدة أنس وهي أم سليم بنت ملحان زوج أبي طلحة الأنصاري وهي أم أنس بن مالك . وقال غيره : الضمير يعود على أنس بن مالك وهي جدته أم أمه واسمها مليكة بنت مالك ويؤيد ما قاله ابن عبد البر ما أخرجه النسائي عن إسحاق المذكور أن أم سليم : ( سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتيها ) ويؤيده أيضا قوله في الرواية المذكورة في الباب : ( وأمي خلفنا أم سليم ) وقيل إنها جدة إسحاق أم أبيه وجدة أنس أم أمه . قال ابن رسلان : وعلى هذا فلا اختلاف
قوله : ( فلأصلي لكم ) روي بكسر اللام وفتح الياء من أصلي على أنها لام كي والفاء زائدة كما في زيد فمنطلق وروي بكسر اللام وحذف الياء للجزم لكن أكثر ما يجزم بلام الأمر الفعل المبني للفاعل إذا كان للغائب ظاهر نحو : ( لينفق ذو سعة من سعته ) أو ضمير نحو مره فليراجعها وأقل منه أن يكون مسندا إلى ضمير المتكلم نحو { ولنحمل خطاياكم } ومثله ما في الحديث وأقل من ذلك ضمير المخاطب كقراءة { فبذلك فلتفرحوا } بتاء الخطاب واللام في قوله ( لكم ) للتعليل وليس المراد ألا أصلي لتعليمكم وتبليغكم ما أمرني به ربي وليس فيه تشريك في العبادة فيؤخذ منه جواز أن يكون مع نية صلاته مريدا للتعليم فإنه عبادة أخرى
ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن أبي قلابة قال : ( جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال : إني لأصلي لكم وما أريد الصلاة ) وبوب له البخاري باب من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم
قوله : ( فنضحته ) بالضاد المفتوحة والحاء المهملة وهو الرش كما قال الجوهري . وقيل هو الغسل
قوله : ( وقمت أنا واليتيم وراءه ) هو ضميرة بن أبي ضميرة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو جد حسين بن عبد الله بن ضميرة . وفيه أن الصبي يسد الجناح وإليه ذهب الجمهور من أهل البيت وغيرهم . وذهب أبو طالب والمؤيد بالله في أحد قوليه إلى أنه لا يسد إذ ليس بمصل حقيقة . وأجاب المهدي عن الحديث في البحر بأنه يحتمل بلوغ اليتيم فاستصحب الاسم . وفيه أن الظاهر من اليتم الصغر فلا يصار إلى خلافه إلا بدليل . ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور جذبه صلى الله عليه و سلم لابن عباس من جهة اليسار إلى جهة اليمين وصلاته معه وهو صبي . وأما ما تقدم من جعله صلى الله عليه وآله وسلم للغلمان صفا بعد الرجال ففعل لا يدل على فساد خلافه
قوله : ( خير صفوف الرجال أولها ) فيه التصريح بأفضلية [ ص 226 ] الصف الأول للرجال وأنه خيرها لما فيه من إحراز الفضيلة وقد ورد في الترغيب فيه أحاديث كثيرة سيأتي ذكر بعضها
قوله : ( وشرها آخرها ) إنما كان شرها لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول
قوله : ( وخير صفوف النساء آخرها ) إنما كان خيرها لما في الوقوف فيه من البعد عن مخالطة الرجال بخلاف الوقوف في الصف الأول من صفوفهن فإنه مظنة المخالطة لهم وتعلق القلب بهم المتسبب عن رؤيتهم وسماع كلامهم ولهذا كان شرها . وفيه أن صلاة النساء صفوفا جائزة من غير فرق بين كونهن مع الرجال أو منفردات وحدهن

باب ما جاء في صلاة الرجل فذا ومن ركع أو أحرم دون الصف ثم دخله

1 - عن علي بن شيبان : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف فوقف حتى انصرف الرجل فقال له استقبل صلاتك فلا صلاة لمنفرد خلف الصف )
- رواه أحمد وابن ماجه

2 - وعن وابصة بن معبد : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد صلاته )
- رواه الخمسة إلا النسائي . وفي رواية قال : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل صلى خلف الصفوف وحده فقال : يعيد الصلاة ) رواه أحمد

3 - وعن أبي بكرة : ( أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : زادك الله حرصا ولا تعد )
- رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي

4 - وعن ابن عباس قال : ( أتيت النبي صلى الله عليه و سلم من آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه )
- رواه أحمد

- حديث علي بن شيبان روى الأثرم عن أحمد أنه قال : حديث حسن . قال ابن سيد الناس : رواته ثقات معروفون وهو من رواية عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه وعبد الرحمن قال فيه ابن حزم : وما نعلم أحدا عابه بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا عبد الرحمن بن بدر وهذا ليس جرحة انتهى
وقد روى عنه أيضا ابنه محمد ووعلة بن عبد الرحمن ابن رئاب ووثقه ابن حبان . وروى له أبو داود وابن ماجه . ويشهد لحديث علي [ ص 227 ] ابن شيبان ما أخرجه ابن حبان عن طلق مرفوعا : ( لا صلاة لمنفرد خلف الصف ) وحديث واصبة بن معبد أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وحسنه الترمذي وقال ابن عبد البر : إنه مضطرب الإسناد ولا يثبته جماعة من أهل الحديث . وقال ابن سيد الناس : ليس الاضطراب الذي وقع فيه مما يضره وبين ذلك في شرح الترمذي له وأطال وأطاب . وحديث أبي بكرة أخرجه أيضا ابن حبان . وحديث ابن عباس هو إحدى الروايات التي وردت في صفة دخوله مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الليل في الليلة التي بات فيها عند خالته ميمونة . والذي في الصحيحين وغيرهما : ( أنه قام عن يساره فجعله عن يمينه )
( وقد اختلف السلف ) في صلاة المأموم خلف الصف وحده فقالت طائفة : لا يجوز ولا يصح . وممن قال بذلك النخعي والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وحماد وابن أبي ليلى ووكيع وأجاز ذلك الحسن البصري والأوزاعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وفوق آخرون في ذلك فرأوا على الرجل الإعادة دون المرأة وتمسك القائلون بعدم الصحة بحديث علي بن شيبان ووابصة بن معبد المذكورين وتمسك القائلون بالصحة بحديث أبي بكرة قالوا : لأنه أتى ببعض الصلاة خلف الصف ولم يأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالإعادة فيحمل الأمر بالإعادة على جهة الندب مبالغة في المحافظة على الأولى
( ومن جملة ) ما تمسكوا به حديث ابن عباس وجابر إذ جاء كل واحد منهما فوقف عن يسار رسول الله صلى الله عليه و سلم مؤتما به وحده فأدار كل واحد منهما حتى جعله عن يمينه قالوا : فقد صار كل واحد منهما خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك الإدارة وهو تمسك غير مفيد للمطلوب لأن المدار من اليسار إلى اليمين لا يسمى مصليا خلف الصف وإنما هو مصل عن اليمين
( ومن متمسكاتهم ) ما روي عن الشافعي أنه كان يضعف حديث وابصة ويقول لو ثبت لقلت به ويجاب عنه بأن البيهقي وهو من أصحابه قد أجاب عنه فقال : الخبر المذكور ثابت . قيل الأولى الجمع بين أحاديث الباب بحمل عدم الأمر بالإعادة على من فعل ذلك لعذر مع خشية الفوت لو انضم إلى الصف وأحاديث الإعادة على من فعل ذلك لغير عذر . وقيل من لم يعلم ما في ابتداء الركوع على تلك الحال من النهي فلا إعادة عليه كما في حديث أبي بكرة لأن النهي عن ذلك لم يكن تقدم ومن علم بالنهي وفعل بعض الصلاة أو كلها خلف الصف لزمته الإعادة . قال ابن سيد الناس : ولا يعد حكم الشروع في الركوع خلف الصف حكم [ ص 228 ] الصلاة كلها خلفه فهذا أحمد بن حنبل يرى أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة ويرى أن الركوع دون الصف جائز . قال : وقد اختلف السلف في الركوع دون الصف فرخص فيه زيد بن ثابت وفعل ذلك ابن مسعود وزيد بن وهب وروي عن سعيد بن جبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة وابن جريج ومعمر أنهم فعلوا ذلك
وقال الزهري : إن كان قريبا من الصف فعل وإن كان بعيدا لم يفعل وبه قال الأوزاعي انتهى
قال الحافظ في التلخيص : اختلف في معنى قوله ( ولا تعد ) فقيل نهاه عن العود إلى الإحرام خارج الصف وأنكر هذا ابن حبان وقال : أراد لا تعد في إبطاء المجيء إلى الصلاة
وقال ابن القطان الفاسي تبعا للمهلب بن أبي صفرة : معناه لا تعد إلى دخولك في الصف وأنت راكع فإنها كمشية البهائم ويؤيده رواية حماد بن سلمة في مصنفه عن الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أنه : ( دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي وقد ركع فركع ثم دخل الصف وهو راكع فلما انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أيكم دخل في الصف وهو راكع فقال له أبو بكرة : أنا فقال : زادك الله حرصا ولا تعد )
وقال غيره : بل معناه لا تعد إلى إتيان الصلاة مسرعا واحتج بما رواه ابن السكن في صحيحه بلفظ : ( أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف فلما قضى الصلاة قال : من الساعي آنفا قال أبو بكرة : فقلت أنا فقال : زادك الله حرصا ولا تعد ) قال في التلخيص : أيضا أنه روى الطبراني في الأوسط من حديث ابن الزبير ما يعارض هذا الحديث فأخرج من حديث ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء سمع ابن الزبير على المنبر يقول : ( إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم يدب راكعا حتى يدخل في الصف فإن ذلك السنة ) قال عطاء : وقد رأيته يصنع ذلك وقال : تفرد به ابن وهب ولم يروه عنه غير حرملة ولا يروى عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد انتهى
وقد اختلف فيمن لم يجد فرجة ولا سعة في الصف ما الذي يفعل فحكى عن نصه في البويطي أنه يقف منفردا ولا يجذب إلى نفسه أحدا لأنه لو جذب إلى نفسه واحدا لفوت عليه فضيلة الصف الأول ولأوقع الخلل في الصف وبهذا قال أبو الطيب الطبري وحكاه عن مالك . وقال أكثر أصحاب الشافعي وبه قالت الهادوية أنه يجذب إلى نفسه واحدا ويستحب للمجذوب أن يساعده ولا فرق بين الداخل في أثناء الصلاة والحاضر في ابتدائها في ذلك وقد روي عن عطاء وإبراهيم النخعي أن الداخل إلى الصلاة والصفوف قد استوت واتصلت يجوز له أن يجذب إلى [ ص 229 ] نفسه واحدا ليقوم معه واستقبح ذلك أحمد وإسحاق وكرهه الأوزاعي ومالك . وقال بعضهم جذب الرجل في الصف ظلم . واستدل القائلون بالجواز بما رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث وابصة : ( أنه صلى الله عليه و سلم قال لرجل صلى خلف الصف أيها المصلي هلا دخلت في الصف أو جررت رجلا من الصف أعد صلاتك ) وفيه السري ابن إسماعيل وهو متروك وله طريق أخرى في تاريخ أصبهان لأبي نعيم وفيها قيس ابن الربيع وفيه ضعف . ولأبي داود في المراسيل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعا : ( إن جاء رجل فلم يجد أحدا فليختلج إليه رجلا من الصف فليقم معه فما أعظم أجر المختلج )
وأخرج الطبراني عن ابن عباس بإسناد قال الحافظ : واه بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الآتي وقد تمت الصفوف أن يجتذب إليه رجلا يقيمه إلى جنبه )

باب الحث على تسوية الصفوف ورصها وسد خللها

1 - عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة )

2 - وعن أنس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل علينا وجهه قبل أن يكبر فيقول : تراصوا واعتدلوا )
- متفق عليهما

3 - وعن النعمان بن بشير قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسوي صفوفنا كأنما يسوي به القداح حتى رأى أنا قد عقلنا عنه ثم خرج يوما فقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلا باديا صدره من الصف فقال : عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم )
- رواه الجماعة إلا البخاري فإن له منه : ( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) ولأحمد وأبي داود في رواية قال : ( فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه وركبته بركبته ومنكبه بمنكبه )

- وفي الباب غير ما ذكره المصنف عند أحمد وأبي داود والنسائي قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ) الحديث
وعن أبي هريرة عند مسلم . وعن جابر بن عبد الله عند عبد الرزاق . وعن ابن عمر عند أحمد وأبي داود
قوله : ( سووا صفوفكم ) فيه أن تسوية الصفوف واجبة )
قوله : ( فإن تسوية الصف من تمام الصلاة ) في لفظ البخاري : [ ص 230 ] ( من إقامة الصلاة ) والمراد بالصف الجنس . وفي رواية : ( فإن تسوية الصفوف ) وقد استدل ابن حزم بذلك على وجوب التسوية قال : لأن إقامة الصلاة واجبة وكل شيء من الواجب واجب ونازع من ادعى الإجماع على عدم الوجوب وروي عن عمر وبلال ما يدل على الوجوب عندهما لأنهما كانا يضربان الأقدام على ذلك . قال في الفتح : ولا يخفى ما فيه لا سيما وقد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة يعني أنه رواها بعضهم بلفظ : ( من تمام الصلاة ) كما تقدم
واستدل ابن بطال بما في البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ : ( فإن إقامة الصف من حسن الصلاة ) على أن التسوية سنة قال : لأن حسن الشيء زيادة على تمامه وأورد عليه رواية : ( من تمام الصلاة ) وأجاب ابن دقيق العيد فقال : قد يؤخذ من قوله تمام الصلاة الاستحباب لأن تمام الشيء في العرف أمر خارج عن حقيقته التي لا يتحقق إلا بها وإن كان يطلق حسب الوضع على ما لا تتم الحقيقة إلا به . ورد بأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي وإنما يحمل على العرف إذا أثبت أنه عرف الشارع لا العرف الحادث
قوله : ( تراصوا ) بتشديد الصاد المهملة أي تلاصقوا بغير خلل . وفيه جواز الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة
قوله : ( لتسون ) بضم التاء المثناة من فوق وفتح السين وضم الواو وتشديد النون قال البيضاوي : هذه اللام التي يتلقى بها القسم والقسم هنا مقدر ولهذا أكده بالنون المشددة
قوله : ( أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) أي إن لم تسووا والمراد بتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد ويراد بها أيضا سد الخلل الذي في الصف . واختلف في الوعيد المذكور فقيل هو على حقيقته والمراد تشويه الوجه بتحويل خلقه عن موضعه بجعله موضع القفا أو نحو ذلك فهو نظير ما تقدم فيمن رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار . وفيه من اللطائف وقوع الوعيد من جنس الجناية وهي المخالفة . قال في الفتح : وعلى هذا فهو واجب والتفريط فيه حرام ويؤيد الوجوب حديث أبي أمامة بلفظ : ( لتسون الصفوف أو لتطمسن الوجوه ) أخرجه أحمد وفي إسناده ضعف
ومنهم من حمل الوعيد المذكور على المجاز قال النووي : معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب كما تقول تغير وجه فلان أي ظهر لي من وجهه كراهة لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن ويؤيده رواية أبي داود بلفظ : ( أو ليخالفن الله بين قلوبكم ) وقال القرطبي : معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجها غير الذي يأخذه صاحبه لأن تقدم الشخص [ ص 231 ] على غيره مظنة للتكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطيعة
( والحاصل ) أن المراد بالوجه إن حمل على العضو المخصوص فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية أو الصفة أو جعل القدام وراء وإن حمل على ذات الشخص فالمخالفة بحسب المقاصد أشار إلى ذلك الكرماني ويحتمل أن يراد المخالفة في الجزاء فيجازي المسوي بخير ومن لا يسوي بشر
قوله : ( كأنما يسوي بها القداح ) هي جمع قدح بكسر القاف وإسكان الدال المهملة وهو السهم قبل أن يراش ويركب فيه النصل
قوله : ( يلزق ) بضم أوله يتعدى بالهمزة والتضعيف يقال ألزقته ولزقته
قوله : ( منكبه ) المنكب مجتمع العضد والكتف

4 - وعن أبي أمامة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم ولينوا في أيدي إخوانكم وسدوا الخلل فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف يعني أولاد الضأن الصغار )
- رواه أحمد

- الحديث قال المنذري في الترغيب والترهيب : رواه أحمد بإسناد لا بأس به والطبراني وأخرج نحوه أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر وأخرجا نحوه أيضا من حديث أنس
قوله : ( وحاذوا بين مناكبكم ) بالحاء المهملة والذال المعجمة أي اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين موازيا لمنكب الآخر ومسامتا له فتكون المناكب والأعناق والأقدام على سمت واحد
قوله : ( ولينوا في أيدي إخوانكم ) لفظ أبي داود عن ابن عمر : ( ولينوا بأيدي إخوانكم ) أي إذا جاء المصلي ووضع يده على منكب المصلي فليكن له بمنكبه وكذا إذا أمره من يسوي الصفوف بالإشارة بيده أن يستوي في الصف أو وضع يده على منكبه فليستو . وكذا إذا أراد أن يدخل في الصف فليوسع له
قال في المفاتيح شرح المصابيح : وهذا أولى وأليق من قول الخطابي إن معنى لين المنكب السكون والخشوع
قوله : ( وسدوا الخلل ) هو بفتحتين الفرجة بين الصفين كما تقدم
قوله : ( الحذف ) قال النووي : بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين ثم فاء واحدتها حذفه مثل قصب وقصبة وهي غنم سود صغار تكون باليمن والحجاز

5 - وعن جابر بن سمرة قال : ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا : يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها قال : يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف )
- رواه الجماعة إلا البخاري [ ص 232 ] والترمذي

6 - وعن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر )
- رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه

7 - وعن عائشة قالت : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون على ميامن الصفوف )
- رواه أبو داود وابن ماجه

8 - وعن أبي سعيد الخدري : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى في أصحابه تأخرا فقال لهم : تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من ورائكم لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز و جل )
- رواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجه

- حديث أنس هو عند أبي داود من طريق محمد بن سليمان الأنباري وهو صدوق وبقية رجاله رجال الصحيح . وحديث عائشة رجاله رجال الصحيح على ما في معاوية ابن هشام من المقال
قوله : ( ألا تصفون ) بفتح التاء المثناة من فوق وضم الصاد وبضم أوله مبني للمفعول والمراد الصف في الصلاة
قوله : ( كما تصف الملائكة ) فيه الإقتداء بأفعال الملائكة في صلاتهم وتعبداتهم
قوله : ( عند ربها ) كذا لفظ ابن حبان ولفظ أبي داود والنسائي : ( عند ربهم )
قوله : ( فقلنا ) لفظ أبي داود وابن حبان : ( قلنا ) ولفظ النسائي : ( قالوا )
قوله : ( يتمون الصف الأول ) لفظ أبي داود ( يتمون الصفوف المتقدمة ) وفيه فضيلة إتمام الصف الأول
قوله : ( ويتراصون ) تقدم تفسيره
قوله : ( أتموا الصف الأول ) فيه مشروعية إتمام الصف الأول وقد اختلف في الصف الأول في المسجد الذي فيه منبر هل هو الخارج بين يدي المنبر أو الذي هو أقرب إلى القبلة فقال الغزالي في الإحياء : إن الصف الأول هو المتصل الذي في فناء المنبر وما عن طرفيه مقطوع قال : وكان سفيان يقول الصف الأول هو الخارج بين يدي المنبر قال : ولا يبعد أن يقال الأقرب إلى القبلة هو الأول
وقال النووي في شرح مسلم : الصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله هو الصف الذي يلي الإمام سواء جاء صاحبه مقدما أو مؤخرا سواء تخلله مقصورة أو نحوها هذا هو الصحيح الذي جزم به المحققون . وقال طائفة من العلماء : الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه لا تقطعه مقصورة ونحوها فإن تخلل الذي يلي الإمام فليس بأول بل الأول ما لم يتخلله شيء قال : وهذا هو الذي ذكره الغزالي . وقيل الصف الأول عبارة عن مجيء الإنسان إلى المسجد أولا وإن صلى في صف آخر
قيل لبشر بن الحارث : نراك تبكر [ ص 233 ] وتصلي في آخر الصفوف فقال : إنما يراد قرب القلوب لأقرب الأجساد والأحاديث ترد هذا
قوله : ( إن الله وملائكته يصلون ) الخ لفظ أبي داود : ( إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ) وفيه استحباب الكون في يمين الصف الأول وما بعده من الصفوف
قوله : ( وليأتم بكم من وراءكم ) أي ليقتد بكم من خلفكم من الصفوف وقد تمسك به الشعبي على قوله أن كل صف منهم إمام لمن وراءه وعامة أهل العلم يخالفونه
قوله : ( لا يزال قوم يتأخرون ) زاد أبو داود : ( عن الصف الأول )
قوله : ( حتى يؤخرهم الله ) أي يؤخرهم الله عن رحمته وعظيم فضله أو عن رتبة العلماء المأخوذ عنهم أو عن رتبة السابقين وقيل أن هذا في المنافقين والظاهر أنه عام لهم ولغيرهم . وفيه الحث على الكون في الصف الأول والتنفير عن التأخر عنه . وقد ورد في فضيلة الصلاة في الصف الأول أحاديث غير ما ذكره المصنف . منها عن أبي هريرة عند مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه بلفظ : ( خير صفوف الرجال أولها ) الحديث وقد تقدم وله حديث آخر متفق عليه : ( لو أن الناس يعلمون ما في النداء والصف الأول ) وقد تقدم أيضا . وعن جابر عند ابن أبي شيبة بنحو حديث أبي هريرة الأول . وعن العرباض بن سارية عند النسائي وابن ماجه وأحمد : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستغفر للصف المقدم ثلاثا وللثاني مرة )
وعن عبد الرحمن بن عوف عند ابن ماجه بنحو حديث عائشة . وعن النعمان بن بشير بنحوه عند أحمد . وعن البراء بن عازب عند أحمد وأبي داود والنسائي من حديث فيه نحو حديث عائشة أيضا

باب هل يأخذ القوم مصافهم قبل الإمام أم لا

1 - عن أبي هريرة : ( أن الصلاة كانت تقام لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يأخذ النبي صلى الله عليه و سلم مقامه )
- رواه مسلم وأبي داود

2 - وعن أبي هريرة قال : ( أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياما قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إلينا فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب وقال لنا : مكانكم فمكثنا على هيئتنا يعني قياما ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر فكبر فصلينا معه )
- متفق عليه . ولأحمد والنسائي : ( حتى إذا قام في مصلاه وانتظرنا [ ص 234 ] أن يكبر انصرف ) وذكر نحوه

3 - وعن أبي قتادة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت )
- رواه الجماعة إلا ابن ماجه ولم يذكر البخاري فيه قد خرجت

- قوله : ( أن الصلاة كانت تقام ) المراد بالإقامة ذكر الألفاظ المشهورة المشعرة بالشروع في الصلاة
قوله : ( فيأخذ الناس مصافهم ) يعني مكانهم من الصف
قوله : ( قبل أن يأخذ النبي صلى الله عليه و سلم ) فيه اعتدال الصفوف قبل وصول الإمام إلى مكانه
قوله : ( قبل أن يخرج ) فيه جواز قيام المؤتمين وتعديل الصفوف قبل خروج الإمام وهو معارض لحديث أبي قتادة ويجمع بينهما بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز أو بأن صنيعهم في حديث أبي هريرة كان سببا للنهي عن ذلك في حديث أبي قتادة وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه و سلم فنهاهم عن ذلك لاحتمال أن يقع له شغل يبطئ فيه عن الخروج فيشق عليهم انتظاره
قوله : ( ذكر أنه جنب ) قد تقدم الكلام في باب حكم الإمام إذا ذكر أنه محدث
قوله : ( مكانكم ) قد تقدم أنه منصوب بفعل مقدر
قوله : ( على هيئتنا ) بفتح الهاء بعدها ياء تحتانية ساكنة ثم همزة مفتوحة ثم مثناة فوقانية . والمراد بذلك أنهم امتثلوا أمره في قوله ( مكانكم ) فاستمروا على الهيئة أي الكيفية التي تركهم عليها وهي قيامهم في صفوفهم المعتدلة . وفي رواية للكشمهيني : على هينتنا بكسر الهاء وبعد الياء نون مفتوحة والهينة الرفق
قوله : ( يقطر ) في رواية للبخاري : ( ينظف ) وهي بمعنى الأولى
قوله : ( وانتظرنا أن يكبر ) فيه أنه ذكر قبل أن يدخل في الصلاة وقد تقدم الاختلاف في ذلك
قوله : ( إذا أقيمت الصلاة ) أي ذكرت ألفاظ الإقامة كما تقدم
قوله : ( حتى تروني قد خرجت ) فيه أن قيام المؤتمين في المسجد إلى الصلاة يكون عند رؤية الإمام وقد اختلف في ذلك فذهب الأكثرون إلى أنهم يقومون إذا كان الإمام معهم في المسجد عند فراغ الإقامة وعن أنس أنه : ( كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة ) رواه ابن المنذر وغيره . وعن سعيد بن المسيب : ( إذا قال المؤذن الله أكبر وجب القيام فإذا قال قد قامت الصلاة كبر الإمام ) وقال مالك في الموطأ : لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة بحد محدود إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس فإن فيهم الثقيل والخفيف . وأما إذا لم يكن الإمام في المسجد فذهب الجمهور إلى أنهم [ ص 235 ] يقومون حين يرونه وخالف البعض في ذلك وحديث الباب حجة عليه
( وفي حديث الباب ) جواز الإقامة والإمام في منزله إذا كان يسمعها وتقدم أذنه في ذلك وهو معارض لحديث جابر بن سمرة أن بلالا كان لا يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه و سلم ويجمع بينهما بأن بلالا كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلأول ما يراه يشرع في الإقامة قبل أن يراه غالب الناس ثم إذا رأوه قاموا فلا يقوم في مقامه حتى تعتدل صفوفهم . ويشهد له ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب : ( أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن الله أكبر يقومون إلى الصلاة فلا يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقامه حتى تعتدل الصفوف )
وقد تقدم مثل هذا في باب الأذان في أول الوقت

باب كراهة الصف بين السواري للمأموم

1 - عن عبد الحميد بن محمود قال : ( صلينا خلف أمير من الأمراء فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين فلما صلينا قال أنس بن مالك : كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم )
- رواه الخمسة إلا ابن ماجه

2 - وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال : ( كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونطرد عنها طردا )
- رواه ابن ماجه . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما دخل الكعبة صلى بين الساريتين

- حديث أنس حسنه الترمذي وعبد الحميد المذكور . قال أبو حاتم : هو شيخ وقال الدارقطني : كوفي ثقة يحتج به . وقد ضعف أبو محمد عبد الحق هذا الحديث بعبد الحميد ابن محمود المذكور وقال : ليس ممن يحتج بحديثه . قال أبو الحسن ابن القطان رادا عليه : ولا أدري من أنبأه بهذا ولم أر أحدا ممن صنف الضعفاء ذكره فيهم ونهاية ما يوجد فيه مما يوهم ضعفا قول أبي حاتم الرازي وقد سئل عنه هو شيخ وهذا ليس بتضعيف وإنما هو إخبار بأنه ليس من أعلام أهل العلم وإنما هو شيخ وقعت له روايات أخذت عنه . وقد ذكره أبو عبد الرحمن النسائي فقال : هو ثقة على شحه بهذه اللفظة انتهى
وأما حديث معاوية بن قرة عن أبيه ففي إسناده هارون بن مسلم البصري وهو مجهول [ ص 236 ] كما قال أبو حاتم ويشهد له ما أخرجه الحاكم وصححه من حديث أنس بلفظ : ( كنا ننهى عن الصلاة بين السواري ونطرد عنها ) وقال : ( لا تصلوا بين الأساطين وأتموا الصفوف ) وأما صلاته صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل الكعبة بين الساريتين فهو في الصحيحين من حديث ابن عمر وقد تقدم
( والحديثان ) المذكوران في الباب يدلان على كراهة الصلاة بين السواري وظاهر حديث معاوية بن قرة عن أبيه . وحديث أنس الذي ذكره الحاكم أن ذلك محرم والعلة في الكراهة ما قاله أبو بكر ابن العربي من أن ذلك إما لانقطاع الصف أو لأنه موضع جمع النعال
قال ابن سيد الناس : والأول أشبه لأن الثاني محدث قال القرطبي : روي أن سبب كراهة ذلك أنه مصلى الجن المؤمنين . وقد ذهب إلى كراهة الصلاة بين السواري بعض أهل العلم قال الترمذي : وقد كره قوم من أهل العلم أن يصف بين السواري وبه قاله أحمد وإسحاق وقد رخص قوم من أهل العلم في ذلك انتهى . وبالكراهة قال النخعي وروى سعيد بن منصور في سننه النهي عن ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة
قال ابن سيد الناس : ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة ورخص فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن المنذر قياسا على الإمام والمنفرد قالوا : وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في الكعبة بين ساريتين
قال ابن رسلان : وأجازه الحسن وابن سيرين وكان سعيد بن جبير وإبراهيم التيمي وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين الأساطين وهو قول الكوفيين
قال ابن العربي : ولا خلاف في جوازه عند الضيق وأما عند السعة فهو مكروه للجماعة فأما الواحد فلا بأس به وقد صلى صلى الله عليه و سلم في الكعبة بين سواريها انتهى
وفيه أن حديث أنس المذكور في الباب إنما ورد في حال الضيق لقوله فاضطرنا الناس ويمكن أن يقال أن الضرورة المشار إليها في الحديث لم تبلغ قدر الضرورة التي يرتفع الحرج معها
وحديث قرة ليس فيه إلا ذكر النهي عن الصف بين السواري ولم يقل كنا ننهى عن الصلاة بين السواري ففيه دليل على التفرقة بين الجماعة والمنفرد ولكن حديث أنس الذي ذكره الحاكم فيه النهي عن مطلق الصلاة فيحمل المطلق على المقيد ويدل على ذلك صلاته صلى الله عليه و سلم بين الساريتين فيكون النهي على هذا مختصا بصلاة المؤتمين بين السواري دون صلاة الإمام والمنفرد وهذا أحسن ما يقال
وما تقدم من قياس المؤتمين على الإمام والمنفرد فاسد الاعتبار لمصادمته لأحاديث الباب [ ص 237 ]

باب وقوف الإمام أعلى من المأموم وبالعكس

1 - عن همام : ( أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك قال : بلى قد ذكرت حين مددتني )
- رواه أبو داود

2 - وعن ابن مسعود قال : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه يعني أسفل منه )
- رواه الدارقطني

3 - وعن سهل بن سعد : ( أن النبي صلى الله عليه و سلم جلس على المنبر في أول يوم وضع فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه ثم عاد حتى فرغ فلما انصرف قال : أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي )
- متفق عليه . ومن ذهب إلى الكراهة حمل هذا على هذا العلو اليسير ورخص فيه

4 - وعن أبي هريرة : ( أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام )

5 - وعن أنس : ( أنه كان يجمع في دار أبي نافع عن يمين المسجد في غرفة قدر قامة منها لها باب مشرف على المسجد بالبصرة فكان أنس يجمع فيه ويأتم بالإمام )
- رواهما سعيد في سننه

- الحديث الأول صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم . وفي رواية للحاكم التصريح يرفعه . ورواه أبو داود من وجه آخر وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر والذي جبذه حذيفة وهو مرفوع ولكن فيه مجهول والأول أقوى كما قال الحافظ . وحديث ابن مسعود ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه . وأثر أبي هريرة أخرجه أيضا الشافعي والبيهقي وذكره البخاري تعليقا
قوله : ( بالمدائن ) هي مدينة قديمة على دجلة تحت بغداد
قوله : ( على دكان ) بضم الدال المهملة وتشديد الكاف الدكان الحانوت قيل النون زائدة وقيل أصلية وهي الدكة بفتح الدال وهو المكان المرتفع يجلس عليه
قوله : ( كانوا ينهون ) بفتح الياء والهاء ورواية ابن حبان أليس قد نهي عن هذا
قوله : ( حين مددتني ) أي مددت قميصي وجبذته إليك . ورواية ابن حبان : ( ألم ترني قد تابعتك ) وفي رواية لأبي داود : ( قال عمار لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي ) وقد استدل بهذا الحديث على أنه يكره ارتفاع الإمام في المجلس . قال ابن رسلان : وإذا كره أن يرتفع الإمام على المأموم الذي يقتدي به فلأن يكره ارتفاع المأموم على إمامه أولى
ويؤيد الكراهة حديث ابن مسعود وظاهر النهي فيه [ ص 238 ] أن ذلك محرم لولا ما ثبت عنه صلى الله عليه و سلم من الارتفاع على المنبر . وقد حكى المهدي في البحر الإجماع على أنه لا يضر الارتفاع قدر القامة من المؤتم في غير المسجد إلا بحذاء رأس الإمام أو متقدما واستدل لذلك أيضا بفعل أبي هريرة المذكور في الباب وقال : المذهب أن ما زاد فسد واستدل على ذلك بأن أصل البعد التحريم للإجماع في المفرط ولا دليل على جواز ما تعدى القامة ورد بأن الأصل عدم المانع فالدليل على مدعيه وذهب الشافعي إلى أنه يعفى قدر ثلاثمائة ذراع واختلف أصحابه في وجهه
وقال عطاء : لا يضر البعد في الارتفاع مهما علم المؤتم بحال الإمام وأما ارتفاع المؤتم في المسجد فذهبت الهادوية إلى أنه لا يضر ولو زاد على القامة وكذلك قالوا لا يضر ارتفاع الإمام قدر القامة في المسجد وغيره وإذا زاد على القامة كان مضرا من غير فرق بين المسجد وغيره
( والحاصل ) من الأدلة منع ارتفاع الإمام على المؤتمين من غير فرق بين المسجد وغيره وبين القامة ودونها وفوقها لقول أبي سعيد أنهم كانوا ينهون عن ذلك وقول ابن مسعود : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم الحديث
وأما صلاته صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فقيل إنه إنما فعل ذلك لغرض التعليم كما يدل عليه قوله ( ولتعلموا صلاتي ) وغاية ما فيه جواز وقوف الإمام على محل أرفع من المؤتمين إذا أراد تعليمهم
قال ابن دقيق العيد : من أراد أن يستدل به على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستقم لأن اللفظ لا يتناوله ولانفراد الأصل بوصف معتبر تقتضي المناسبة اعتباره فلا بد منه انتهى
على أنه قد تقرر في الأصول أن النبي صلى الله عليه و سلم إذا نهى عن شيء نهيا يشمله بطريق الظهور ثم فعل ما يخالفه كان الفعل مخصصا له من العموم دون غيره حيث لم يقم دليل على التأسي به في ذلك الفعل فلا تكون صلاته على المنبر معارضة للنهي عن الارتفاع باعتبار الأمة وهذا على فرض تأخر صلاته صلى الله عليه و سلم على المنبر عن النهي من الارتفاع وعلى فرض تقدمها أو التباس المتقدم من المتأخر فيه الخلاف المعروف في الأصول في التخصيص بالمتقدم والملتبس
وأما ارتفاع المؤتم فإن كان مفرطا بحيث يكون فوق ثلاثمائة ذراع على وجه لا يمكن المؤتم العلم بأفعال الإمام فهو ممنوع للإجماع من غير فرق بين المسجد وغيره وإن كان دون ذلك المقدار فالأصل الجواز حتى يقوم دليل على المنع ويعضد هذا الأصل فعل أبي هريرة المذكور ولم ينكر عليه
قوله : ( فكبر وهو عليه ثم ركع ) لم يذكر القيام بعد الركوع في هذه الرواية وكذا لم يذكر القراءة بعد التكبير [ ص 239 ] وقد بين ذلك البخاري في رواية له عن سفيان عن أبي حازم ولفظه : ( كبر فقرأ أو ركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى ) والقهقرى بالقصر المشي إلى خلف والحامل عليه المحافظة على استقبال القبلة
( وفي الحديث ) دليل على جواز العمل في الصلاة وقد تقدم تحقيقه
قوله : ( ولتعلموا صلاتي ) بكسر اللام وفتح المثناة الفوقية وتشديد اللام وفيه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر أن يراه من قد يخفى عليه ذلك إذا صلى على الأرض
قوله : ( أنه كان يجمع ) الخ فيه جواز كون المؤتم في مكان في خارج المسجد . قال في البحر : ويصح كون المؤتم في داره والإمام في المسجد إن كان يرى الإمام أو المعلم ولم يتعد القامة انتهى

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق